مصباح الفقيه - ج ١٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: برگ طوبى
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٣

وهذا اشتباه ؛ إذ الصورة التي فرضوها موضعا للخلاف لو لم يكن الخلاف منحصرا فيها فلا أقلّ من كونه القدر المتيقّن الذي ينسبق إلى الذهن إرادته من كلمات الأصحاب في فتاويهم.

وكيف كان فهذه الصورة التي صرّحوا بكونها موضعا للخلاف ـ أعني ما لو قصد بالمجموع حصول امتثال الأمر بالقراءة في الصلاة ، سواء كان هذا غرضه من أوّل الشروع فيهما أو بدا له عند إرادة الزيادة ـ هي التي ينسبق إلى الذهن إرادتها من الروايات الواردة في هذا الباب ، كما لا يخفى على من لاحظها وأمعن النظر فيما تضمّنته من الفقرات المشعرة بذلك ، مثل : قوله عليه‌السلام في أكثرها : «أعط كلّ سورة حقّها من الركوع والسجود» (١) وما فيها من مقابلة الفريضة بالنافلة (٢) التي لا ريب في كون الزيادة فيها بقصد الجزئيّة ، لا القراءة الخارجة من الصلاة ، واستثناء «وَالضُّحى» و «أَلَمْ نَشْرَحْ» من الجمع بين السورتين. وقوله عليه‌السلام : «لا تقرأ [في المكتوبة] (٣) بأقلّ من سورة ولا بأكثر» (٤) فيستفاد مشروعيّة الزيادة بقصد الجزئيّة من نفس هذه الروايات ، بل وكذا من غيرها ممّا ورد فيها النهي عن القران بعد حملها على الكراهة ، فلا يبقى معه مجال للاستدلال على الحرمة بأصالة عدم المشروعيّة ، كما قد يتوهّم.

مضافا إلى إمكان استفادته من بعض الأخبار المتقدّمة في صدر المبحث ، التي يظهر منها أنّ وجوب السورة إنّما هو باعتبار كونها قراءة

__________________

(١) راجع الهوامش (٢ ـ ٤) من ص ٢٣٢.

(٢) راجع الهامش (٣) من ص ٢٣٢.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ١٧٨ ، الهامش (٣).

٢٤١

القرآن ، لا من حيث هي ، كقوله عليه‌السلام في رواية العلل : «وإنّما أمر الناس بالقراءة [في الصلاة] (١) لئلّا يكون القرآن مهجورا» (٢) الحديث.

كما ربما يؤيّد ذلك استدلال كثير من الأعلام (٣) لوجوب السورة بقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (٤) فعنوان المأمور به هي قراءة القرآن ، الصادقة على القليل والكثير ، فليتأمّل.

وكيف كان فمثل تكرار الآية أو إعادة السورة احتياطا أو العدول عنها إلى سورة أخرى لغرض دينيّ أو دنيويّ أو نحو ذلك بأسرها خارجة عن منصرف النصوص.

فما عن بعض من الاستشكال أو القول بعدم الجواز في بعض هذه الفروض من حيث تحقّق القران ـ كما سمعته عن بعض (٥) في كثير من الفروع السابقة ـ في غير محلّه.

الثالث : أنّ محلّ الخلاف بحسب الظاهر مختصّ بالفريضة ، وأمّا النافلة فلا خلاف على الظاهر في نفي البأس عن القران فيها ، كما وقع التصريح به في جملة من الأخبار المتقدّمة (٦).

ويزيد ذلك تأكيدا خبر عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ١٣٨ ، الهامش (١).

(٣) منهم : العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١٦١ ، المسألة ٨٩ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٢٤٣.

(٤) المزّمّل ٧٣ : ٢٠.

(٥) في ص ٢٣٦ عن الشهيد الثاني في مسالك الافهام ١ : ٢٠٦.

(٦) في ص ٢٣٢ و ٢٣٤.

٢٤٢

قال : «لا بأس أن تجمع في النافلة من السور ما شئت» (١).

وخبر محمّد بن القاسم قال : سألت عبدا صالحا : هل يجوز أن يقرأ في صلاة الليل بالسورتين والثلاث؟ فقال : «ما كان من صلاة الليل فاقرأ بالسورتين والثلاث ، وما كان من صلاة النهار فلا تقرأ إلّا بسورة سورة» (٢).

وفيه دلالة على ترجيح ترك القران في النافلة النهاريّة.

ويحتمل أن يكون المراد به مطلق الصلاة أو خصوص الفريضة ، والله العالم.

(ويجب الجهر بالحمد والسورة في الصبح وفي أوّلتي المغرب والعشاء ، والإخفات) بهما (في الظهرين) إلّا في أولاهما يوم الجمعة ، كما ستعرف (وثالثة المغرب والأخيرتين من العشاء) على المشهور ، بل عن الخلاف والغنية دعوى الإجماع عليه.

فعن الأوّل أنّه قال : من جهر في صلاة الإخفات أو خافت في صلاة الجهر متعمّدا بطلت صلاته ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك ، دليلنا إجماع الفرقة (٣).

وعن الثاني أنّه قال : ويجب الجهر بجميع القراءة في أوليي المغرب والعشاء الآخرة وصلاة الغداة بدليل الإجماع المشار إليه ، إلى أن قال :ويجب الإخفات فيما عدا ما ذكر بدليل الإجماع المشار إليه (٤).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٧٣ / ٢٧٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٧.

(٢) التهذيب ٢ : ٧٣ / ٢٦٩ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٤.

(٣) الخلاف ١ : ٣٧١ ـ ٣٧٢ ، المسألة ١٣٠ ، وحكاه عنه السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٥٠.

(٤) الغنية : ٧٨ ، وحكاه عنها السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٥٠ ـ ٥١.

٢٤٣

وفي السرائر ادّعى الإجماع على بطلان صلاة من جهر فيما يخفت فيه متعمّدا ، ولم يصرّح به في عكسه ، بل قال : الجهر فيما يجب الجهر فيه واجب على الصحيح من المذهب. ثمّ نقل الخلاف فيه عن السيّد رحمه‌الله (١).

وكيف كان فقد حكي الخلاف في المسألة عن ابن الجنيد والسيّد المرتضى.

فعن الأوّل أنّه قال : لو جهر بالقراءة فيما يخافت بها أو خافت فيما يجهر بها ، جاز ذلك ، والاستحباب أن لا يفعله (٢).

وعن السيّد في المصباح أنّ ذلك من السنن المؤكّدة (٣).

وعن جماعة من المتأخّرين الميل إليه أو القول به لو لا مخافة مخالفة الإجماع (٤).

واستدلّ للمشهور ـ مضافا إلى الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة ـ بجملة من الأخبار :

منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه ، فقال : «أيّ ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته ، وعليه الإعادة ، وإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري

__________________

(١) السرائر ١ : ٢١٨ و ٢٢٣ ، وراجع أيضا ص ٢٤٢ منه.

(٢) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ٣ : ٣٢٠.

(٣) حكاه عنه ابن إدريس في السرائر ١ : ٢٢٣.

(٤) المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٢٢٦ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣٥٦ ـ ٣٥٨ ، والسبزواري في ذخيرة المعاد : ٢٧٤ ، وكفاية الفقه ١ :٩٣ ـ ٩٤ ، والمجلسي في بحار الأنوار ٨٥ : ٧١ ، وحكاه عنهم الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٣٨١.

٢٤٤

فلا شي‌ء عليه ، وقد تمّت صلاته» (١).

أقول : في الوسائل روى هذه الصحيحة هكذا ، ثمّ ذكر أنّ الشيخ رواها بإسناده نحوه (٢).

وفي المدارك رواها عن الشيخ نحوه إلّا أنّه قال : قلت له : رجل جهر بالقراءة (٣) فيما [لا] (٤) ينبغي أن يجهر فيه أو أخفى ، الحديث (٥).

وصحيحته الأخرى عنه أيضا ، قال : قلت له : رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي الجهر فيه أو أخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه وترك القراءة فيما ينبغي القراءة فيه أو قرأ فيما لا ينبغي القراءة فيه ، فقال : «أيّ ذلك فعل ناسيا أو ساهيا فلا شي‌ء عليه» (٦).

ووقوع التعبير بلفظ «ينبغي» في السؤال لا يوهن ظهور الرواية في الوجوب ، لا لمجرّد وقوعه في السؤال ، بل لظهور السؤال في جهله بالحال ، وكون التعبير جاريا على حسب ما ينبغي صدوره من الجاهل بحكمه من حيث الوجوب والاستحباب في مقام السؤال.

وكذا التعبير بالنقص في الجواب في الصحيحة الأولى بناء على كونه بالصاد المهملة ، فإنّه وإن كان مشعرا بالكراهة ولكنّه لا يلتفت إليه بعد الأمر بالإعادة ، كما لا يخفى.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢٧ / ١٠٠٣ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٢) الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة في الصلاة ، ذيل ح ١ ، وراجع التهذيب ٢ :١٦٢ / ٦٣٥ ، والاستبصار ١ : ٣١٣ / ١١٦٣.

(٣) كلمة «بالقراءة» ليست في التهذيب والاستبصار.

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٥) مدارك الأحكام ٣ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٦) التهذيب ٢ : ١٤٧ / ٥٧٧ ، الوسائل ، الباب ٢٦ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

٢٤٥

وما رواه الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام في حديث أنّه ذكر العلّة التي من أجلها جعل الجهر في بعض الصلوات دون بعض : أنّ الصلوات التي يجهر فيها إنّما هي في أوقات مظلمة ، فوجب أن يجهر فيها ليعلم المارّ أنّ هناك جماعة فإن أراد أن يصلّي صلّى ، لأنّه إن لم ير جماعة علم ذلك من جهة السماع ، والصلاتان اللّتان لا يجهر فيهما إنّما هما بالنهار في أوقات مضيئة ، فهي من جهة الرؤية لا يحتاج فيها إلى السماع (١).

وما رواه أيضا بإسناده عن محمّد بن عمران أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام ، فقال : لأيّ علّة يجهر في صلاة الجمعة وصلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الغداة ، وسائر الصلوات الظهر والعصر لا يجهر فيهما؟ إلى أن قال : فقال : «لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أسري به إلى السماء كان أوّل صلاة فرض الله عليه الظهر يوم الجمعة ، فأضاف الله عزوجل إليه الملائكة تصلّي خلفه ، وأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجهر بالقراءة ليبيّن لهم فضله ، ثمّ فرض عليه العصر ولم يضف إليه أحدا من الملائكة وأمره أن يخفي القراءة لأنّه لم يكن وراءه أحد ، ثمّ فرض عليه المغرب وأضاف إليه الملائكة فأمره بالإجهار ، وكذلك العشاء الآخرة ، فلمّا كان قرب الفجر نزل ففرض الله عليه الفجر فأمره بالإجهار ليبيّن للناس فضله كما بيّن للملائكة ، فلهذه العلّة يجهر فيها» الحديث (٢).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ / ٩٢٧ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٢) الفقيه ١ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ / ٩٢٥ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

٢٤٦

وعنه في العلل بإسناده عن محمّد بن حمزة مثله إلّا أنّه ذكر صلاة الفجر موضع صلاة الجمعة ، وترك ذكر الغداة (١).

وممّا يؤيّد المطلوب معهوديّة الجهر في بعض الصلوات والإخفات في بعض على سبيل التوظيف ، كما يظهر ذلك من تتبّع الأخبار.

مثل : ما رواه في الفقيه بإسناده عن يحيى بن أكثم القاضي أنّه سأل أبا الحسن الأوّل عليه‌السلام عن صلاة الفجر لم يجهر فيها بالقراءة وهي من صلوات النهار (٢) ، وإنّما يجهر في صلاة الليل؟ فقال : «لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغلس بها فقرّبها من الليل» (٣).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الواردة في باب الجماعة في بيان وظيفة المأموم من السكوت أو الذكر أو القراءة في الصلوات الجهريّة والاخفاتيّة.

ففي بعضها ممّا وقع فيه السؤال عن القراءة خلفه (٤) : «أمّا الصلاة التي لا يجهر فيها بالقراءة فإنّ ذلك جعل إليه ، فلا تقرأ خلفه ، وأمّا الصلاة التي يجهر فيها فإنّما أمر بالجهر لينصت من خلفه ، فإن سمعت فأنصت ، وإن لم تسمع فاقرأ» (٥).

__________________

(١) علل الشرائع : ٣٢٢ ـ ٣٢٣ (الباب ١٢) ح ١ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ذيل ح ٢.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «وهو من صلاة النهار». والمثبت كما في المصدر.

(٣) الفقيه ١ : ٢٠٣ / ٩٢٦ ، وعنه في الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣.

(٤) أي : خلف الإمام.

(٥) الكافي ٣ : ٣٧٧ / ١ ، التهذيب ٣ : ٣٢ / ١١٤ ، الاستبصار ١ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨ / ١٦٤٩ ، وعنها في الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ٥.

٢٤٧

وربما يستظهر من هذه الرواية وجوب الجهر في الجهريّة والإخفات في الاخفاتيّة على الإمام ، فيتمّ فيما عداه بعدم القول بالفصل.

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في سائر الأبواب ممّا يقف عليه المتتبّع.

واستدلّ له أيضا بمداومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجميع الصحابة والأئمّة عليهم‌السلام ، فيجب التأسّي بهم.

ونوقش (١) فيه : بمنع وجوب التأسّي فيما لم يعلم وجهه ، بل هو مستحبّ.

وفيه : أنّ هذا في غير الصلاة التي روي فيها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (٢) فإنّ مقتضاه وجوب التأسّي به ، إلّا أن يدلّ دليل خارجيّ على عدمه. ومداومتهم على الجهر في البعض والإخفات في بعض تنفي احتمال جريهما مجرى العادة أو من باب الاتّفاق كي يمكن الخدشة في دلالة الخبر على الوجوب في مصله ، فليتأمّل.

واستدلّ للقول بالاستحباب : بالأصل ، وقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٣) فإنّه شامل للصلوات كلّها.

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصلّي من الفرائض (٤) ما يجهر فيه بالقراءة هل عليه أن لا يجهر؟

__________________

(١) المناقش هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣٥٧.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٩ ، الهامش (٢).

(٣) الإسراء ١٧ : ١١٠.

(٤) في المصادر : «الفريضة». وما في المتن كما في الحدائق الناضرة ٨ : ١٣٠.

٢٤٨

قال : «إن شاء جهر وإن شاء لم يجهر (١)» (٢).

والجواب : أمّا عن الأصل : فبانقطاعه بالدليل. وأمّا الآية : فهي لا تخلو عن تشابه ، وقد ورد في تفسيرها أخبار كثيرة غير منافية لوجوب الجهر أو الإخفات ما لم يبلغ حدّ الإفراط ، من أرادها فليطلب من مظانّها (٣).

وكفى في تضعيف الاستدلال بالآية ما حكي من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الإجهار في الصلوات الليليّة والإخفات في النهاريّة (٤).

وأمّا الصحيحة : فهي ـ بعد إعراض المشهور عنها وموافقتها للعامّة ـ لا تنهض حجّة لرفع اليد عن ظواهر النصوص المعتبرة المشهورة بين الأصحاب قديما وحديثا. ومجرّد عمل السيّد والإسكافي بمضمونها أو الأخذ بها لا يخرجها عن الشذوذ ، فاحتمال كونها مسوقة لبيان الحكم الواقعي أبعد من احتمال إرادة خلاف الظاهر من صحيحة زرارة وغيرها ممّا عرفت ، فالأقوى ما ذهب إليه المشهور.

ولكن استفادة التفصيل المزبور في المتن ـ الذي ذهب إليه المشهور ـ من الأخبار من حيث هي مشكلة ؛ فإنّ غاية ما يمكن استفادته منها هي أنّ صلاة الصبح والعشاءين جهريّة والظهرين إخفاتيّة ، وأنّه يجب الإجهار في

__________________

(١) في التهذيب والاستبصار : «لم يفعل» بدل «لم يجهر».

(٢) قرب الإسناد : ٢٠٥ / ٧٩٦ ، التهذيب ٢ : ١٦٢ / ٦٣٦ ، الاستبصار ١ : ٣١٣ / ١١٦٤ ، الوسائل ، الباب ٢٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٦.

(٣) راجع الكافي ٣ : ٣١٥ ـ ٣١٧ / ٢١ و ٢٧ ، والتهذيب ٢ : ٢٩٠ / ١١٦٤ ، وتفسير القمّي ٢ : ٣٠ ، وتفسير العيّاشي ٢ : ٣١٨ و ٣١٩ / ١٧٢ و ١٧٣ و ١٧٧ ، وعنها في الوسائل ، الباب ٣٣ من أبواب القراءة في الصلاة ، الأحاديث ٢ ، ٣ ، ٦ ، ومستدرك الوسائل ، الباب ٢٦ من تلك الأبواب ، الأحاديث ١ ، ٢ ، ٤.

(٤) راجع الهامش (٢) من ص ٢٤٦.

٢٤٩

الجهريّة والإخفات في الاخفاتيّة على حسب معهوديّتهما في الشريعة ، وأمّا أنّ ما يجب أن يراعى فيه الوصفان هو مجموع الأقوال المعتبرة في الصلاة أو خصوص القراءة مطلقا ولو في الأخيرتين أو في خصوص الأوليين فلا يكاد يستفاد من الأخبار المزبورة.

نعم ، ربما يستشعر من مثل قوله عليه‌السلام في خبر (١) محمّد بن عمران :«أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجهر بالقراءة» وكذا من سؤال يحيى بن أكثم القاضي عن أنّه لم يجهر في صلاة الفجر بالقراءة؟ (٢) : أنّ القراءة بخصوصها هي التي يراعى فيها الوصفان ، وأمّا أنّه في خصوص الركعتين الأوليين فلا ، بل مقتضى المناسبة المذكورة في خبر محمّد بن عمران بل وكذا في رواية علل الفضل ، المتقدّمة (٣) : اعتبار الجهر بالقراءة بل وغيرها أيضا من الأذكار والتسبيحات المعتبرة في الصلوات الجهريّة ، ولكن علم من سيرة المسلمين وإجماع العلماء أنّه لا يجب ذلك فيما عدا القراءة في الأوليين ، بل المكلّف مخيّر بين الجهر والإخفات في الأذكار المعتبرة في الركوع والسجود والتشهّد والقنوت ، وكذا التسليم والتكبيرات.

ويشهد له في الجملة ـ مضافا إلى ذلك ، وموافقته للأصل ـ خبر عليّ ابن جعفر ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل هل يصلح له أن يجهر بالتشهّد والقول في الركوع والسجود والقنوت؟ قال : «إن شاء يجهر وإن شاء لم يجهر» (٤).

__________________

(١) تقدّم الخبر في ص ٢٤٦.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٤٧ ، الهامش (٣).

(٣) في ص ٢٤٦.

(٤) قرب الإسناد : ١٩٨ / ٧٥٨ ، وعنه في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٦٤.

٢٥٠

بل استظهر في الحدائق من الرواية جريها مجرى التمثيل ، وأنّه يفهم منها التخيير بين الجهر والإخفات في سائر أقوال الصلاة ، إلّا أن يدلّ دليل على خلافه.

قال ما لفظه : والظاهر أنّ ذكر هذه الأشياء في الرواية إنّما هو على وجه التمثيل ، فيكون الحكم شاملا لجميع أذكار الصلاة إلّا ما خرج بالدليل ، ومنه القراءة والتسبيح في الأخيرتين ، فإنّ الحكم فيها ذلك ، إلّا أنّ ظاهر الأصحاب [وجوب] الإخفات فيه ، وفي هذه الأزمان اشتهر بين جملة من أبناء هذا الزمان القول بوجوب الجهر فيه ، والكلّ بمعزل عن الصواب (١). انتهى.

أقول : لو سلّمنا ظهور الخبر في كون ذكر هذه الأشياء على وجه التمثيل ـ كما ليس بالبعيد ـ فلا يفهم من ذلك إلّا حكم ما هو مماثل للمذكورات ، مثل التسليم والتكبيرات وأشباهها ، لا القراءة وما قام مقامها من التسبيح ؛ إذ لو كانت القراءة مقصودة بالسؤال ، لما عدل عنها إلى غيرها في مقام التمثيل ، خصوصا بعد أن علم اعتبار الوصفين فيها في الجملة.

وكيف كان فالقدر المتيقّن ممّا يمكن استفادته من النصّ والإجماع وسيرة المسلمين إنّما هو عدم وجوب رعاية الوصفين في سائر الأقوال ممّا عدا ما هو وظيفة الأخيرتين من القراءة أو التسبيح ، وأمّا فيها فلا ينبغي التأمّل في جريان السنّة على الإخفات ، واستقرار السيرة عليه من صدر الإسلام من غير فرق بين القراءة والتسبيح ، فيفهم وجوبه حينئذ من صحيحة زرارة ، المتقدّمة (٢).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٨ : ١٤٣ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) في ص ٢٤٤.

٢٥١

ويفصح عن جريان السنّة به ما حكي عن المحقّق في المعتبر من أنّه قال : يجهر من الخمس واجبا في الصبح وأوّلتي المغرب والعشاء ، ويسرّ في الباقي ، إلى أن قال : لنا : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يجهر في هذه المواضع ، ويسرّ فيما عداها ، وفعله وقع امتثالا في مقابلة الأمر المطلق ، فيكون بيانا.

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (١) (٢). انتهى.

ويؤيّده أيضا شهرة القول بوجوب الإخفات في الأخيرتين بين الأصحاب قديما وحديثا ؛ إذ لو لم يكن المتعارف بين المسلمين الإخفات فيهما ، لم يكن يتوهّم أحد وجوبه فضلا عن أن يصير مشهورا ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه ولكن في خصوص القراءة (٣) ، بل ربما يظهر من العلّامة في التذكرة عدم الخلاف في رجحانه بين المسلمين ومعروفيّته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام وجميع الصحابة ، ولكنّهم اختلفوا في أنّه هل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟

قال ما لفظه : يجب الجهر بالقراءة خاصّة دون غيرها من الأذكار في صلاة الصبح وأوّلتي المغرب وأوّلتي العشاء ، والإخفات في الظهرين وثالثة المغرب وآخرتي العشاء ، عند أكثر علمائنا (٤) ، وبه قال ابن أبي ليلى (٥) ؛ لأنّ

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٩ ، الهامش (٢).

(٢) المعتبر ٢ : ١٧٦ ، وحكاه عنه السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٥٢.

(٣) راجع الخلاف ١ : ٣٧١ ـ ٣٧٢ ، المسألة ١٣٠ ، والغنية : ٧٨ ، وكذا جواهر الكلام ٩ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

(٤) منهم : الشيخ المفيد في المقنعة : ١٢٢ ، والشيخ الطوسي في المبسوط ١ :١٠٨ ، والقاضي ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٩٢ و ٩٧ ، والمحقّق الحلّي في المعتبر ٢ : ١٧٦.

(٥) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ٢ : ١٧٦.

٢٥٢

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يفعل ذلك ، وقال : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (١) ولقول الباقر عليه‌السلام في رجل جهر فيما لا ينبغي الجهر فيه ، وساق الحديث كما قدّمنا نقله (٢) ، ثمّ قال : وقال المرتضى (٣) وباقي الجمهور كافّة بالاستحباب ؛ عملا بالأصل. وهو غلط ؛ للإجماع على مداومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجميع الصحابة والأئمّة عليهم‌السلام ، فلو كان مسنونا لأخلّوا به في بعض الأحيان (٤). انتهى.

وقد نسب غير واحد (٥) القول بوجوب الإخفات في التسبيح أيضا إلى الشهرة ، بل عن بعض دعوى الإجماع عليه (٦) ، وقد سمعت (٧) عن صاحب الحدائق نسبة وجوب الإخفات في القراءة والتسبيح في الأخيرتين إلى ظاهر الأصحاب ، فكأنّ عمدة مستندهم في ذلك أيضا ما ثبت عندهم من مداومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام على الإسرار في الأخيرتين ؛ فإنّ من المستبعد ثبوت ذلك في خصوص القراءة ، مع أنّه لدى الإسرار لا يعلم أنّه قرأ أو سبّح ، بل ربما يستشعر من بعض الأخبار الواردة لبيان أفضليّة التسبيح (٨) :أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يسبّح في الأخيرتين ، فلو كان مداومة النبي والأئمّة على الإسرار مخصوصا بحال اختيارهم للقراءة ، لكان إجهارهم أحيانا دليلا قطعيّا

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٩ ، الهامش (٢).

(٢) في ص ٢٤٤.

(٣) تقدّم تخريج قوله في ص ٢٤٤ ، الهامش (٣).

(٤) تذكرة الفقهاء ٣ : ١٥١ ـ ١٥٢ ، المسألة ٢٣٦.

(٥) مثل : الشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٧٠٢ ، والمقاصد العليّة : ٢٥٩ ، والأردبيلي في زبدة البيان : ٨٤ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٣٧.

(٦) كما في الحدائق الناضرة ٨ : ٤٣٧.

(٧) في ص ٢٥١.

(٨) الفقيه ٢ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ / ٩٢٥ ، وعنه في الوسائل ، الباب ٥١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣.

٢٥٣

على بطلان مذهب القائل بوجوب الإخفات.

فما ادّعاه العلّامة من الإجماع على مداومتهم على الإسرار (١) معقده ـ بحسب الظاهر ـ حكاية فعلهم عليهم‌السلام فيما هو وظيفة الأخيرتين أعمّ من القراءة أو التسبيح ، كما هو ظاهر العبارة المتقدّمة (٢) المحكيّة عن المعتبر ، فيجب التأسّي بهم في الصلاة ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (٣) كما تقدّم تقريبه فيما سبق.

مضافا إلى اندراجه حينئذ فيما يفهم وجوب الإخفات فيه من الصحيحة المزبورة (٤).

مع إمكان أن يقال : إنّ ثبوت جريان السنّة به في القراءة كاف في إثبات وجوبه في التسبيح أيضا من باب التأسّي ؛ نظرا إلى ما عرفت في صدر المبحث من أنّ وظيفة الركعات الأخيرة من الصلاة المفروضة من حيث هي هي التسبيح لا القراءة ، ولكن شرّع فيها قراءة فاتحة الكتاب ؛ لأنّها ذكر ودعاء ، كما صرّح به في صحيحة عبيد بن زرارة ، المتقدّمة (٥) في محلّها ، فاختيار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاها في صلاته لكونها من أفضل مصاديق الذكر ، فلو وجب علينا التأسّي به في صلاته ، لم يجز التخطّي إلّا إلى سائر الأذكار المشروعة والإتيان بها بتلك الكيفيّة التي علمنا من مداومته ملحوظيّتها لديه ، كما لو قرأ في جميع صلاته ـ مثلا ـ سورة التوحيد جهرا

__________________

(١) راجع ص ٢٥٣ ، والهامش (٤) منها.

(٢) في ص ٢٥٢.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٩ ، الهامش (٢).

(٤) في ص ٢٤٤.

(٥) في ص ١٦٩.

٢٥٤

بحيث علم من مداومته صلى‌الله‌عليه‌وآله كون جهريّتها ملحوظة لديه ثمّ علم بدليل خارجيّ أنّ خصوصيّة السورة ليست معتبرة في الصلاة وإنّما وجهها كونها سورة من القرآن ، فليتأمّل.

ويشهد أيضا بمعهوديّة الإخفات في الأخيرتين من الصدر الأوّل صحيحة عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الركعتين اللّتين يصمت فيهما الإمام أيقرأ فيهما بالحمد وهو إمام يقتدى به؟ فقال : «إن قرأت فلا بأس ، وإن سكتّ فلا بأس» (١) إذ الظاهر أنّ مراد السائل بالركعتين اللّتين يصمت فيهما الإمام هما الأخيرتان ، فالتعبير بالصمت بلحاظ عدم كونه معلنا بالقول ، فكأنّه صامت ، فيفهم من هذا السؤال كون الإخفات في الأخيرتين لديهم من الأمور المسلّمة المفروغ عنها.

واحتمال إرادة الأوليين من الصلوات الاخفاتيّة بعيد عن سوق التعبير.

والذي يغلب على الظنّ وقوع السؤال في هذه الصحيحة بعد صحيحته الأخرى ، قال : سألت أبا الحسن الأوّل عليه‌السلام : عن الرجل يصلّي خلف إمام يقتدى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة فلا يسمع القراءة ، قال :«لا بأس إن صمت وإن قرأ» (٢) فيكون أوضح في إفادة المدّعى ، أي في تعيّن إرادة الأخيرتين.

واحتمل بعض (٣) التقيّة في الرواية : لموافقتها لما حكي عن أبي حنيفة

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٩٦ / ١١٩٢ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ١٣.

(٢) التهذيب ٣ : ٣٤ / ١٢٢ ، وفيه : عن الحسن بن عليّ بن يقطين قال ، إلى آخره ، الاستبصار ١ : ٤٢٩ / ١٦٥٧ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ١١.

(٣) صاحب الجواهر فيها ٩ : ٣٧٤.

٢٥٥

من أنّه ذهب إلى الصمت في الأخيرتين (١).

وفيه : أنّه إن كانت التقيّة ففي الجواب لا في السؤال ، كيف! وقد فرض السائل كون الإمام الذي يصمت في الركعتين ممّن يقتدى به ، فهو لا يصمت بل يخفت.

هذا ، مع أنّ أبا حنيفة لم يذهب إلى لزوم الصمت كي يصير صفة موضّحة للركعتين عندهم ، بل لم يوجب القراءة أو الذكر ، واجتزأ بالسكوت (٢) ، وهذا لا يقتضي صيرورته عادة لهم كي يناسبه التعبير الواقع في السؤال.

نعم ، هو مناسب للجواب ، فلا يبعد كونه جاريا مجرى التقيّة ، وهو غير ضائر في المدّعى ، كما لا يخفى.

ويمكن استفادة كون المعهود في أعصار الأئمّة عليهم‌السلام الإخفات بالقراءة في الأخيرتين من بعض الروايات المتقدّمة عند البحث في أفضليّة التسبيح من القراءة ، مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة معاوية بن عمّار ، التي وقع فيها السؤال عن القراءة خلف الإمام في الأخيرتين : «الإمام يقرأ فاتحة الكتاب ، ومن خلفه يسبّح ، فإذا كنت وحدك فاقرأ فيهما ، وإن شئت فسبّح» (٣) بضميمة المستفيضة التي ورد فيها الأمر بالإنصات فيما يجهر به الإمام بالقراءة (٤) ، مع ما في جملة منها من التعليل بقوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ

__________________

(١) راجع الهامش التالي.

(٢) المبسوط ـ للسرخسي ـ ١ : ١٩ ، البيان ١ : ١٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ١ : ٤٩٣ ، المجموع ٣ : ٣٦١.

(٣) تقدّم تخريجها في ص ١٧٤ ، الهامش (٢).

(٤) الكافي ٣ : ٣٧٧ / ١ و ٣ ، التهذيب ٣ : ٣٢ ـ ٣٣ / ١١٤ و ١١٦ و ١٢٠ ، الاستبصار ـ

٢٥٦

الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) (١) (٢) وهو يأبى عن التخصيص ، مع أنّه ليس في شي‌ء من تلك الأخبار إشعار باختصاص هذا الحكم بالأوليين ، فهذا يكشف عن أنّ المتعارف في الأخيرتين لم يكن إلّا الإخفات ، وإلّا لأمرهم بالإنصات عند إجهاره.

وكيف كان فعمدة مستند القول بوجوب الإخفات في الأخيرتين استكشاف معهوديّته في الشريعة من صدر الإسلام بواسطة السيرة والإجماعات المحكيّة المعتضدة بالشهرة ، ونقل فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام وغيرها من الشواهد والمؤيّدات منضمّا إلى ما دلّ على وجوب التأسّي بصاحب الشرع في صلاته من مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (٣) كما هو عمدة مستند الأعلام على ما يظهر من كلماتهم ، ولو لا هذا لأمكن الخدشة في دلالة الصحيحة (٤) عليه ؛ إذ الظاهر أنّ السائل لم يقصد بقوله : «فيما لا ينبغي الإجهار فيه» العموم ، بل قصد السؤال عمّن أخلّ بالجهر والإخفات في موضعهما على حسب ما كان معهودا لديهم ، فمراده بكلمة «ما» إمّا الصلاة التي ينبغي الإجهار أو الإخفات فيها على سبيل الإجمال ، أو الشي‌ء الذي كان معهودا لديهم الالتزام برعاية الوصفين فيه من أجزاء الصلاة ، فالإنصاف أنّ الصحيحة من حيث المتعلّق لا تخلو عن إجمال.

__________________

ـ ١ : ٤٢٧ ـ ٤٢٨ / ١٦٤٩ و ١٦٥١ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب صلاة الجماعة ، الأحاديث ٥ ، ٦ ، ١٥.

(١) الأعراف ٧ : ٢٠٤.

(٢) الفقيه ١ : ٢٥٦ / ١١٦٠ ، الوسائل ، الباب ٣١ من أبواب صلاة الجماعة ، ح ٣.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٩ ، الهامش (٢).

(٤) أي صحيحة زرارة المتقدّمة في ص ٢٤٤.

٢٥٧

هذا ، مع ما سمعت (١) من المدارك حكايتها عن التهذيب من وقوع السؤال فيها عن الجهر بالقراءة فيما لا ينبغي الإجهار فيه ، فلا يبقى حينئذ مجال لدلالتها على حكم التسبيح.

وكيف كان فالعمدة ما عرفت.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من وجوب الإخفات في الظهرين فإنّما هو في غير يوم الجمعة ، وأمّا يوم الجمعة فيستحبّ الإجهار في الأوليين من ظهره على الأظهر الأشهر ، كما يدلّ عليه أخبار مستفيضة :

منها : صحيحة الحلبي قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي الجمعة أربع ركعات أيجهر فيها بالقراءة؟ قال : «نعم ، والقنوت في الثانية» (٢).

وصحيحته الأخرى أو حسنته ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القراءة في الجمعة إذا صلّيت وحدي أربعا أجهر بالقراءة؟ فقال : «نعم» وقال : «اقرأ سورة الجمعة والمنافقين في يوم الجمعة» (٣).

وخبر محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال لنا : «صلّوا في السفر صلاة الجمعة جماعة بغير خطبة ، واجهروا بالقراءة» فقلت : إنّه ينكر علينا الجهر بها في السفر ، فقال : «اجهروا» (٤).

__________________

(١) في ص ٢٤٥.

(٢) الفقيه ١ : ٢٦٩ / ١٢٣١ ، التهذيب ٣ : ١٤ ـ ١٥ / ٥٠ ، الاستبصار ١ : ٤١٦ / ١٥٩٤ ، الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٤٢٥ / ٥ ، التهذيب ٣ : ١٤ / ٤٩ ، الوسائل الباب ٧٣ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣.

(٤) التهذيب ٣ : ١٥ / ٥١ ، الاستبصار ١ : ٤١٦ / ١٥٩٥ ، الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٦.

٢٥٨

وخبر محمّد بن مروان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صلاة الظهر يوم الجمعة كيف نصلّيها في السفر؟ فقال : «تصلّيها في السفر ركعتين ، والقراءة فيها جهرا» (١).

وظاهر هذه الأخبار خصوصا الأخيرين منها : الوجوب ، ولكنّه يتعيّن حملها على الاستحباب ؛ لعدم معروفيّة القول بالوجوب عن أحد ، بل قد يظهر من خبر محمّد بن مسلم ، المتقدّم (٢) مخالفة الإجهار في غير الجمعة المشتملة على الخطبتين ـ أي صلاة الجمعة التي يشترط فيها الحضور والخطبتان ـ لسيرة المسلمين بحيث كان يعدّ فعله لديهم من المنكرات ، مع قضاء العادة بأنّه لو كان الإجهار في ظهر يوم الجمعة واجبا ، لصار من حيث عموم الابتلاء به من ضروريّات الدين فضلا عن أن يكون خلافه معروفا بين المسلمين.

نعم ، هذه المعروفيّة لا تنافي استحبابه ؛ إذ ربّ مستحبّ يصير مهجورا في العادة لعلّة مقتضية لاختيار خلافه ، ألا ترى اشتهار الفتوى باستحبابه قديما وحديثا؟ مع استقرار السيرة بخلافه بحيث يعدّ الإجهار في أنظار العرف من المنكرات.

والحاصل : أنّ معروفيّة الإخفات بين المسلمين واشتهار القول بعدم وجوب الجهر بين العلماء من غير نقل خلاف فيه بل نقل الإجماع عليه دليل قطعيّ على عدم وجوبه ، فلا بدّ حينئذ من حمل الأمر الوارد في الأخبار المزبورة على الاستحباب.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ١٥ / ٥٢ ، الاستبصار ١ : ٤١٦ / ١٥٩٦ ، الوسائل الباب ٧٣ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٧.

(٢) في ص ٢٥٨.

٢٥٩

وربما يشهد له أيضا ـ مضافا إلى ذلك ـ خبر جميل قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجماعة يوم الجمعة في السفر ، فقال : «تصنعون كما تصنعون في غير يوم الجمعة في الظهر ، ولا يجهر الإمام فيها بالقراءة ، إنّما يجهر إذا كانت خطبة» (١) وخبر محمّد بن مسلم قال : سألته عن صلاة الجمعة في السفر ، فقال : «تصنعون كما تصنعون في الظهر ، ولا يجهر الإمام فيها بالقراءة ، إنّما يجهر إذا كانت خطبة» (٢) إذ النهي الوارد في هذين الخبرين لأجل وروده مورد توهّم الوجوب لا يدلّ إلّا على الجواز ، وقضيّة الجمع بينه وبين الأخبار السابقة : حمل الأمر الوارد في تلك الأخبار على الاستحباب.

وفي الوسائل نقل عن الشيخ حمل هذين الخبرين على حال التقيّة والخوف» (٣).

ثمّ قال : ويحتمل أن يكون المراد نفي تأكّد الاستحباب في الظهر وإثباته في الجمعة (٤).

أقول : قد ظهر ممّا مرّ أنّ هذا هو الأشبه.

(وأقلّ الجهر أن يسمعه القريب الصحيح السمع إذا استمع ، والإخفات أن يسمع نفسه إن كان يسمع).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ١٥ / ٥٣ ، الاستبصار ١ : ٤١٦ / ١٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٨.

(٢) التهذيب ٣ : ١٥ / ٥٤ ، الاستبصار ١ : ٤١٦ / ١٥٩٨ ، الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٩.

(٣) التهذيب ٣ : ١٥ ، ذيل ح ٥٤ ، الاستبصار ١ : ٤١٧ ، ذيل ح ١٥٩٨.

(٤) الوسائل ، الباب ٧٣ من أبواب القراءة في الصلاة ، ذيل ح ٩.

٢٦٠