مصباح الفقيه - ج ١٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: برگ طوبى
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٣

الباب ثمّ بدا له اختيار السرير ، فلا مقتضي لإعادته بعد فرض اتّحاد ماهيّة الجزء وتحقّقه بداعي الخروج عن عهدة هذا التكليف المنجّز عليه ، ولو سلّم لزوم إعادته في مثل الفرض فلا نسلّمه فيما لو أتى بالقدر المشترك بقصد أن يجعله جزءا لما يختاره عند الامتياز ، كما لو كان مكلّفا بالمشي إمّا إلى دار زيد أو عمرو ، واشتركا في نصف الطريق فمشى هذا النصف عازما على اختيار أحد الفردين لدى الامتياز.

ودعوى أنّه لا بدّ في امتثال الأمر التخييري من اختيار أحد الفردين من حين الأخذ في الامتثال عريّة عن الشاهد ، بل الشواهد على خلافها.

وأمّا الوجه الأوّل : فيرد عليه ما اعترضه قدس‌سره على نفسه ودفعه بما لا يسلم عن الخدشة حيث قال ـ بعد أن فرّع على الوجهين المزبورين أنّ مجرّد قصد سورة غير معيّنة بالبسملة لا يوجب قابليّتها لأن تضمّ إلى سورة معيّنة فتصير جزءا منها ـ ما لفظه بأدنى اختلاف في التعبير :

فإن قلت : هذه البسملة التي قرأها بقصد سورة لا بعينها لا شكّ في أنّه يصدق عليها القرآن ، فإذا صدق عليها القرآن فإمّا أن يصدق عليها أنّها بعض من سورة دون سورة ، وإمّا أن يصدق عليها أنّها بعض من كلّ سورة بمعنى أنّها قابلة لها ؛ إذ لو لم يصدق عليها أنّها بعض سورة أصلا ، لم يصدق عليها القرآن ، مع أنّه صادق عليها قطعا ، ولا يجوز أن يصدق عليها بعض من سورة دون أخرى ، فتعيّن كونها بعضا من كلّ سورة بمعنى قابليّتها لذلك.

قلت : كونها قرآنا مسلّم ويصدق عليها أنّها جزء من كلّ سورة بمعنى أنّها قابلة لأن يقصد بها حين القراءة كلّ سورة ، لا أنّ هذه التي لم يقصد بها سورة قابلة لأن تصير بعد الضمّ جزءا من كلّ سورة ، ولا تنافي بين أن

٣٨١

يصدق كلّيّ على شي‌ء ، كالقرآن على البسملة التي لم يقصد لسورة ، وأن لا يصدق عليه أنّه جزء من هذه السورة ولا من ذيك ولا من تلك ، نظيره : ما إذا طلب المخاطب الإتيان برجل مبهم شائع ، فإنّه يصدق عليه أنّه طلب رجلا ، لكن لا يصدق عليه أنّه طلب زيدا ولا أنّه طلب عمروا ولا أنّه طلب بكرا وإن كان كلّ من أتى به حصل الامتثال ، لكن الكلام في تمثيل القراءة وتشبيهها بالطلب ، وأنّه لا يجب على ما يعرض للواحد المبهم أن يعرض لشي‌ء من الآحاد الخاصّة ، فإنّا نرى بالعيان أنّ من قصد بالبسملة مجرّد القرآن لا يصدق عليه أنّه قرأ بعض سورة التوحيد ولا بعض سورة كذا ولا بعض سورة العزيمة ، فكلّ حكم يترتّب على سورة خاصّة وجزئها لا يترتّب على قراءة هذه البسملة ، فإذا أمر الشارع تخييرا بقراءة سورة من بين السّور ، فلا بدّ من أن يصدق حين القراءة أنّه مشغول بالسورة الفلانيّة ، وهذا مسلوب عن هذا الشخص (١). انتهى.

أقول : بعد فرض صدق قراءة القرآن على هذه البسملة كما هو الحقّ وجب أن يكون المقروء من أجزاء القرآن ؛ ضرورة عدم صدق قراءة القرآن على قراءة ما ليس من أجزائه ، فصحّة سلب القراءة عن كلّ جزء جزء يناقض ثبوتها في الجملة ، فالذي يصحّ سلبه هو نفيه عن كلّ واحدة منها بعنوانها المخصوص بها من جزئيّتها لهذه السورة أم من ذيك ، وأمّا بعنوان كونها بسملة من حيث هي فكلّ منها مصداق لها ، كما في مثال الطلب ، فإنّ معنى أنّه لم يطلب زيدا أو عمروا أو بكرا هو أنّ واحدا منها بخصوصه لم يتعلّق به الطلب ، لا أنّه مغاير لما تعلّق به الطلب ، وهو فرد ما من الرجل ،

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٤٤١ ـ ٤٤٢.

٣٨٢

وإلّا امتنع تحقّق الامتثال به ، بل كلّ منها مصداق للمطلوب ولكن خصوص شخصه غير مقصود بالطلب ، فهذا معنى أنّه لم يطلب زيدا ، وإلّا فما يأتي به من المصاديق عين ما تعلّق به الطلب ، فإنّ الكلّيّ الطبيعي الذي هو متعلّق الطلب عين مصاديقه الخارجيّة ، ففيما نحن فيه نقول : إذا التفت إجمالا إلى وجود البسملة في القرآن أو قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) في سورة الرحمن ، فقرأها في صلاته بقصد تلك الآية التي تصوّرها على سبيل الإجمال ، صدق عليه أنّه قرأ آية من القرآن أو من سورة الرحمن ، ولكن المقروء هو طبيعة تلك الآية الصادقة على كلّ من مصاديقها ، فيصدق على كلّ منها أنّها هي الآية التي قرأها ولكن لا على وجه يميّزها عمّا يشاركها في الماهيّة ، فيصحّ أن يجعلها جزءا من أيّ سورة شاء بانضمام الباقي إليها ؛ لأنّه بعد الانضمام يصدق أنّه قرأ مجموع هذه الآيات التي هي تمام السورة ، أمّا جزؤها الأوّل الذي هو البسملة فقد قرأها على سبيل الإبهام والإجمال ، وما عداه تفصيلا.

نعم ، لا يقع مثل هذه القراءة إطاعة للأمر بقراءة هذه السورة لو كانت هي بعينها متعلّقة للطلب ، كما في فاتحة الكتاب ؛ لعدم وقوع جزئها الأوّل على الوجه الذي تعلّق به الطلب ، أي بعنوان جزئيّتها لهذه السورة ، وأمّا إذا كان المأمور به قراءة سورة على الإطلاق كما فيما نحن فيه ، فلا مانع عن صحّتها بعد فرض كون هذا العنوان مقصودا له حال الإتيان ببسملتها.

فالأظهر عدم اعتبار قصد سورة معيّنة ، ولكن لو عيّنها خرجت البسملة عن صلاحيّة الجزئيّة لما عداها ، فلو بدا له العدول حينئذ فعليه إعادة البسملة ، بخلاف ما لو قرأها على جهة الإبهام والإجمال ، كما يظهر وجهه ممّا مرّ.

٣٨٣

ثمّ إنّا لو اعتبرنا التعيين ، يكفي في حصوله القصد الإجمالي الموجب لاختيار سورة خاصّة في صلاته بمقتضى عادته ، فلا مناقضة بين ما حكي عن الشهيد والمحقّق الثاني وغيرهما من الفتوى بصحّة الصلاة فيما لو جرى على لسانه بسملة مع سورة ؛ مستدلّين بتحقّق الامتثال ، وبين ما حكي عنهم من اعتبار التعيين (١) ؛ فإنّ جري المجموع على لسانه لا يكون إلّا بداع واحد ، فلا يعقل أن تكون البسملة الجارية على لسانه غير بسملة تلك السورة حتى لو فرض كون منشئه مجرّد تعويد اللسان وحصول النطق بها لا عن قصد ، كما في النائم ، فإنّ التعويد يؤثّر في النطق بما تعوّد به ، وهو المجموع ، دون غيره ، فلا يشكل صحّة صلاته في مثل هذا الفرض أيضا من هذه الجهة ، بل من حيث اعتبار قصد الإطاعة في أجزاء الصلاة ، فلو لم يكن ذهوله منافيا لانبعاث ما جرى على لسانه عن عزم إطاعة الأمر بالصلاة كما هو المعتبر في سائر أجزائها ، لا يكون منافيا لصحّتها ، كما ربما يومئ إليه بعض الأخبار الآتية في مسألة العدول.

الثاني : لا خلاف على الظاهر في أنّه يجوز العدول من سورة إلى أخرى في الجملة.

وفي الحدائق قال : المشهور بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ جواز العدول من سورة إلى أخرى ما لم يبلغ نصفها أو يتجاوز نصفها على الخلاف في ذلك ، وأنّه يحرم بعد بلوغ الحدّ المذكور ، إلّا في سورتين :التوحيد والجحد ، فإنّه يحرم العدول عنهما بمجرّد الشروع فيهما ، أو يكره

__________________

(١) الذكرى ٣ : ٣٥٥ ، جامع المقاصد ٢ : ٢٨١ ـ ٢٨٢ ، والجعفريّة (ضمن موسوعة حياة المحقّق الكركي وآثاره) ٤ : ١٧٢ ، والحاكي عنهما هو العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٤١١ و ٤١٢.

٣٨٤

ـ على الخلاف ـ إلّا إلى الجمعة والمنافقين في يوم الجمعة ، فإنّه يعدل منهما إلى السورتين المذكورتين ما لم يبلغ النصف أو يتجاوزه على الأشهر (١). انتهى.

والأصل في هذا الحكم أخبار كثيرة :

منها : صحيحة عمرو بن أبي نصر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :الرجل يقوم في الصلاة يريد أن يقرأ سورة فيقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فقال : «يرجع من كلّ سورة إلّا (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)» (٢).

وصحيحة الحلبي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل قرأ في الغداة سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال : «لا بأس ، ومن افتتح بسورة ثمّ بدا له أن يرجع في سورة غيرها فلا بأس إلّا (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) لا يرجع منها إلى غيرها ، وكذلك (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)» (٣).

وموثّقة عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أراد أن يقرأ في سورة فأخذ في أخرى ، قال : «فليرجع إلى السورة الأولى إلّا أن يقرأ بـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)» قلت : رجل صلّى الجمعة فأراد أن يقرأ سورة الجمعة فقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، قال : «يعود إلى سورة الجمعة» (٤).

وموثّقته الأخرى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا : في الرجل يريد أن يقرأ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٨ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

(٢) الكافي ٣ : ٣١٧ / ٢٥ ، التهذيب ٢ : ١٩٠ / ٧٥٢ ، و ٢٩٠ / ١١٦٦ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٣) التهذيب ٢ : ١٩٠ / ٧٥٣ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٤٢ / ٦٥١ ، الوسائل ، الباب ٦٩ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣.

٣٨٥

السورة فيقرأ غيرها ، فقال : «له أن يرجع ما بينه وبين أن يقرأ ثلثيها» (١).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام : في الرجل يريد أن يقرأ سورة الجمعة في الجمعة فيقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال : «يرجع إلى سورة الجمعة» (٢).

وعن أحمد بن محمّد ـ في الصحيح ـ نحوها (٣).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا افتتحت صلاتك بـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وأنت تريد أن تقرأ غيرها فامض فيها ولا ترجع إلّا أن تكون في يوم الجمعة فإنّك ترجع إلى الجمعة والمنافقين» (٤).

وخبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل أراد سورة فقرأ غيرها هل يصلح له أن يقرأ نصفها ثمّ يرجع إلى السورة التي أراد؟ قال : «نعم ما لم تكن (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ)» وسألته عن القراءة في الجمعة بما يقرأ؟ قال : «بسورة الجمعة و (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) وإن أخذت في غيرهما وإن كان (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فاقطعها من أوّلها وارجع إليهما» (٥).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٩٣ / ١١٨٠ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٢٦ / ٦ ، التهذيب ٣ : ٢٤٢ / ٦٥٢ ، الوسائل ، الباب ٦٩ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٤١ ـ ٢٤٢ / ٦٤٩ ، الوسائل ، الباب ٦٩ من أبواب القراءة في الصلاة ، ذيل ح ١.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٤٢ / ٦٥٠ ، الوسائل ، الباب ٦٩ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

(٥) قرب الإسناد : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ / ٨٠٢ ، و ٢١٤ / ٨٣٩ ، الوسائل ، الباب ٣٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣ ، والباب ٦٩ من تلك الأبواب ، ح ٤.

٣٨٦

وعن عليّ بن جعفر في كتاب المسائل نحوه ، إلّا أنّه قال فيما سأله أوّلا : هل يصلح له بعد أن يقرأ نصفها أن يرجع؟ الحديث (١).

وعن الشهيد في الذكرى نقلا من كتاب نوادر البزنطي عن أبي العبّاس : في الرجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ في أخرى ، قال : «يرجع إلى التي يريد وإن بلغ النصف» هكذا نقله في الحدائق عن الذكرى (٢) ، ولكن نقل عن البحار أنّه نقل عن الذكرى : أنّ فيها : عن أبي العبّاس عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل ، إلى آخره (٣).

وعن كتاب دعائم الإسلام قال : وروينا عن جعفر بن محمّد أنّه قال :«من بدأ بالقراءة في الصلاة بسورة ثمّ رأى أن يتركها ويأخذ في غيرها فله ذلك ما لم يأخذ في نصف السورة الأخرى ، إلّا أن يكون بدأ بـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فإنّه لا يقطعها ، وكذلك سورة الجمعة أو سورة المنافقين في الجمعة لا يقطعهما إلى غيرهما ، وإن بدأ بـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قطعها ورجع إلى سورة الجمعة أو سورة المنافقين في صلاة الجمعة يجزئه خاصّة» (٤).

وعن الفقه الرضوي ، قال : «وقال العالم : لا تجمع بين السورتين في الفريضة. وسئل عن رجل يقرأ في المكتوبة نصف السورة ثمّ ينسى فيأخذ في الأخرى حتى يفرغ منها ثمّ يذكر قبل أن يركع ، قال : لا بأس به ، وتقرأ في صلواتك كلّها يوم الجمعة وليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين وسبّح

__________________

(١) مسائل علي بن جعفر : ١٦٤ / ٢٦٠ ، و ٢٤٥ / ٥٨٠ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٨ : ٢٠٩.

(٢) الذكرى ٣ : ٣٥٦ ، الحدائق الناضرة ٨ : ٢١٠.

(٣) الحدائق الناضرة ٨ : ٢١٠ ، بحار الأنوار ٨٥ : ٦١ / ٤٩.

(٤) دعائم الإسلام ١ : ١٦١ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٨ : ٢١٠ ـ ٢١١.

٣٨٧

اسم ربّك الأعلى ، وإن نسيتها أو واحدة منها فلا إعادة عليك ، فإن ذكرتها من قبل أن تقرأ نصف سورة فارجع إلى سورة الجمعة ، وإن لم تذكرها إلّا بعد ما قرأت نصف سورة فامض في صلاتك» (١).

أقول : ظاهر قوله : «ثمّ ينسى فيأخذ في الأخرى» أنّ الأخذ في الأخرى وقع نسيانا ولم يتفطّن حتى فرغ منها إلّا أنّه نسي ما قرأه أوّلا فشرع في الأخرى عمدا لغفلة عمّا قرأ ، والغالب في الأخذ نسيانا هو الأخذ من الأثناء عند تشابه كلماتهما ، فعلى تقدير إرادة مثل هذا الفرض ـ كما هو الظاهر ـ يكون أجنبيّا عمّا نحن فيه ، ويكون من مؤيّدات الروايات الواردة في جواز التبعيض.

ونحوه صحيحة عبيد الله بن علي الحلبي وأبي الصباح الكناني وأبي بصير كلّهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يقرأ في المكتوبة نصف سورة ثمّ ينسى فيأخذ في أخرى حتى يفرغ منها ثمّ يذكر قبل أن يركع ، قال : «يركع ولا يضرّه» (٢).

وأظهر منهما دلالة على إرادة هذا المعنى خبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن كتاب المسائل ـ عن أخيه عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يفتتح السورة فيقرأ بعضها ثمّ يخطئ فيأخذ في غيرها حتى يختمها ثمّ يعلم أنّه قد أخطأ هل له أن يرجع في الذي فتح وإن كان قد ركع وسجد؟ قال : «إن كان لم يركع فليرجع إن أحبّ ، وإن ركع فليمض» (٣).

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٣٠ و ١٢٥ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٨ : ٢١٠.

(٢) التهذيب ٢ : ١٩٠ ـ ١٩٠ / ٧٥٤ ، الوسائل ، الباب ٣٦ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٤.

(٣) مسائل عليّ بن جعفر : ١٦٢ / ٢٥٣ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٨ : ٢١٠.

٣٨٨

فالاستشهاد بمثل هذه الروايات لما نحن فيه ـ كما في الحدائق (١) وغيره (٢) حيث عدّوها من أخبار الباب ـ لا يخلو عن نظر.

وكيف كان فقضيّة الجمع بين أخبار الباب تقييد إطلاق الأخبار الدالّة بظاهرها على جواز العدول مطلقا بقوله عليه‌السلام في موثّقة عبيد بن زرارة : «له أن يرجع ما بينه وبين أن يقرأ ثلثيها» (٣) فإنّ ظاهرها أنّه ليس له العدول بعد قراءة الثلثين ، كما أنّ صريحها أنّ له العدول قبل بلوغ الثلثين وإن تجاوز النصف ، وليس في شي‌ء من الأخبار المزبورة ما ينافي ذلك ، عدا قوله عليه‌السلام فيما رواه في الذكرى عن نوادر البزنطي : «يرجع إلى التي يريد وإن بلغ النصف» (٤) فإنّ التعبير بـ «إن» الوصليّة مشعر بكون بلوغ النصف هو الفرد الخفي الذي ينتهي عنده جواز الرجوع ، ومفهوم قوله عليه‌السلام في الخبر المرويّ عن كتاب دعائم الإسلام : «فله ذلك ما لم يأخذ في نصف السورة الأخرى» (٥) وقوله في الرضوي : «وإن لم تذكرها إلّا بعد ما قرأت نصف سورة فامض في صلاتك» (٦).

وشي‌ء ممّا ذكر لا يصلح لمعارضة الموثّقة ؛ فإنّها بعد الغضّ عن أسانيدها تقصر عن مكافئة الموثّقة من حيث الدلالة أيضا.

أمّا الأوّل : فواضح ؛ فإنّ غايته الإشعار لا الدلالة ، فيحتمل أن تكون النكتة في هذا التعبير عدم حصول الداعي للعدول ورفع اليد عمّا قرأ غالبا

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٨ : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٢) جواهر الكلام ١٠ : ٥٨ ـ ٥٩.

(٣) تقدّمت الموثّقة في ص ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

(٤) تقدّم خبر البزنطي في ص ٣٨٧.

(٥) تقدّم خبر الدعائم في ص ٣٨٧.

(٦) تقدّم الرضوي في ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

٣٨٩

إلّا قبل بلوغ النصف.

وأمّا الرضوي : فغايته الظهور في وجوب المضيّ بعد قراءة النصف ، فهو لا يعارض النصّ ، مع إمكان منع الظهور أيضا ؛ لورود الأمر بالمضيّ عقيب الأمر بالرجوع الذي هو بمعنى النهي عن المضيّ ، فلا يظهر منه أزيد من الرخصة ، كما لا يخفى.

وأمّا خبر الدعائم : فلا يخلو لفظه عن تشويش ؛ فإنّ عبارته المحكيّة في نسخة الحدائق والجواهر الموجودتين عندي : «في نصف السورة الأخرى» (١) بالتأنيث ، فعلى هذا ليس نصّا بل ولا ظاهرا في إرادة النصف الآخر من السورة التي بدأ بقراءتها ، بل ظاهره إرادة السورة التي يريد العدول إليها ، فكأنّ المراد به أنّ له ذلك ما لم يأخذ من وسط السورة التي يعدل إليها بل من ابتدائها حتى يقرأ سورة كاملة.

نعم ، في نسخة المستند (٢) روى بلفظ «الآخر» بدل «الأخرى» ولكن لا وثوق بصحّتها.

وكيف كان فلا ينهض شي‌ء ممّا ذكر دليلا لطرح الموثّقة.

فمن هنا قد يقوى في النظر صحّة ما حكي عن كاشف الغطاء من القول ببقاء التخيير إلى الثلثين (٣) ؛ تمسّكا بهذه الموثّقة ، مع موافقته لأصالة بقاء التخيير ، التي قرّرناها في مسألة التخيير بين القراءة والتسبيح في الأخيرتين ، إلّا أنّه قد يشكل ذلك بما ادّعاه غير واحد (٤) من الإجماع على

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٨ : ٢١١ ، جواهر الكلام ١٠ : ٥٩.

(٢) مستند الشيعة ٥ : ١١٢.

(٣) كشف الغطاء ٣ : ١٧٨ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١٠ : ٦٠.

(٤) كالأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٢٤٥ ، والشهيد الثاني في روض الجنان ٢ :٧١٦.

٣٩٠

عدم جواز العدول بعد تجاوز النصف ، كما ربما يؤيّده عدم نقل الخلاف فيه عن أحد سواه.

نعم ، في الحدائق قوّى جواز العدول مطلقا ؛ أخذا بإطلاق أغلب الأخبار ، وأصالة بقاء التخيير (١).

ولكنّه ليس بشي‌ء ؛ لوجوب رفع اليد عن الأصل والإطلاقات بالخبر المقيّد ، وهو الموثّقة المزبورة (٢) لو لم تكن مخالفة للإجماع ، وإلّا فبالإجماع ، فالقول بعدم جواز الرجوع بعد تجاوز النصف كما هو مظنّة الإجماع إن لم يكن أقوى فلا ريب في أنّه أحوط.

وما عن غير واحد من تحديده بما إذا لم يبلغ النصف ـ كما عن الحلّي وغيره (٣) ـ ضعيف ؛ فإنّه ـ مع مخالفته للأصل وإطلاقات الأدلّة السليمة عن المقيّد فيما لم يتجاوز النصف ـ مخالف لصريح بعض الأخبار المتقدّمة ، كقوله عليه‌السلام في خبر البزنطي (٤) : «وإن بلغ النصف».

والخدشة في دلالته على جواز العدول عند بلوغ النصف فيما هو محلّ الكلام ـ بدعوى أنّ موردها ما لو كان قاصدا لقراءة سورة فقرأ غيرها لا عن قصد ، فلا اعتداد بهذه القراءة أصلا ، بل عليه بعد الالتفات والتنبّه ولو بعد الفراغ منها إمّا إعادتها أو قراءة سورة غيرها ، فهي أجنبيّة عمّا نحن فيه ـ مدفوعة : بأنّ جلّ الأخبار الواردة في الباب لو لا كلّها إنّما وردت في مثل

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٨ : ٢١٥.

(٢) في ص ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

(٣) السرائر ١ : ٢٢٢ ، والشهيد في الدروس ١ : ١٧٣ ، وحكاه عنهما البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٢١١.

(٤) تقدم خبره في ص ٣٨٧.

٣٩١

ما وقع عنه السؤال في هذه الرواية ، مع أنّ صريح جملة منها عدم العدول ، والمضيّ في صلاته إن كان ما جرى أوّلا على لسانه سورة الجحد والتوحيد ، بل وكذا هذه الرواية ظاهرها عدم الرجوع بعد بلوغ النصف ، فهذا كلّه ينافي الكلام المزبور ، فليس المراد بقوله : «فقرأ غيرها» أنّه جرى ألفاظ تلك السورة على لسانه بلا شعور أصلا على وجه عدّ ككلام النائم والغافل بحيث ينافي صحّته وجزئيّته للعبادة ، بل المقصود بقوله : «أراد أن يقرأ السورة فيقرأ غيرها» أو غير ذلك من العبائر الواردة بهذا المضمون في سائر الأخبار أنّه كان مريدا قبل الوصول إلى محلّ السورة أن يقرأ في هذه الركعة ـ مثلا ـ السورة الفلانيّة ، فعند وصوله إلى محلّها غفل عن ذلك فأخذ في سورة أخرى بمقتضى قصده الإجمالي المغروس في نفسه الباعث له على الإتيان بأجزاء الصلاة تدريجا على حسب مغروسيّتها في نفسه على سبيل الإجمال ، لا أنّه يصدر منه قراءتها بلا شعور أصلا على وجه ينافي جزئيّتها للعبادة.

نعم ، وقع في ذيل عبارة الرضوي التحديد بأقلّ من النصف (١) ، ولكن لا حجّيّة فيه ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، مع إمكان إرجاعه إلى الأوّل ، جمعا بين الأدلّة ، كما لا يخفى.

وهل يعتبر في جواز العدول عن الجحد والتوحيد إلى الجمعة والمنافقين أيضا التحديد بعدم تجاوز النصف ، كما حكي عن بعض (٢) ، بل

__________________

(١) راجع ص ٣٨٨.

(٢) كابن ادريس في السرائر ١ : ٢٩٧ ، والشهيد في الدروس ١ : ١٧٣ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٢٨٠ ، والشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٧١٥ ، وحكاه عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٤٠٩.

٣٩٢

ربما نسب إلى المشهور (١) ، بل ربما يقتضيه فحوى إطلاق حكمهم في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة بعدم جواز العدول عمّا عداهما بعد تجاوز النصف إلى سورة أخرى الشامل بإطلاقه العدول إلى الجمعة والمنافقين ، أم لا يعتبر فيهما ذلك بل يجوز العدول عنهما إلى السورتين مطلقا ، كما هو صريح آخرين (٢)؟ وجهان ، أوجههما : الثاني ؛ لاطلاقات أدلّته السليمة عمّا يصلح لتقييدها ، والفحوى غير قطعيّة ، فلا اعتداد بها في الأحكام التعبّدية مع ما في أصلها من النظر ؛ إذ لم يعلم إرادة المجمعين من إطلاق كلماتهم عموم المنع حتى بالنسبة إلى الجمعة والمنافقين في يوم الجمعة.

ودعوى ظهور كلماتهم في ذلك بمقتضى الإطلاق ، وهو حجّة بعد الغضّ عن إمكان دعوى انصرافها عن مثل الفرض لدى الالتفات إلى ما فيه من الخصوصيّة ، غير مجدية ؛ إذ المدار في حجّيّة الإجماع على استكشاف رأي المعصوم من آراء المجمعين ، وهو موقوف على العلم برأيهم ، لا التعبّد بظواهر ألفاظهم.

نعم ، لو قلنا بحجّيّة الإجماع المنقول وكونه كمتون الأخبار ، اتّجه التمسّك بإطلاقه ، ولكنّ المبنى فاسد ، فالأشبه جواز العدول من سائر السّور أيضا إلى الجمعة والمنافقين مطلقا ما دام بقاء محلّه ، أي قبل الفراغ من السورة التي ابتدأ بها ، ولكنّه لا يخلو عن تردّد خصوصا بعد الالتفات

__________________

(١) نسبه إلى المشهور الشهيد الثاني في مسالك الافهام ١ : ٢٤٩ ، وكذا البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٢٨٠.

(٢) كالطوسي في النهاية : ٧٧ ، والمبسوط ١ : ١٠٧ ، والعلّامة الحلّي في تحرير الأحكام ١ :٢٤٩ / ٨٦٤ ، وتذكرة الفقهاء ٣ : ١٥٠ ، المسألة ٢٣٤ ، وابن فهد الحلّي في الموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) : ٧٨.

٣٩٣

إلى وقوع التصريح بالمنع عنه في الرضوي (١).

ثمّ إنّ المراد بجواز العدول إليهما من الجحد والتوحيد وكذا من غيرهما أيضا بعد تجاوز النصف إن جوّزناه إنّما هو العدول إليهما على حسب معهوديّتهما في الشريعة بأن أتى بأولاهما في الركعة الأولى ، وبالثانية في الثانية ؛ لأنّ هذا هو الذي ينسبق إلى الذهن من إطلاق النصوص والفتاوى.

وهل يختصّ الحكم بالجمعة ، أم يعمّ الظهر من يومها أو مع العصر أيضا ، أم مطلق صلاة يوم الجمعة حتى الصبح؟ وجوه ، بل ما عدا الأخير منها أقوال ، وأمّا الأخير : فهو احتمال أبداه في الجواهر معترفا بعدم وجدان قائل به (٢).

أمّا الأوّل : فقد قوّاه في الحدائق ؛ لزعمه أنّ الجمعة هو مورد أغلب النصوص الواردة في جواز العدول ، وما في بعضها من الإطلاق ـ كقوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي : «إلّا أن تكون في يوم الجمعة فإنّك ترجع إلى الجمعة والمنافقين» (٣) ـ يجب حمله على صلاة الجمعة ، كما صرّحت به بقيّة أخبار المسألة حملا للمطلق على المقيّد.

ثمّ قال : ويعضد ذلك الروايات الدالّة على تحريم العدول عن هاتين السورتين ـ أي التوحيد والجحد ـ مطلقا ، فيجب الاقتصار في التخصيص على القدر المتيقّن من مورد النصّ ، وهو صلاة الجمعة خاصّة (٤). انتهى.

__________________

(١) تقدّم الرضوي في ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

(٢) جواهر الكلام ١٠ : ٦٧.

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٣٨٦ ، الهامش (٤).

(٤) الحدائق الناضرة ٨ : ٢٢١.

٣٩٤

وفيه : أنّه لا داعي لهذا التقييد ؛ إذ لا تنافي بين المطلق والمقيّد.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الأمر دائر بين تقييد المطلق أو تخصيص العامّ زائدا على القدر [الذي] (١) وقع التصريح به في سائر الأخبار ، أي الجمعة.

ويدفعه : أنّ إطلاق الخاصّ مقدّم على أصالة العموم ، فلا دوران.

نعم ، لا يبعد دعوى انصرافها إلى الجمعة ، ولكن لا إلى خصوصها ، بل أعمّ منها ومن الظهر في مقابل صلاة الصبح والعصر ، بل لا يبعد أن يدّعى أنّ الظهر هي القدر المتيقّن من موردها ؛ إذ الظاهر أنّه لم يكن الحلبي ولا غيره من أصحاب الأئمّة بل ولا الأئمّة عليهم‌السلام كانوا يؤمّون الناس في صلاة الجمعة كي يحسن أن يوجّه إليه الخطاب بقوله : «إذا افتتحت صلاتك بـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)» (٢) الحديث ، بل الظاهر أنّ هذا هو المراد بالجمعة الواردة في سائر أخبار الباب ؛ لما أشرنا إليه من عدم ابتلاء أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بإمامة الجمعة التي وظيفته قراءة السورتين.

نعم ، كان الغالب ابتلاءهم بالائتمام فيها بالفاسق ، فكان عليهم حينئذ القراءة ولو مثل حديث النفس ولكن لم تكن صلاتهم حينئذ جمعة ، بل عليهم إتمامها ظهرا.

هذا ، مع أنّ الشائع في الأخبار وكلمات أصحابهم إنّما هو إطلاق الجمعة على صلاة الظهر من يومها أعمّ من كونها جمعة أو ظهرا على وجه يشكل دعوى انصرافها إلى خصوص الأوّل إلّا بالقرائن ، كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار والأسئلة الواقعة فيها ، بل قد يظهر منها أنّه لا مغايرة

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «التي».

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣٨٦ ، الهامش (٤).

٣٩٥

بينهما ذاتا ، وإنّما هي باختلاف أحوال المصلّي ، فإن صلّاها جماعة مع اجتماع شرائطها من الحضور والجماعة وسبق الخطبتين وغير ذلك ممّا ذكر في محلّه ، يصلّيها ركعتين ، وإلّا فأربعا.

ومن هنا يظهر أنّه لا يصحّ الاستشهاد للقول المزبور بما في خبر (١) الدعائم من تخصيصه بالجمعة ؛ لقوّة احتمال أن يكون المراد بالجمعة المعنى الأعمّ الشامل للظهر ، فلا يصلح قرينة لصرف الصحيحة المتقدّمة (٢) عن ظاهرها بالنسبة إلى صلاة الظهر ، مع ما فيه من ضعف السند ، فالأقوى : جواز العدول عنهما إلى الجمعة والمنافقين في الظهر أيضا ، كما هو المشهور ؛ لإطلاق الصحيحة ، مع إمكان دعوى استفادته من سائر الأخبار أيضا بالتقريب المزبور.

وأمّا في العصر ـ كما حكي القول به عن جامع المقاصد وغيره (٣) ـ فلا يخلو عن تأمّل ؛ لما أشرنا إليه من إمكان دعوى انصراف الصحيحة عنها ، كما هو الشأن بالنسبة إلى صلاة الصبح أيضا ، فيشكل تحكيم إطلاقها بالنسبة إلى هاتين الصلاتين اللتين يمكن دعوى انصرافه عنهما خصوصا بالنسبة إلى الصبح على عموم الروايات الدالّة على تحريم العدول عن السورتين ، فليتأمّل.

وحكي عن الجعفي أنّه جعل محلّ العدول عن السورتين الجمعة

__________________

(١) تقدّم الخبر في ص ٣٨٧.

(٢) في ص ٣٨٦.

(٣) جامع المقاصد ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، تذكرة الفقهاء ٣ : ١٥٠ ، المسألة ٢٣٤ ، الموجز الحاوي (ضمن الرسائل العشر) : ٧٨ ، روض الجنان ٢ : ٧١٥ ، وحكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٤٠٩.

٣٩٦

وصبح يومها وعشاء ليلتها (١) ، فكأنّه جعل المدار في جواز العدول على استحباب السورتين ، وهو يرى استحبابهما في هذه الصلوات على ما نقل عنه (٢).

وكيف كان فهو ضعيف ؛ إذ ليس المدار على محض استحبابهما بالخصوص ، وإلّا لجاز العدول إلى سائر السّور التي ثبت استحبابها بالخصوص في صلوات سائر الأيّام ، وهو كما ترى.

ثمّ إنّ ظاهر النصوص والفتاوى الناهية عن العدول عن سورة الجحد والتوحيد فيما عدا ما استثني : الحرمة ، ووجوب المضيّ فيهما بمجرّد الشروع ، فما عن المصنّف رحمه‌الله في المعتبر من القول بكراهته (٣) ضعيف.

وهل يحرم العدول عن الجمعة والمنافقين إلى غيرهما في الصلاة التي يجوز العدول فيها إليهما عن التوحيد والجحد؟ فيه تردّد : من كونهما أولى بهذا الحكم من السورتين اللتين جاز العدول عنهما إليهما ، ووقوع التصريح بالمنع عن العدول عنهما في خبر الدعائم (٤) ، ومن عدم كون الأولويّة قطعيّة والخبر جامعا لشرائط الحجّيّة ، والله العالم.

ثمّ إنّه حكي عن المحقّق الثاني وبعض من تأخّر عنه القول باختصاص جواز العدول عن الجحد والتوحيد بالناسي (٥) ، فكأنّه أراد بالناسي من كان مريدا لقراءة الجمعة والمنافقين فنسيهما وأخذ في التوحيد أو

__________________

(١) حكاه عنه الشهيد في الذكرى ٣ : ٣٥٥.

(٢) كما في الحدائق الناضرة ٨ : ٢٢٢.

(٣) المعتبر ٢ : ١٩١ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٢١٥.

(٤) تقدّم خبره في ص ٣٨٧.

(٥) جامع المقاصد ٢ : ٢٨٠ ، الشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٧١٦ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٤٠٩.

٣٩٧

الجحد.

ويحتمل أن يكون مراده مطلق غير الملتفت في مقابل العامد ، ومستنده الاقتصار في رفع اليد عن عموم الأخبار الناهية عن العدول من السورتين على مورد النصوص المخصّصة له ، وهو الناسي.

وفيه : أنّ النواهي قد خصّصت بهذا الفرد ، أي العدول عنهما إلى الجمعة والمنافقين في صلاة يوم الجمعة ، وكونه ملتفتا حال الشروع فيهما أو غير ملتفت ككونه مسبوقا بإرادة قراءة الجمعة والمنافقين ـ كما هو مورد أغلب النصوص ـ وعدمه من أحوال الفرد ، فلا يعمّه حكم العامّ بعد ورود التخصيص عليه ، فيرجع في حكم العامد إلى ما يقتضيه الأصل ، وهو الجواز ، كما تقدّمت الإشارة إليه غير مرّة.

لا يقال : إنّ مفاد الأخبار الناهية هو المنع عن العدول مطلقا ، فثبوت الرخصة في صلاة الجمعة مع النسيان لا يوجب إلّا تقييد إطلاقه بالنسبة إلى هذا الفرد ، لا إخراجه بنفسه عن مورد الحكم.

لأنّا نقول : أمّا ما عدا صحيحة الحلبي (١) فحالها حال الأخبار المخصّصة التي ادّعي انصرافها إلى الناسي ؛ لورودها في من أراد أن يقرأ سورة فبدأ بـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فاستفادة المنع عنه في العامد من مثل هذه الأخبار إنّما هو بالفحوى ، فيمتنع دلالتها عليه فيما ثبت جوازه مع النسيان ؛ ضرورة عدم بقاء الدلالة التبعيّة بعد انتفاء أصلها.

وأمّا صحيحة الحلبي : فليس للجملة المستثناة الواقعة فيها ظهور في

__________________

(١) تقدّمت صحيحته في ص ٣٨٦.

٣٩٨

الإطلاق الأحوالي ؛ لورود إطلاقها مورد حكم آخر. ولو سلّم ظهورها في شمول حالتي العمد والسهو ، فليس ذلك مسبّبا عن أنّ لها عموما أو إطلاقا أحواليّا مغايرا لعموم النهي عنه في كلّ صلاة كي يمكن ارتكاب التصرّف في الأوّل بتقييد أو تخصيص مع إبقاء هذا العموم بحاله ، بل من حيث ظهورها في تعلّق النهي بماهيّة العدول من السورتين من حيث هي في مطلق صلواته ، فإذا ثبت جوازه في صلاة الجمعة في الجملة ، علم أنّ هذه الصلاة غير مرادة من الصلاة التي نهي عن العدول فيها على الإطلاق ، فهي خارجة عن الموضوع الذي حكمه حرمة مطلق العدول فيه.

نعم ، لو كان للكلام ظهور في الإطلاق لا من هذه الجهة ، أي تعليق الحكم على الطبيعة المرسلة ، بل من جهة نفس الحكم ، أي الحرمة من حيث هي ، لاتّجه ما ذكر.

والحاصل : أنّه فرق بين ما لو قال : «يحرم مطلق التكلّم ـ أي طبيعة الكلام ـ مع كلّ من هذه الجماعة» أو قال : «يحرم التكلّم مع كلّ منهم مطلقا» فإنّ ثبوت الرخصة في بعض منهم يوجب خروجه عن العموم في الأوّل دون الثاني ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، كما لا يخفى.

هذا ، مع أنّ الانصراف المزبور إنّما هو في الأخبار الواردة في من أراد أن يقرأ الجمعة فقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) حيث إنّ المنساق إلى الذهن إرادة أنّه قرأها ناسيا عمّا أراده أوّلا ، دون خبر (١) علي بن جعفر ، المرويّ عن قرب الإسناد وكتاب المسائل ، فإنّه بإطلاقه يعمّ لحالتي السهو والعمد.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٨٦ ، الهامش (٥) و ٣٨٧ ، الهامش (١).

٣٩٩

نعم ، لا يبعد أن يدّعى انسباق الناسي إلى الذهن من هذه الرواية أيضا ، ولكن انسباقه بدويّ يدفعه ظهور الخبر في كون مناط الحكم ـ أي الأمر بقطع السورة التي أخذ فيها والرجوع إلى الجمعة والمنافقين ـ هو ما ذكر في صدر الخبر من أنّه يقرأ في الجمعة بالجمعة والمنافقين ، بل لو كان في العبارة التصريح بالأخذ في غيرهما نسيانا ، لقضت المناسبة المزبورة بأنّ القيد جار مجرى العادة ، ولا مدخليّة له في سببيّته للحكم ، كما لا يخفى.

وخبر الدعائم (١) أيضا بظاهره يعمّ الحالتين ، فالقول باختصاصه بالناسي ضعيف.

تنبيه : متى عدل عن سورة وجب عليه إعادة البسملة أيضا ؛ لما عرفت فيما سبق من أنّ البسملة التي قصد بها سورة لا يصحّ وقوعها جزءا من أخرى ، والله العالم.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٣٨٧ ، الهامش (٤).

٤٠٠