مصباح الفقيه - ج ١٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: برگ طوبى
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٣

الغير الموجب لخروج قيامه عن الاستقلال ، والأوّلين على ما كان موجبا لخروجه عن الاستقلال.

وفيه : أنّ هذا النحو من الجمع يحتاج إلى شاهد خارجيّ ، ولا شاهد ، فالأوفق بقواعد الجمع حمل الخبرين الأوّلين على الكراهة ، بل لعلّ هذا هو المنساق من ثانيهما ، فمن هنا قد يترجّح في النظر قوّة ما حكي عن أبي الصلاح وغيره من القول بجوازه على كراهيّة ، إلّا أنّ التعويل على ظاهر هذه الأخبار ـ بعد إعراض المشهور عن ظاهرها ، ورمي بعضهم (١) إيّاها إلى الشذوذ ، مع ما فيها من احتمال التقيّة ـ مشكل ، فما هو المشهور إن لم يكن أقوى فلا ريب في أنّه أحوط ، خصوصا مع قوّة احتمال كون هذه الأخبار بأسرها جارية مجرى الغالب من عدم حصول الاعتماد التامّ المانع عن الاستقلال حال القيام ، وكون المقصود بالاستناد إلى الشي‌ء الاستعانة به على قيامه ، لا تقوّمه به ، فالنهي عنه حينئذ محمول على الكراهة ، فلا ينافي حينئذ شي‌ء منها لاشتراط الاستقلال الذي ادّعي انصرافه من أدلّة القيام ، فليتأمّل.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : إنّا إن بنينا على استفادة شرطيّة الاستقلال من إطلاقات أدلّة القيام ـ إمّا بدعوى كون استناده إلى الشخص بلا واسطة مأخوذا في مفهومه كما تقدّم (٢) ادّعاؤه من بعض ، أو بدعوى كونه مأخوذا فيما ينصرف إليه أخبار الباب ، كما نفينا البعد عنه ـ فيتبعه في الركنيّة وعدمها بمعنى أنّ الإخلال به سهوا حال تكبيرة الافتتاح مخلّ بالصلاة ، وكذا في القيام المتّصل

__________________

(١) النراقي في مستند الشيعة ٥ : ٤٢.

(٢) في ص ١٩.

٢١

بالركوع لو سلّمنا ركنيّته من حيث هو.

وأمّا إن قلنا بأنّ المسلّم إنّما هو اشتراط الركوع بكونه عن قيام ، لا جزئيّة قيام متّصلا بالركوع كما قوّيناه ، فلا ؛ إذ غاية ما نلتزم بشرطيّته للركوع هو مطلق القيام الغير المشروط بالشرائط المزبورة ، كما يتّضح لك وجهه في محلّه إن شاء الله.

وأمّا لو بنينا على استفادة شرطيّته من الشهرة ونقل الإجماع ونحوهما من الأدلّة المجملة ، فالقدر المتيقّن هو اعتباره في حال العمد لا مطلقا ، وكذا لو قلنا باستفادته من صحيحة ابن سنان ورواية عبد الله بن بكير ، المتقدّمتين (١) ، لا لما قد يقال في نظائر المقام من قصور صيغة النهي عن إفادة مانعيّة متعلّقها أو شرطيّة عدمها إلّا مع العمد ، فإنّا قد أشرنا مرارا إلى أنّ هذا القول بالنسبة إلى مثل هذه التكاليف الغيريّة التي لا ينسبق إلى الذهن منها إلّا الإرشاد وبيان الشرطيّة والمانعيّة لا يخلو عن تأمّل أو منع ، بل لحكومة «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» الحديث (٢) ، على مثل هذه المطلقات ، فيقيّدها بصورة العمد ، كما تقدّمت الإشارة إليه فيما سبق (٣).

اللهمّ إلّا أن يدّعى انصرافه عمّا هو معتبر حال التكبيرة التي يتحقّق بها الدخول ، كما تقدّم (٤) تقريبه في القيام.

وفيه تأمّل ، بل قد يتأمّل في بطلان الصلاة بالإخلال به سهوا حال التكبير ، حتى على القول بانصراف أدلّة القيام إلى القيام الاستقلالي ، نظرا

__________________

(١) في ص ١٩ و ٢٠.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٠ ، الهامش (١).

(٣) في ص ١٢.

(٤) في ص ١٣.

٢٢

إلى أنّ الانصراف إن سلّم فهو بالنسبة إلى بعض الأخبار المطلقة التي وقع فيها القيام في حيّز الطلب ، وقوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» (١) حاكم على مثل هذه المطلقات ، ولذا يقيّدها في سائر أحوال الصلاة بالعمد ، فيشكل حينئذ استفادة اعتباره حال السهو بالنسبة إلى خصوص حال التكبير من تلك المطلقات ، فعمدة مستند الحكم باعتباره حال السهو في الحقيقة هو الإجماع وبعض الأخبار الخاصّة ، كموثّق عمّار (٢) ، الذي يشكل دعوى الانصراف فيه ، فتأمّل.

الثاني : حكي عن ظاهر المحقّق الثاني في جامع المقاصد : عدم جواز الاستناد في النهوض أيضا (٣).

ولعلّه لدعوى تبادر إيجاد القيام من غير استعانة من أوامره.

وفيه ـ بعد تسليم الصغرى ـ : أنّ النهوض من المقدّمات الصرفة ، كما في الركعة الأولى ، فيكفي تحقّقه ولو من غير قصد فضلا عمّا لو أوجده مستعينا بشي‌ء.

هذا ، مع أنّ ذيل صحيحة عليّ بن جعفر ، المتقدّمة (٤) نصّ في جوازه ، فلا ينبغي الاستشكال فيه.

الثالث : أنّه بناء على شرطيّة الاستقلال ـ كما هو المشهور ـ هل يعتبر الاعتماد على الرّجلين معا؟ قولان ، أشهرهما ـ على ما في الجواهر (٥) ـ

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٠ ، الهامش (١).

(٢) التهذيب ٢ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤ / ١٤٦٦ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب القيام ، ح ١.

(٣) جامع المقاصد ٢ : ٢٠٣ ، وحكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ :٢٢٣.

(٤) في ص ٢٠.

(٥) جواهر الكلام ٩ : ٢٥١.

٢٣

الأوّل ؛ للأصل ، والتأسّي ، ولأنّه المتبادر المعهود ، ولعدم الاستقرار.

وفي الجميع ما لا يخفى.

اللهمّ إلّا أن يريدوا بالاعتماد عليهما الوقوف عليهما لا على واحدة ، فإنّه لا ينبغي التأمّل في عدم جوازه ، بل عن بعض (١) نفي الخلاف فيه ، بل دعوى الوفاق عليه ؛ لمخالفته لما هو المتبادر من أدلّة القيام.

وما في خبر عبد الله بن بكير عن الصادق عليه‌السلام ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما عظم أو [بعد ما] ثقل كان يصلّي وهو قائم ويرفع إحدى رجليه حتّى أنزل الله سبحانه (طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٢) فوضعها» (٣) فهو غير مناف لما ذكر ؛ إذ الآية لا تدلّ على مشروعيّته بعد نزولها ، بل ربما يستشعر منها كونها ناسخة لذلك الحكم ، لا مرخّصة في تركه.

هذا ، مع ما فيه من ضعف السند ، بل قد يقوى في النظر عدم كفاية مجرّد مماسّة إحداهما للأرض ، بل عن البحار أنّه المشهور (٤) ؛ لكونه خلاف المتبادر من الأدلّة.

هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ انصراف أدلّة القيام عن مثل هذا إن سلّم فبدويّ ، ولا عبرة به.

__________________

(١) البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٦٤ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٩ :٢٥٢.

(٢) سورة طه ٢٠ : ١ و ٢.

(٣) قرب الإسناد : ١٧١ / ٦٢٦ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب القيام ، ح ٤ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٤) بحار الأنوار ٨٤ : ٣٤٢ ، وحكاه عنه النراقي في مستند الشيعة ٥ : ٤٥.

٢٤

كما ربما يؤيّده خبر [محمّد بن] (١) أبي حمزة عن أبيه ، قال : رأيت عليّ بن الحسين عليه‌السلام في فناء الكعبة في الليل وهو يصلّي فأطال القيام حتى جعل مرّة يتوكّأ على رجله اليمنى ومرّة على رجله اليسرى (٢).

وظهوره في النافلة غير قادح بذكره في مقام التأييد.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في عدم اعتبار التساوي في الاعتماد ، فإنّه مع مخالفته للأصل خلاف ما تقتضيه إطلاقات الأدلّة ، ولعلّ القائلين باعتبار الاعتماد على الرّجلين أيضا لا يريدونه ، بل غرضهم بيان عدم كفاية مجرّد المماسّة ، كما هو صريح غير واحد.

ولكنّك عرفت أنّ هذا أيضا لا يخلو عن تأمّل ، كما أنّ ما صرّح به بعض (٣) من وجوب الوقوف على أصل القدمين لا على الأصابع ؛ للتبادر المزبور مع إخلاله بالاستقرار غالبا ، لا يخلو أيضا عن تأمّل ؛ لما أشرنا إليه من أنّ مثل هذه الانصرافات انصرافات بدويّة منشؤها غلبة الوجود ، وإلّا فالقيام على رءوس الأصابع من أوضح مصاديق القيام بعد التفات الذهن إليه أو وجوده في الخارج.

وفي خبر أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم على أصابع رجليه حتى نزل طه (٤)» (٥).

وعن عليّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبي بصير مثله ، إلّا أنّه

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) الكافي ٢ : ٥٧٩ ـ ٥٨٠ (باب دعوات موجزات ...) ح ١٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب القيام ، ح ١.

(٣) الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٢٢٤.

(٤) سورة طه (٢٠).

(٥) الكافي ٢ : ٩٥ (باب الشكر) ح ٦ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب القيام ، ح ٢.

٢٥

قال : «كان يقوم على أصابع رجليه حتّى تورّم» (١).

وربما يستدلّ بهذه الرواية لعدم جوازه بالتقريب الذي تقدّمت الإشارة إليه من دعوى ظهور الرواية في نسخ ذلك الحكم.

وفيه : أنّه لو سلّم ظهورها في ذلك ، فهذا لا يقتضي إلّا عدم مشروعيّة هذه الكيفيّة من حيث هي ، لا حرمتها ما لم يكن بقصد التشريع ، فلا ينافي ذلك جوازه من حيث كونه من جزئيّات القيام التي يكون اختيارها موكولا إلى إرادة المكلّف ، فليتأمّل.

الرابع : قد أشرنا آنفا إلى أنّ اعتبار الاستقلال في القيام إنّما هو مع القدرة عليه لا مطلقا كي يسقط التكليف به لدى انتفائها ، فمع العجز يجب عليه أن يعتمد على ما يتمكّن معه من القيام بلا خلاف فيه ولا إشكال ؛ إذ لو سلّمنا انصراف الأدلّة إلى القيام الاستقلالي فإنّما هو في حقّ القادر لا مطلقا ، مع أنّه يكفي لإثباته في الفرض قاعدة الميسور ، مضافا إلى شهادة الخبرين المتقدّمين (٢) اللّذين هما العمدة لإثبات هذا الشرط بذلك.

وربما يستدلّ له ولنظائره أيضا : بعموم قوله عليه‌السلام : «كلّ ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» (٣).

وقوله عليه‌السلام في رواية سماعة : «ما من شي‌ء حرّم الله تعالى إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» (٤).

وفيه : أنّ هذا النحو من الأدلّة إنّما تنفي التكليف بالشرط لدى

__________________

(١) تفسير القمّي ٢ : ٥٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب القيام ، ح ٣.

(٢) آنفا.

(٣) الكافي ٣ : ٤١٢ / ١ ، التهذيب ٣ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ / ٩٢٥ ، الاستبصار ١ :٤٥٧ / ١٧٧٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب قضاء الصلوات ، ح ١٦.

(٤) التهذيب ٣ : ٣٠٦ / ٩٤٥ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ٦.

٢٦

العجز ، لا وجوب الإتيان بالمشروط بدونه ، فليتأمّل.

(ولو قدر على القيام في بعض الصلاة ، وجب أن يقوم بقدر مكنته) من غير خلاف يعرف ، كما اعترف به بعض (١).

ويشهد له النبويّ المرسل : «إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم» (٢) والعلويّان (٣) المرسلان : «الميسور لا يسقط بالمعسور» (٤) و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٥).

مضافا إلى إمكان استفادته من نفس أدلّة القيام ؛ حيث إنّ المتبادر من أدلّته أنّ طبيعة القيام ـ كالاستقبال والستر ـ معتبرة في الصلاة من أوّلها إلى آخرها عدا المواضع التي لا يجب فيها القيام ، بمعنى أنّ المعتبر في الصلاة على ما هو المنساق من دليله هو أن يأتي المصلّي بصلاته عن قيام ، فماهيّة القيام من حيث هي ، هي المعتبرة في جميع الصلاة عدا ما استثني ، لا القيام المقيّد بكونه في الجميع لوحظ جزءا واحدا كي يتوقّف إثبات وجوب ما تيسّر منه عند تعذّر بعضه على القواعد المزبورة ، بل قضيّة تعليق الوجوب على طبيعة القيام من حيث هي ما دام كونه مصلّيا : هي وجوب الإتيان بما تيسّر منه بعد العلم بأنّ الصلاة لا تسقط بحال ؛ حيث إنّ مقتضاه كون القيام عند كلّ جزء من حيث هو مع قطع النظر عن سابقه ولا حقه معتبرا في الصلاة ، فأبعاض القيام حالها حال سائر أجزاء الصلاة وشرائطها التي يفهم عدم سقوطها لسقوط جزء أو شرط آخر ممّا دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط

__________________

(١) كالبحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٦٦ ، وصاحب الجواهر فيها ٩ : ٢٥٣.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٩٧٥ / ٤١٢ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٢٦.

(٣) كما في عوائد الأيّام : ٢٦١.

(٤) غوالي اللآلئ ٤ : ٥٨ / ٢٠٥.

(٥) غوالي اللآلئ ٤ : ٥٨ / ٢٠٧.

٢٧

بحال.

وممّا يؤيّد المدّعى بل يشهد له من استقلال أبعاض القيام بالحكم : الأدلّة الخاصّة الواردة في أبعاضه.

مثل : ما دلّ على وجوبه حال التكبير واشتراط التكبير به ، وكذا القراءة ، وكذا قبل الركوع وبعده ؛ فإنّ لكلّ منها دليلا خاصّا يدلّ على اعتباره من حيث هو إمّا جزءا من الصلاة أو شرطا للجزء الواقع حاله كالتكبير والقراءة من غير مدخليّة سائر الأجزاء فيه ، فليتأمّل.

واستدلّ أيضا للمطلوب : بظهور قوله عليه‌السلام في صحيحة جميل : «إذا قوي فليقم» (١) في وجوب القيام عليه وقت قوّته عليه ، وهو عين ما في المتن.

وفيه تأمّل ؛ فإنّ الصحيحة بظاهرها مسوقة لبيان الحدّ الذي تجب معه الصلاة قائما.

قال جميل : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : ما حدّ المرض الذي يصلّي صاحبه قاعدا؟ فقال : «إنّ الرجل ليوعك (٢) ويحرج ، ولكنّه أعلم بنفسه ، إذا قوي فليقم» (٣) فيشكل التمسّك بإطلاقها لما نحن فيه ؛ لورودها مورد حكم آخر ، فليتأمّل.

وكيف كان فلو قدر على القيام زمانا لا يسع القراءة والركوع ، قدّم القراءة ، وجلس للركوع ، كما صرّح به في الجواهر (٤) وغيره (٥) ، فإنّ العجز

__________________

(١) لاحظ الهامش (٣).

(٢) أي : يحم ، الوعك : الحمى. وقيل : ألمها. مجمع البحرين ٥ : ٢٩٨ «وعك».

(٣) التهذيب ٣ : ١٧٧ / ٤٠٠ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب القيام ، ح ٣.

(٤) جواهر الكلام ٩ : ٢٥٤.

(٥) نهاية الإحكام ١ : ٤٣٩.

٢٨

الذي هو شرط جواز القعود لم يتحقّق بعد ، فإذا انتهى إلى الركوع صار عاجزا ، واندرج في الموضوع الذي شرّع له الصلاة قاعدا ، خلافا للمحكيّ عن المبسوط والنهاية والسرائر والمهذّب والوسيلة والجامع ، فقدّموا الركوع على القراءة في ذلك (١) ، بل نسبه في الأوّل إلى رواية أصحابنا (٢).

وأورد عليه في الجواهر : بأنّه مخالف لمقتضى الترتيب ، والرواية لم تصل إلينا ، والتعليل بأنّه أهمّ ؛ لأنّه ركن ، مع أنّه اعتباريّ لا يصلح لأنّ يكون مدركا لحكم شرعيّ ، كالاستدلال عليه أيضا بما ورد في النصوص من أنّ الجالس إذا قام في آخر السورة فركع عن قيام يحسب له صلاة القائم (٣) ؛ ضرورة ظهورها في الجالس اختيارا في النوافل (٤). انتهى.

أقول : يحتمل قويّا أن يكون مراد الشيخ برواية أصحابنا هي النصوص التي أشير إليها في ذيل عبارة الجواهر.

وكيف كان فقد يجاب عمّا أورده في الجواهر من مخالفته لمقتضى الترتيب : بأنّ الترتيب بين الأجزاء إنّما هو في وجودها لا وجوبها ؛ إذ لا ترتيب في وجوبها ، بل هو في ضمن وجوب الكلّ يتحقّق قبل الشروع ، فعند كلّ جزء يكون هو وما بعده سواء في صفة الوجوب ، والمفروض ثبوت العجز عن أحدهما لا بعينه ، فيتّصف المقدور ـ وهو الواحد على

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٢٩ ، النهاية : ١٢٨ ، السرائر ١ : ٣٤٨ ، المهذّب ١ : ١١١ ، الوسيلة : ١١٤ ، الجامع للشرائع : ٧٩ ، وحكاه عنها الفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

(٢) المبسوط ١ : ١٠٠.

(٣) الكافي ٣ : ٤١١ / ٨ ، الفقيه ١ ٢٣٨ / ١٠٤٦ ، التهذيب ٢ : ١٧٠ / ٦٧٥ ، و ٦٧٦ ، و ٢٩٥ / ١١٨٨ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب القيام ، الأحاديث ١ ـ ٣.

(٤) جواهر الكلام ٩ : ٢٥٤.

٢٩

البدل ـ بصفة الوجوب ، ومقتضاه التخيير إن لم يكن ترجيح ، وإلّا يتعيّن الراجح ، والترجيح هنا في جانب القيام للركوع لإدراك الركوع القياميّ والقيام المتّصل بالركوع.

كما ربما يؤيّده ما ورد في الجالس من أنّه إذا قام في آخر السورة فركع عنه احتسب صلاة القائم (١).

ونوقش (٢) فيه أوّلا : بأنّ الجزء الثاني إنّما يجب إتيانه قائما بعد إتيان الواجبات المتقدّمة عليه ، التي منها القيام ، والفرض أنّ إتيانه قائما كذلك غير ممكن ، فلا يقع التكليف به ، فيتعلّق (٣) الوجوب (٤) وإن لم يكن فيه ترتّب (٥) كنفس الأجزاء ، إلّا أنّه إنّما يتعلّق بكلّ شي‌ء مقدور في محلّه ، وهذه قاعدة مطّردة في كلّ فعلين لوحظ بينهما الترتيب شرعا ثمّ تعلّق العجز بأحدهما على البدل ، كما في من نذر الحجّ ماشيا فعجز عن بعض الطريق ، وكما في من عجز عن تغسيل الميّت بالأغسال الثلاثة ، فإنّه يجب في الموضعين وأمثالهما الإتيان بالمقدار المقدور (٦) على حسب الترتيب الملحوظ فيهما عند القدرة على المجموع.

وثانيا : أنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام في صحيحة جميل ، المتقدّمة (٧) :«إذا قوي فليقم» ونحوه : أنّ وجوب القيام في كلّ جزء وعدمه يتبع قدرة

__________________

(١) راجع الهامش (٣) من ص ٢٩.

(٢) المناقش هو الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

(٣) في «ض ١٣ ، ١٧» وكتاب الصلاة ـ للشيخ الأنصاري ـ : «فتعلّق».

(٤) في كتاب الصلاة ـ للشيخ الأنصاري ـ إضافة : «بالأجزاء».

(٥) في كتاب الصلاة ـ للشيخ الأنصاري ـ : «ترتيب».

(٦) في «ض ١٣» والطبعة الحجريّة : «بالمعذور» بدل «بالمقدار المقدور».

(٧) في ص ٢٨.

٣٠

المكلّف عليه وعجزه عنه في زمان ذلك الجزء ، وما ذكر في وجه التخيير أو الترجيح إنّما يستقيم إذا كان تقييد الواجبين المترتّبين في الوجود دون الوجوب [بالقدرة] (١) بمجرّد اقتضاء العقل له ، الحاكم بكفاية مطلق القدرة في تنجّز التكليف بإيجاد الواجب الثاني في وقته ، كما في الحجّ ونظائره ، لا في مثل المقام ممّا ورد فيه دليل لفظيّ دالّ على اشتراط وجوبه بالقدرة عليه عند حضور زمانه ، المستلزم لانتفاء شرط الوجوب في من عجز عنه حينئذ وإن كان قادرا قبله على ما يتمكّن معه من الفعل في زمانه.

أقول : ولكن قد أشرنا آنفا إلى أنّ استفادة وجوب أبعاض القيام وقت قوّته عليه من إطلاق الصحيحة لا تخلو عن تأمّل.

وأمّا القاعدة المذكورة أوّلا فهي إن سلّمت ففيما إذا كان تقدّم المتقدّم من حيث هو شرط في صحّة المتأخّر بأن يكون الواجب الإتيان بالثاني مقيّدا بكونه بعد الأوّل ، فيمتنع تعلّق الأمر به كذلك في مثل الفرض ؛ حيث إنّه لدى التحليل أمر بهما معا ، وأمّا إذا كان لكلّ واحد منهما في حدّ ذاته استقلال بالوجود والوجوب ـ كما لو أمر بفعلين أحدهما في اليوم والآخر في غده ، أو اعتبر جزءان في مركّب مقيّدا جزئيّتهما بالقدرة ، كالقراءة والركوع ، أو القيام حال الافتتاح وحال القراءة ـ من غير أن يكون لأحدهما دخل بالآخر فيما تعلّق الغرض به من جزئيّته للمركّب عدا أنّه يجب الإتيان بثانيهما بعد فعل الأوّل على تقدير تنجّز التكليف به وعدم معذوريّته في تركه لا مطلقا ، فلا نسلّم القاعدة المزبورة ، بل حالهما حينئذ حال الواجبين المتزاحمين اللّذين يجب فيهما رعاية الترجيح إن كان ، وإلّا فالتخيير.

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه من كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري.

٣١

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه يكفي في ترجيح الأوّل في مثل الفرض عدم ثبوت أهمّيّة الثاني في نظر الآمر ؛ إذ لا استقلال للعقل بجواز تركه مقدّمة لامتثال الأمر بالثاني ما لم تثبت أهمّيّته لدى الآمر.

والفرق بين الواجبين المتزاحمين اللّذين اتّحد زمانهما حيث يستقلّ العقل بالتخيير بينهما ما لم تثبت أهمّيّة أحدهما هو : أنّ كلّا منهما في حدّ ذاته مقدور يجب الإتيان به إطاعة لأمره ما لم يشتغل بضدّه الآخر الذي يمتنع معه إطاعة هذا الأمر ، ومتى اشتغل بكلّ منهما قاصدا به إطاعة أمره يصير عاجزا عن فعل الآخر ، فيقبح مؤاخذته على تركه ، كما أنّه يقبح مؤاخذته على ترجيح المأتيّ به على المتروك بعد أن لم يثبت لديه أهمّيّته شرعا.

ولتمام التحقيق في ذلك وبيان أنّ مجرّد احتمال الأهمّيّة غير مانع عن حكم العقل بالتخيير في مثل المقام الذي نشأ الحكم بالتخيير من قبل مزاحمة الواجبين المنجّزين بظاهر دليلهما مقام آخر.

وأمّا مع الترتّب في الوجود فليس فعل الثاني بنفسه مؤثّرا في ضرورة الأوّل غير مقدور ؛ لتأخّره عنه في الرتبة ، فالمانع عن فعل الأوّل في وقته ليس إلّا إرادة فعل الثاني الذي يمتنع حصوله مع الأوّل ، فليس له عند تركه للأوّل مقدّمة لامتثال الأمر بالثاني أن يعلّله بعدم قدرته عليه في وقته ؛ فإنّه حال مطلوبيّته لم يعجز عن فعله أصلا ، ولكنّه تركه مع قدرته عليه مقدّمة للواجب الآخر الذي لا يقدر عليه إلّا على تقدير ترك الأوّل ، فله الاعتذار بهذا ، لا بالعجز ، فيتوجّه عليه حينئذ سؤال الترجيح الموجب لمخالفة الأمر المنجّز مقدّمة لإطاعة الأمر المعلّق ، والعقل لا يجزم بجوازه ما لم يثبت لديه مرجّح شرعيّ.

٣٢

فالأقوى في المقام هو ما عرفت من تقديم القيام حال القراءة ؛ إذ لم يتعلّق العجز به ، ولم تثبت أهمّيّة غيره ـ أي القيام للركوع ـ كي يستقلّ العقل بجواز تركه مقدّمة.

نعم ، ما ورد في قيام الجالس في آخر السورة (١) ربّما يؤيّد تقديم حال الركوع ، ولكنّه لا ينهض لإثباته ، والله العالم.

وبما أشرنا إليه ـ من استقلال العقل بوجوب تقديم الأهمّ من الواجبين المتزاحمين ولو مع تأخّره في الوجود ـ ظهر حكم ما لو دار الأمر بين القيام والإيماء للركوع والسجود وبين الجلوس والإتيان بهما معه ؛ إذ لا مجال للارتياب في أهمّيّة الركوع والسجود من القيام خصوصا بعد الالتفات إلى ما ورد من أنّ «الصلاة ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود» (٢) وأنّ «أوّل الصلاة الركوع» (٣) وغير ذلك ممّا يشهد بأنّ الاهتمام بهما أشدّ من الاهتمام بالقيام.

مضافا إلى ظهور المستفيضة ـ التي ورد فيها الأمر بالصلاة جالسا لمن لا يستطيع أن يصلّي قائما (٤) ـ في الرخصة في الصلاة جالسا لمن لا يستطيع الإتيان بالصلاة المتعارفة المشتملة على الركوع والسجود عن قيام ، كما نبّه عليه شيخنا المرتضى (٥) رحمه‌الله.

__________________

(١) راجع الهامش (٣) من ص ٢٩.

(٢) الكافي ٣ : ٣٧٣ / ٨ ، الفقيه ١ : ٢٢ / ٦٦ ، التهذيب ٢ : ١٤٠ / ٥٤٤ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الركوع ، ح ١.

(٣) التهذيب ٢ : ٩٧ / ٣٦٢ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الركوع ، ح ٦.

(٤) الفقيه ١ : ٢٣٥ / ١٠٣٣ ، و ٢٣٦ / ١٠٣٧ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ : ٦٨ (الباب ٣١) ح ٣١٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، الأحاديث ١٣ ، ١٥ ، ١٨.

(٥) كتاب الصلاة ١ : ٢٣٧.

٣٣

فما عن غير واحد (١) من التردّد فيه كأنّه في غير محلّه ، فضلا عمّا حكي عن بعضهم (٢) من التصريح بتقديم القيام ، بل عن آخر (٣) : أنّه المشهور بل المتّفق عليه ، بل عن الرياض أنّه نسب إلى جماعة دعوى الإجماع عليه (٤).

ولقد أجاد في الجواهر حيث قال بعد أن قوّى احتمال تقديم الجلوس : ومن العجب دعوى الإجماعات في المقام مع قلّة المتعرّض وخفاء المدرك (٥). انتهى.

وقال شيخنا المرتضى رحمه‌الله : وقد توهّم بعض من عبارة المنتهى دعوى اتّفاق علمائنا على وجوب القيام في هذه المسألة ؛ حيث قال : لو أمكنه القيام وعجز عن الركوع قائما أو السجود ، لم يسقط عنه فرض القيام ، بل يصلّي قائما ويومئ للركوع ثمّ يجلس ، ويومئ للسجود ، وعليه علماؤنا ، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة : يسقط عنه القيام ، إلى أن قال :احتجّ أبو حنيفة بأنّها صلاة لا ركوع [فيها] (٦) ولا سجود ، فيسقط القيام ، كالنافلة على الراحلة (٧). انتهى. ولا يخفى أنّ فرض مسألة المنتهى في من

__________________

(١) كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٢٠٤ ، والفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٣ : ٤٠٠ ، والحاكي هو الطباطبائي في رياض المسائل ٣ : ١٣٣.

(٢) كالسبزوراي في ذخيرة المعاد : ٢٦١ ، والحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٩ : ٢٥٦.

(٣) البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٦٧ ، والحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ٩ :٢٥٦.

(٤) رياض المسائل ٣ : ١٣٣ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٩ : ٢٥٦.

(٥) جواهر الكلام ٩ : ٢٥٧.

(٦) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٧) منتهى المطلب ٥ : ٩ ـ ١٠ ، وراجع : الأم ١ : ٨١ ، والمهذّب ـ للشيرازي ـ ١ :

٣٤

عجز عن الركوع والسجود على كلّ حال كما لا يخفى (١). انتهى كلام شيخنا المرتضى رحمه‌الله.

بل الأظهر تقديم كلّ من الركوع والسجود على القيام فضلا عن كليهما ؛ لعين ما مرّ.

(وإلّا) أي وإن لم يتمكّن من القيام ولو في بعض الصلاة أصلا حتى ببعض مراتبه الميسورة التي تقدّمت الإشارة إلى أنّها لا تسقط بمعسورها ، كفاقد الانتصاب أو الاستقلال أو الاستقرار المقابل للاضطراب لا المشي ؛ فإنّ فيه إشكالا كما ستعرفه (صلّى قاعدا) لا مضطجعا أو مستلقيا ، كما يدلّ عليه أخبار كثيرة :

منها : حسنة أبي حمزة عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزوجل :(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) (٢) قال : «الصحيح يصلّي قائما «وَقُعُوداً» : المريض يصلّي جالسا «وَعَلى جُنُوبِهِمْ» : الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلّي جالسا» (٣).

وخبر محمّد بن إبراهيم عمّن حدّثه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يصلّي

__________________

١٠٨ ، والمجموع ٤ : ٣١٣ ، والتهذيب ـ للبغوي ـ ٢ : ١٧٣ ، وحلية العلماء ١ :٢٢٠ ، والوسيط ٢ : ١٠١ و ١٠٢ ، والوجيز ١ : ٤١ ، والعزيز شرح الوجيز ١ :٤٨٠ ، وروضة الطالبين ١ : ٣٤٠ ، والمغني ١ : ٨١٤ ، والشرح الكبير ٢ : ٨٩ ، والمبسوط ـ للسرخسي ـ ١ : ٢١٣ ، والهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ٧٧ ، وتحفة الفقهاء ١ : ١٩٠.

(١) كتاب الصلاة ١ : ٢٣٧.

(٢) آل عمران ٣ : ١٩١.

(٣) الكافي ٣ : ٤١١ / ١١ ، التهذيب ٣ : ١٧٦ ـ ١٧٧ / ٣٩٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ١.

٣٥

المريض قائما ، فإن لم يستطع (١) صلّى جالسا» (٢).

وعن الصدوق (٣) مرسلا نحوه ، إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة عليه.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ العجز المسوّغ للقعود حدّه العجز عن القيام أصلا ولو في بعض صلاته ، كما هو المشهور على ما ادّعاه في الحدائق (٤) وغيره (٥) ، وليس لتشخيصه طريق تعبّديّ ، بل معرفته موكولة إلى نفس المكلّف ؛ فإنّه أعلم بنفسه.

كما يشهد له خبر عمر بن أذينة ـ المرويّ عن الكافي ـ قال : كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله ما حدّ المرض الذي يفطر فيه صاحبه ، والمرض الذي يدع صاحبه الصلاة قائما؟ قال : «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» وقال :«ذاك إليه هو أعلم بنفسه» (٦).

ورواه الشيخ بإسناده عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عمّن أخبره عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله (٧).

وصحيحة جميل قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : ما حدّ المرض الذي يصلّي صاحبه قاعدا؟ فقال : «إنّ الرجل ليوعك ويحرج ، ولكنّه أعلم بنفسه ، إذا قوي فليقم» (٨).

__________________

(١) كذا في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، وفي المصدر : «فإن لم يقدر على ذلك» بدل «فإن لم يستطع».

(٢) التهذيب ٣ : ١٧٦ / ٣٩٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ذيل ح ١٣.

(٣) الفقيه ١ : ٢٣٥ / ١٠٣٣ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ١٣.

(٤) الحدائق الناضرة ٨ : ٦٧.

(٥) جواهر الكلام ٩ : ٢٥٧.

(٦) الكافي ٤ : ١١٨ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب القيام ، ح ١.

(٧) التهذيب ٣ : ١٧٧ / ٣٩٩ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب القيام ، ذيل ح ١.

(٨) تقدّم تخريجها في ص ٢٨ ، الهامش (٣).

٣٦

وموثّقة زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن حدّ المرض الذي يفطر فيه الصائم ويدع الصلاة من قيام ، قال : «(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ، هو أعلم بما يطيقه» (١).

والمراد بتمكّنه من القيام في كلمات الأصحاب وكذا النصوص الدالّة عليه بحسب الظاهر هي الاستطاعة العرفيّة بأن كان متمكّنا من الإتيان به في العادة من غير أن يتحمّل مشقّة شديدة بحسب حاله ، أو يترتّب عليه ضرر من زيادة مرض أو طوله ، أو يكون مضطرّا إلى تركه ضرورة عرفيّة ناشئة من الحاجة إلى استعمال بعض المعالجات المنافية للقيام لدفع بعض ما عليه من الأمراض.

كما يشهد له ـ مضافا إلى العمومات النافية للحرج ـ خصوص صحيح محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل والمرأة يذهب بصره فيأتيه الأطبّاء فيقولون : نداويك شهرا أو أربعين ليلة مستلقيا ، كذلك يصلّي؟ فرخّص في ذلك ، وقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (٢)» (٣).

ومضمرة سماعة قال : سألته عن الرجل يكون في عينيه الماء فينزع الماء منها فيستلقي على ظهره الأيّام الكثيرة : أربعين يوما أو أقلّ أو أكثر فيمتنع من الصلاة الأيّام وهو على حاله ، فقال : «لا بأس بذلك ، وليس شي‌ء ممّا حرّم الله إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» (٤).

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٨٣ / ٣٦٩ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب القيام ، ح ٢.

(٢) البقرة ٢ : ١٧٣.

(٣) الكافي ٣ : ٤١٠ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب القيام ، ح ١.

(٤) تقدّم تخريجها في ص ٢٦ ، الهامش (٤).

٣٧

وخبر بزيع المؤذّن ـ المرويّ عن طبّ الأئمّة عليهم‌السلام ـ قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي أريد أن أقدح عيني (١) ، فقال لي : «استخر الله وافعل» قلت : هم يزعمون أنّه ينبغي للرجل أن ينام على ظهره كذا وكذا [و] لا يصلّي قاعدا ، قال : «افعل» (٢).

وخبر الوليد بن صبيح ، قال : حممت بالمدينة يوما في شهر رمضان ، فبعث إليّ أبو عبد الله عليه‌السلام بقصعة فيها خلّ وزيت ، وقال : «أفطر وصلّ وأنت قاعد» (٣).

فتلخّص لك ممّا ذكر أنّ المعيار في سقوط القيام عدم تمكّنه منه أصلا ولو في بعض صلاته ، ولكنّ المراد بعدم تمكّنه منه عدم كونه ميسورا له ولو لضرورة مقتضية لتركه ، كما في مقام التداوي ومعالجة الأمراض ، لا تعذّره عقلا ، كما ربما يؤيّد ذلك ـ مضافا إلى ما عرفت ـ إطلاق جملة من الأخبار التي ورد فيها الأمر بالصلاة جالسا لمن لم (٤) يتمكّن من أن يصلّي قائما.

مثل : المرسل المرويّ ـ عن الكافي ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :«يصلّي المريض قائما ، فإن لم يقدر على ذلك صلّى قاعدا» (٥) حيث إنّ

__________________

(١) قدحت العين : إذا أخرجت منها الماء الفاسد. الصحاح ١ : ٣٩٤ «قدح».

(٢) طبّ الأئمّة عليهم‌السلام : ٨٧ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب القيام ، ح ٣ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٣) الكافي ٤ : ١١٨ / ١ ، الفقيه ٢ : ٨٣ / ٣٧٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ٣.

(٤) في «ض ١٣» : «لا» بدل «لم».

(٥) في الكافي ٣ : ٤١١ / ١٢ ، وكذلك الوسائل الباب ١ من أبواب القيام ، ذيل ح ١٣ :«يصلّي المريض قاعدا ، فإن لم يقدر صلّى مستلقيا». وما في المتن كما في الحدائق الناضرة ٨ : ٧٦.

٣٨

المنساق من مثل هذا المرسل ونظائره الرخصة في الصلاة جالسا لمن لا يقدر على أن يأتي بصلاته عن قيام ، سواء لم يقدر على القيام أصلا أو قدر عليه في بعض صلاته لا في مجموعها ، فإطلاق مثل هذا الخبر قد يكون منافيا لما حقّقناه فيما سبق تبعا للمشهور من وجوب الإتيان بما يمكن من القيام ولو في بعض صلاته إلّا أنّ الإطلاق جار مجرى الغالب من صعوبة أصل القيام وكونه تكليفا حرجيّا في من بلغ حاله إلى هذه المرتبة من الضعف ، فلا ينهض مثل هذه المطلقات مخصّصة للأدلّة المتقدّمة الدالّة على عدم سقوط ميسوره بمعسوره ، خصوصا بعد الالتفات إلى سعة دائرة الحرج وكفاية أدنى مشقّة في رفع التكاليف عن المريض والعاجز الذي يناسبه الإرفاق والتوسعة في تكاليفه ، كما لا يخفى على من لاحظ أحكامه.

وقد ظهر بما ذكر توجيه التحديد الوارد في المرسل ـ المرويّ عن كتاب دعائم الإسلام ـ عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن صلاة العليل ، فقال : يصلّي قائما ، فإن لم يستطع صلّى جالسا ، قيل : يا رسول الله فمتى يصلّي جالسا؟ قال : إذا لم يستطع أن يقرأ بفاتحة الكتاب وثلاث آيات قائما ، فإن لم يستطع أن يسجد يومئ إيماء برأسه يجعل سجوده أخفض من ركوعه ، وإن لم يستطع أن يصلّي جالسا صلّى مضطجعا لجنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة ، فإن لم يستطع أن يصلّي على جنبه الأيمن صلّى مستلقيا ورجلاه ممّا يلي القبلة ويومئ إيماء» (١) حيث إنّ هذه الرواية أيضا كسائر المطلقات جارية مجرى الغالب ، فلا يظهر منها ما ينافي المشهور ، فليتأمّل.

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ١٩٨ ، بحار الأنوار ٨٤ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣ / ١٦ بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.

٣٩

(وقيل) كما عن المفيد ومحتمل النهاية (١) : (حدّ ذلك) أي العجز المسوّغ للصلاة جالسا (أن لا يتمكّن من المشي بقدر زمان صلاته) قائما ، فحينئذ يسوغ له القعود وإن كان متمكّنا من الوقوف في جميع الصلاة أو بعضها على ما فسّره في الجواهر (٢).

ولكن من المستبعد التزام هذا القائل بهذا النحو من الإطلاق ، بل ينبغي الجزم بعدم إرادته الرخصة في الصلاة جالسا مع التمكّن من أن يأتي بجميع صلاته عن قيام بلا مشقّة ، بل الظاهر أنّ هذا الفرض خارج عن موضوع كلامه ؛ إذ الكلام مسوق لبيان حدّ العجز المتعلّق بالصلاة قائما المسوّغ للإتيان بها عن جلوس ، فحصول العجز عنه في الجملة ممّا لا بدّ منه.

ولكن قد أشرنا آنفا إلى أنّ المقصود به ليس العجز العقلي ، بل الضرورة العرفيّة التي يكون التكليف معها تكليفا حرجيّا في العادة ، ولكنّ المفيد قدس‌سره ـ على ما حكي عنه ـ اعتبر صيرورته إلى حدّ لا يقدر على المشي بقدر صلاته (٣) ، فمن صار إلى هذا الحدّ يشقّ عليه الصلاة قائما لا محالة ، ولكن قد لا تنتهي المشقّة إلى حدّ يعدّ معها التكليف حرجيّا في العادة ، فحينئذ تظهر ثمرة الخلاف.

ويحتمل أن يكون مقصوده بهذا التحديد المنع عن الجلوس مع القدرة على المشي وإن تعذّر عليه القرار ؛ لزعمه تقديم صلاة الماشي على

__________________

(١) المقنعة : ٢١٥ ـ ٢١٦ ، النهاية : ١٢٩ ، والحاكي عنهما هو العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٠٨.

(٢) جواهر الكلام ٩ : ٢٥٨.

(٣) المقنعة : ٢١٥ ـ ٢١٦ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٠٨.

٤٠