مصباح الفقيه - ج ١٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: برگ طوبى
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٣

والفقه الرضوي : «تقرأ سورة بعد الحمد في الركعتين الأوّلتين ، ولا تقرأ في المكتوبة سورة ناقصة» (١).

وخبر محمّد بن إسماعيل قال : سألته : قلت : أكون في طريق مكّة فننزل للصلاة في مواضع فيها الأعراب أنصلّي المكتوبة على الأرض فنقرأ أمّ الكتاب وحدها أم نصلّي على الراحلة فنقرأ فاتحة الكتاب والسورة؟قال : «إذا خفت فصلّ على الراحلة المكتوبة وغيرها ، وإذا قرأت الحمد وسورة أحبّ إليّ ، ولا أرى بالذي فعلت بأسا» (٢).

في الوسائل بعد نقل الخبر قال في تقريب الاستدلال به للمدّعى حاكيا عن بعض المحقّقين ما لفظه : لو لا وجوب السورة ، لما جاز لأجله ترك الواجب من القيام وغيره (٣).

ونوقش فيه : بأنّ أمر الإمام عليه‌السلام بالصلاة على الراحلة من جهة ثبوت أصل الخوف هناك ، المستفاد من قوله : «فننزل للصلاة في مواضع فيها الأعراب» لا لرعاية السورة ؛ ضرورة أنّ الإتيان بالسورة في مثل الفرض ليس موجبا لأصل الخوف ، بل لزيادته ، فالإمام عليه‌السلام بيّن له جواز الصلاة على الراحلة في موارد الخوف ، وقال : «إذا خفت فصلّ على الراحلة المكتوبة وغيرها» فقوله عليه‌السلام : «وإذا قرأت الحمد والسورة أحبّ إليّ» على عكس المطلوب أدلّ ؛ حيث إنّ ظاهره إرادته وقت ما يصلّي على راحلته.

وربما يستدلّ له بتقريب آخر ، وهو : أنّه يظهر من كلام السائل أنّه كان يرى وجوب السورة وقد قرّره الإمام على ذلك ، فلو لم تكن السورة

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٠٥.

(٢) الكافي ٣ : ٤٥٧ / ٥ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٣) الوسائل ، الباب ٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ذيل ح ١.

١٨١

واجبة لردعه عن ذلك.

ونحوه في الدلالة عليه من هذه الجهة بعض الأخبار الآتية.

واستدلّ له أيضا غير واحد بأنّ قراءة السورة هي المعروفة من فعل النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام ، فيجب التأسّي بهم والتلقّي منهم ؛ فإنّ العبادات توقيفيّة يجب الاقتصار فيها على الكيفيّة الصادرة من صاحب الشرع.

قال في محكيّ المنتهى : وقد تواتر النقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه صلّى بالسورة بعد الحمد وداوم عليها ، وذلك يدلّ على الوجوب (١).

أقول : وقد يناقش في هذا الدليل بابتنائه على وجوب التأسّي ، وهو ممنوع ، بل التأسّي فيما لم يعلم وجهه مستحبّ.

ويمكن دفعه : بأنّ هذا ليس من باب التأسّي ، بل من باب تشخيص الماهيّة التي اخترعها الشارع ، وسمّاها صلاة بفعله المأتيّ به بقصد إيجاد تلك الماهيّة ، فإنّ حال من شاهد صلاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو اطّلع تفصيلا بكمّها وكيفها ليس إلّا كحال من رأى طبيبا اخترع معجونا أنّه صنع ذلك المعجون وركّبه من عدّة أجزاء علم بها تفصيلا ، فلو أمره سيّده بإيجاد ذلك المعجون يجب إيجاده على حسب ما رآه من ذلك الطبيب ، فإنّ فعله المأتيّ به بقصد تركيب ذلك المعجون بنظر العرف والعقلاء طريق إلى معرفة أجزائه ، وليس له الإخلال بشي‌ء ممّا رأى أنّ ذلك الطبيب جعله جزءا منه وإن احتمل عدم لزومه ، فلا يقبل الاعتذار بالجهل بلزومه ، بخلاف ما لو لم يعلم أنّه جعل هذا الشي‌ء حال التركيب من أجزائه ، فإنّه لا يجب الالتزام به وإن علم بأنّه غير مضرّ بل محسن له ، إلّا من باب حسن الاحتياط.

__________________

(١) منتهى المطلب ٥ : ٥٤ ، وحكاه عنه السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٤١.

١٨٢

نعم ، لو علم من حال ذلك الطبيب أنّ غرضه عند إيجاد ذلك المعجون لم يتعلّق بصرف حصول مسمّاه ، بل بالفرد المشتمل على خصوصيّات زائدة ، كالصلاة الصادرة من الصادق عليه‌السلام لتعليم حمّاد (١) ، لا ينعقد حينئذ لفعله ظهور في كون

المشكوك فيه معتبرا في مسمّى ذلك الشي‌ء ، فيرجع بالنسبة إليه إلى ما تقتضيه الأصول العمليّة من البراءة أو الاشتغال.

وملخّص الكلام : أنّه لا يبعد أن يقال : إنّ الفعل الصادر من العارف بحقيقته له ظهور عرفيّ يعتدّ به لدى (٢) العقلاء ناشئ من شهادة الحال في أنّ لأجزائه دخلا في تحقّق العنوان المقصود بذلك الفعل ، ولكنّ الشأن في إثباته وجواز التعويل عليه ، إلّا أنّ ما ادّعي تواتره من مداومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على قراءة السورة فهو ممّا يحقّق هذا الظهور ، كما أنّ ما اشتهر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتب الاستدلاليّة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (٣) يصحّح التعويل عليه ، فليتأمّل.

وربما يستدلّ له أيضا بالأخبار الدالّة على تحريم العدول من سورة التوحيد والجحد إلى ما عدا سورة الجمعة والمنافقين.

كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا افتتحت صلاتك بـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وأنت تريد أن تقرأ غيرها فامض فيها ولا ترجع إلّا أن تكون في يوم الجمعة» (٤) الحديث ، إلى غير ذلك من الأخبار الآتية في محلّها إن

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣١١ ـ ٣١٢ / ٨ ، الفقيه ١ : ١٩٦ ـ ١٩٧ / ٩١٦ ، التهذيب ٢ : ٨١ ـ ٨٢ / ٣٠١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، ح ١ و ٢.

(٢) في «ض ١٣» : «عند» بدل «لدى».

(٣) تقدّم تخريجه في ص ١٩ ، الهامش (٢).

(٤) التهذيب ٣ : ٢٤٢ / ٦٥٠ ، الوسائل ، الباب ٦٩ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

١٨٣

شاء الله.

وتقريب الاستدلال : أنّه لو لا وجوب السورة ، لما وجب المضيّ فيها بمجرّد الشروع ولم يكن العدول حراما. وفيه تأمّل.

وكيف كان فعمدة المستند لإثبات المدّعى وصحّة التعويل على مثل هذه الأدلّة ـ وإن أمكن الخدشة في كثير منها لو لوحظ كلّ واحد واحد من حيث هو إمّا بقصور في دلالته أو سنده ـ إنّما هو اشتهار القول به بين الخاصّة قديما وحديثا ، واستفاضة نقل إجماعهم عليه ، المعتضد بعدم معروفيّة خلاف يعتدّ به فيما بين القدماء ، بل معروفيّة وجوب السورة في الصلاة إجمالا بين أصحاب الأئمّة ، الذين هم الأصل في استكشاف رأي المعصوم من إجماعهم ، كما يستشعر ذلك أو يستظهر من كثير من رواياتهم التي وقع فيها السؤال عن الاجتزاء بفاتحة الكتاب وحدها في مقام الضرورة أو الاستعجال.

كخبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يكون مستعجلا أيجزئه أن يقرأ في الفريضة بفاتحة الكتاب وحدها؟ قال : «لا بأس» (١).

ورواية الحسن الصيقل قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيجزئ عنّي أن أقول في الفريضة فاتحة الكتاب إذا كنت مستعجلا أو أعجلني شي‌ء؟ قال :«لا بأس» (٢).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن الذي

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢١١ / ٨٢٤ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٦.

(٢) الكافي ٣ : ٣١٤ / ٧ ، التهذيب ٢ : ٧٠ / ٢٥٥ ، الاستبصار ١ : ٣١٤ ـ ٣١٥ / ١١٧٠ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٤ بتفاوت في بعض الألفاظ.

١٨٤

لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته ، قال : «لا صلاة له إلّا أن يقرأها (١) في جهر أو إخفات» قلت : أيّما أحبّ إليك إذا كان خائفا أو مستعجلا؟ يقرأ سورة أو فاتحة الكتاب؟ قال : «فاتحة الكتاب» (٢).

إلى غير ذلك من الشواهد والمؤيّدات التي يستكشف منها معروفيّة اعتبار السورة في الصلاة في الجملة لدى الخاصّة من الصدر الأوّل ، فلا ينبغي الارتياب فيه خصوصا بعد اعتضاده بما تقدّمت (٣) حكايته عن المنتهى من دعوى تواتر النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه صلّى بالسورة بعد الحمد وداوم عليها ، وبغيره من الأدلّة المتقدّمة ، والله العالم.

واستدلّ للقول بعدم الوجوب ـ أي استحباب السورة ـ بصحيحة عليّ ابن رئاب عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : «إنّ فاتحة الكتاب تجوز وحدها في الفريضة» (٤).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ فاتحة الكتاب تجوز وحدها (٥) في الفريضة» (٦).

وفيه : أنّ مقتضى الجمع بينهما وبين صحيحة الحلبي ، المتقدّمة (٧)

__________________

(١) في الكافي والتهذيب : «يبدأ بها» بدل «يقرأها». وفي الاستبصار بدلها :«بقراءتها». وفي الوسائل : «يقرأ بها».

(٢) الكافي ٣ : ٣١٧ / ٢٨ ، التهذيب ٢ : ١٤٧ / ٥٧٦ ، الاستبصار ١ : ٣١٠ / ١١٥٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٣) في ص ١٨٢.

(٤) التهذيب ٢ : ٧١ / ٢٥٩ ، الاستبصار ١ : ٣١٤ / ١١٦٩ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٥) في التهذيب : «وحدها تجزئ». وفي الوسائل : «تجزئ وحدها».

(٦) التهذيب ٢ : ٧١ / ٢٦٠ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣.

(٧) في ص ١٧٩.

١٨٥

الدالّة على اختصاص الجواز بما أعجلت به حاجة أو تخوّف شيئا إنّما هو تقييد إطلاق الخبرين بحملهما على صورة الاستعجال والضرورات العرفيّة ، كما ليس بالبعيد ؛ حيث إنّ الغالب أنّ المصلّي لا يقتصر على الأقلّ عمّا تعوّد عليه بلا ضرورة مقتضية له.

واستدلّ له أيضا بالمستفيضة الدالّة على جواز التبعيض بضميمة الإجماع المركّب المدّعى في كلام بعض على ما ذكره شيخنا المرتضى (١) رحمه‌الله.

كصحيحة سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، قال :سألته عن رجل قرأ في ركعة الحمد ونصف سورة ، هل يجزئه في الثانية أن لا يقرأ الحمد ويقرأ ما بقي من السورة؟ قال : «يقرأ الحمد ثمّ يقرأ ما بقي من السورة» (٢).

وصحيحة زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل قرأ سورة في ركعة فغلط ، أيدع المكان الذي غلط فيه ويمضي في قراءته ، أو يدع تلك السورة ويتحوّل منها إلى غيرها؟ قال : «كلّ ذلك لا بأس به ، وإن قرأ آية واحدة فشاء أن يركع بها ركع» (٣).

وخبر أبان بن عثمان عمّن أخبره عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته هل تقسّم السورة في ركعتين؟ فقال : «نعم ، اقسمها كيف شئت» (٤).

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٣١٨.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ / ١١٩١ ، الاستبصار ١ : ٣١٦ / ١١٧٧ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٦.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ / ١١٨١ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٧.

(٤) التهذيب ٢ : ٧٣ / ٢٧١ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٥.

١٨٦

وخبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن السورة أيصلّي الرجل بها في ركعتين من الفريضة؟ قال : «نعم ، إذا كانت ستّ آيات قرأ بالنصف منها في الركعة الأولى والنصف الآخر في الركعة الثانية» (١).

وصحيحة عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيقرأ الرجل السورة الواحدة في الركعتين من الفريضة؟ فقال : «لا بأس إذا كانت أكثر من ثلاث آيات» (٢).

وهذه الروايات وإن احتملت الحمل على تكرار السورة في الركعتين إلّا أنّ التقييد بأكثر من ثلاث آيات لا يظهر له وجه على هذا التقدير ، والله العالم.

وصحيحة عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن تبعيض (٣) السورة ، فقال : «أكره ذلك ، ولا بأس به في النافلة» (٤) بناء على أن يكون المراد بالكراهة ما يقابل الحرمة ، ولكن إرادة هذا المعنى منها في الأخبار غير ظاهرة.

وصحيحة إسماعيل بن الفضل قال : صلّى بنا أبو عبد الله عليه‌السلام (٥) ، فقرأ بفاتحة الكتاب وآخر سورة المائدة ، فلمّا سلّم التفت إلينا فقال : «أما إنّي أردت أن أعلّمكم» (٦).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٩٤ / ١١٨٢ ، الاستبصار ١ : ٣١٥ ـ ٣١٦ / ١١٧٥ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٧١ / ٢٦٢ ، الاستبصار ١ : ٣١٥ / ١١٧٣ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «بعض» بدل «تبعيض». والمثبت كما في المصدر.

(٤) التهذيب ٢ : ٢٩٦ / ١١٩٢ ، الاستبصار ١ : ٣١٦ / ١١٧٨ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٤.

(٥) في المصدر زيادة : «أو أبو جعفر عليه‌السلام».

(٦) التهذيب ٢ : ٢٩٤ / ١١٨٣ ، الاستبصار ١ : ٣١٦ / ١١٧٦ ، الوسائل ، الباب ٥ من ـ

١٨٧

وخبر سليمان بن أبي عبد الله قال : صلّيت خلف أبي جعفر عليه‌السلام ، فقرأ بفاتحة الكتاب وآي من البقرة ، فجاء أبي فسئل فقال : «يا بني إنّما صنع ذا ليفقّهكم ويعلّمكم» (١).

وفيه ـ بعد تسليم الإجماع المركّب والغضّ عمّا حكي عن ظاهر الإسكافي من القول بجواز التبعيض (٢) ـ أنّ هذه الأخبار لا تصلح لمعارضة الأخبار المتقدّمة الدالّة بظاهرها ـ ولو باعتضاد بعضها ببعض ـ على وجوب قراءة سورة كاملة ، فإنّ تلك الأخبار حتى مكاتبة (٣) يحيى ـ التي هي أقواها دلالة على المدّعى ـ وإن كانت قابلة للحمل على الاستحباب إلّا أنّ احتمال إرادة الاستحباب من تلك الأخبار ليس بأقوى من احتمال جري الأخبار النافية للبأس عن ترك السورة أو تبعيضها مجرى التقيّة ؛ فإنّ هذا الاحتمال وإن كان في حدّ ذاته من الاحتمالات المرجوحة التي لا يعتنى بها مهما أمكن الجمع بين الأخبار بارتكاب تقييد أو تخصيص أو تأويل في أحدها ، ولكن في خصوص المقام ونظائره الأمر بالعكس ؛ حيث إنّ اتّفاق كلمة أصحابنا ـ عدا من شذّ ـ على وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد. وخلاف جمهور أهل الخلاف على ما نقل عنهم من اتّفاقهم على استحباب السورة وجواز تبعيضها (٤) جعل احتمال التقيّة في هذه الأخبار أقوى من احتمال

__________________

ـ أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(١) علل الشرائع : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ (الباب ٣٨) ح ١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣.

(٢) راجع الهامش (٦) من ص ١٧٧.

(٣) تقدّمت المكاتبة في ص ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٤) ممّن نقله عنهم العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٣ : ١٣١ ، ذيل المسألة ٢١٩ ، ومنتهى المطلب ٥ : ٥٤ و ٥٧.

١٨٨

إرادة خلاف الظاهر في تلك ، فلا وجه حينئذ لرفع اليد عن أصالة الظهور الجارية في تلك الروايات بإجراء أصالة عدم التقيّة في هذه ، بل العكس أولى ، إلّا أن نقول بحكومة هذا الأصل على تلك. وفيه تأمّل.

هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّ إعراض الأصحاب عن ظواهر الأخبار الدالّة على جواز الترك أو التبعيض أسقطها عن درجة الاعتبار فضلا عن صلاحيّتها للمعارضة.

بل قد يقال بأنّ قوله عليه‌السلام في صحيحة (١) إسماعيل : «أما إنّي أردت أن أعلّمكم» وفي خبر (٢) سليمان : «إنّما صنع ذا ليفقّهكم ويعلّمكم» قرينة على صدور هذه الأخبار تقيّة ؛ إذ المراد بهما ـ بحسب الظاهر ـ تعليمهم جواز التبعيض للتقيّة.

وهو لا يخلو عن إشكال ؛ إذ المجوّز للتبعيض على تقدير وجوب سورة كاملة هو نفس التقيّة لا تعليمها ، مع أنّ ظاهر الخبرين أنّه لم يكن إلّا للتعليم ، فهو لا يناسب الوجوب.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التقيّة واسعة ، فمهما تحقّق موردها ـ أي المحلّ الذي لا يأمن المكلّف من مخالفتهم ـ جاز له اختيار كلّ ما يرونه جائزا في مقام امتثال تكاليفه من غير فرق بين اختيار ما هو صحيح في الواقع وبين غيره ، فكما أنّ له الإفتاء بجواز قراءة البعض تقيّة ، كذلك له اختيارها في الصلاة وإن كان قراءة مجموع السورة أيضا غير منافية للتقيّة ، فإنّهم يرون جوازه ، فعلى هذا يجوز في مقام التقيّة ترجيح قراءة البعض ، التي هي في حدّ ذاتها غير جائزة لو لا التقيّة لأجل أن يفقّههم ويعلّمهم.

__________________

(١) تقدّمت الصحيحة في ص ١٨٧.

(٢) تقدّم الخبر في ص ١٨٨.

١٨٩

وكيف كان فالإنصاف أنّ في اعتذاره عليه‌السلام عن فعله وفعل أبيه عليهما‌السلام في الخبرين المزبورين (١) إشعارا بكونه تقيّة ، وأنّ غرضه من التعليل في الخبر الأوّل ردع شيعته عن التأسّي بفعله الذي هو كالنصّ في الجواز ، ولعلّ في إجمال ما أراده بالتفقّه وعدم شرحه لهم أيضا إيماء إليه.

والحاصل : أنّ هذه الأخبار ـ بعد إعراض الأصحاب عنها وقوّة احتمال جريها مجرى التقيّة ـ لا تصلح معارضة لما عرفت ، فالقول بوجوب سورة كاملة مع أنّه أحوط لا يخلو عن قوّة.

ولكن هذا إنّما هو في الفرائض مع سعة الوقت والاختيار ، دون النوافل أو الفرائض لدى الضرورة أو العجز عن قراءتها ولو لضيق الوقت عنها أو عن تعلّمها ؛ إذ غاية ما يمكن استفادته من الأدلّة المتقدّمة إنّما هو وجوبها في الفرائض في الجملة ، والقدر المتيقّن منه إنّما هو في حال السعة والاختيار ، وليس في شي‌ء من الأدلّة عموم أو إطلاق يمكن استفادة شرطيّتها منه على الإطلاق ، كما لا يخفى على المتأمّل.

هذا ، مضافا إلى ما عن المعتبر والمنتهى وغيره التصريح بعدم الخلاف في نفي وجوبها فيما عدا الفرائض مع الاختيار وسعة الوقت وإمكان التعلّم (٢).

ويشهد له في النوافل ـ مضافا إلى الأصل والإجماعات المحكيّة المستفيضة المعتضدة بعدم نقل الخلاف فيه عن أحد ـ رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يجوز للمريض أن يقرأ في الفريضة فاتحة

__________________

(١) في ص ١٨٧ و ١٨٨.

(٢) المعتبر ٢ : ١٧١ ، منتهى المطلب ٥ : ٥٧ ، مدارك الأحكام ٣ : ٣٤٧ ، وحكاه عنها الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٣١٨ ـ ٣١٩.

١٩٠

الكتاب وحدها ، ويجوز للصحيح في قضاء صلاة التطوّع بالليل والنهار» (١).

والمراد بقضاء صلاة التطوّع ـ بحسب الظاهر ـ مطلق فعلها ، لا خصوص القضاء المصطلح.

وخبر إسماعيل بن جابر أو عبد الله بن سنان ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي أقوم آخر الليل وأخاف الصبح ، قال : «اقرأ الحمد واعجل واعجل» (٢).

ويمكن الخدشة في دلالة هذا الخبر : بإمكان كون الاكتفاء بالحمد وحدها ـ كما هو المتبادر من الرواية ـ لرعاية الوقت ، لا لجوازه من حيث هو ، فليتأمّل.

وقوله عليه‌السلام في صحيحة منصور بن حازم ، المتقدّمة (٣) : «لا تقرأ في المكتوبة بأقلّ من سورة ولا بأكثر منها» فإنّه مشعر بل ظاهر في اختصاص المنع عن الأقلّ والأكثر بالفريضة ، إلّا أنّ مفادها جواز الاكتفاء بالأقلّ ، لا تركها رأسا.

وأصرح منه في الدلالة على ذلك صحيحة عليّ بن يقطين ، المتقدّمة (٤) المصرّحة بنفي البأس عن بعض (٥) السورة في النافلة.

ويدلّ على المدّعى أيضا : خبر السكوني ـ المتقدّم (٦) في مبحث المواقيت ـ عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تنفّلوا

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ١٧٩ ، الهامش (١).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٠٤ ، الهامش (١).

(٣) في ص ١٧٨.

(٤) في ص ١٨٧.

(٥) الظاهر : «تبعيض».

(٦) في ج ٩ ، ص ٤٦ ـ ٤٧.

١٩١

ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين» إلى آخره ، على ما رواه السيّد ابن طاوس في كتاب فلاح السائل من زيادة قوله عليه‌السلام : «قيل : يا رسول الله وما معنى خفيفتين؟ قال : تقرأ فيهما الحمد وحدها» (١) الحديث.

ثمّ إنّ المراد بالنوافل ـ التي قلنا بجواز الاقتصار فيها على قراءة الحمد ـ هي النوافل المطلقة التي لم يعتبر الشارع فيها كيفيّة خاصّة مأخوذا فيها السورة المطلقة أو سورة خاصّة بعدد مخصوص ، كصلاة الأعرابي ونحوها ، وإلّا فلا يشرع الإتيان بها معرّاة عن كيفيّتها المخصوصة ، إلّا إذا قصد بها امتثال مطلق الأمر بالنافلة ، لا النافلة الخاصّة ، كما هو واضح.

وكذا لا تجب السورة في الفرائض أيضا مع الاضطرار حتى الضرورة العرفيّة ، كما يشهد له ـ مضافا إلى الأصل وعدم الخلاف فيه بل الإجماع عليه كما عن بعض (٢) دعواه ـ المستفيضة المتقدّمة (٣) الدالّة عليه في المستعجل ، بل قضيّة إطلاق تلك النصوص ـ ككلام بعض ممّن حكي عنه دعوى الإجماع على جواز تركها للمستعجل (٤) ـ : كفاية مطلق الاستعجال لغرض دينيّ ولو لم يبلغ حدّ الوجوب ، أو دنيويّ ولو لم يبلغ حدّ الاضطرار ، بل مطلق الحاجة التي تعجله أضرّ به فوتها دنيا أو آخرة أم لا.

ولا مانع عن الالتزام به بعد مساعدة الدليل عليه ؛ لجواز أن لا تكون المصلحة المقتضية للإلزام بشي‌ء مقتضية له ، إلّا على تقدير تمكّن المكلّف

__________________

(١) راجع تخريجه ص ١٠٤ ، الهامش (٢) وج ٩ ، ص ٤٧ ، الهامش (٢).

(٢) العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٣ : ١٣١ ، المسألة ٢٢٠ ، والحاكي عنه هو العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٨٣.

(٣) في ص ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٤) العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٣ : ١٣١ ، المسألة ٢٢٠ ، والفاضل الاصبهاني في كشف اللثام ٤ : ٣٦ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٨٣.

١٩٢

من تحصيله بسهولة من دون أن يترتّب عليه فوت شي‌ء من مقاصده العقلائيّة ، فيرتفع بهذا استبعاد كون مطلق الحاجة عذرا في ترك الواجب.

ويدلّ عليه أيضا في الجملة : حسنة ابن سنان ، المتقدّمة (١) التي وقع فيها التصريح بأنّه يجوز للمريض أن يقرأ في الفريضة فاتحة الكتاب وحدها ، بل قد يقال : إنّ مقتضى إطلاق هذا الخبر أيضا : جواز تركها للمريض مطلقا وإن لم يشق عليه أصلا.

وفيه نظر ؛ إذ المنساق إلى الذهن من المريض في مثل هذه الموارد بواسطة المناسبات المغروسة فيه ليس إلّا المريض الذي يشقّ عليه إطالة الصلاة ، ويطلب تخفيفها.

وأمّا سقوطها مع ضيق الوقت عن أداء الصلاة تماما في وقتها مع السورة أو لدى العجز عن تعلّمها فعمدة مستنده ما تقدّمت الإشارة إليه من قصور ما دلّ على اعتبار السورة في الصلاة عن شمول مثل هذه الفروض ، مع ما عن غير واحد من دعوى الإجماع عليه (٢).

فما عن جملة من المتأخّرين من التردّد أو الميل أو القول بعدم السقوط (٣) ضعيف ؛ إذ لا مستند له ولو على القول بأصالة الاحتياط في الشكّ في الجزئيّة ؛ إذ الاحتياط في المقام غير ممكن ؛ لمعارضته بالاحتياط برعاية الوقت ، بل قد يقتضي الاحتياط تركها من غير معارض ، كما لو ضاق الوقت إلّا عن أداء ركعة بلا سورة ؛ فإنّ مقتضى الاحتياط حينئذ هو الإتيان

__________________

(١) في ص ١٧٨ و ١٩٠.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ٣٤٧ ، بحار الأنوار ٨٥ : ١٢ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٨٣.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ٤٦٧ ، جامع المقاصد ٢ : ٢٥٩ ، المناهج السويّة (مخطوط) والحاكي عنهم هو الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٣٢٠.

١٩٣

بركعة منها كذلك في الوقت وإتمامها في خارجه ثمّ إعادتها إن لم يكن التأخير إلى أن تضيّق الوقت لمانع شرعيّ من حيض ونحوه ، وإلّا فلا إعادة ، كما لا يخفى.

وربما يستدلّ أيضا لسقوطها مع الضيق بفحوى ما دلّ عليه في المستعجل ؛ فإنّ إدراك الصلاة في وقتها غرض مطلوب للعقلاء والمتديّنين.

وناقش فيه شيخنا المرتضى رحمه‌الله بقوله : وأمّا الوجه المزبور : فيشكل بأنّ مرجع إدراك مجموع الصلاة في وقتها إن كان إلى الغرض الدنيويّ أو الدينيّ المندوب ، فهو على فرض تسليمه لا يوجب أزيد من الرخصة ، والمقصود العزيمة ، وإن كان إلى الغرض الدينيّ الحتميّ ، فهو فرع الأمر بإدراك الصلاة في الوقت ، وهو بعد فرض السورة جزءا منها ممنوع ؛ ضرورة عدم جواز الأمر بفعل في وقت يقصر عنه ، وسقوط السورة حينئذ عين محلّ الكلام ، وأهمّيّة الوقت إنّما هي بالنسبة إلى الشرائط الاختياريّة دون الأجزاء ، إلّا أن يتمسّك بفحوى تقديم الوقت على كثير من الشرائط التي علم أنّها أهمّ في نظر الشارع من السورة (١). انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ قضيّة ما ادّعيناه من قصور ما دلّ على الوجوب عن شمول صورة الضيق ونحوه : كون تركها لدى الضيق عزيمة ، كما أشار إليه شيخنا المرتضى رحمه‌الله في عبارته المتقدّمة (٢) ؛ إذ لا يعقل الرخصة في فعلها المستلزم لفوات الواجب المضادّ لها ، وهو الإتيان بسائر الأجزاء قبل خروج وقتها ، ولكن لو قرأها لم تبطل صلاته ، على إشكال في بعض فروضه ، كما ستعرفه في مسألة ما لو قرأ سورة طويلة يفوت بها الوقت.

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٢) آنفا.

١٩٤

وكيف كان فمحلّ السورة ـ سواء قلنا بوجوبها أو استحبابها ـ إنّما هو بعد الفاتحة نصّا وإجماعا بل ضرورة.

(ولو) خالف الترتيب و (قدّم السورة على الحمد ، أعادها أو غيرها بعد الحمد) عامدا كان أم ساهيا.

وحكي عن الفاضل (١) والشهيدين والمحقّق الثاني وغيرهم القول ببطلان صلاته مع العمد (٢) ، بل في الجواهر : لم أجد أحدا صرّح بالصحّة قبل الأردبيلي فيما حكي عن مجمعه (٣) وبعض أتباعه (٤).

ويحتمل كون إطلاق المتن منزّلا على غير صورة العمد ، كما يؤيّد هذا الاحتمال تصريحه باستئناف الصلاة فيما لو خالف الترتيب المعتبر بين كلمات الحمد وآياتها عمدا (٥) ، مع أنّ المسألتين بحسب الظاهر من واد واحد ، فلا نعقل فرقا بينهما.

اللهمّ إلّا أن ينزّل إطلاق حكمه باستئناف الصلاة في تلك المسألة على ما لو كان الإخلال بالترتيب موجبا لخروج الكلام عن القرآنيّة ، ودخوله في كلام الآدميّين.

وكيف كان فعمدة مستند القول بالبطلان أنّه إن أعادها بعد الحمد ،

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «الفاضلين» بدل «الفاضل» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) إرشاد الأذهان ١ : ٢٥٣ ، تحرير الأحكام ١ : ٢٤٢ / ٨٢٧ ، تذكرة الفقهاء ٣ : ١٤٢ ، المسألة ٢٢٨ ، قواعد الأحكام ١ : ٢٧٣ ، منتهى المطلب ٥ : ٦٠ ، نهاية الإحكام ١ : ٤٦٣ ، الألفيّة : ٥٧ ، البيان : ١٥٧ ، الدروس ١ : ١٧١ ، الذكرى ٣ : ٣١٠ ، روض الجنان ٢ : ٧٠٠ ، مسالك الافهام ١ : ٢٠٥ ، المقاصد العليّة : ٢٥١ ، جامع المقاصد ٢ : ٢٥٥ ، وحكاه عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٧٤.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٢٢٠.

(٤) جواهر الكلام ٩ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

(٥) راجع ص ١٢٦.

١٩٥

فقد زاد في صلاته عمدا ، فيعمّه ما دلّ على أنّ «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» (١) وإلّا فقد نقص في صلاته.

وقد يستدلّ له أيضا بأنّ تقديم السورة على الحمد تشريع ، فتندرج بذلك في الكلام المحرّم الذي ادّعي الإجماع على كونه مبطلا للصلاة ، وبأنّه لا خلاف في حرمة تقديم السورة على الفاتحة ، والنهي في العبادة يستدعي فسادها من غير فرق بين أن يكون النهي متعلّقا بنفسها أو بجزئها ؛ لأنّ مآل الأخير أيضا إلى النهي عن العبادة المشتملة على هذا الجزء. وإن شئت قلت : إنّ الصلاة المشتملة على مخالفة الترتيب منهيّ عنها ، فلا تصحّ.

وفي الجميع نظر ، كما يظهر وجهه بمراجعة ما أسلفناه في مسألة ما لو أتى بشي‌ء من أفعال الصلاة رياء ثمّ تداركه قبل فوات محلّه ، فلا نطيل بالإعادة.

وقد يستدلّ له أيضا بحصول القران.

وفيه بعد تسليم حرمة القران ومبطليّته للصلاة فهو غير صادق على مثل المقام ، خصوصا على تقدير إعادة تلك السورة التي قدّمها على الفاتحة بعينها ، كما ستعرف تحقيقه إن شاء الله.

فالأقوى : عدم بطلان الصلاة بتقديم السورة مع العمد أيضا فضلا عن السهو ، وأمّا مع السهو فلا شبهة بل لا خلاف فيه.

ويشهد له أيضا ـ مضافا إلى الإجماع ، وفحوى ما عرفته في العمد ـ عموم قوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» (٢).

وخصوص خبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ أنّه سأل

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٨ ، الهامش (٣).

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٠ ، الهامش (١).

١٩٦

أخاه عن رجل افتتح الصلاة فقرأ سورة قبل فاتحة الكتاب ثمّ ذكر بعد ما فرغ من السورة ، قال : «يمضي في صلاته ويقرأ فاتحة الكتاب فيما يستقبل» (١).

وما في ذيل الخبر من الأمر بقراءة الفاتحة فيما يستقبل ـ بحسب الظاهر ـ مسوق لبيان كيفيّة المضيّ في صلاته دفعا لتوهّم الاكتفاء بما مضى بانيا على مضيّ محلّ الفاتحة ، فكأنّه قال : يمضي في صلاته مبتدئا من الفاتحة.

واحتمال أن يكون المراد أنّه يقرأ فيما يستقبل من الركعات ويكتفي بما قرأه في هذه الركعة ـ مع كونه تأويلا بلا شاهد ، ومخالفته بحسب الظاهر للإجماع ـ منفيّ بالأدلّة الدالّة على وجوب تدارك الحمد ما لم يركع ، كموثّقة سماعة ، الآتية (٢) ، وغيرها من الأدلّة الدالّة عليه.

ونظيره في الضعف احتمال إرادة الاكتفاء بالفاتحة وحدها في هذه الركعة من غير إعادة السورة ؛ إذ ليس في الخبر إشعار بهذا فضلا عن الدلالة عليه ، فيبقى استصحاب بقاء التكليف بقراءة السورة سليما عن المعارض.

نعم ، قد يتوهّم أنّ مرجع تقديم السورة نسيانا إلى نسيان الحمد قبلها ، فهو حين قراءة السورة غير مكلّف بقراءة الحمد لا تكليفا ولا وضعا.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلاختصاص جزئيّة الحمد بحال التذكّر ، فالسورة عند قراءتها وقعت مطابقة لأمرها ، وتذكّره للحمد فيما بعد لا يوجب انقلاب

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٩٩ / ٧٦٢ ، الوسائل ، الباب ٢٨ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٤.

(٢) في ص ١٩٨.

١٩٧

السورة عمّا وقعت عليه.

وفيه : أنّ المفروض تذكّره للحمد قبل فوات محلّه ، فلم تنتف جزئيّته لهذه الصلاة كي تقع السورة في محلّها ، فوقوعها موافقة لأمرها عند نسيان الفاتحة مراعى بعدم تذكّره لها قبل فوات محلّها ، وإلّا لوقعت السورة قبلها لا في محلّها.

وهل يكتفي في الصورتين ـ أي في حال العمد والسهو ـ بإعادتها أو غيرها بعد الحمد ، كما هو ظاهر المتن وصريح المدارك (١) ، أم عليه استئناف القراءة لو كان رجوعه عن قصد التشريع أو تذكّره لمخالفة الترتيب بعد تلبّسه بقراءة الفاتحة أو فراغه منها؟ وجهان ، بل قولان : من أنّ الإخلال بالترتيب كما يوجب تقديم المتأخّر كذلك يوجب تأخير المتقدّم ، فلا يتحقّق معه عرفا صدق البدأة بفاتحة الكتاب في قراءته لو لم يستأنفها ، مع أنّه يعتبر في صحّة الصلاة صدق هذا العنوان ، كما يشهد له صحيحة محمّد بن مسلم ، قال : سألته عن الذي لا يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته ، قال : «لا صلاة له إلّا أن يبدأ بها في جهر أو إخفات» (٢).

وموثّقة سماعة ، قال : سألته عن الرجل يقوم في الصلاة فينسى فاتحة الكتاب ، قال : «فليقل : أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم إنّ الله (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، ثمّ ليقرأها ما دام لم يركع ، فإنّه لا قراءة حتّى يبدأ (٣) بها في جهر أو إخفات» (٤).

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٣٥١.

(٢) تقدّم تخريجها في ص ١٨٥ ، الهامش (٢).

(٣) في الاستبصار والموضع الثاني من الوسائل : «فإنّه لا صلاة له حتى يقرأ».

(٤) التهذيب ٢ : ١٤٧ / ٥٧٤ ، الاستبصار ١ : ٣٥٤ / ١٣٤٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢ ، والباب ٢٨ من تلك الأبواب ، ح ٢.

١٩٨

ومن أنّ المراد بالبدأة بفاتحة الكتاب ـ على ما ينسبق إلى الذهن ـ إنّما هو تقديمها على غيرها من القرآن الواجب قراءته في الصلاة ، أي الإتيان بها قبل السورة من غير أن يكون عنوان الابتدائيّة أو القبليّة قيدا في ماهيّة المأمور به كي يجب قصده ، وهذا المعنى يتحقّق بإعادة السورة بعد الحمد بعد إلغاء ما قرأه أوّلا.

هذا ، مع أنّ المقصود بالروايتين بيان بطلان الصلاة أو القراءة العارية عن الفاتحة التي محلّها الموظّف شرعا في ابتداء القراءة المعتبرة في الصلاة ، لا بيان اعتبار وصف الابتدائيّة من حيث هي للفاتحة كي ينافيه تأخّرها عن قراءة غير معتدّ بها.

وكيف كان فهذا هو الوجه الأقوى.

ولكن قد يقال بوجوب الاستئناف في العامد ؛ نظرا إلى عدم الاعتداد بما أتى به من الفاتحة وغيرها من أفعال الصلاة ما لم يرتدع عمّا قصده من مخالفة الترتيب ، فإنّ قصد المخالفة ينافي العزم على الصلاة الصحيحة المبرئة للذمّة ، فلا تتحقّق معه استدامة النيّة المعتبرة في الصلاة ، وحيث إنّا قد حقّقنا في محلّه أنّ استدامة النيّة إنّما تعتبر حال التلبّس بأفعال الصلاة لا مطلقا ، فلو اكتفى بالفاتحة التي قرأها قبل أن يرتدع عن قصده ، بطلت صلاته ؛ لاختلال شرطها ، وإن تداركها قبل فوات محلّها صحّت ؛ إذ لا يلزم منه إلّا شبهة الزيادة العمديّة وغيرها ممّا عرفت عدم قادحيّتها للصحّة.

ويمكن دفعه بمنع التنافي بين مخالفة الترتيب عمدا والعزم على فعل الصلاة المبرئة لذمّته ، وإلّا لم يتحقّق التشريع بتقديمه للسورة ؛ لأنّ حصول التشريع بذلك موقوف على قراءتها بقصد جزئيّتها للصلاة المأتيّ بها امتثالا لأمر الله ؛ إذ لو لا إيقاعها بهذا الوجه ، لا يندرج في موضوع التشريع ؛

١٩٩

ضرورة أنّ الإتيان بها لا بقصد الجزئيّة أو بقصد جزئيّتها لصلاة غير تامّة الأجزاء والشرائط ـ أي الصلاة الفاسدة الغير المأمور بها في الشريعة ـ ليس بتشريع ، فالتشريع إنّما يتحقّق فيما لو كان عازما على أداء الصلاة ، وقدّم السورة على الفاتحة بقصد كونه جزءا منها ، وهذا النحو من القصد إنّما يعقل تحقّقه من العامد العالم بمخالفة عمله لما هو المشروع في حقّه بعد بنائه على المسامحة والمساهلة في الأحكام الشرعيّة وتنظيرها على المقاصد العرفيّة التي يتسامح فيها بمثل هذه التغييرات ، لا مع الالتفات التفصيلي إلى مخالفة عمله للمشروع وبطلانه ، فإنّ للتصوّرات التفصيليّة آثارا ليس لها تلك الآثار لدى إجمالها ، فقد ترى المكلّف المتسامح في عمله يقدّم الصلاة على وقتها عند مزاحمتها لما يقصده بعد الوقت من سفر ونحوه ، وقد يمسك من الأكل مقدارا من أوّل الليل عوضا عن الإفطار الصادر منه في أوّل يومه الذي يجب فيه الصوم ، أو ينوي التقرّب بصلاته التي يعلم إجمالا باختلال كثير من أجزائها وشرائطها ، إلى غير ذلك من الأمور التي كثيرا ما يصدر من المتسامحين في الدين قاصدين بها الخروج عن عهدة تكاليفهم مع علمهم بعدم موافقتها لها إلّا بالمسامحة.

وملخّص الكلام أنّ من خالف الترتيب وقدّم السورة على الحمد (١) بانيا على الاقتصار عليها وعدم قراءتها بعد الحمد ، فإن نوى بذلك إبطال صلاته وعدم الإتيان بها على النحو المقرّر في الشريعة ، فلا يكون عمله تشريعا ، بل يندرج في موضوع المسألة الباحثة عن أنّ نيّة الإخلال بالصلاة وإبطالها هل هي مبطلة أم لا؟ وقد تقدّم تحقيقه في محلّه ، وعرفت فيما

__________________

(١) في «ض ١٧» بدل «الحمد» : «الفاتحة».

٢٠٠