مصباح الفقيه - ج ١٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: برگ طوبى
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٣

(الرابع) من أفعال الصلاة : (القراءة ، وهي واجبة) في الصلاة بلا شبهة بل ولا خلاف فيه في الجملة (وتتعيّن بالحمد في كلّ ثنائيّة) وآحاديّة ، كركعة الاحتياط والوتر (وفي الأوليين من كلّ رباعيّة وثلاثيّة) كما هو المعروف لدى المتشرّعة على حسب ما عرفوه من صاحب الشرع قولا وفعلا عند بيان ماهيّة الصلاة ـ التي هي عبادة توقيفيّة ـ في ضمن الأخبار البيانيّة وغيرها.

وربما يشهد له أيضا بعض الأخبار المتضمّنة لبيان حكمة أفعال الصلاة ووجه اعتبار الفاتحة فيها.

مثل : ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «إنّما أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلّا يكون القرآن مهجورا مضيّعا ، وليكون محفوظا مدروسا فلا يضمحلّ ولا يجهل ، وإنّما (أمروا بالحمد في كلّ قراءة) (١) دون سائر السور ، لأنّه ليس شي‌ء من القرآن والكلام جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد ، وذلك أنّ قوله عزوجل : (الْحَمْدُ لِلّهِ) إنّما هو أداء لما أوجب الله عزّ

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في المصدر : «بدأ بالحمد».

١٠١

وجلّ على خلقه من الشكر» (١) الحديث.

قال : وقال الرضا عليه‌السلام : «إنّما جعل القراءة في الركعتين الأوّلتين والتسبيح في الأخيرتين للفرق بين ما فرضه الله من عنده وبين ما فرضه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

فيفهم من الخبر الأخير اعتبار القراءة في الأوليين ، ومن الأوّل تعيّن الفاتحة في كلّ قراءة ، فيتمّ بهما المطلوب.

ويدلّ عليه أيضا بعض الأخبار الآتية الدالّة على عدم جواز الإخلال بها عمدا ، وأنّه يجب تداركها مع الإخلال لدى الإمكان ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ستمرّ عليك في طيّ المباحث الآتية ممّا يظهر منها كون اعتبار الفاتحة في الصلاة من الأمور المسلّمة المفروغ عنها.

وإجمال بعض الأدلّة من حيث تعيين موضع الفاتحة ـ كما في النبويّ المرسل : «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» (٣) وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن الذي لا يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته ، قال : «لا صلاة له إلّا أن يقرأ بها في جهر أو إخفات» (٤) ـ غير قادح في الاستدلال ؛ لكونها منزّلة على إرادة قراءتها في موضعها المعهود في الشريعة على حسب معهوديّتها فيه من الصدر الأوّل ، لا كيفما اتّفقت ، فليتأمّل.

وكيف كان فقضيّة إطلاق الخبرين اختلال الصلاة بتركها مطلقا حتى

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٣ / ٩٢٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣.

(٢) الفقيه ١ : ٢٠٢ / ٩٢٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٤.

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ٢٧٣ / ٨٣٧ ، سنن البيهقي ٢ : ٣٨.

(٤) التهذيب ٢ : ١٤٦ / ٥٧٣ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٤.

١٠٢

مع النسيان ، ولكن يجب تقييدهما بالعمد بشهادة ما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عمّن ترك قراءة القرآن ما حاله؟ قال : «إن كان متعمّدا فلا صلاة له ، وإن كان نسي فلا بأس» (١).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» ثمّ قال : «القراءة سنّة والتشهّد سنّة ، ولا تنقض السنّة الفريضة» (٢).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «إنّ الله عزوجل فرض الركوع والسجود ، والقراءة سنّة ، فمن ترك [القراءة] متعمّدا أعاد الصلاة ، ومن نسي القراءة فقد تمّت صلاته» (٣).

إلى غير ذلك من النصوص المستفيضة الآتية في محلّها ، الدالّة على عدم بطلان الصلاة بنسيان القراءة ، فالقول بركنيّتها ـ كما حكاه الشيخ في محكيّ مبسوطه عن بعض أصحابنا (٤) ، وعن التنقيح (٥) نسبته إلى ابن حمزة (٦) ـ ضعيف في الغاية.

ولا فرق فيما ذكر من وجوب الفاتحة عينا في كلّ صلاة وبطلانها بتركها بين الفريضة والنافلة ؛ كما هو المشهور ؛ لإطلاق أكثر ما تقدّم ، مضافا

__________________

(١) مسائل علي بن جعفر : ١٥٧ / ٢٢٧ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٥.

(٢) الفقيه ١ : ٢٢٥ / ٩٩١ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٥.

(٣) الكافي ٣ : ٣٤٧ / ١ ، الوسائل ، الباب ٢٧ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢ وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٤) المبسوط ١ : ١٠٥ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٥٠.

(٥) الحاكي عنه هو العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٥٠.

(٦) التنقيح الرائع ١ : ١٩٧ ، وراجع الوسيلة : ٩٩ و ١٠١.

١٠٣

إلى ما قرّرناه مرارا من أنّ مقتضى القاعدة مشاركة النافلة للفريضة فيما يعتبر فيها شرطا أو شطرا إلّا أن يدلّ دليل على خلافه.

ويشعر به أيضا خبر إسماعيل بن جابر أو عبد الله بن سنان ، قال :قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي أقوم آخر الليل وأخاف الصبح ، قال : «اقرأ الحمد واعجل واعجل» (١) فإنّه مشعر بعدم شرعيّة النافلة بلا فاتحة ، وإلّا لكان المناسب للاستعجال الرخصة في تركها.

ويؤيّده أيضا ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين ، فإنّهما تورثان دار الكرامة ، قيل : يا رسول الله وما ساعة الغفلة؟ قال : ما بين المغرب والعشاء ، وقيل : يا رسول الله وما معنى خفيفتين؟ قال : تقرأ فيهما الحمد وحدها» (٢).

فما عن العلّامة في التذكرة والتحرير وابن أبي عقيل من عدم اشتراطها به (٣) ، ضعيف.

نعم ، ربما يظهر من خبر [عليّ بن] (٤) أبي حمزة جواز الاكتفاء بثلاث تسبيحات بدلا عن القراءة في مقام الاستعجال.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٤٩ / ٢٧ ، التهذيب ٢ : ١٢٤ / ٤٧٣ ، الاستبصار ١ : ٢٨٠ ـ ٢٨١ / ١٠١٩ ، الوسائل ، الباب ٥٥ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

(٢) فلاح السائل : ٤٣٤ ـ ٤٣٥ / ٣٠١ ، وعنه في الحدائق الناضرة ٦ : ٦٩.

(٣) تذكرة الفقهاء ٣ : ١٣٠ ، ذيل المسألة ٢١٨ ، تحرير الأحكام ١ : ٢٤٥ / ٨٣٨ ، وحكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٢ : ١٧٦ ، المسألة ٩٨ ، وحكاه عنهما العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٥٠.

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

١٠٤

قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل المستعجل ما الذي يجزئه في النافلة؟ قال : ثلاث تسبيحات في القراءة ، وتسبيحة في الركوع و [تسبيحة في] (١) السجود (٢).

ولكن لم ينقل القول به عن أحد ، وإلّا لاتّجه الالتزام به في خصوص مورده ؛ فإنّ شيئا ممّا ذكر لا يصلح لمعارضة النصّ الخاصّ.

(وتجب قراءتها أجمع) كما يشهد له الأدلّة المتقدّمة (و) قضيّة ذلك أنّه (لا تصحّ الصلاة مع الإخلال) بشي‌ء (ولو بحرف واحد منها عمدا حتى التشديد).

ولا فرق في الإخلال بالحرف بين نقصه أو إبداله بحرف آخر ممنوع في المحاورات ، دون ما ليس كذلك ممّا هو سائغ عرفا ولغة ، كقلب اللّام راء في مثل «قُلْ رَبِّي» أو النون ميما مع الباء أو إدغامها في حروف «يرملون» أو غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه.

وكذا لا فرق في الإخلال بالتشديد بإتيان الكلمة المشتملة على الإدغام مخفّفة أو بفكّ الإدغام مع تحريك المدغم أو بدونه ، فإنّها تختلّ بذلك في جميع الصور ولو صورة فتبطل.

ولكن هذا فيما إذا كان التشديد معتبرا في قوام ذات الكلمة بمقتضى وضعه الإفرادي ، كتشديد كلمة «الباء» من الربّ ، أو التركيبي ، كإدغام لام التعريف في الراء أو السين ونحوهما ، وأمّا ما عدا ذلك ممّا أوجبه علماء التجويد عند وصل بعض الكلمات ببعض من الإدغام الصغير أو الكبير ومع

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٢) الكافي ٣ : ٤٥٥ / ٢٠ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

١٠٥

الغنّة أو بدونها فلم يدلّ دليل على اعتباره.

ودعوى الإجماع عليه ـ كما عن بعض (١) ـ غير ثابتة ، مع أنّ في استكشاف رأي المعصوم من الإجماع في مثل هذه الموارد التي منشؤه اتّفاق القرّاء تأمّلا.

ودعوى أنّ للكلام هيئة تركيبيّة عند وصل كلماته بعضها ببعض يكون الإخلال بها موجبا لصيرورة الكلام لحنا ، كإثبات همزة الوصل في الدرج ، أو واو الجمع وألف التثنية لدى ملاقاة لام التعريف مثلا ، مدفوعة : بمنع اعتبار هيئة تركيبيّة في صحّة الكلام عرفا زائدا عمّا ثبت في علم العربيّة ، كما في الأمثلة المتقدّمة ، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك ، والقدر المتيقّن إنّما هو وجوب قراءة الحمد والسورة ، أي التلفّظ بكلماتها المضبوطة مادّة وصورة ، وأمّا أنّه يجب عند ضمّ بعض فقراتها إلى بعض الإتيان بها بصورة أخرى مغايرة لصورتها الأصليّة فلم يثبت في غير ما تقدّمت الإشارة إليه ، ومقتضى الأصل براءة الذمّة عنه ، بناء على ما هو الحقّ لدينا من الرجوع إلى البراءة في نظائر المقام ، لا قاعدة الاشتغال.

وهكذا الكلام في المدّ المتّصل فضلا عن المدّ المنفصل ، أو الإمالة والترقيق والتفخيم وغير ذلك من التكلّفات التي التزمها القرّاء ممّا لا شاهد من عرف أو لغة على اعتباره في صحّة الكلام.

نعم ، هي من محسّنات القراءة التي ينبغي رعايتها مع الإمكان على تأمّل في بعضها الموجب لتغيير مادّة الكلمة أو هيئتها تغييرا خارجا عن

__________________

(١) المحقّق الكركي في حاشية شرائع الإسلام (ضمن موسوعة المحقّق الكركي وآثاره ١٠) : ١٥٤ ـ ١٥٥.

١٠٦

المتعارف في المحاورات ، كالإدغام الكبير الذي هو إدراج المتحرّك بعد الإسكان في المتحرّك متماثلين أو متقاربين إمّا في كلمة كـ «سَلَكَكُمْ» و «خَلَقَكُمْ» أو في كلمتين كـ «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» و «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ» فإنّ الالتزام بجواز الإدغام في مثل هذه الموارد تبعا لمن قال به من القرّاء لا يخلو عن إشكال.

(وكذا) لا تصحّ الصلاة مع الإخلال عمدا بشي‌ء من (إعرابها) على المشهور ، بل عن المعتبر دعوى الإجماع عليه (١) ، وعن المنتهى نفي الخلاف فيه (٢).

والمراد بالإعراب ـ بحسب الظاهر ـ ليس خصوص ما هو المصطلح عند النحاة ، أي الأمور التي يختلف آخر المعرب بها من الرفع والنصب والجرّ والجزم ، بل أعمّ منه ومن الحركة والسكون الواقعتين في آخر المبني ، بل في مطلق حروف الكلمة ولو أوائلها.

وحكي عن السيّد قدس‌سره القول بصحّة الصلاة بالإخلال بالإعراب ما لم يكن موجبا لتغيير المعنى (٣) ، كضمّ تاء «أَنْعَمْتَ» تمسّكا بإطلاق الأمر بقراءة الحمد ، الصادقة عرفا مع اللحن الغير الموجب لتغيير المعنى ، كصدق قراءة شعر امرئ القيس على الملحون.

وفيه : أنّ الصدق العرفي مبنيّ على نحو من التوسّع ، وإلّا فالكلمة الملحونة غير الكلمة التي هي من أجزاء المقروء خصوصا إذا كان اللّحن في

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٦٦ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٥٢.

(٢) منتهى المطلب ٥ : ٦٢ ـ ٦٣ ، وحكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣٥٢.

(٣) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣٣٨ ، وراجع : رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٨٧.

١٠٧

حركاتها الأصليّة ، فإنّ للهيئة التي هي بمنزلة الجزء الصوري للكلمة كالمادّة دخلا في قوام ماهيّة الكلمة بحسب وضعه ، ولذا صحّ توصيفه باللّحن.

وهكذا الكلام في الحركات العارضيّة الحاصلة للكلام بواسطة الوضع التركيبي من رفع الفاعل ونصب المفعول ، فصدق قراءة الحمد أو الشعر الفلاني مع اللّحن الغير المغيّر للمعنى ليس إلّا كصدقه مع اللّحن المغيّر للمعنى أو مع تحريف بعض كلماته ، فإنّه يصدق عليه اسم القراءة ولكن مع اتّصافها بعدم الصحّة ، أي بعدم الإتيان بجميع أجزائها على ما هي عليها بمقتضى وضعها الإفرادي أو التركيبي ، وإلّا لم تكن توصف بعدم الصحّة.

والحاصل : أنّه يعتبر في كون المقروء قرآنا حقيقة كونه بعينه هي الماهيّة المنزلة من الله تعالى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مادّة وصورة ، وقد أنزله الله تعالى بلسان عربيّ ، فالإخلال بصورته ـ التي هي عبارة عن الهيئات المعتبرة في العربيّة بحسب وضع الواضع ـ كالإخلال بمادّته مانع عن صدق كونه هي تلك الماهيّة ، وصدق اسم قراءة القرآن على المجموع المشتمل على الجزء الملحون إمّا من باب التجوّز أو التغليب ، وإلّا فيصحّ أن يقال : إنّ هذه الكلمة بهذه الكيفيّة ليست بقرآن ، كما هو واضح.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في أنّه لا يجوز الإخلال عمدا بشي‌ء من الإعراب المعتبر في صحّتها من حيث العربيّة ، وإنّما الإشكال والكلام في أنّه هل يكفي الإتيان بها صحيحة بمقتضى العربيّة مطلقا ، أم تجب متابعة أحد القرّاء السبع الذين ادّعى جماعة الإجماع على تواتر قراءاتهم (١) ،

__________________

(١) كما في مدارك الأحكام ٣ : ٣٣٨ ، ومنهم : المحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ :٢٤٥ ، والشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٧٠٠.

١٠٨

وهم : عاصم ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر وابن كثير ، أو العشر ، وهم : السبعة المذكورة ، وخلف ويعقوب وأبو جعفر ، الذين حكي عن بعض الأصحاب ـ كالشهيد (١) ـ ادّعاء تواتر قراءاتهم.

فربما يظهر من بعض القول أو الميل إلى كفاية القراءة الصحيحة مطلقا ؛ لصدق القراءة ، وانتفاء اللّحن والغلط (٢).

وعن جماعة من الأصحاب التصريح بعدم الكفاية ، وأنّ المراد بالإعراب الواجب مراعاته هاهنا هو ما تواتر نقله ، لا ما وافق العربيّة ؛ لأنّ القراءة سنّة متّبعة (٣).

وفي المدارك قال : صرّح المصنّف بأنّه لا فرق في بطلان الصلاة بالإخلال بالإعراب بين كونه مغيّرا للمعنى ، ككسر كاف «إِيّاكَ» وضمّ تاء «أَنْعَمْتَ» أو غير مغيّر ، كضمّ هاء «الله» لأنّ الإعراب كيفيّة للقراءة ، فكما وجب الإتيان بحروفها وجب الإتيان بالإعراب المتلقّى عن صاحب الشرع ، وقال : إنّ ذلك قول علمائنا أجمع (٤) ، وحكي عن بعض الجمهور أنّه لا يقدح في الصحّة الإخلال بالإعراب الذي لا يغيّر المعنى ؛ لصدق القراءة معه (٥) ، وهو منسوب إلى المرتضى ـ رضي الله تعالى عنه ـ في بعض مسائله (٦) ،

__________________

(١) الذكرى ٣ : ٣٠٥ ، والحاكي عنه هو المحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٢٤٦ ، وكذا العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣٣٨.

(٢) راجع الحدائق الناضرة ٨ : ١٠١ ، وكتاب الصلاة ـ للشيخ الأنصاري ـ ١ : ٣٥٦.

(٣) قاله الشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٧٠٠ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٣ :٣٣٨ ، وحكاه عنهما الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٣٥٤.

(٤) المعتبر ٢ : ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٥) المجموع ٣ : ٣٩٣.

(٦) راجع الهامش (٣) من ص ١٠٧.

١٠٩

ولا ريب في ضعفه. ثمّ قال : ولا يخفى أنّ المراد بالإعراب هنا ما تواتر نقله في القرآن ، لا ما وافق العربيّة ؛ لأنّ القراءة سنّة متّبعة (١). انتهى.

أقول : لا ريب أنّ القرآن وكذا سائر أسامي السور كالفاتحة ونحوها اسم لخصوص الكلام المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنّ كتاب الشرائع ـ مثلا ـ اسم لخصوص الكتاب الذي صنّفه المصنّف رحمه‌الله ، وكلام زيد أو شعره اسم لخصوص ما تلفّظ به ونظمه ، ففي مثل هذه الموارد إن بنينا على أنّ الحركات المختلفة الجارية على حسب القواعد العربيّة بمنزلة الحركة والسكون الناشئين من الوقف والوصل من العوارض المشخّصة للكلام ممّا لا يوجب اختلافها زوال الاسم ولا انتفاء المسمّى ، كما في عوارض الشخص ، فمقتضى الأصل بل إطلاقات الأدلّة كفاية ما وافق العربيّة مطلقا.

وإن قلنا بأنّ لصورته الشخصيّة وحركاته الخاصّة الثابتة له حال نزوله دخلا في قوام المسمّى ولكن لا على وجه ينافيه الاختلاف الناشئ من الوقف والوصل المعلوم عدم كونه قادحا في تحقّق مفهوم المسمّى ، وجب الاقتصار على حكايته بتلك الصورة لدى الإمكان ، وهي صورة شخصيّة غير قابلة للاختلاف ، فيشكل حينئذ توجيه صحّة القراءة بكلّ من القراءات.

وأشكل منه توجيه ما يظهر منهم من التسالم وادّعاء الإجماع عليه من تواتر كلّها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ كيف يصحّ ذلك من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد فرض أنّه لا تتحقّق حكاية القرآن إلّا مع حفظ صورته الشخصيّة!؟ بل لو صدق هذه الدعوى لكان من أقوى الشواهد على أنّ مثل هذه التغييرات غير مناف لتحقّق مفهوم القرآنيّة ، كما أنّه ربما يؤيّد ذلك أيضا خلوّ المصاحف

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٣٣٨.

١١٠

القديمة ـ كالمصاحف المنسوبة إلى خطّ مولانا أمير المؤمنين وبعض أولاده المعصومين على ما ذكره بعض (١) من شاهد عدّة منها في مشهد مولانا الرضا عليه‌السلام ـ عن الإعراب ، وكذا المصاحف العثمانيّة على ما ذكروه (٢) ، فإنّه يفصح عن أنّ المقصود بكتابة القرآن لم يكن إلّا ضبطه ـ كضبط سائر الكتب ـ لأن يقرأ على حسب ما جرت العادة في قراءة هذا المكتوب بلسان العرب وإن اختلفت ألسنتهم في كيفيّتها ، ومقتضاه أن لا تكون الخصوصيّات الشخصيّة معتبرة في قوام ماهيّتها كما في سائر الكتب.

ولكن مع هذا أيضا قد يشكل توجيه تواتر مجموع القراءات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه ربما تكون الاختلافات الواقعة بين القرّاء راجعة إلى المادّة أو الهيئات المغيّرة للمعنى.

والحقّ أنّه لم يتحقّق أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ شيئا من القرآن بكيفيّات مختلفة ، بل ثبت خلافه فيما كان الاختلاف في المادّة أو الصورة النوعيّة التي يؤثّر تغييرها في انقلاب ماهيّة الكلام عرفا ، كما في ضمّ التاء من «أَنْعَمْتَ» ضرورة أنّ القرآن واحد نزل من عند الواحد ، كما نطق به الأخبار المعتبرة المرويّة عن أهل بيت الوحي والتنزيل.

مثل : ما رواه ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :«إنّ القرآن واحد [نزل] من عند الواحد ولكنّ الاختلاف يجي‌ء من قبل الرّواة» (٣).

__________________

(١) هو السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٣٠.

(٢) راجع مطالع الأنوار ٢ : ٣٠.

(٣) الكافي ٢ : ٦٣٠ / ١٢ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

١١١

وعن الفضيل بن يسار ـ في الصحيح ـ قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :إنّ الناس يقولون : نزل القرآن على سبعة أحرف ، فقال : «كذبوا أعداء الله ، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد» (١).

ولعلّ المراد بتكذيبهم تكذيبهم بالنظر إلى ما أرادوه من هذا القول ممّا يوجب تعدّد القرآن ، وإلّا فالظاهر كون هذه العبارة صادرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل قد يدّعى تواتره ، ولكن أعداء الله حرّفوها عن موضعها ، وفسّروها بآرائهم ، مع أنّ في بعض رواياتهم إشارة إلى أنّ المراد بالأحرف أقسامه ومقاصده ، فإنّهم ـ على ما حكي (٢) عنهم ـ رووا عن النبي (٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «نزل القرآن على سبعة أحرف : أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل» (٤).

ويؤيّده ما روي من طرقنا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كلّ قسم منها كاف شاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص» (٥).

وربما يظهر من بعض أخبارنا أنّ الأحرف إشارة إلى بطون القرآن وتأويلاته.

مثل : ما عن الصدوق في الخصال بإسناده عن حمّاد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الأحاديث تختلف منكم ، فقال : «إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه» ثمّ قال :

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٣٠ / ١٣.

(٢) الحاكي هو السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٣١.

(٣) في «ض ١٣» والطبعة الحجريّة : «عنه» بدل «عن النبي».

(٤) المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٢٨٩ ، كنز العمّال ١ : ٥٤٩ / ٢٤٥٩ نحوه.

(٥) بحار الأنوار ٩٣ : ٤ و ٩٧.

١١٢

«هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١)» (٢).

فظهر ممّا (٣) ذكرنا أنّ الاستشهاد بالخبر المزبور لصحّة القراءات السبع وتواترها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غير محلّه ، وكفاك شاهدا لذلك ما قيل من أنّه نقل اختلافهم في معناه ما يقرب من أربعين قولا (٤).

والحاصل : أنّ دعوى تواتر جميع القراءات السبعة أو العشرة بجميع خصوصيّاتها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تتضمّن مفاسد ومناقضات لا يمكن توجيهها ، وقد تصدّى جملة من القدماء والمتأخّرين لإيضاح ما فيها من المفاسد بما لا يهمّنا الإطالة في إيرادها ، ولأجل ما ذكر ارتكب بعض التأويل في هذه الدعوى بحملها على إرادة تواترها عن القرّاء السبع (٥) ، وآخر على إرادة انحصار المتواتر فيها ، لا كون كلّ منها متواترا (٦) ، وثالث على تواتر جواز القراءة بها بل وجوبها عن الأئمّة عليهم‌السلام (٧).

وكيف كان فما عن الشهيد الثاني رحمه‌الله في شرح الألفيّة ـ مشيرا إلى القراءات السبع : فإنّ الكلّ من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين تخفيفا على الأمّة وتهوينا على أهل هذه الملّة (٨) ، انتهى ـ محلّ نظر ؛ إذ كيف يعقل ذلك بعد فرض كون القرآن واحدا بالشخص ، ومباينة

__________________

(١) سورة «ص» ٣٨ : ٣٩.

(٢) الخصال : ٣٥٨ / ٤٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٩٢ : ٤٩ / ١٠.

(٣) في «ض ١٣ ، ١٧» : «بما» بدل «ممّا».

(٤) قاله البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٩٩.

(٥) البرهان في علوم القرآن ـ للزركشي ـ ١ : ٣١٩.

(٦) المقاصد العليّة : ٢٤٥.

(٧) الحاشية على مدارك الأحكام ٣ : ٢٠ ـ ٢١.

(٨) المقاصد العليّة : ٢٤٥ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٩٦.

١١٣

بعض القراءات مع بعض في الذات!؟

فالذي يغلب على الظنّ أنّ عمدة الاختلاف بين القرّاء نشأ من الاجتهاد والرأي والاختلاف في قراءة المصاحف العثمانيّة العارية عن الإعراب والنقط ، مع ما فيها من التباس بعض الكلمات ببعض بحسب رسم خطّه كـ «ملك» و «مالِكِ» ولذا اشتهر عنهم أنّ كلّا منهم كان يخطّئ الآخر ، ولا يجوّز الرجوع إلى الآخر.

نعم ، لا ننكر أنّ القرّاء يسندون قراءتهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ الاختلاف قد ينشأ من ذلك ، فإنّه نقل أنّ عاصم الكوفي قرأ القراءة على جماعة منهم : أبو عبد الرحمن ، وهو أخذها من مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ نافع المدني أخذ القراءة من خمسة منهم :أبو جعفر يزيد [بن] (١) القعقاع القارئ ، وهم أخذوها من أبي هريرة ، وهو من ابن عبّاس ، وهو من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ حمزة الكوفي أخذها من جماعة منهم : مولانا الصادق عليه‌السلام ، وهم يوصلون سندها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا سائر القرّاء (٢).

ولكن لا تعويل على هذه الأسانيد فضلا عن صيرورة القراءات بها متواترة خصوصا بعد أن ترى أنّهم كثيرا ما يعدّون القراءات قسيما لقراءة عليّ وأهل البيت عليهم‌السلام.

قال بعض الأفاضل : إنّه يظهر من جماعة أنّ أصحاب الآراء في القراءة كانوا كثيرة ، وكان دأب الناس أنّه إذا جاء قارئ جديد أخذوا بقوله

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه من «السبعة في القراءات».

(٢) كما في مطالع الأنوار ٢ : ٣١ ، وانظر : السبعة في القراءات ـ لابن مجاهد ـ : ٥٤ ـ ٦٠ و ٦٤ ـ ٦٥ و ٦٩ ـ ٧٤ و ٧٨ ـ ٨٣ و ٨٥ ـ ٨٦.

١١٤

وتركوا قراءة من تقدّمه ، نظرا إلى أنّ كلّ قارئ لاحق كان ينكر سابقه ، ثمّ بعد مدّة رجعوا عن هذه الطريقة ، فبعضهم يأخذ قول بعض المتقدّمين ، وبعضهم يأخذ قول الآخر ، فحصل بينهم اختلاف شديد ، ثمّ عادوا واتّفقوا على الأخذ بقول السبعة (١). انتهى.

ولقد بالغ شيخنا المرتضى رحمه‌الله في إبطال دعوى تواتر جميع الخصوصيّات ، إلى أن قال : قال [ابن] الجزري في كتابه ـ على ما حكي عنه ـ : كلّ قراءة وافقت العربيّة ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانيّة ولو احتمالا وصحّ سندها فهي القراءة الصحيحة ، سواء كانت من السبعة أم غيرهم ، إلى أن قال : هذا هو الصحيح عند أئمّة التحقيق من السلف والخلف لا أعرف من أحد منهم خلافه ، وما عداها ضعيفة أو شاذّة أو باطلة ، سواء كانت من السبعة أو غيرهم. انتهى.

ثمّ صرّح في آخر كلامه بأنّ السند لا يجب أن يتواتر ، وأنّ ما قيل من أنّ القرآن لا يثبت إلّا بالتواتر لا يخفى ما فيه (٢).

وأنت خبير بأنّ السند الصحيح بل المتواتر باعتقادهم من أضعف الأسناد عندنا ؛ لأنّهم يعتمدون في السند على من لا نشكّ نحن في كذبه.

وأمّا موافقة أحد المصاحف العثمانيّة فهي أيضا من الموهنات عندنا سيّما مع تمسّكهم على اعتبارها بإجماع الصحابة عليها ، الذين جعل الله الرشد في خلافهم ؛ حيث إنّه غيّر من القرآن ما شاء ، ولذا أعرضوا عن مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا عرضه عليهم ، فأخفاه لولده القائم عليهم‌السلام وعجّل الله فرجه ، وطبخوا المصاحف الأخر لكتّاب الوحي ، فلم يبق من

__________________

(١) السيّد محمّد باقر الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٣٠.

(٢) النشر في القراءات العشر ١ : ٩ و ١٣.

١١٥

الثلاثة المذكورة في كلام [ابن] الجزري ـ التي هي المناط في صحّة القراءة ـ ما نشاركهم في الاعتماد عليه إلّا موافقة العربيّة التي لا تدلّ إلّا على عدم كون القراءة باطلة ، لا كونها مأثورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّ حكاية طبخ عثمان ما عدا مصحفه من مصاحف كتّاب الوحي ، وأمره ـ كما في شرح الشاطبيّة ـ كتّاب المصحف عند اختلافهم في بعض الموارد بترجيح لغة قريش معلّلا بأنّ أغلب القرآن نزل عليها ، الدالّ على أنّ كتابة القرآن وتعيّن قراءتها وقعت أحيانا بالحدس الظنّي بحكم الغلبة وجه مستقلّ لعدم التواتر (١). انتهى كلام شيخنا المرتضى رحمه‌الله.

هذا كلّه ، مع أنّ دعوى التواتر إنّما تجدي لمدّعيها ، دون من لم يتحقّق ذلك عنده ، والتعويل على قول ناقليه ما لم يحصل القطع من أقوالهم به رجوع عن اعتبار التواتر في القراءة.

والذي يقتضيه التحقيق هو أنّ القرآن اسم للكلام الخاصّ الشخصي الغير القابل للتعدّد والاختلاف بمعنى أنّ صورته الشخصيّة مأخوذة في قوام مفهوم المسمّى بشهادة التبادر ؛ إذ المتبادر من القرآن أو فاتحة الكتاب ـ مثلا ـ هو خصوص ذلك الكلام المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بخصوصه ، والمنساق إلى الذهن من الأمر بقراءته هو وجوب التلفّظ بتلك الماهيّة المشخّصة بخصوصها على النهج المتعارف في المحاورات ، فلا ينافيه الاختلافات الناشئة من آداب المحاورة ، كإسكان أواخر كلماته لدى الوقف وتحريكها مع الوصل وإخفاء بعض حروفه أو إبداله أو إدغامه أو مدّه أو غير ذلك من الاختلافات الناشئة من كيفيّة قراءة ذلك الكلام الشخصي ممّا

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٣٦١ ـ ٣٦٣.

١١٦

لا ينافي صدق حكايته بعينه عرفا ، بخلاف الاختلافات العائدة إلى كيفيّة المقروء ، فإنّها مانعة عن صدق اسم حكاية ذلك الكلام بعينه ، كما لو كان ذلك الكلام بخصوصيّاته ـ أي بإعرابه ـ مكتوبا في لوح مأمور بقراءته ، فإنّ حاله بعد فرض تعلّق التكليف بحكاية ألفاظه بعينها حال ذلك المكتوب في كون الإخلال بإعرابه مخلّا بصحّة قراءته.

نعم ، لو تعذّر عليه معرفة الخصوصيّات أتى بذلك الكلام الشخصي في مقام امتثال التكليف بصورته النوعيّة ، أي بحسب ما تقتضيه القواعد العربيّة ، كما هو الشأن في الكلام المكتوب أيضا بعد فرض عجزه وضعف بصره عن تمييز إعرابه ، فإنّ هذا أيضا مرتبة ناقصة من حكاية ذلك الكلام يفي بإثباتها قاعدة الميسور ، مع إمكان أن يدّعى أنّ المتبادر عرفا من الأمر بقراءة القرآن ونحوه إنّما هو حكاية ألفاظه بعينها على حسب الإمكان ، وهذا ممّا يختلف في الصدق لدى العرف بالنسبة إلى العارف بالخصوصيّات وغير العارف ، كما أنّه يختلف بالنسبة إلى المتكلّم الفصيح وغير الفصيح والأخرس وغير الأخرس.

ولكن هذا إذا تعلّق الجهل بكثير من الخصوصيّات بحيث لا يمكنه الاحتياط وتحصيل الجزم بالموافقة ، وأمّا إذا أمكنه ذلك بأن انحصر في مورد أو موردين بحيث لم يلزم من تكرير الكلمة أو الكلام المشتمل عليها إلى أن يحصل له الجزم بالموافقة حرج أو فوات موالاة معتبرة في نظم الكلام ، فمقتضى القاعدة وجوب الاحتياط ، كما حكي عن جار الله الزمخشري التصريح به بعد إنكاره تواتر القراءات السبع حيث قال ـ على ما حكي عنه ـ : إنّ القراءة الصحيحة التي قرأ بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هي في صفتها ، وإنّما هي صفة واحدة ، والمصلّي لا تبرأ ذمّته من الصلاة إلّا إذا قرأ

١١٧

بما وقع الاختلاف على كلّ الوجوه ، كـ «مالِكِ» و «ملك» و «صِراطَ» و «سراط» وغير ذلك (١). انتهى.

هذا كلّه مع الغضّ عن الإجماع والنصوص الدالّة على جواز كلّ من القراءات السبع أو العشر أو غيرها من القراءات المعروفة فيما بين الناس في أعصار الأئمّة عليهم‌السلام ، وإلّا فلا شبهة في كفاية كلّ من القراءات السبع ؛ لاستفاضة نقل الإجماع عليه بل تواتره ، مضافا إلى شهادة جملة من الأخبار بذلك.

كخبر سالم بن أبي سلمة ، قال : قرأ رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا أستمع ـ حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كفّ عن هذه القراءة ، اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم عليه‌السلام ، فإذا قام القائم قرأ كتاب الله على حدّه ، وأخرج المصحف الذي كتبه عليّ عليه‌السلام» (٢).

ومرسلة محمّد بن سليمان عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : قلت له :جعلت فداك إنّا نسمع الآيات من القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم ، فهل نأثم؟ فقال : «لا ، اقرءوا كما تعلّمتم فسيجيئكم من يعلّمكم» (٣).

وخبر سفيان بن السمط ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن تنزيل (٤)

__________________

(١) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ١٠٢ نقلا عن شيخه المحدّث الشيخ عبد الله بن صالح البحراني عن شيخه عن الزمخشري.

(٢) الكافي ٢ : ٦٣٣ / ٢٣ ، الوسائل ، الباب ٧٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٣) الكافي ٢ : ٦١٩ (باب أنّ القرآن يرفع كما أنزل) ح ٢ ، الوسائل ، الباب ٧٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢.

(٤) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «ترتيل» بدل «تنزيل». والمثبت كما في المصدر.

١١٨

القرآن ، فقال : «اقرءوا كما علّمتم» (١).

وعن أمين الإسلام الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن الشيخ الطوسي ، قال : روي عنهم عليهم‌السلام جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه (٢).

وربما يظهر من بعض الأخبار ترجيح بعض القراءات على بعض.

مثل : ما رواه في الوسائل عن الكليني بإسناده عن داود بن فرقد والمعلّى بن خنيس ، قالا : كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقال : «إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالّ» ثمّ قال : «أمّا نحن فنقرأه على قراءة أبيّ» (٣).

عن كتاب الوافي أنّه قال : ويستفاد من هذا الحديث أنّ القراءة الصحيحة هي قراءة أبيّ ، وأنّها الموافقة لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، إلّا أنّها غير مضبوطة عندنا ؛ إذ لم يصل إلينا قراءته في جميع ألفاظ القرآن (٤). انتهى.

وفي الصافي رواه عن عبد الله بن فرقد والمعلّى بن خنيس ، قالا : كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ومعنا ربيعة الرأي فذكر القرآن ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :«إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا» الحديث ، ثمّ قال : ولعلّ آخر الحديث ورد على المسامحة مع ربيعة مراعاة لحرمة الصحابة وتداركا لما قاله في ابن مسعود ، وذلك لأنّهم لم يكونوا يتبعون أحدا سوى آبائهم ؛ لأنّ علمهم من الله ، وفي هذا الحديث إشعار بأنّ قراءة أبيّ كانت موافقة

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٣١ / ١٥ ، الوسائل ، الباب ٧٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣.

(٢) مجمع البيان ١ : ١٣ ، التبيان ١ : ٩ ، الوسائل ، الباب ٧٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٥.

(٣) الكافي ٢ : ٦٣٤ / ٢٧ ، الوسائل ، الباب ٧٤ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٤.

(٤) الوافي ٩ : ١٧٧٦ ، ذيل ح ٩٠٨٥ ـ ٣ ، وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٩٨.

١١٩

لقراءتهم أو كانت أوفق لها من قراءة غيره من الصحابة (١). انتهى.

أقول : ويحتمل كون «أبي» بياء المتكلّم ، كما يؤيّد هذا الاحتمال كون قراءة عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام أيضا بحسب الظاهر كقراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود ونظرائهم من القراءات المعروفة بين الناس ، كما يشهد له نقلها في كتبهم وإنهاء سند غير واحد من القرّاء السبع ـ كالحمزة والكسائي وعاصم الكوفي ـ إلى عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام ، كما تقدّمت (٢) حكايته عنهم.

وكيف كان فلا شبهة في صحّة كلّ من القراءات السبع في مقام تفريغ الذمّة عن التكليف بقراءة القرآن وإن لم يعلم بموافقة المقروء للقرآن المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل وإن علم عدمه ، كما هو مقتضى بعض الأخبار المتقدّمة وغيرها من الروايات الدالّة على وقوع بعض التحريفات في القرآن ، كما في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (٣) الذي ورد في بعض الأخبار أنّه في الأصل : «خير أئمّة» (٤) وفي قوله تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٥) أنّه في الأصل : «واجعل لنا من المتّقين إماما» (٦) إلى غير ذلك ممّا ورد في الأخبار ، فالتخطّي عن هذه القراءات التي ثبت الاكتفاء بها إلى غيرها من الشواذّ فضلا عن الاكتفاء بمطلق العربيّة بعد الالتزام بكون الهيئات الشخصيّة كالموادّ معتبرة في مفهوم القرآنيّة في غاية الإشكال.

هذا ، ولكنّ الإنصاف إمكان الالتزام بأنّ اختلاف الحركات والسكنات

__________________

(١) تفسير الصافي ١ : ٥٤.

(٢) في ص ١١٤.

(٣) آل عمران ٣ : ١١٠.

(٤) تفسير القمّي ١ : ١١٠ ، تفسير العيّاشي ١ : ١٩٥ / ١٢٨ و ١٢٩.

(٥) الفرقان ٢٥ : ٧٤.

(٦) تفسير القمّي ٢ : ١١٧.

١٢٠