زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) استفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد ولا ينكثوه مع وغرة (١) صدورهم وغدرهم ، أو لأن يفي الله ورسوله بالعهد وهم نكثوه. وخبر «يكون» : «كيف» ، وقدّم للاستفهام ، أو «للمشركين» أو «عند الله». وهو على الأوّلين صفة للعهد ، أو ظرف له ، أو لقوله : «يكون». و «كيف» على الأخيرين حال من العهد. وقوله : «للمشركين» إن لم يكن خبرا فتبيين.

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) هم المستثنون قبل من بني كنانة وبني ضمرة ونظرائهم. ومحلّه النصب على الاستثناء ، أو الجرّ على البدل ، أو الرفع على أنّ الاستثناء منقطع ، أي : ولكنّ الّذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام.

(فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) ما تحتمل الشرطيّة والمصدريّة ، أي : فتربّصوا أمرهم فلا تقاتلوهم ، فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء. أو ما داموا باقين معكم على الطريقة المستقيمة فكونوا معهم كذلك. وهذا كقوله : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) (٢) غير أنّه مطلق وهذا مقيّد. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) للنكث والغدر ، فإنّ التربّص بهم من أعمال المتّقين.

(كَيْفَ) تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد ، أو بقاء حكمه ، مع التنبيه على العلّة. وحذف الفعل للعلم به ، أي : كيف يكون لهم عهد؟ (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي : وحالهم أنّهم إن يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) لا يراعوا ولا يحفظوا (إِلًّا) حلفا. وقيل : قرابة. وقيل : ربوبيّة. ولعلّه اشتقّ للحلف من الألّ ، وهو الجؤار (٣). يقال : له أليل ، أي : أنين يرفع به صوته ، لأنّهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم ، ثم استعير للقرابة ، لأنّها تعقد بين الأقارب ما لا يعقده الحلف ، ثمّ للربوبيّة والتربية. وقيل : اشتقاقه من : ألّل الشيء إذا حدّده ، أو من : ألّ

__________________

(١) الوغر : الحقد والعداوة والضغن ، ووغرة الصدر : شدّة غيظه.

(٢) التوبة : ٤.

(٣) جأر يجأر جؤارا إلى الله : رفع صوته بالدعاء.

٨١

البرق إذا لمع. (وَلا ذِمَّةً) عهدا أو حقّا يعاب على إغفاله وإهماله.

وقوله : (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) كلام مستأنف في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن ، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد ، وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان ، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل ، وهذه المخالفة موجبة لعدم مراقبتهم عند الظفر. والمعنى : يتكلّمون بكلام الموالين لترضوا عنهم (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) ما تتفوّه به أفواههم ، للعداوة والغدر ونقض العهد.

(وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) متمرّدون في الكفر والشرك ، لأنّه لا عقيدة لهم تمنعهم ، ولا مروءة تردعهم ، وهم رؤساء الكفرة. أو خارجون عن طريق الوفاء بالعهد. وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التباعد عن الغدر ، والتعفّف عمّا يجرّ إلى أحدوثة السوء. ولا يجوز جعل هذه الجملة الفعليّة حالا من فاعل «لا يرقبوا» ، فإنّهم بعد ظهورهم لا يرضون.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) استبدلوا بالقرآن والإسلام (ثَمَناً قَلِيلاً) عرضا يسيرا ، وهو اتّباع الأهواء والشهوات (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) فعدلوا عن دينه الموصل إلى رحمته ، وصرفوا غيرهم عنه ، أو سبيل بيته بحصر الحجّاج والعمّار. والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أدّاهم إلى الصدّ.

(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) بئس العمل عملهم هذا ، أو ما دلّ عليه قوله : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) فهو تفسير لا تكرير. وقيل : الأوّل عامّ في الناقضين ، وهذا خاصّ بالّذين اشتروا ، وهم اليهود أو الأعراب الّذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة.

(فَإِنْ تابُوا) عن الكفر والصدّ ونقض العهد (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ) فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) لهم ما لكم وعليهم ما عليكم (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) ونبيّنها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اعتراض للحثّ على تأمّل ما فصّل من أحكام المعاهدين أو خصال التائبين ، فكأنّه قيل : ومن تأمّل تفصيلها فهو العالم.

٨٢

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) وإن نقضوا ما بايعوا عليه من الأيمان أو الوفاء بالعهود (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) من بعد أن عقدوها (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي : فقاتلوهم. فوضع أئمّة الكفر موضع الضمير ، للدلالة على أنّهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدّم في الكفر والضلالة ، أحقّاء بالقتل. وقيل : المراد بالأئمّة رؤساء المشركين. فالتخصيص إمّا لأنّ قتلهم أهمّ ، وهم أحقّ به ، أو للمنع من مراقبتهم.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : أئمّة ، بتسهيل (١) الثانية بلا فصل بينهما.

وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وروح عن يعقوب : أئمّة ، بتحقيق الهمزتين على الأصل. والتصريح بالياء لحن.

وعن حذيفة : لم يأت أهل هذه الآية بعد. وقرأ عليّ عليه‌السلام الآية يوم الجمل ، ثمّ قال : «والله لقد عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال لي : يا علي لتقاتلنّ الفئة الناكثة ، والفئة الباغية ، والفئة المارقة».

(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) ، أي : لا عهود لهم على الحقيقة ـ يعني : لا يحفظونها ـ وإلّا لما طعنوا ولم ينكثوا ، فلا تعطوهم الأمان بعد النكث والردّة. وفيه دليل على أنّ الذمّي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده. وقرأ ابن عامر : لا إيمان ، بمعنى : لا أمان أو لا إسلام.

وعلى القراءة الأولى استشهد الحنفي على أنّ يمين الكافر ليس يمينا. وهو ضعيف ، لأنّ المراد نفي الوثوق عليها ، لا أنّها ليست بأيمان.

وعلى الثانية تشبّث بها من لم يقبل توبة المرتدّ. وهو أيضا ضعيف ، لجواز أن يكون بمعنى : لا يؤمنون ، على أنّ الإخبار عن قوم معيّنين ، إذ ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله.

__________________

(١) أي : تلفّظ الهمزة الثانية بين بين ، أي : بين مخرج الهمزة والياء.

٨٣

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلّق بـ «قاتلوا» أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عمّا هم عليه ، لا إيصال الأذيّة بهم كما هو طريقة المؤذين. وهذا من غاية كرمه العميم وفضله الجسيم ، جلّ كرمه وعظم فضله.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣))

ثمّ حرّض المؤمنين على القتال ، فقال : (أَلا تُقاتِلُونَ) دخول الهمزة على «لا» للإنكار ، فأفادت المبالغة في الفعل والتحريض فيه ، أي : هلّا تقاتلون (قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) الّتي حلفوها مع الرسول والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم ، فعاونوا بني بكر على خزاعة (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) حين تشاوروا في أمره بدار الندوة ، فأذن الله له في الهجرة ، فخرج بنفسه ، على ما مرّ ذكره في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١). وقيل : هم اليهود نكثوا عهد رسول الله ، وهمّوا بإخراجه من المدينة.

(وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بالمعاداة والمقاتلة ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدأهم بالدعوة وإلزام الحجّة بالكتاب والتحدّي به ، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة ، والبادي أظلم ، فما يمنعكم أن تقابلوهم وتقاتلوهم؟ (أَتَخْشَوْنَهُمْ) الهمزة للتوبيخ الّذي يتضمّن التشجيع ، أي : أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم؟ (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) فقاتلوا أعداءه ولا تتركوا أمره (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإنّ قضيّة الايمان أن لا يخشى المؤمن إلّا ربّه ، ولا يبالي بمن سواه ، كقوله : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) (٢).

__________________

(١) راجع ص : ٣٣ ذيل الآية ٣٠ من سورة الأنفال.

(٢) الأحزاب : ٣٩.

٨٤

(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))

ثمّ أمرهم بالقتال بعد بيان موجبه ، والتوبيخ على تركه ، والتوعيد عليه ، فقال : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) قتلا (وَيُخْزِهِمْ) أسرا (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) غلبة. هذا وعد للمؤمنين إن قاتلوهم بالنصر عليهم ، والتمكّن من قتلهم وإذلالهم ، ليثبّت قلوبهم ويصحّح نيّاتهم (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) طائفة منهم ، يعني : بني خزاعة. وعن ابن عبّاس : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكّة وأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديدا ، فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : أبشروا فإنّ الفرج قريب.

(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) لما لقوا منهم من المكروه ، وقد أوفى الله تعالى بما وعدهم به. والآية من المعجزات. (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) استئناف كلام. وفيه إخبار بأنّ بعضهم سيتوب عن كفره. وقد كان ذلك أيضا ، فإنّ كثيرا منهم قد أسلموا وحسن إسلامهم. (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم ما سيكون كما يعلم ما كان (حَكِيمٌ) لا يفعل ولا يحكم إلّا على وفق الحكمة والمصلحة.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))

ثمّ نبّه سبحانه على جلالة موقع الجهاد ، فقال خطابا للمؤمنين حين كره

٨٥

بعضهم القتال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) أم منقطعة. ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان. والمعنى : لا تظنّوا أنّكم تتركون على ما أنتم عليه (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) والحال أنّه لم يبيّن الله ولم يميّز الخلّص منكم ، وهم المجاهدون في سبيل الله لوجه الله. نفى العلم وأراد نفي المعلوم للمبالغة ، فإنّه كالبرهان عليه ، من حيث إنّ تعلّق العلم به مستلزم لوقوعه ، كما يقال : ما علم الله ما قيل في فلان ، أي : ما وجد ذلك. و «لمّا» معناها التوقّع ، فدلّت على أنّ تميّز ذلك وإيضاحه متوقّع كائن.

(وَلَمْ يَتَّخِذُوا) عطف على «جاهدوا» داخل في الصلة (مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) هو الّذي يعرّفه الرجل أسراره ثقة به. شبّه ببطانة الثوب ، كما شبّه بالشعار. فعيلة من : ولج ، كالدخيلة من : دخل. يعني : بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يعلم أعمالكم فيجازيكم عليها. وهو كالمزيح لما يتوهّم من ظاهر قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ).

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

ولمّا أمر الله تعالى بقتال المشركين ، وقطع العصمة والموالاة عنهم ، أمر بمنعهم عن المساجد ، فقال : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) ما صحّ لهم وما استقام (أَنْ

٨٦

يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) شيئا من المساجد ، فضلا عن المسجد الحرام الّذي هو صدرها ومقدّمها. وقيل : هو المراد ، وإنّما جمع لأنّه قبلة المساجد كلّها وإمامها ، فعامره كعامر الجميع ، أو لأنّ كلّ موضع منه مسجد. ويدلّ عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بالتوحيد.

(شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) حال من الواو في «يعمروا». ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر : ظهور كفرهم وتكذيبهم الرسول ، وأنّهم نصبوا أصنامهم حول البيت ، وكانوا يطوفون حول البيت عراة ، وكلّما طافوا بها شوطا سجدوا لها.

وقيل : هو قولهم : لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك ، تملكه وما ملك.

والمعنى : ما استقام أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة بيت الله تعالى ، وعبادة غيره.

روي أنّ المهاجرين والأنصار عيّروا أسارى بدر ، ووبّخ عليّ عليه‌السلام العبّاس حين أسر بقتال رسول الله وقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول. فقال العبّاس : تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا. فقالوا : ألكم محاسن؟ قالوا : نعم ، ونحن أفضل منكم أجرا ، إنّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفكّ العاني. فنزلت : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الّتي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك ، لأنهم أوقعوها على الوجه الّذي لا يستحقّ لأجله الثواب عليها عند الله. (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) مقيمون مؤبّدون لأجله.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ) بحدودها المعتبرة في شرع الإسلام (وَآتَى الزَّكاةَ) إن وجب عليه إلى مستحقّها. والمعنى : إنّما تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلميّة والعمليّة ، لا لغيرهم. ومن عمارتها : رمّ ما استهدم منها ، وكنسها وتنظيفها ، وتزيينها بالفرش ، وتنويرها

٨٧

بالسرج ، وزيارتها للعبادة ، وإدامة العبادة والذكر ودرس العلم ، وصيانتها ممّا لم تبن له ، كحديث الدنيا.

وفي الحديث : يأتي في آخر الزمان ناس من أمّتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا ، ذكرهم الدنيا وحبّ الدنيا ، لا تجالسوهم ، فليس لله بهم حاجة.

وروي أيضا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش».

وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قال الله تعالى : إنّ بيوتي في أرضي المساجد ، وإنّ زوّاري فيها عمّارها ، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي ، فحقّ على المزور أن يكرم زائره».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ألف المسجد ألفه الله».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالايمان».

وعنه أيضا برواية أنس : «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه».

وإنّما لم يذكر الإيمان بالرسول لما علم أنّ الايمان بالله قرينه ، وتمامه الإيمان به ، ولدلالة قوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) عليه.

(وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي : في أبواب الدين ، فإنّ الخشية عن المحاذير جليّة لا يكاد الرجل يتمالك عنها. قيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) ذكره بصيغة التوقّع قطعا لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم ، وتوبيخا لهم بالقطع بأنّهم مهتدون ، فإنّ هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائرا بين عسى ولعلّ فما ظنّك بأضدادهم؟ ومنعا للمؤمنين أن يغترّوا بأحوالهم ويتّكلوا عليها.

٨٨

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

روي عن الحسن والشعبي ومحمّد بن كعب القرظي : أنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والعبّاس بن عبد المطّلب وطلحة بن شيبة افتخروا ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، وبيدي مفتاحه ، ولو أشاء بتّ فيه. وقال العبّاس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها. وقال عليّ عليه‌السلام : ما أدري ما تقولان ، لقد صلّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد. فنزلت : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

السقاية والعمارة مصدران من : سقى وعمر ، فلا يشبّهان بالجثث ، بل لا بدّ من إضمار ، تقديره : أجعلتم أهل سقاية الحاجّ كمن آمن؟ أو أجعلتم سقاية الحاجّ كإيمان من آمن؟ ويؤيّد الأوّل قراءة من قرأ : سقاة الحاجّ وعمرة المسجد الحرام.

ومعنى الهمزة إنكار أن يشبّه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة.

ثمّ قرّر ذلك بقوله : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) وبيّن عدم تساويهم بقوله : (وَاللهُ

٨٩

لا يَهْدِي) إلى طريق الثواب (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهمكون في الضلالة ، فكيف يساوون الّذين هداهم الله ووفّقهم للحقّ والصواب؟! وقيل : المراد بالظالمين الّذين يسوّون بينهم وبين المؤمنين.

عن ابن سيرين : أنّ عليّا عليه‌السلام قال للعبّاس : يا عمّ ألا تهاجر ، ألا تلحق برسول الله؟ فقال : ألست في أفضل من الهجرة : أعمر المسجد الحرام ، وأسقي حاجّ بيت الله؟ فنزلت.

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : «بينا شيبة والعبّاس يتفاخران إذ مرّ بهما عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال : بماذا تتفاخران؟

فقال العبّاس : لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد ، سقاية الحاجّ.

وقال شيبة : أوتيت عمارة المسجد الحرام.

فقال عليّ عليه‌السلام : استحييت لكما ، فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا.

فقالا : وما أوتيت يا عليّ؟

قال : ضربت خراطيمكما بالسيف حتّى آمنتما بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقام العبّاس مغضبا يجرّ ذيله حتّى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : أما ترى إلى ما يستقبلني عليّ؟

فقال : ادعوا عليّا. فدعي له ، فقال : ما حملك على ما استقبلت به عمّك؟

فقال : يا رسول الله صدمته بالحقّ ، فمن شاء فليغضب ومن شاء فليرض.

فنزل جبرئيل وقال : يا محمّد إنّ ربّك يقرأ عليك السلام ويقول : اتل عمّك : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ) الآيات.

فقال العبّاس : قد رضينا ، ثلاث مرّات» (١).

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ : ٣٢٨ ح ٣٣٨.

٩٠

(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) أعلى رتبة وأكثر كرامة ممّن لم يستجمع هذه الصفات ، أو من أهل السقاية والعمارة عندكم (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) المختصّون بالفوز بالثواب ونيل الحسنى عند الله دونكم.

(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها) في الجنّات (نَعِيمٌ مُقِيمٌ) دائم لا يزول. وقرأ حمزة : يبشرهم بالتخفيف. وتنكير المبشّر به من الرحمة والرضوان والنعيم المقيم ، إشعار بأنّها وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف.

(خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أكّد الخلود بالتأبيد ، لأنّه قد يستعمل للمكث الطويل (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله ، أو نعم الدنيا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنها نزلت في ابن أبي بلتعة حيث كتب إلى قريش بخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أراد فتح مكّة ، فنهاه الله تعالى وسائر المؤمنين عن موالاة الكفّار وإن كانوا في النسب الأقربين ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) إن اختاروه

٩١

وحرّضوا غيرهم عليه.

وقيل : نزلت نهيا عن موالاة التسعة الّذين ارتدّوا ولحقوا بمكّة. والمعنى : لا تتّخذوهم أولياء يمنعونكم عن الإيمان ويصدّونكم عن الطاعة.

وقيل : نزلت في المهاجرين ، فإنّهم لمّا أمروا بالهجرة قالوا : إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ، وذهبت تجاراتنا ، وبقينا ضائعين.

وروي : أنّ من المهاجرين من تعلّقت به زوجته ، ومنهم من تعلّق به أبواه وأولاده ، فكانوا يمنعونهم من الهجرة ، فيتركونها لأجهلهم. فبهذه الآية بيّن سبحانه أنّ أمر الدين مقدّم على النسب ، وإذا وجب قطع قرابة الوالدين والولد فالأجنبيّ أولى. وبعد نزولها هاجروا ، فجعل الرجل يأتيه أبوه وابنه وأخوه أو بعض أقربائه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ، وبعد ذلك رخّص لهم في الإنفاق.

ثمّ قال تأكيدا لهذا النهي بقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) فترك طاعة الله لأجلهم ، أو اطّلعهم على أسرار المسلمين (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضعهم الموالاة في غير محلّها. وفي الحديث : «لا يجد أحد طعم الإيمان حتّى يحبّ في الله ويبغض في الله ، وحتّى يحبّ في الله أبعد الناس ، ويبغض في الله أقرب الناس إليه».

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) أقرباؤكم.

مأخوذ من العشرة. وقيل : من العشيرة ، فإنّ العشيرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة. وقرأ أبو بكر : عشيراتكم. (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) اكتسبتموها واقتطعتموها وجمعتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) تخافون أنّها تكسد إذا اشتغلتم بطاعة الله تعالى والجهاد (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) اخترتموها لأنفسكم ، ويعجبكم المقام فيها (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) من طاعتهما (وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) الحبّ الاختياري دون الطبيعي ، فإنّه لا يدخل تحت التكليف في التحفّظ عنه (فَتَرَبَّصُوا) فانتظروا (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) جواب الشرط متضمّن للوعيد. والأمر بمعنى العقوبة

٩٢

العاجلة أو الآجلة. وقيل : فتح مكّة. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لا يرشدهم ، بل يخلّيهم لعنادهم.

وفي الآية تشديد عظيم ، فإنّ فيها تكليف المؤمن أن يتجرّد من الآباء والأبناء والعشائر وجميع حظوظ الدنيا لأجل الدين ، وقلّ من يتخلّص منه. اللهمّ وفّقنا لما يوافق رضاك ، حتى نحبّ فيك الأبعدين ، ونبغض فيك الأقربين.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

ولمّا تقدّم أمر المؤمنين بالقتال ، ذكّرهم بعده ما أتاهم من النصرة حالا بعد حال ، فقال : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) يعني : مواطن الحرب ، وهي مواقعها ومواقفها. وروي عن الصادقين عليهم‌السلام أنّهم قالوا : أنّها كانت ثمانين موطنا.

وروي أنّ المتوكّل اشتكى في مرضه شكاية شديدة ، فنذر أن يتصدّق بمال كثير إن شفاه الله ، فلمّا عوفي سأل العلماء عن حدّ المال الكثير ، فاختلفت أقوالهم ، فأشير عليه أن يسأل أبا الحسن عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى عليه‌السلام ، وقد كان حبسه في داره ، فأمر أن يكتب إليه ، فكتب : يتصدّق بثمانين درهما. ثمّ سألوه عن العلّة في ذلك ، فقرأ هذه الآية ، وقال : عدّدنا تلك المواطن فبلغن ثمانين موطنا.

٩٣

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) وموطن يوم حنين. ويجوز أن يقدّر : في أيّام مواطن ، أو يفسّر الموطن بالوقت ، كمقتل الحسين عليه‌السلام. ولا يمنع إبدال قوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) من «يوم حنين» أن يعطف على موضع «في مواطن» فإنّه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف ، حتّى يقتضي كثرتهم وإعجابها إيّاهم في جميع المواطن.

وهذا قول القاضي في تفسيره (١) ، ردّ بذلك قول الزمخشري في الكشّاف حيث قال : «الواجب أن يكون «يوم حنين» منصوبا بفعل مضمر لا بهذا الظاهر ، وموجب ذلك أنّ قوله : «إذ أعجبتكم» بدل من «يوم حنين» فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصحّ ، لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ، ولم يكونوا كثيرا في جميعها ، فبقي أن يكون ناصبه فعلا خاصّا به ، إلّا إذا نصبت «إذ» بإضمار : اذكر» (٢).

وحنين واد بين مكّة والطائف ، كانت فيه الوقعة بين المسلمين ـ وهم اثنا عشر ألفا ، منهم عشرة آلاف حضروا فتح مكّة ، وقد انضمّ إليهم ألفان من الطلقاء ـ وبين هوازن وثقيف ، وهم أربعة آلاف.

فلمّا التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلّة. فساءت مقالته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : قائلها أبو بكر. وقد روي عن أصحابنا : أن أبا بكر عانهم ، وعليّا عليه‌السلام أعانهم. فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم المسلمون حتّى بلغ فلّهم (٣) مكّة ، وبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مركزه ، وبقي عليّ عليه‌السلام ومعه الراية يقاتلهم ، والعبّاس بن عبد المطّلب آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن يمينه ، وأبو سفيان بن الحارث بن

__________________

(١) أنوار التنزيل ٣ : ٦٤.

(٢) الكشّاف ٢ : ٢٥٩.

(٣) فلّ القوم : هزمهم ، ورجل فلّ وقوم فلّ : منهزم ومنهزمون.

٩٤

عبد المطّلب عن يساره في تسعة من بني هاشم ، وعاشرهم أيمن بن أمّ أيمن.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبّاس وكان صيّتا : صح بالناس. فنادى : يا معشر المهاجرين والأنصار ، يا أهل بيعة الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، إلى أين تفرّون؟ هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فكرّوا وهم يقولون : لبّيك لبّيك. ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق ، فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قتال المسلمين فقال : الآن حمي الوطيس (١).

أنا النبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب

ثمّ أخذ كفّا من تراب فرماهم به ، ثمّ قال : انهزموا وربّ الكعبة ، فانهزموا ونزل النصر من عند الله ، وانهزمت هوازن ، كما حكى الله تعالى ذلك بقوله : (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ) أي : الكثرة (شَيْئاً) من الإغناء ، أو من أمر العدوّ (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ). «ما» مصدريّة ، والباء بمعنى «مع» ، أي : مع رحبها ـ أي : سعتها ـ لا تجدون فيها مفرّا تطمئنّ إليه نفوسكم من شدّة الرعب ، أي : لا تثبتون فيها ، كمن لا يسعه مكانه ، فكأنّها ضاقت عليكم. والجارّ والمجرور في موضع الحال ، أي : ملتبسة برحبها (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ) الكفّار ظهوركم (مُدْبِرِينَ) منهزمين.

والإدبار الذهاب إلى خلف ، خلاف الإقبال.

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) رحمته الّتي سكنوا بها وآمنوا (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الّذين انهزموا. وإعادة الجارّ للتنبيه على اختلاف حاليهما. وقيل : هم الّذين ثبتوا مع الرسول ولم يفرّوا.

وروى الحسن بن عليّ بن فضّال عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «السكينة ريح من الجنّة تخرج منها طيّبة ، لها صورة كصورة وجه الإنسان ، تكون

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «الوطيس : التنّور ، مثل في شدّة الحرّ ، فجعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كناية عن شدّة الحرب. منه».

٩٥

مع الأنبياء». رواه العيّاشي (١) مسندا.

(وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) بأعينكم ، يعني : الملائكة. وكانوا خمسة آلاف ، أو ثمانية آلاف ، أو ستّة عشر ألفا ، على اختلاف الأقوال. عن الجبائي : أنّ الملائكة نزلوا يوم حنين بتقوية قلوب المؤمنين وتشجيعهم ، ولم يباشروا القتال يومئذ ، ولم يقاتلوا إلّا يوم بدر.

(وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر ، وسبي النساء والذراري ، وسلب الأموال (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي : ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا.

(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) منهم بالتوفيق للإسلام (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز عنهم ويتفضّل عليهم.

روي : أنّ ناسا منهم جاءوا فبايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإسلام ، وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّ الناس ، وقد سبي أهلونا وأولادنا ، وأخذت أموالنا ، وقد سبي يومئذ ستّة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى.

فقال : إنّ عندي ما ترون ، إنّ خير القول أصدقه ، اختاروا إمّا ذراريكم ونساءكم وإمّا أموالكم.

فقالوا : ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّ هؤلاء جاءوا مسلمين ، وإنّا خيّرناهم بين الذراري والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يردّه فشأنه ، ومن لا فليعطنا ، وليكن قرضا علينا حتّى نصيب شيئا فنعطيه مكانه.

فقالوا : رضينا وسلّمنا.

فقال : إنّي لا أدري لعلّ فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٨٤ ح ٣٩.

٩٦

إلينا. فرفعت إليه العرفاء أنّهم قد رضوا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

ولمّا تقدّم النهي عن ولاية المشركين ، أزال سبحانه ولايتهم عن المسجد الحرام ، وحظر عليهم دخوله ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) مصدر ، يقال نجس نجسا ، وقذر قذرا. ومعناه : ذووا نجس. فجعلوا نجاسة بعينها مبالغة في وصفهم ـ لفرط خبث باطنهم وظاهرهم ـ بها ، كقولهم : زيد فسق ، فإنّ معهم الشرك الّذي هو رأس النجاسات الّتي يجب الاجتناب عنها ، فالاجتناب عنه بطريق أولى ، ولأنّهم لا يجتنبون الأحداث والأخباث.

وعن ابن عبّاس : أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن : من صافح مشركا توضّأ. وعن الصادقين عليهما‌السلام : من صافح الكافر ويده رطبة غسل يده.

وبه قال فقهاؤنا ، فإنّ الكفّار بأنواعهم كافر نجس العين ، وظاهر الآية يدلّ على ذلك ، وبه أيضا روايات متظافرة مرويّة عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

(فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) لنجاستهم. وإنّما نهى عن الاقتراب للمبالغة ، أو للمنع عن دخول الحرم ، فلا يحجّوا ولا يعتمروا ، كما كانوا يفعلون في الجاهليّة (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وهو سنة براءة الّتي نادى فيها عليّ عليه‌السلام بالبراءة ، وقال : لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك ، وهو عام تسع من الهجرة. وقيل : سنة حجّة الوداع. وعندنا أنّهم كما منعوا من المسجد الحرام منعوا من جميع المساجد ، لاشتراك العلّة ، وهي النجاسة.

٩٧

وقال قتادة : سمّاهم نجسا لأنّهم يجنبون ولا يغتسلون ، ويحدثون ولا يتوضّئون ، ولم يجتنبوا عن أنواع النجاسات ، فمنعوا من دخول المسجد ، كما أنّ الجنب وصاحب النجاسات لا يجوز لهم دخول المسجد.

وروي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كتب : امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه قول الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) الآية ، للعلّة المشتركة.

(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) فقرا بسبب منع المشركين من الحرم ، وانقطاع ما كان لكم في قدومهم عليكم من الارفاق والمكاسب (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من عطائه ، أو تفضّله على وجه آخر. وقد أنجز الله وعده ، بأن أرسل السماء عليهم مدرارا أكثر به خيرهم ، ووفّق أهل جدّة وصنعاء وتبالة (١) وجرش فأسلموا وامتاروا (٢) لهم. ثمّ فتح عليهم البلاد والغنائم ، وتوجّه إليهم الناس من أقطار الأرض ، فحملوا الطعام إلى مكّة ، وكان ذلك أعود عليهم (إِنْ شاءَ) إن أوجبت الحكمة إغناءكم ، وكان مصلحة لكم في دينكم.

وفي الأنوار : «قيّده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى الله ، ولينبّه على أنّه متفضّل في ذلك ، وأنّ الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض ، وفي عام دون عام» (٣).

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم (حَكِيمٌ) فيما يعطي ويمنع على وفق الحكمة والمصلحة.

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «التبالة ـ بفتح التاء ، وتخفيف الباء الموحّدة ـ بلدة صغيرة في اليمن. والجرش ـ بضمّ الجيم ، وفتح الراء ـ مخلاف من مخاليف اليمن. منه». والمخلاف : الكورة من البلاد ـ وهي : البقعة التي تجتمع فيها المساكن والقرى.

(٢) امتار أي : جمع الطعام والمئونة. والميرة : الطعام الذي يدّخره الإنسان.

(٣) أنوار التنزيل ٣ : ٦٥.

٩٨

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

وعن ابن عبّاس : أنّ الشيطان ألقى في قلوبهم الخوف وقال : من أين تأكلون؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب ، وأغناهم بالجزية. ثم بيّن أنّ من الكفّار من يجوز تبقيته بالجزية ، فقال : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي : لا يؤمنون بهما على ما ينبغي ، كما بيّنّاه في أوائل (١) سورة البقرة ، فإنّ إيمانهم كلا إيمان ، ولأنّ اليهود مثنّية والنصارى مثلّثة.

(وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنّة.

وقيل : رسوله هو الّذي يزعمون اتّباعه. والمعنى : أنّهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا.

(وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) الثابت الّذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها.

فالمعنى : ولا يعتقدون دين الإسلام الّذي هو الحقّ. يقال : فلان يدين بكذا إذا اتّخذه دينه ومعتقده.

وقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان لـ «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) ما تقرّر عليهم أن يعطوه. مشتقّ من : جزى دينه إذا قضاه ، فإنّها قطعة من المال على أهل الذمّة أن يجزوه ، أي : يقضوه (عَنْ يَدٍ) حال من الضمير ، أي : عن يد مواتية غير ممتنعة ، بمعنى : منقادين. أو عن يدهم ، بمعنى : مسلّمين بأيديهم غير

__________________

(١) راجع ج ١ : ٥٩.

٩٩

باعثين بأيدي غيرهم ، ولذلك منع من التوكيل فيه. أو عن غنى ، ولذلك قيل : لا تؤخذ من الفقير. أو عن يد قاهرة عليهم ، بمعنى : أذلّاء عاجزين. أو حال من الجزية ، بمعنى : نقدا مسلّمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم ، فإنّ إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة.

(وَهُمْ صاغِرُونَ) أذلّاء. وهو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب ، ويسلّمها وهو قائم والآخذ جالس ، وأن يؤخذ بتلبيبه (١) ويقال له : أدّها. وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : تؤخذ الجزية من الذمّي وتوجأ (٢) عنقه.

ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب. ويؤيّده أنّ عمر لم يكن يأخذ الجزية من المجوس ، حتّى شهد عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذها من مجوس هجر ، وأنّه قال : سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ، وذلك لأنّ لهم شبهة كتاب ، فالحقوا بالكتابيّين. وهذا موافق لمذهب فقهائنا الاماميّة.

وأمّا سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا وعند الشافعي. وأمّا عند الحنفيّة فتؤخذ منهم إلّا من مشركي العرب. وعند مالك تؤخذ من كلّ كافر إلّا المرتدّ. وبيان كميّة الجزية وسائر ما يتعلّق بها من كيفيّة الأخذ وغيرها مذكور في كتب الفقه.

__________________

(١) لبّبت الرجل تلبيبا ، إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة ثم جررته.

(٢) أي : تضرب باليد أو غيرها.

١٠٠