زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

المؤمنون ، فهو خير ممّا تجمعونه أيّها المخاطبون.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠))

ثمّ أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطب كفّار مكّة ، فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) جعل الرزق منزلا لأنّه مقدّر في السماء ، محصّل بأسباب منها. و «ما» في موضع النصب بـ «أنزل» أو بـ «أرأيتم» ، فإنّه بمعنى : أخبروني. و «لكم» دلّ على أنّ الرزق لا يكون إلّا حلالا ، ولذا وبّخ على التبعيض فقال : (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) مثل : (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) (١) (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) (٢) وكالسائبة والبحيرة والوصيلة والحام ونحوها.

(قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) في التحريم والتحليل ، فتقولون ذلك بحكمه (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) في نسبة ذلك إليه؟! ويجوز أن تكون المنفصلة متّصلة بـ «أرأيتم» ، و «قل» تكرير للتأكيد ، وأن يكون الاستفهام للإنكار و «أم» منقطعة. ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله تعالى.

وكفى بهذه الآية زاجرة زجرا بليغا عن التجوّز فيما يسأل عنه من الأحكام ، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه ، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز

__________________

(١ ، ٢) الأنعام : ١٣٨ ـ ١٣٩.

٢٢١

إلّا بعد إيقان وإتقان ، ومن لم يوقن فليتّق الله وليصمت ، وإلّا فهو مفتر على الله.

(وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أيّ شيء ظنّهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : أيحسبون أنّهم لا يجازون عليه يوم الجزاء؟ وهو منصوب بالظنّ. وفي إبهام الوعيد تهديد عظيم.

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث أنعم عليهم بالعقل ، وهداهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعم الجليلة.

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إمهاله إيّاهم ليس لجهل بحالهم ، فقال : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي : لا تكون يا محمّد في أمر من أمور الدين وحال من أحواله ، من تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة وغير ذلك. وأصله الهمزة ، من : شأنت شأنه إذا قصدت قصده. والضمير في قوله : (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) للشأن ، لأنّ تلاوة القرآن معظم شأن الرسول ، أو لأنّ القرآن يكون لشأن ، فيكون التقدير : من أجله. ومفعول «تتلو» : (مِنْ قُرْآنٍ) على أنّ «من» تبعيضيّة ، أو مزيدة لتأكيد النفي. أو للقرآن ، وإضماره قبل الذكر ثمّ بيانه تفخيم له. أو لله تعالى.

(وَلا تَعْمَلُونَ) أنتم جميعا (مِنْ عَمَلٍ) تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم ، ولذلك ذكر حيث خصّ ما فيه فخامة ، وذكر حيث عمّ ما يتناول الجليل

٢٢٢

والحقير (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) شاهدين مطّلعين عليه (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) تخوضون فيه وتندفعون ، من : أفاض في العمل إذا اندفع فيه.

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) ولا يبعد عنه ، ولا يغيب عن علمه. وقرأ الكسائي بكسر الزاي هنا وفي سبأ (١). (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) في موضع الرفع ، و «من» زائدة.

والذرّة ما يوازن نملة صغيرة أو هباء. (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي : في الوجود والإمكان ، فإنّ العامّة لا تعرف ممكنا غيرهما ليس فيهما ولا متعلّقا بهما. وتقديم الأرض لأنّ الكلام في شؤون أهلها وأحوالهم وأعمالهم. والمقصود منه هو البرهان على إحاطة علمه بها. (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كلام برأسه مقرّر لما قبله. و «لا» نافية ، و «أصغر» اسمها ، و «في كتاب» خبرها.

وقرأ حمزة ويعقوب بالرفع على الابتداء والخبر. ومن عطف على لفظ «مثقال ذرّة» وجعل الفتح بدل الكسر ، لامتناع الصرف ، أو على محلّه مع الجارّ ، جعل الاستثناء منقطعا. والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ.

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥))

ولمّا ذكر أنّه يحصي أعمال خلقه بشّر من تولّاه وذكر ما أعدّ لهم ، فقال :

__________________

(١) سبأ : ٣.

٢٢٣

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) الّذين يتولّونه بالطاعة ، ويتولّاهم بالكرامة.

وعن ابن عبّاس وسعيد بن جبير : هم قوم ذكر هم الله بما هم عليه من سيماء الخير والإخبات. وقيل : هم المتحابّون في الله. ذكر ذلك في خبر مرفوع.

وعن عليّ بن الحسين عليه‌السلام : أنّهم الّذين أدّوا فرائض الله ، وأخذوا بسنن رسول الله ، وتورّعوا عن محارم الله ، وزهدوا في عاجل هذه الدنيا ، ورغبوا فيما عند الله ، واكتسبوا الطيّب من رزق الله لمعايشهم ، لا يريدون به التفاخر والتكاثر ، ثمّ أنفقوه فيما يلزمهم من حقوق واجبة ، فأولئك الّذين يبارك الله لهم فيما اكتسبوا ، ويثابون على ما قدّموا لآخرتهم.

(لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من لحوق مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوات مأمول.

وعن ابن زيد : أولياء الله هم الّذين قال الله تعالى في شأنهم : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ). فالآية الأولى مجملة ، وهذه مفسّرة لها.

(لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو ما بشّر به المتّقين في كتابه وعلى لسان نبيّه ، وما يريهم من الرؤيا الصالحة ، وما يسنح لهم من المكاشفات ، وبشرى الملائكة لهم عند النزع بأن لا تخافوا ولا تحزنوا (وَفِي الْآخِرَةِ) بتلقّي الملائكة إيّاهم مسلمين مبشّرين بالفوز والكرامة. وقيل : (الَّذِينَ آمَنُوا) بيان لتولّيهم لربّهم ، وهذه الآية بيان لتولّيه لهم.

وروى عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «يا عقبة لا يقبل الله من العباد يوم القيامة إلّا هذا الدين الّذي أنتم عليه ، وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينه إلّا أن يبلغ نفسه إلى هذه ، وأومأ بيده إلى الوريد ، ثمّ قال : إنّ هذا في كتاب الله ، وقرأ : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)».

ومحلّ «الّذين آمنوا» النصب أو الرفع على المدح ، أو على وصف الأولياء ، أو على الابتداء ، وخبره «لهم البشرى».

(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لا تغيير لأقواله ، ولا إخلاف لمواعيده (ذلِكَ) إشارة

٢٢٤

إلى كونهم مبشّرين في الدارين (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذه الجملة والّتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشّر به وتعظيم شأنه ، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتّصل بما قبله.

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) إشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم وتدبيرهم في إبطال أمرك ، وسائر ما يتكلّمون في شأنك. وقرأ نافع : يحزنك ، من : أحزنه. وكلاهما بمعنى. (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) استئناف بمعنى التعليل ، كأنّه قيل : لا تحزن بقولهم ولا تبال بهم ، لأنّ الغلبة والقهر جميعا لله وفي ملكه ، لا يملك غيره شيئا منها ، فهو يقهرهم وينصرك عليهم (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بعزماتهم ، فيكافئهم عليها.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦))

ولمّا سلّى الله سبحانه نبيّه بقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) فإنّهم لا يفوتونني ، بيّن بعد ذلك ما يدلّ على صحّته ، فقال : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) يعني : العقلاء والثقلين. وإذا كان العقلاء عبيده وفي مملكته ، ولا يصلح أحد منهم للإلهيّة ، فما وراءهم ممّا لا يعقل ولا يميّز أحقّ أن لا يكون له ندّا ولا شريكا ، فمن اتّخذ غيره ربّا من ملك أو إنسيّ أو جنّيّ فضلا عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر.

(وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي شركاء على الحقيقة ، وإن كانوا يسمّونها شركاء. ويجوز أن يكون «شركاء» مفعول «يدعون» ، ومفعول «يتّبع» محذوف دلّ عليه (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي : ما يتّبعون يقينا ، وإنّما يتّبعون ظنّهم أنّها شركاء. ويجوز أن تكون «ما» استفهاميّة منصوبة بـ «يتّبع» ، أي : أيّ شيء

٢٢٥

يتّبعون ، وموصولة معطوفة على «من» ، أي : ألا أنّ لله الّذي يتّبعون من الأصنام.

(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون فيما ينسبون إلى الله تعالى ، أو يحزرون ويقدّرون أنّها شركاء تقديرا باطلا.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))

ثمّ نبّه على عظيم نعمه وكمال قدرته المتوحّد هو بهما ، ليدلّهم على تفرّده باستحقاق العبادة ، فقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ممّا تقاسون في نهاركم من تعب التردّد في المعاش (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي : مضيئا تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم ، وتهتدون بها. وإنّما قال : «مبصرا» ولم يقل : لتبصروا فيه ، تفرقة بين الظرف المجرّد عن السبب والظرف الّذي هو سبب. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تدبّر واعتبار.

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

ثمّ حكى الله سبحانه عن صنف من الكفّار بأنّهم أضافوا إليه اتّخاذ الولد ، وهم طائفتان : إحداهما : كفّار قريش والعرب ، فإنّهم قالوا : الملائكة بنات الله ،

٢٢٦

والأخرى : النصارى الّذين قالوا : المسيح ابن الله ، فقال : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي : تبنّاه (سُبْحانَهُ) تنزيه له عن التبنّي ، فإنّه لا يصحّ إلّا ممّن يتصوّر له الولد ، وتعجّب من كلمتهم الحمقاء.

ثمّ علّل لتنزيهه عن الولد بقوله : (هُوَ الْغَنِيُ) فإنّ اتّخاذ الولد مسبّب عن الحاجة الّتي تنزّه الله سبحانه عنها ، لأنّه الغنيّ بالذات مستغن عن جميع الممكنات (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لغناه (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) ما عندكم من حجّة بهذا القول. والباء متعلّق بـ «سلطان» ، أو بقوله : «إن عندكم» على أن يجعل القول مكانا للسلطان ، كقولك : ما عندكم بأرضكم موز ، كأنّه قيل : إن عندكم فيما تقولون سلطان. وهذا نفي لمعارض ما أقامه من البرهان ، مبالغة في تجهيلهم ، وتحقيقا لبطلان قولهم.

ثمّ وبّخ وقرّع على اختلافهم وجهلهم ، فقال : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). وفيه دليل على أنّ كلّ قول لا دليل عليه فهو جهالة ، وأنّ العقائد لا بدّ لها من دليل قاطع ، وأنّ التقليد فيها غير جائز.

(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) باتّخاذ الولد وإضافة الشريك إليه (لا يُفْلِحُونَ) لا ينجون من النار ، ولا يفوزون بالجنّة.

(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) خبر مبتدأ محذوف ، أي : افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رئاستهم في الكفر ، أو حياتهم أو تقلّبهم عن الحقّ متاع. أو مبتدأ خبره محذوف ، أي : لهم تمتّع في الدنيا. (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) بالموت فيلقون الشقاء المؤبّد بعده (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ

٢٢٧

أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤))

ثمّ أمر الله سبحانه نبيّه أن يقرأ عليهم أخبار نوح وقومه ليعتبروا من حالهم ويدعوا الشرك ، فقال : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) خبره مع قومه (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ) عظم وشقّ عليكم (مَقامِي) أي : نفسي ، تسمية للشيء باسم لازمه ، فإنّ المقام لازم للنفس ولا ينفكّ منه ، كقولهم : فعلت كذا لمكان فلان ، أي : لنفسه. أو يكون مصدرا ميميّا ، ومعناه : كوني وإقامتي بينكم مدّة مديدة ، أو قيامي على القدمين بالدعوة ، فإنّهم كانوا إذا وعظوا قاموا على أرجلهم ليكون كلامهم مسموعا. (وَتَذْكِيرِي) إيّاكم (بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) وثقت به واعتمدت.

(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) فاعزموا عليه ، من : أجمع الأمر وأزمعه إذا نواه وعزم عليه (وَشُرَكاءَكُمْ) أي : مع شركائكم ، أي : احتشدوا كلّكم فيما تريدون من إهلاكي ، وابذلوا وسعكم فيه. وهذا على وجه التهكّم ، كقوله : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ

٢٢٨

ثُمَّ كِيدُونِ) (١). وقيل : إنّه معطوف على «أمركم» بحذف المضاف ، أي : وأمر شركائكم. وقيل : إنّه منصوب بفعل محذوف ، تقديره : وادعوا شركاءكم. وعن نافع : فاجمعوا من الجمع. والمعنى : أمرهم بالعزم أو الاجتماع على قصده ، والسعي في إهلاكه على أيّ وجه يمكنهم.

(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) قصدكم إلى إهلاكي (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) مستورا ، واجعلوه ظاهرا مكشوفا ، من : غمّه إذا ستره. وفي الحديث : «لا غمّة في الفرائض». وإنّما قال ذلك إظهارا لقلّة مبالاته ، وثقته بما وعده ربّه من كلاءته وعصمته إيّاه ، وأنّهم لن يجدوا إليه سبيلا. أو المعنى : ثمّ لا يكن حالكم عليكم غمّا وهمّا إذا أهلكتموني ، وتخلّصتم من ثقل مقامي وتذكيري. (ثُمَّ اقْضُوا) أدّوا (إِلَيَ) ذلك الأمر الّذي تريدون بي (وَلا تُنْظِرُونِ) ولا تمهلوني.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي ، وعن اتّباع الحقّ (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) يوجب تولّيكم لثقله عليكم ، واتّهامكم إيّاي لأجله (إِنْ أَجْرِيَ) ما ثوابي في الآخرة على الدعوة والتذكير (إِلَّا عَلَى اللهِ) لا تعلّق له بكم ، يثيبني به آمنتم أو تولّيتم. والمعنى : ما نصحتكم إلّا لوجه الله لا لغرض من أغراض الدنيا.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المستسلمين المنقادين لحكمه ، لا أخالف أمره ولا أرجو غيره.

(فَكَذَّبُوهُ) فأصرّوا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجّة ، وبيّن أنّ تولّيهم ليس إلّا لعنادهم وتمرّدهم ، لا جرم حقّت عليهم كلمة العذاب (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ) من الغرق (فِي الْفُلْكِ) في السفينة ، وكانوا ثمانين (وَجَعَلْناهُمْ) وجعلنا الّذين نجوا مع نوح (خَلائِفَ) خلفا لمن هلك بالغرق (وَأَغْرَقْنَا) بالطوفان (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ) أيّها السامع (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ). هذا تعظيم لما جرى

__________________

(١) الأعراف : ١٩٥.

٢٢٩

عليهم ، وتحذير لمن كذّب الرسول ، وتسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(ثُمَّ بَعَثْنا) أرسلنا (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد نوح (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) يعني : هودا وصالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا ، كلّ رسول إلى قومه (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الواضحة ، والحجج المبيّنة ، المثبتة لدعواهم (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) فما استقام لهم أن يؤمنوا ، لشدّة شكيمتهم في الكفر ، وتصميمهم على العناد والمكابرة ، كما قال : (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي : بسبب تعوّدهم تكذيب الحقّ ، وتمرّنهم عليه قبل بعثة الرسل إليهم. يعني : لم يكن بين حالتيهم فرق قبل البعثة وبعدها.

(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الطبع والخذلان والتخلية (نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي نخذلهم ونسدّ عليهم أبواب التوفيق وأسباب اللطف ، لانهماكهم في الضلال ، وتوغّلهم في اتّباع الغيّ والعناد واللجاج. أو نجعل على قلوبهم سمة وعلامة على كفرهم ليعرفهم بها الملائكة فيلعنوهم. وباقي وجوه المعاني في الطبع قد مرّ (١) في أوائل سورة البقرة.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا

__________________

(١) راجع ج ١ : ٥٤.

٢٣٠

وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦))

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد هؤلاء الرسل (مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) رؤساء قومه وأهل مجلسه (بِآياتِنا) بالآيات التسع (فَاسْتَكْبَرُوا) عن اتّباعهما بعد تبيّنها لهم (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) معتادين الإجرام ، فلذلك تهاونوا برسالة ربّهم ، واجترءوا على ردّها.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) وعرفوه بتظاهر الآيات الواضحة ، وتتابع المعجزات القاهرة المزيحة للريب والشكّ (قالُوا) من فرط تمرّدهم (إِنَّ هذا

٢٣١

لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر أنّه سحر ، أو فائق فيه ، واضح فيما بين إخوانه.

(قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِ) للمعجز الثابت (لَمَّا جاءَكُمْ) إنّه لسحر ، فحذف المحكيّ المقول لدلالة ما قبله عليه. ولا يجوز أن يكون (أَسِحْرٌ هذا) ، لأنّهم جزموا القول ، بل هو استئناف بإنكار ما قالوه من عيبه والطعن عليه. اللهمّ إلّا أن يكون الاستفهام فيه للتقرير والمحكيّ مفهوم قولهم. ويجوز أن يكون معنى «أتقولون» : أتعيبونه وتطعنون فيه؟ من قولهم : فلان يخاف القالة ، أي : العيب ، كقوله تعالى : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) (١) ، فيستغنى عن المفعول.

(وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) من تمام كلام موسى عليه‌السلام ، للدلالة على أنّه ليس بسحر ، فإنّه لو كان سحرا لاضمحلّ ولم يبطل سحر السحرة ، ولأنّ العالم بأنّه لا يفلح الساحر لا يسحر. ويجوز أن يكون قوله : (أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) حكاية من تمام قولهم ، كأنّهم قالوا : أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح الساحرون ، كما قال موسى للسحرة : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ).

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) لتصرفنا. واللّفت والفتل أخوان ، ومطاوعهما الالتفات والانفتال. (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) أي : الملك فيها. سمّي بها لأنّ الملوك موصوفون بالكبر أو التكبّر على الناس فيها باستتباعهم. (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) بمصدّقين فيما جئتما به.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ) وقرأ حمزة والكسائي : بكلّ سحّار (عَلِيمٍ) حاذق فيه.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم

__________________

(١) الأنبياء : ٦٠.

٢٣٢

وعصيّهم المجوّفة المملوءة بالزئبق ، كما وقع في سورة طه (١) (قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي : الّذي جئتم به هو السحر ، لا الّذي سمّيتموه سحرا من المعجزات الباهرة.

وقرأ أبو عمرو : السحر ، على أنّ «ما» استفهاميّة مرفوعة بالابتداء ، و «جئتم به» خبرها ، و «السحر» بدل منه. أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : أهو السحر؟ أو مبتدأ خبره محذوف ، أي : السحر هو؟ ويجوز أن ينتصب «ما» بفعل يفسّره ما بعده ، تقديره : أيّ شيء جئتم به أهو السحر؟

(إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) سيمحقه ويدمّر عليه ، أو سيظهر بطلانه (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يثبته ولا يقوّيه. وفيه دليل على أنّ السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له.

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) ويثبته (بِكَلِماتِهِ) بأوامره وقضاياه ، ومواعيده بالنصر (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ذلك.

(فَما آمَنَ لِمُوسى) فما صدّقه في مبدأ أمره (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) إلّا طائفة من ذراري بني إسرائيل ، وذلك أنّ موسى عليه‌السلام دعا الآباء فلم يجيبوه إلّا طائفة من شبّانهم. وقيل : الضمير لفرعون ، والذرّية : مؤمن آل فرعون ، وامرأته آسية ، وخازنه ، وزوجة خازنه ، وماشطته.

(عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) أي : مع خوف منهم. والضمير لفرعون.

وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء ، أو المراد بفرعون آله ، كما يقال : ربيعة ومضر. أو للذريّة أو للقوم ، أي : على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل ، لأنّهم كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم. (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي : يعذّبهم فرعون. وهو بدل منه ، أو مفعول «خوف». وإفراده بالضمير

__________________

(١) طه : ٦٦.

٢٣٣

للدلالة على أنّ الخوف من الملأ كان بسببه.

(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) لغالب فيها (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في الكبر والعتوّ والظلم والفساد ، حتّى ادّعى الربوبيّة واسترقّ أسباط الأنبياء.

(وَقالَ مُوسى) لمّا رأى تخوّف المؤمنين به (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) صدّقتم به وبآياته (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) اسندوا أمركم في العصمة من فرعون واعتمدوا عليه (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) مستسلمين منقادين لقضاء الله تعالى ، مخلصين له العبادة ، بحيث لا حظّ للشيطان فيها أصلا ورأسا. وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين ، فإنّ المعلّق بالايمان وجوب التوكّل ، فإنّه المقتضي له ، والمشروط بالإسلام حصول التوكّل ، فإنّه لا يوجد مع التخليط. ونظيره : إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت ، وإن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوّة.

(فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) لأنّهم كانوا مؤمنين مخلصين ، ولذلك أجيبت دعوتهم ، فنجّاهم من فرعون وقومه ، وجعلهم خلفاء في أرضه. فمن أراد أن يصلح للتوكّل على ربّه والتفويض إليه ، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص.

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) موضع فتنة (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : لا تسلّطهم علينا تخلية فيفتنونا عن ديننا أو يعذّبونا.

(وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) من كيد فرعون وقومه ، ومن شؤم مشاهدتهم واستعبادهم إيّانا. وفي تقديم التوكّل على الدعاء تنبيه على أنّ الداعي ينبغي أن يتوكّل أوّلا لتجاب دعوته.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ

٢٣٤

آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا) أي : اتّخذا مباءة ومرجعا ، كقولك :

توطّنه ، إذا اتّخذه وطنا (لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) تسكنون فيها ، أو ترجعون إليها للعبادة (وَاجْعَلُوا) أنتما وقومكما (بُيُوتَكُمْ) تلك البيوت (قِبْلَةً) مصلّى. وقيل : مساجد متوجّهة نحو القبلة ، لما روي أنّه دخل موسى مصر بعد ما أهلك الله فرعون ، أمروا باتّخاذ مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى ، وأن يجعلوا مساجدهم نحو القبلة ، يعني : الكعبة ، وكان موسى ومن معه يصلّون إلى الكعبة. وقيل : معناه. اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيها ، وداوموا على فعلها في البيوت.

وعن ابن عبّاس : إنّ فرعون أمر بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة ، فأمروا أن يتّخذوا مساجد في بيوتهم يصلّون فيها خوفا من فرعون ، وذلك قوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي : صلّوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف. وهذا القول أنسب لسوق كلام ما قبله وما بعده.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرة في الدنيا والجنّة في العقبى. ثنّى الضمير أوّلا لأنّ التبوّء للقوم واتّخاذ المعابد ممّا يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور. ثم جمع لأنّ جعل البيوت مساجد والصلاة فيها ممّا ينبغي أن يفعله كلّ أحد. ثمّ وحّد لأنّ

٢٣٥

البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشريعة.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) ما يتزيّن به من اللباس والمراكب ونحوهما (وَأَمْوالاً) وأنواعا من المال (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) دعاء عليهم بلفظ الأمر حين لم يبق له طمع في إيمانهم ، فاشتدّ غضبه عليهم لمّا علم من ممارسة أحوالهم أنّه لا يكون غير الضلال ، فدعا عليهم بما علم أنّه لا يكون غيره ، ليشهد عليهم أنّهم لا يستحقّون إلّا الخذلان ، وأن يخلّي بينهم وبين ضلالهم.

وقيل : اللام للعاقبة ، وهي متعلّقة بـ «آتيت». وقيل : للتعليل ، على أنّهم جعلوا نعمة الله سببا في الضلال ، فكأنّهم أعطوها ليضلّوا.

ويؤيّد الأوّل قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) أهلكها. والطمس : المحق.

قيل : المراد بالطمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها. قال مجاهد وقتادة وعامّة أهل التفسير : صارت جميع أموالهم بعد ذلك الدعاء حجارة ، حتّى السكّر والفانيذ (١).

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : واقسها واطبع عليها على وجه الخذلان حتّى لا تنشرح للايمان (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) جواب للدعاء ، أو دعاء عليهم بلفظ النهي ، أو عطف على «ليضلّوا» وما بينهما دعاء معترض. وقرأ الكوفيّون : ليضلّوا من الضلال. وفائدة هذا الدعاء إظهار التبرّي منهم.

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) يعني : موسى وهارون ، لأنّه كان يؤمّن فسمّاهما داعيين (فَاسْتَقِيما) فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجّة ، فقد لبث نوح في قومه ألف عام إلّا قليلا ، ولا تستعجلا ، فإنّ ما طلبتماه كائن ولكن في وقته.

روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّه مكث فرعون فيهم بعد

__________________

(١) الفانيذ : ضرب من الحلواء ، فارسيّ معرّب.

٢٣٦

الدعاء أربعين سنة».

(وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) طريق الجهلة في الاستعجال ، فإنّ العجلة ليست بمصلحة. وهذا كما قال لنوح : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (١) أو في عدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله تعالى.

وعن ابن عامر برواية ابن ذكوان : ولا تتّبعان بالنون الخفيفة وكسرها ، لالتقاء الساكنين ، تشبيها بنون التثنية. ولا تتبعانّ من : تبع. ولا تتبعان أيضا.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) أي : جوّزناهم في البحر ، بأن يبّسنا لهم البحر ، وفرقنا لهم اثني عشر فرقة حتّى بلغوا الشطّ حافظين لهم (فَأَتْبَعَهُمْ) فأدركهم. يقال : تبعته حتّى أتبعته. (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) باغين وعادين ، أو للبغي والعدو.

روي أنّ الله سبحانه لمّا أجاب دعاء موسى أمره بإخراج بني إسرائيل من

__________________

(١) هود : ٤٦.

٢٣٧

مصر ليلا ، فخرج معهم ، وتبعهم فرعون وجنوده مشرقين حتّى انتهوا إلى البحر ، وأمر الله سبحانه موسى عليه‌السلام فضرب البحر بعصاه فانفلق اثني عشر فرقا ، وصار لكلّ سبط طريق يابس ، وارتفع الماء بين كلّ طريقين كالجبل ، وصار في الماء شبه الخروق ، فجعل بعضهم ينظر إلى بعض. فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر فرأوا البحر بتلك الهيئة فهابوا دخول البحر ، وكان فرعون على حصان أدهم (١) ، فجاء جبرئيل على فرس وديق (٢) ، وخاض البحر وميكائيل يسوقهم ، فلمّا شمّ أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل انسلّ (٣) خلفه في الماء ، واقتحمت الخيول خلفه ، فلمّا دخل آخرهم البحر وهمّ أوّلهم أن يخرج انطبق الماء عليهم.

(حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ) لحقه (الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) أي : بأنّه (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ). وقرأ حمزة والكسائي : إنّه بالكسر ، على إضمار القول ، أو الاستئناف بدلا وتفسيرا لـ «آمنت».

والمعنى : نكث فرعون عن الإيمان أوان القبول ، وبالغ فيه حين لا يقبل ، بأن كرّر المعنى الواحد ثلاث مرّات في ثلاث عبارات حرصا على القبول ، فلم يقبل منه حيث أخطأ وقته ، وقاله حين لم يبق له اختيار قطّ ، وكانت المرّة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف. ويحكى أنّه حين قال : آمنت بالله وحده ، أخذ جبرئيل من رمل البحر فدسّه في فيه ، وقال : (آلْآنَ) أتؤمن الآن وقد أيست من نفسك ، ولم يبق لك اختيار؟! (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) قبل ذلك مدّة عمرك (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) الضالّين المضلّين عن الإيمان.

روي أنّ جبرئيل أتاه على صورة مستفت حال جلوسه على سرير السلطنة ،

__________________

(١) أي : يضرب لونه إلى السواد. والدهمة : السواد.

(٢) ودقت ذات الحافر : أرادت الفحل ، فهي وديق.

(٣) أي : خرج.

٢٣٨

وقال : ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته في حقّه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه : يقول أبو العبّاس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيّده الكافر نعماءه أن يغرّق في البحر. فلمّا ألجمه (١) الغرق ناوله جبرئيل خطّه فعرفه ثمّ غرق.

وروى عليّ بن إبراهيم بن هاشم بإسناده عن الصادق عليه‌السلام قال : ما أتى جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا كئيبا حزينا ، ولم يزل كذلك منذ أهلك الله فرعون ، فلمّا أمره الله سبحانه بنزول هذه الآية نزل وهو ضاحك مستبشر ، فقال : حبيبي جبرئيل ما أتيتني إلّا وتبيّنت الحزن في وجهك حتّى الساعة. قال : نعم يا محمّد لمّا أغرق الله فرعون قال : آمنت أنّه لا إله إلّا الّذي آمنت به بنو إسرائيل ، فأخذت حمأة فوضعتها في فيه ، فقلت : الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ، ثمّ خفت أن تلحقه الرحمة من عند الله ويعذّبني على ما فعلت ، فلمّا كان الآن وأمرني أن أودّي إليك ما قلته أنا لفرعون أمنت وعلمت أنّ ذلك كان لله رضا.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) ننقذك ممّا وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ، أو نلقيك على نجوة من الأرض ـ وهي المكان المرتفع ـ ليراك بنو إسرائيل. وقرأ يعقوب : ننجيك ، من : أنجى. (بِبَدَنِكَ) في موضع الحال ، أي : في الحال الّتي لا روح فيك ، يعني : عاريا عن الروح ، وإنّما أنت بدن فقط. أو كاملا سويّا ، لم ننقص منه شيئا ولم يتغيّر. أو عريانا من غير لباس. أو بدرعك ، وكانت له درع من ذهب يعرف بها.

(لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) لمن وراءك علامة. وهم بنو إسرائيل ، إذ كان في أنفسهم أنّ فرعون أجلّ شأنا من أن يغرق ، حتّى كذّبوا موسى عليه‌السلام حين أخبرهم بغرقه ، فألقاه الله على الساحل حتّى عاينوه مطروحا على ممرّهم من الساحل. أو

__________________

(١) ألجم الماء فلانا : بلغ فاه.

٢٣٩

لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ، عبرة ونكالا عن الطغيان ، فلا يجترأ على نحو ما اجترأت عليه. أو حجّة تدلّهم على أنّ الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظانّ الربوبيّة ، فما الظنّ بغيره؟! (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) لا يتفكّرون فيها ، ولا يعتبرون بها.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

ثمّ بيّن سبحانه حال بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون ، فقال : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا) أنزلنا (بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) منزلا صالحا مرضيّا. وهو الشام ومصر.

(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من اللذائذ (فَمَا اخْتَلَفُوا) في أمر دينهم ، وما تشعّبوا فيه شعبا (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) إلّا من بعد ما قرءوا التوراة وعلموا أحكامها. أو في أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيميز المحقّ من المبطل بالإنجاء والإهلاك.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ

٢٤٠