زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

لاوي. (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) عهدا وثيقا. وإنّما جعل حلفهم بالله موثقا منه ، لأنّه بإذن منه وتأكيد من جهته. (وَمِنْ قَبْلُ) ومن قبل هذا (ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) قصّرتم في شأنه.

و «ما» مزيدة. ويجوز أن تكون مصدرا ، على أنّ محلّ المصدر الرفع على الابتداء ، وخبره الظرف ، وهو «من قبل». ومعناه : ووقع من قبل تفريطكم في يوسف. أو النصب عطفا على مفعول «ألم تعلموا» ، وهو «أنّ أباكم». ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف. كأنّه قيل : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم من قبل في يوسف. وأن تكون موصولة ، بمعنى : ومن قبل هذا ما قدّمتموه في حقّه من الخيانة العظيمة. ومحلّه ما تقدّم.

(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) فلن أفارق أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الانصراف إليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) أو يقضي لي بالخروج منها ، أو بخلاص أخي منهم ، أو بالمقاتلة معهم لتخليصه (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنّ حكمه لا يكون إلّا بالحقّ.

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) على ما شاهدناه من ظاهر الأمر (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) بأن رأينا أنّ الصواع استخرج من وعائه (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ) للأمر الخفيّ (حافِظِينَ) فلا ندري أنّه سرق ، أو سرق ودسّ الصواع في رحله. أو وما كنّا للعواقب عالمين ، فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنّه سيسرق ، أو أنّك تصاب به كما أصبت بيوسف.

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) يعنون مصر. والعرب تسمّي الأمصار والمدائن قرى. أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها لطلب السقاية. والمعنى : أرسل إلى أهلها واسألهم عن القصّة. (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) وأصحاب العير الّتي توجّهنا فيهم وكنّا معهم. وهم كانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب. وقيل : من

٤٠١

أهل صنعاء. وإنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا أهل تهمة عند يعقوب. (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد في محلّ القسم.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤))

فلمّا رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال أخوهم (قالَ) ما عندي أنّ الأمر على ما تقولونه (بَلْ سَوَّلَتْ) أي : زيّنت وسهّلت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أردتموه فقدّرتموه ، وإلّا فما أدرى الملك أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا تعليمكم (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) بيوسف وبنيامين وأخيهما الّذي توقّف بمصر (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحالي في الحزن والأسف ، وبحالهم (الْحَكِيمُ) في تدبيره ، لم يبتلني إلّا بحكمة ومصلحة.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) وأعرض عنهم كراهة لما صادف منهم (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي : يا أسفا ، تعال فهذا أوانك. والأسف أشدّ الحزن والحسرة. والألف بدل من ياء المتكلّم. وإنّما تأسّف على يوسف دون أخويه والأمر الحادث هو مصيبتهما ، لأنّ مصيبة يوسف وإن كانت قديمة ، لكن كانت قاعدة المصيبات الّتي ترتّبت عليها الرزايا في ولده. أو لأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضّا طريّا عنده ، آخذا بمجامع قلبه. ولأنّه كان واثقا بحياتهما دون حياته.

عن ابن عبّاس أنّه قال : لم تعط أمّة من الأمم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) عند

٤٠٢

المصيبة إلّا أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ).

(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ) لكثرة بكائه (مِنَ الْحُزْنِ) والغمّ الشديد ، فكأنّ العبرة محقت سواد العين ، وقلبته إلى بياض كدر. وقيل : ضعف بصره ، وكان لا يرى إلا رؤية ضعيفة. وقيل : إنّه عمي ستّ سنين. وروي : ما جفّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما ، وما على الأرض أكرم على الله من يعقوب.

قيل اشترى يعقوب يوما جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتّى عميت ، ولأجل ذلك ابيضّت عيناه من كثرة البكاء في فراق يوسف.

وفيه دليل على جواز التأسّف والبكاء عند التفجّع. ولعلّ أمثال ذلك لا تدخل تحت التكليف ، فإنّه قلّ من يملك نفسه عند الشدائد ، ولقد بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ولده إبراهيم وقال : القلب يجزع ، والعين تدمع ، ولا نقول ما يسخط الربّ ، وإنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون.

(فَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء من الغيظ على أولاده ، ممسك له في قلبه ، ولا يظهره.

فعيل بمعنى مفعول ، كقوله تعالى : (وَهُوَ مَكْظُومٌ) (١). من : كظم السقاء إذا شدّه على ملئه. أو بمعنى فاعل ، كقوله : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) (٢). من : كظم الغيظ إذا اجترعه.

وأصله : كظم البعير جرّته (٣) إذا ردّها في جوفه.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أنّه سأل جبرئيل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ قال : وجد سبعين ثكلى.

قال : فما كان له من الأجر؟ قال : أجر مائة شهيد ، وما ساء ظنّه بالله ساعة قطّ».

__________________

(١) القلم : ٤٨.

(٢) آل عمران : ١٣٤.

(٣) الجرّة : ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه.

٤٠٣

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا) أي : لا تفتأ ولا تزال (تَذْكُرُ يُوسُفَ) تفجّعا عليه.

فحذف «لا» ، كما في قول امرئ القيس (١) ـ حين ذهب ذات ليلة إلى قصر بنت قيصر ملك الروم ، فقالت : حضرت الرقباء ، ولم يتيسّر الوصال ـ :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي

لأنّه لا يلتبس بالإثبات ، فإنّ القسم إذا لم تكن معه علامة الإثبات كان على النفي ، ولو كان إثباتا لم يكن بدّ من اللام والنون.

(حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مريضا مشرفا على الهلاك. وقيل : الحرض الّذي أذابه همّ أو مرض. وهو في الأصل مصدر ، ولذلك لا يؤنّث ولا يجمع. والنعت بالكسر ، كدنف ودنف. وهو المرض الّذي لا يرجى زواله. (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) من الميّتين.

قيل : دخل على يعقوب جار له فقال : يا يعقوب قد تهشّمت وفنيت ، وبلغت من السنّ ما بلغ أبوك. فقال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف.

فأوحى الله إليه : يا يعقوب ، أتشكوني إلى خلقي؟ قال : يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي. فكان بعد ذلك إذا سئل (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) همّي الّذي لا أقدر الصبر

__________________

(١) ديوان امرئ القيس : ١٤١.

٤٠٤

عليه ، من البثّ بمعنى النشر (وَحُزْنِي) وشدّة غمّي (إِلَى اللهِ) لا إلى أحد منكم ومن غيركم ، فخلّوني وشكايتي (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) من صنعه ورحمته ، وأنّه لا يخيب داعيه ، ولا يدع الملتجئ إليه. أو وأعلم من الله بنوع من الإلهام. (ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف.

وقيل : إنّه أوحي إلى يعقوب : إنّما وجدت عليكم لأنّكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه ، وإن أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين ، فاصنع طعاما وادع عليه المساكين لأرجع إليك يوسف ، فصنع ذلك. ولهذا قال : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

وقيل : رأى ملك الموت في المنام فسأله عن يوسف ، فقال : هو حيّ.

وفي كتاب النبوّة بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ يعقوب دعا الله سبحانه في أن يهبط عليه ملك الموت ، فأجابه. فقال : ما حاجتك؟

قال : أخبرني هل مرّ بك روح يوسف في الأرواح؟ فقال : لا. فعلم أنّه حيّ.

وقيل : علم من رؤيا يوسف أنّه لا يموت حتّى يخرّ له إخوته سجّدا ، ولذلك قال : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا) أي : فتجسّسوا وتفحّصوا (مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) فتعرّفوا منهما. والتحسّس تطلّب الإحساس ، وهو المعرفة. وكذا بالجيم. (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ولا تقنطوا من فرجه وتنفيسه. وقيل : من رحمته. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) بالله تعالى وصفاته ، فإنّ المؤمن لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال عند البلاء.

قال الجبائي : العلّة في خفاء أخبار يوسف على يعقوب في المدّة الطويلة مع قرب المسافة ، وعدم إخبار يوسف حاله له ، أنّه حمل إلى مصر فبيع من عزيز فألزمه داره ، ثمّ لبث في السجن بضع سنين ، فانقطعت أخبار الناس عنه ، فلمّا تمكّن احتال في إيصال خبره بأبيه على الوجه الّذي أمكنه ، وكان لا يأمن لو بعث

٤٠٥

رسولا إليه أن لا يمكّنه إخوته من الوصول إليه.

وقال المرتضى قدس‌سره : «يجوز أن يكون ذلك ليوسف ممكنا ، وكان عليه قادرا ، لكن الله سبحانه أوحى إليه بأن يعدل عن اطّلاعه على خبره تشديدا للمحنة عليه ، ولله سبحانه أن يصعب التكليف وأن يسهّله» (١).

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨))

ولمّا قال يعقوب لبنيه : (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) رجعوا إلى مصر رجعة ثانية (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) على يوسف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) الهزال من شدّة الجوع. شكوا إلى يوسف ما نالهم من القحط وهلاك المواشي. (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) رديئة أو قليلة ، تردّ وتدفع رغبة عنها ، من : أزجيته إذا دفعته ، ومنه تزجية الزمان. قيل : كانت دراهم زيوفا (٢) لا تنفق في ثمن الطعام. وقيل : صوفا وسمنا. وقيل : الصنوبر والحبّة الخضراء. وقيل : الأقط (٣) وسويق المقل.

(فَأَوْفِ) فأتمم (لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بالمسامحة وقبول المزجاة ، والإغماض عن رداءته ، أو بالزيادة على ما يساويها. وقيل : بردّ أخينا. (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أحسن الجزاء. والتصدّق التفضّل مطلقا. ومنه قوله عليه‌السلام في القصر (٤) : «هذه صدقة تصدّق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته». لكنّه اختصّ عرفا

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ٥٧.

(٢) الزيوف جمع الزائف ، وهو : الدرهم الرديء المردود الذي دخله غشّ.

(٣) الأقط : الجبن.

(٤) أي : في قصر الصلاة في السفر.

٤٠٦

بعطيّة يبتغى بها ثواب من الله. وتسميتهم ما هو فضل وزيادة صدقة ، لا يلزمها صدقة حقيقة ، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء. وقيل : كانت تحلّ لغير نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢))

ولمّا رأى يوسف من عجزهم وتمسكنهم لم يتمالك إلّا أن عرّفهم نفسه و (قالَ) لهم استفهاما عن وجه القبح (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) من إذلاله وإبعاده عن أبيه ، وإلقائه في البئر ، والاجتماع على قتله ، وبيعه بثمن بخس (وَأَخِيهِ) من إفراده عن يوسف ، والتفريق بينهما ، حتّى صار ذليلا فيما بينكم ، لا يستطيع أن يكلّمكم إلا بعجز وذلّة (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) قبحه ، فلذلك أقدمتم عليه ، أو عاقبته. وإنّما قال ذلك تنصيحا لهم ، وتحريضا على التوبة ، وشفقة عليهم ، لا معاتبة وتثريبا. وإنّما جهّلهم لأنّ فعلهم كان فعل الجهّال ، أو لأنّهم كانوا حينئذ صبيانا مشرفين الحلم طيّاشين (١).

__________________

(١) الطيّاش : من لا يقصد وجها واحدا لخفّة عقله.

٤٠٧

وقيل : أعطوه كتاب يعقوب مضمونه : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ، إلى عزيز مصر. أمّا بعد ، فإنّا أهل بيت موكّل بنا البلاء. أمّا جدّي ، فشدّت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق ، فنجّاه الله ، وجعلت النار عليه بردا وسلاما. وأمّا أبي ، فوضع السكّين على قفاه ليقتل ، ففداه الله. فأمّا أنا ، فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ وقرّة عيني وثمرة فؤادي ، فذهب به إخوته إلى البرّيّة ، ثمّ أتوني بقميصه ملطّخا بالدم ، وقالوا : قد أكله الذئب ، فذهبت عيناي من بكائي عليه. ثمّ كان لي ابن ، وكان أخاه من أمّه ، وكنت أتسلّى به ، فذهبوا به ثمّ رجعوا وقالوا : إنّه سرق ، وإنّك حبسته عنّي وفجعتني به. وقد اشتدّ لفراقه حزني ، حتّى تقوّس لذلك ظهري. وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا ، فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك ، والسلام.

فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وزال صبره ، ووضعه على عينيه ، وانتحب حتّى بلّت دموعه القميص الذي عليه. ثمّ أقبل عليهم فقال لهم : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟

(قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) استفهام تقرير ، ولذلك حقّق بـ «إنّ» ودخول اللام عليه. وقرأ ابن كثير على الإيجاب (١). قيل : عرفوه بزيّه وشمائله حين كلّمهم به وقيل : تبسّم فعرفوه بثناياه ، فإنّها كانت كاللؤلؤ المنظوم. وقيل : رفع التاج عن رأسه ، فرأوا علامة بناصيته تشبه الشامة (٢) البيضاء ، وكانت لسارة ويعقوب مثلها.

(قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) من أبي وأمّي. ذكره تعريفا لنفسه به ، وتفخيما لشأنه ، وإدخالا له في قوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالسلامة والكرامة ، والاجتماع بعد طول الفرقة (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) يخف الله (وَيَصْبِرْ) على البليّات ، أو على الطاعات

__________________

(١) أي : إنّك ، بدون همزة الاستفهام.

(٢) الشامة : الخال ، أي : بثرة سوداء في البدن حولها شعر.

٤٠٨

وعن المعاصي (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وضع «المحسنين» موضع الضمير للتنبيه على أنّ المحسن من جمع بين التقوى والصبر.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) اختارك وفضّلك علينا بالحلم والعقل والعلم والملك ، وحسن الصورة وكمال السيرة (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) والحال إنّ شأننا أنّا كنّا مذنبين عمدا بما فعلنا معك ، فلا جرم أنّ الله أعزّك وأذلّنا.

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) لا تعيير عليكم. تفعيل من الثرب ، وهو الشحم الّذي يغشي الكرش. ومعناه : إزالة الثرب ، فاستعير للتقريع الّذي يمزّق العرض ويذهب ماء الوجه. (الْيَوْمَ) متعلّق بالتثريب ، أو بالمقدّر للجارّ الواقع خبرا لـ «لا تثريب».

والمعنى : لا أثرّبكم اليوم الّذي هو مظنّة التثريب ، فما ظنّكم بسائر الأيّام؟! أو بقوله : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) لأنّه صفح عن جريمتهم حين اعترفوا بها.

روي : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح ، فقال لقريش : ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا : نظنّ خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت. فقال : أقول ما قال أخي يوسف : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ).

(وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فإنّه يغفر الصغائر والكبائر ، ويتفضّل على التائب.

ومن جملة كرم يوسف أنّهم لمّا عرفوه أرسلوا إليه وقالوا : إنّك تدعونا بالبكرة والعشيّ إلى الطعام ، ونحن نستحي منك لما فرط منّا فيك. فقال : إنّ أهل مصر كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى ، ويقولون : سبحان من بلّغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلّغ ، ولقد شرّفت بكم وعظّمت في عيونهم حيث علموا أنّكم إخوتي ، وأنّي من حفدة إبراهيم عليه‌السلام.

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

٤٠٩

وروي أنّه عليه‌السلام لمّا عرّفهم نفسه سألهم عن أبيه ، فقال : ما فعل أبي بعدي؟

قالوا : ذهبت عيناه. فقال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) وهو القميص الّذي كان عليه.

قيل : القميص المتوارث من إبراهيم الّذي كان في التعويذ. وهو الأصحّ. وهذا كان معجزا منه ، إذ لا يعرف أنه يعود بصيرا بإلقاء القميص على وجهه إلّا بالوحي ، كما قال مجاهد : إنّ جبرئيل أمره أن أرسل إليه قميصك ، فإنّ فيه ريح الجنّة ، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلّا صحّ وعوفي.

(فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) يرجع ذا بصر ، أو يأت أبي وهو بصير (وَأْتُونِي) أنتم وأبي (بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) بنسائكم وذراريكم ومواليكم.

قيل : يهودا هو حامل القميص ، قال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطّخا بالدم إليه ، فأفرّحه كما أحزنته.

وقيل : حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان ، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا ، وكان معه سبعة أرغفة ، فلم يستوف الأرغفة في الطريق.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) من مصر ، وخرجت من عمرانها. يقال : فصل من البلد فصولا ، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه. (قالَ أَبُوهُمْ) لمن حضره من حفده (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ)

روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «وجد يعقوب ريح يوسف حين

٤١٠

فصلت العير من مصر وهو بفلسطين ، من مسيرة عشرة ليال».

وعن ابن عبّاس : مسيرة ثمان ليال. وعنه أيضا أنّ ريحا هاجت فحملت ريح يوسف من قميصه.

وذكر أنّ الصبا استأذنت ربّها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص ، فأذن لها ، فأتته بها ، ولذلك يتروّح كلّ محزون بريح الصبا.

فلمّا وصلت الريح إلى يعقوب قال : إنّي لأجد ريح يوسف (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) لو لا أن تنسبوني إلى الفند. وهو نقصان عقل يحدث من هرم ، ولذلك لا يقال : عجوز مفنّدة ، لأنّ نقصان عقلها ذاتيّ. وجواب «لولا» محذوف ، تقديره : لصدّقتموني ، أو لقلت : إنّه قريب.

(قالُوا) أي : الحاضرون (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) لفي ذهابك عن الصواب قدما ، بإفراط محبّتك ليوسف ، وإكثار ذكره ، وتوقّعك للقائه ، وكان عندهم أنّه قد مات.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) يهوذا (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) عاد بصيرا لما انتعش فيه من القوّة (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف وإنزال الفرج. وقيل : «إني أعلم» كلام مبتدأ ، والمقول (لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ، أو (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ).

روي : أنّه سأل البشير كيف يوسف؟ قال : هو ملك مصر. قال : ما أصنع بالملك؟! على أيّ دين تركته؟ قال : على دين الإسلام. قال : الآن تمّت النعمة.

ولمّا اجتمع الإخوة عند أبيهم (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) ومن حقّ المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويسأل له المغفرة.

(قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أخّره إلى السحر ، أو إلى صلاة الليل ، أو إلى ليلة الجمعة ، تحرّيا لوقت الإجابة ، أو ليتعرّف حالهم في صدق التوبة وإخلاصها ، أو إلى أن يستحلّ لهم يوسف ، أو يعلم أنّه عفا عنهم ، فإنّ

٤١١

عفو المظلوم شرط المغفرة.

وقيل : قام إلى الصلاة في وقت السحر ، فلمّا فرغ رفع يديه فقال : اللهمّ اغفر لي جزعي على يوسف ، وقلّة صبري عنه ، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم. فأوحي إليه : أنّ الله قد غفر لك ولهم أجمعين.

وروي : أنّهم قالوا ليعقوب وقد علتهم الكآبة : إن لم يوح إليك بالعفو عنّا فلا قرّت لنا عين أبدا. فاستقبل القبلة قائما يدعو ، وقام يوسف خلفه يؤمّن ، وقام إخوته خلفهما ، أذلّة خاشعين عشرين سنة ، حتّى بلغ جهدهم ، وظنّوا أنّ الهلكة وقعت عليهم. فنزل جبرئيل عليه‌السلام : قد أجاب دعوتك في ولدك.

وروي : أنّ يوسف وجّه إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهّز إليه بمن معه ، وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند ، والعظماء وأهل مصر بأجمعهم ، فلقوا يعقوب وهو يمشي يتوكّأ على يهوذا ، فنظر إلى الخيل والناس ، فقال يا يهوذا : أهذا فرعون مصر؟ قال : لا هذا ولدك.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) فلمّا لقيه يعقوب وأهله في موضع خارج من

٤١٢

مصر أو في بيت هناك ، قال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان.

وفي كتاب النبوّة بالإسناد عن محمد بن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لما أقبل يعقوب إلى مصر خرج يوسف ليستقبله ، فلمّا رآه همّ أن يترجّل له ، ثمّ نظر إلى ما هو فيه من الملك فلم يفعل. فلمّا سلّم على يعقوب نزل عليه جبرئيل ، فقال له : يا يوسف إنّ الله جلّ وعلا يقول : منعك أن تنزل إلى عبدي الصالح ما أنت فيه ، أبسط يدك ، فبسطها فخرج من بين أصابعه نور ، فقال : ما هذا يا جبرئيل؟ قال : هذا إنّه لا يخرج من صلبك نبيّ أبدا ، عقوبة بما صنعت بيعقوب ، إذ لم تنزل إليه».

وعلى تقدير صحّة هذه الرواية فالعتاب على يوسف لأجل ترك ندب وأدب صدر منه ، لا ترك واجب ، لمكان العصمة فيه.

قيل : إنّ يوسف قال له لمّا التقيا : يا أبت بكيت عليّ حتّى ذهب بصرك ، ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ فقال : بلى ، ولكن خشيت أن يسلب دينك ، فيحال بيني وبينك.

وقيل : إنّ يعقوب وولده وسائر أهله دخلوا مصر ، وهم اثنان وسبعون رجلا وامرأة ، وكانوا حين خرجوا مع موسى ستّمائة ألف وخمسمائة وبضعة وستّين رجلا ، سوى الذرّيّة والهرمى ، وكانت الذرّيّة ألف ألف ومائتي ألف.

وحين دخلوا على يوسف (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ضمّ إليه أباه وخالته واعتنقهما. نزّلها الله تعالى منزلة الأمّ تنزيل العمّ منزلة الأب في قوله : (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) (١). أو لأنّ يعقوب تزوّجها بعد أمّه ، والرابة تدعى أمّا.

(وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) من القحط وأصناف المكاره. وحذف الجزاء لدلالة الكلام عليه. والمشيئة متعلّقة بالدخول المكيّف بالأمن.

__________________

(١) البقرة : ١٣٣.

٤١٣

ولمّا دخلوا مصر عظّمهم وكرّمهم (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) تحيّة وتكرمة له ، فإنّ السجود كان عندهم يجري مجراها. وقيل : معناه : خرّوا لأجله سجّدا لله شكرا. وقيل : الضمير لله تعالى ، والواو لأبويه وإخوته. وهذا مرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وقال عليّ بن إبراهيم : «حدّثني محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين أنّ يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمّد بن عليّ بن موسى مسائل ، فعرضها على أبي الحسن عليّ بن محمّد عليه‌السلام ، فكان إحداها أن قال : أخبرني أسجد يعقوب وولده ليوسف؟ فأجاب أبو الحسن عليه‌السلام : أمّا سجود يعقوب وولده فإنّه لم يكن ليوسف ، وإنّما كان ذلك منهم طاعة لله وتحيّة ليوسف ، كما أنّ السجود من الملائكة لآدم كان منهم طاعة لله وتحيّة لآدم ، فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكرا لله لاجتماع شملهم» (١).

(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) رأيتها أيّام الصبا (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) صدقا (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) يقال : أحسن بي وإليّ ، وأساء بي وإليّ (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يذكر الجبّ لئلّا يكون تثريبا عليهم (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) من البادية ، لأنّهم كانوا أصحاب المواشي وأهل البدو (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أفسد بيننا وحرش ، من : نزغ الرائض (٢) الدابّة ، إذا نخسها وحملها على الجري.

(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) لطيف في تدبير عباده ، إذ ما من صعب إلّا وتنفذ فيه مشيئته ويتسهّل دونها (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بوجوه المصالح في تدابير العباد (الْحَكِيمُ) الّذي يفعل كلّ شيء في وقته ، وعلى وجه تقتضي الحكمة.

روي : أنّ يوسف عليه‌السلام أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه ، فأدخله خزائن

__________________

(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ : ٣٥٦.

(٢) الرائض : الذي يعلّم الدوابّ السير ويذلّلها ويطوّعها.

٤١٤

الورق والذهب وخزائن الحليّ وخزائن الثياب وخزائن السلاح ، وغير ذلك. فلمّا أدخله خزانة القراطيس قال : يا بنيّ ما أعقك! عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال : أمرني جبرئيل. قال : أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط منّي إليه فاسأله. فقال جبرئيل : الله أمرني بذلك ، لقولك : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ). قال : فهلّا خفتني.

وفي كتاب النبوّة بالإسناد عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قلت له : كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر؟ قال : عاش حولين. قلت : فمن كان الحجّة لله في الأرض ، يعقوب أم يوسف؟ قال : كان يعقوب الحجّة ، وكان الملك ليوسف ، فلمّا مات يعقوب حمله يوسف في تابوت إلى أرض الشام فدفنه في بيت المقدس ، وكان يوسف بعد يعقوب الحجّة. قلت : وكان يوسف رسولا نبيّا؟ قال : نعم ، أما تسمع قوله عزوجل : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ)؟».

وفي رواية اخرى : أنّ يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثمّ مات ، وأوصى أن يدفنه في الشام إلى جنب أبيه إسحاق. فمضى بنفسه ودفنه ، ثمّ عاد إلى مصر ، وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة.

وبالإسناد عن أبي خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «دخل يوسف السجن وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، ومكث فيها ثماني عشرة سنة ، وبقي بعد خروجه ثمانين سنة ، فذلك مائة وعشر سنين».

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

ولمّا جمع الله سبحانه له شمله ، وأقرّ له عينه ، وأتمّ له رؤياه ، ووسّع عليه في

٤١٥

ملك الدنيا ونعيمها ، علم أنّ ذلك لا يبقى له ولا يدوم ، فطلب من الله سبحانه نعيما لا يفنى ، وتاقت نفسه إلى الجنّة ، فتمنّى الموت ودعا به ، ولم يتمنّ ذلك من قبله ولا بعده أحد من الأنبياء ، فقال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) بعض ملك الدنيا ، وهو ملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) الكتب أو الرؤيا. و «من» أيضا للتبعيض ، لأنّه لم يؤت كلّ التأويل.

(فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مبدعهما. وانتصابه على أنّه صفة المنادى ، أو منادى برأسه. (أَنْتَ وَلِيِّي) ناصري ، أو متولّي أمري (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أو الّذي يتولّاني بالنعمة فيهما (تَوَفَّنِي) اقبضني عند انقضاء أجلي (مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِيبِالصَّالِحِينَ) من آبائي ، أو بعامّة الصالحين في الرتبة والكرامة.

روي أنّ يوسف لمّا توفّاه الله طيّبا طاهرا تخاصم أهل مصر في مدفنه حتّى همّوا بالقتال ، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمرّ عليه الماء ، ثمّ يصل إلى مصر ، ليكونوا شرعا فيه. ثمّ نقله موسى عليه‌السلام إلى مدفن آبائه. وقد ولد له من راعيل ميشا وأفرائيم. وهو جدّ يوشع بن نون ورحمة امرأة أيّوب عليه‌السلام.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢))

(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف. والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهو مبتدأ ، وقوله : (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبران له. وقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) لدى إخوة يوسف (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) كالدليل على هذين الخبرين.

والمعنى : أنّ هذا النبأ غيب لم تعرفه إلّا بوحي ، لأنّك لم تحضر إخوة يوسف حين عزموا على ما همّوا به من أن يجعلوه في غيابة الجبّ ، وهم يمكرون به وبأبيه

٤١٦

ليرسله معهم ، ومن المعلوم الّذي لا يخفى على مكذّبيك أنّك ما لقيت أحدا سمع ذلك فتعلّمته منه. وإنّما حذف هذا الشقّ استغناء بذكره في غير هذه القصّة ، كقوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) (١). وهذا تهكّم بقريش وبمن كذّبوه.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧))

ولمّا تقدّم ذكر الآيات والمعجزات الّتي لو تفكّروا فيها عرفوا الحقّ من جهتها فلم يتفكّروا ، بيّن عقيبها أنّ التقصير من جهتهم حيث رضوا بالجهل ، وليس من جهته سبحانه ، لأنّه نصب الأدلّة والبيّنات ، ولا من جهتك ، لأنّك دعوتهم ، فقال : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) يريد العموم. وعن ابن عبّاس : أراد أهل مكّة. (وَلَوْ حَرَصْتَ) على إيمانهم ، وبالغت في إظهار الآيات عليهم (بِمُؤْمِنِينَ) لعنادهم ، وتصميمهم على الكفر. والشرطيّة معترضة.

(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) على الأنباء ، أو القرآن (مِنْ أَجْرٍ) جعل ، كما يعطى حملة الأخبار ، فيصدّهم ذلك عن الإيمان ، فأعذارهم منقطعة (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) عظة

__________________

(١) هود : ٤٩.

٤١٧

من الله (لِلْعالَمِينَ) عامّة.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) وكم من علامة ودلالة من الدلائل على وجود الصانع وحكمته ، وكمال قدرته وتوحيده (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الشمس والقمر ، والسحاب والنجوم والجبال ، والشجر وألوان النبات ، وأحوال المتقدّمين ، وآثار الأمم السالفة في الأرض (يَمُرُّونَ عَلَيْها) على الآيات ويشاهدونها (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) لا يتفكّرون فيها ، ولا يعتبرون بها.

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) في إقرارهم بوجوده وخالقيّته (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بعبادة غيره ، أو باتّخاذ الأحبار أربابا ، أو نسبة التبنّي إليه ، أو القول بالنور والظلمة ، أو النظر إلى الأسباب كأهل التنجيم ، أو الّذين يشبّهون الله بخلقه.

وقيل : هم مشركو مكّة. وقيل : المنافقون. وقيل : أهل الكتاب.

وعن الباقر عليه‌السلام : «أنّه شرك الطاعة لا شرك العبادة ، أطاعوا الشيطان في ارتكاب المعاصي».

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في شأن رجل يقول : لو لا فلان لهلكت ، ولو لا فلان لضاع عيالي ، جعل لله شريكا في ملكه تعالى ، يرزقه ويدفع عنه».

وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أنّه قال : «إنّه شرك لا يبلغ به الكفر».

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) عقوبة تغشاهم وتشملهم (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) فجأة من غير سابقة علامة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانها ، غير مستعدّين لها.

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩)

٤١٨

قُلْ هذِهِ) يعني : الدعوة إلى التوحيد والإعداد للمعاد (سَبِيلِي) ثم فسّر السبيل بقوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) إلى توحيده وعدله. قيل : هو حال من الياء. (عَلى بَصِيرَةٍ) بيان وحجّة واضحة غير عمياء (أَنَا) تأكيد للمستتر في «أدعو» أو «على بصيرة». أو مبتدأ خبره «على بصيرة». (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطف عليه (وَسُبْحانَ اللهِ) وأنزّه الله من الشركاء (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وأنزّهه تنزيها من الشركاء.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) ردّ لقولهم : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) (١).

وقيل : معناه نفي استنباء النساء. (نُوحِي إِلَيْهِمْ) كما يوحى إليك ، ويميّزون بذلك عن غيرهم. وقرأ حفص : نوحي ، في كلّ القرآن. ووافقه حمزة والكسائي في سورة الأنبياء (٢). (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) لأنّ أهلها أعلم وأحلم من البدو ، وأهل البوادي من أهل الجفاء والقسوة.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المكذّبين بالرسل والآيات ، فيحذروا تكذيبك. أو من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها ، فيقلعوا عن حبّها (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) ولدار الحال ، أو الساعة ، أو الحياة الآخرة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والمعاصي (أَفَلا تَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم ليعرفوا أنّها خير.

__________________

(١) فصّلت : ١٤.

(٢) الأنبياء : ٧.

٤١٩

روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «شيء يسير من الجنّة خير من الدنيا وما فيها».

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالتاء ، حملا على قوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) ، أي : قل لهم : أفلا تعقلون.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

ثمّ أخبر سبحانه عن حال الرسل مع أممهم تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) غاية محذوف دلّ عليه الكلام ، أي : لا يغررهم تمادي أيّامهم ، فإنّ من قبلهم أمهلوا حتّى أيس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا ، أو عن إيمانهم ، لانهماكهم في الكفر ، مترفّهين متمادين فيه من غير مانع. أو التقدير : وما أرسلنا قبلك إلّا رجالا قد تأخّر نصرنا إيّاهم ، كما أخّرناه عن هذه الأمّة ، حتّى إذا استيأس الرسل.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أي : كذّبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنّهم ينصرون. أو كذّبهم القوم بوعد الإيمان. وقيل : الضمير للمرسل إليهم ، أي : وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذّبوهم بالدعوة والوعيد. وقيل : الأوّل للمرسل إليهم ، والثّاني للمرسل ، أي : وظنّوا أن الرسل قد كذبوا وأخلفوا فيما وعد لهم من النصر ، وخلط الأمر عليهم.

٤٢٠