زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

ثمّ أشار إلى توعيد الكفّار ، فقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينتظر الكفّار المارّ ذكرهم (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم. وقرأ حمزة والكسائي بالياء. (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) القيامة أو العذاب المستأصل (كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فأصابهم ما أصابوا (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بتدميرهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بكفرهم ومعاصيهم المؤدّية إليه.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي : جزاء سيّئات أعمالهم ، على حذف المضاف ، أو تسمية الجزاء باسمها ، كما قال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وأحاط بهم جزاؤه. والحيق لا يستعمل إلّا في الشرّ.

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥))

ثمّ عاد إلى حكاية قول المشركين ، فقال : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) مع الله إلها آخر (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) من الأصنام وغيرها (نَحْنُ وَلا آباؤُنا) الّذين اقتدينا بهم (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) بل شاء منّا ، وأراد فعلنا.

وهذا القول من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم وعنادهم ، من شركهم بالله وإنكار وحدانيّته بعد قيام الحجج ، وإنكار البعث ، واستهزائهم به ، وتكذيبهم الرسول ،

__________________

(١) الشورى : ٤٠.

٥٦١

وشقاقهم واستكبارهم عن قبول الحقّ. يعني : أنّهم أشركوا بالله ، وحرّموا ما أحلّ الله من البحيرة والسائبة وغيرهما ، ثمّ نسبوا فعلهم إلى الله وقالوا : لو شاء لم نفعل. وهذا مذهب المجبّرة بعينه.

(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فأشركوا بالله ، وحرّموا حلّه ، وردّوا رسله.

ثمّ أنكر سبحانه هذا القول عليهم ، فقال : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) إلّا أن يبلغوا الحقّ بالبرهان والبيان ، ويطلعوهم على بطلان الشرك وقبحه ، وأنّ الله لا يشاء الشرك والمعاصي منهم ، وعلى براءة الله من أفعال العباد ، وأنّهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم ، والله باعثهم على جميلها ، وموفّقهم وزاجرهم عن قبيحها ، وموعدهم عليه.

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦))

ثمّ بيّن أنّ بعثة الرسل أمر جرت به السنّة الإلهيّة في الأمم كلّها ، سببا لهداية من استرشد واستهدى ، وزيادة لضلالة من عاند واستهوى ، كالغذاء الصالح ، فإنّه ينفع المزاج السويّ ويقوّيه ، ويضرّ المنحرف ويفنيه ، فقال : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ) في كلّ جماعة وقرن (رَسُولاً) كما بعثناك على أمّتك (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) ليقول لهم : اعبدوا الله (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي : عبادة الشيطان وكلّ داع يدعو إلى الضلالة.

٥٦٢

(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) وفّقهم للإيمان بإرشادهم ، لاسترشادهم. أو هداهم الله إلى طريق الجنّة. (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي : من أعرض عمّا دعا إليه الرسول عنادا وانهماكا في الجحود ، مع وضوح الحقّ عليه ، فخذله وخلّاه ، فثبتت عليه الضلالة ولزمته. أو حقّت عليه عقوبة الضلالة. فسمّى الله العقاب ضلالا ، كقوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (١).

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أرض المكذّبين يا معشر قريش إن لم تصدّقوني (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من عاد وثمود وغيرهم ، لعلّكم تعتبرون كيف حقّت عليهم العقوبة وحلّت بهم ، حتّى لا يبقى لكم شبهة في أنّي لا أقدّر الشرّ ولا الإساءة حيث أفعل بالأشرار.

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))

ثمّ ذكر عناد قريش وحرص رسول الله على إيمانهم ، فقال : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) على أن يؤمنوا بك (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) لا يوفّق (مَنْ يُضِلُ) ولا يلطف بمن يخذل ، أي : يريد ضلاله ويخلّيه ، لانهماكه في الكفر وتصميمه على العناد ، لأنّ اللطف في حقّه عبث ، والله متعال عن العبث ، لأنّه من قبيل القبائح الّتي لا تجوز عليه. وقرأ غير الكوفيّين : لا يهدى ، على البناء للمفعول. وهو أبلغ.

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) من ينصرهم بدفع العذاب عنهم. وهذا دليل على أنّ المراد بالضلال الخذلان الّذي هو نقيض النصرة.

__________________

(١) القمر : ٤٧.

٥٦٣

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

روي : أنّه كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه ، فوقع في كلامه : والّذي أرجوه بعد الموت أنّه لكذا وكذا. فقال المشرك : إنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت ، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت. فنزلت : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) حلفوا بالله مجتهدين في أيمانهم. والمعنى : بلغوا في القسم كلّ مبلغ. (لا يَبْعَثُ اللهُ) لا يحيي (مَنْ يَمُوتُ) عطف ذلك على (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إيذانا بأنّهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه ، زيادة في البتّ على فساده.

فردّ الله عليهم أبلغ ردّ ، فقال : (بَلى) يبعثهم (وَعْداً) مصدر مؤكّد لنفسه ، أي : وعدكم البعث والجزاء وعدا واجبا (عَلَيْهِ) إنجازه ، لامتناع الخلف في وعده ، أو لأنّ البعث مقتضى حكمته (حَقًّا) صفة اخرى للوعد ، أي : وعدا ثابتا عند الله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنّهم يبعثون ، إمّا لعدم علمهم بأنّه من مواجب الحكمة الّتي جرت عادته بمراعاتها ، وإمّا لقصور نظرهم بالمألوف ، فيتوهّمون امتناعه.

ثمّ إنّه تعالى بيّن الأمرين فقال : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) أي : يبعثهم ليبيّن لهم (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) وهو الحقّ (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) فيما كانوا يزعمون. وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث ، المقتضي له من

٥٦٤

حيث الحكمة. وهو المميّز بين الحقّ والباطل ، والمحقّ والمبطل ، بالثواب والعقاب.

ثمّ قال بيانا لإمكانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) أي : إذا أردنا وجوده ، فليس إلّا (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي : أحدث فيحدث ذلك بلا توقّف. وهذا مثل في أنّ مراد الله لا يمتنع عليه ، وأنّ وجوده عند إرادته مثل وجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع المتمثّل ، ولا قول هناك. والمعنى : أنّ إيجاد كلّ مقدور على الله تعالى بهذه السهولة ، فكيف يمتنع عليه البعث الّذي هو من شقّ المقدورات؟! وتقرير البيان أنّ تكوين الله بمحض قدرته ومشيئته لا توقّف له على سبق الموادّ والمدد وإلّا لزم التسلسل ، فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادّة ومثال ، أمكن له تكوينها إعادة بعده.

ونصب ابن عامر والكسائي «فيكون» هاهنا وفي يس (١) ، عطفا على «نقول» ، أو جوابا للأمر.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢))

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا) والّذين فارقوا أوطانهم وديارهم وأهلهم فرارا بدينهم واتّباعا لنبيّهم (فِي اللهِ) في حقّه ولوجهه خالصا (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ما ظلمهم

__________________

(١) يس : ٨٢.

٥٦٥

المشركون وعذّبوهم بمكّة. وهم رسول الله وأصحابه المهاجرون ، ظلمهم قريش ففرّوا بدينهم إلى الله ، منهم من هاجر إلى الحبشة ثمّ إلى المدينة فجمع بين الهجرتين ، ومنهم من هاجر إلى المدينة.

وقيل : هم الّذين كانوا محبوسين معذّبين بمكّة بعد هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلّما خرجوا تبعوهم فردّوهم ، منهم بلال وصهيب وخباب وعمّار وعابس وأبو جندل وسهيل.

وقوله : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) صفة للمصدر ، أي : تبوئة حسنة.

وقيل : مباءة حسنة. وهي المدينة ، حيث آواهم أهلها ونصروهم. وقيل : لننزلنّهم في الدنيا منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل مكّة الّذين ظلموهم ، وعلى العرب قاطبة ، وعلى أهل المشرق والمغرب.

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) ممّا يعجّل لهم في الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الضمير للكفّار ، أي : لو علموا أنّ الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم. أو للمهاجرين ، أي : لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.

(الَّذِينَ صَبَرُوا) منصوب المحلّ أو مرفوعه على المدح ، تقديره : أعني الّذين ، أو هم الّذين صبروا على الشدائد ، كأذى الكفرة ، ومفارقة الوطن الّذي هو حرم الله المحبوب في كلّ قلب ، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤوسهم؟! وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله. (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) منقطعين إلى الله ، مفوّضين إليه الأمر كلّه.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧))

٥٦٦

روي أنّ قريش قالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، أو لا يرسل الله إلينا بشرا مثلنا ، فنزلت : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي : جرت السنّة الإلهيّة بأن لا يبعث للدعوة العامّة إلّا بشرا يوحي إليه على ألسنة الملائكة ، والحكمة في ذلك مذكورة في سورة الأنعام (١) ، فإن شككتم فيه (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أهل الكتاب أو علماء الأحبار ليعلّموكم (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

وفي الآية دلالة على أنّه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكا للدعوة العامّة. وأما قوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (٢) معناه رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء. وقيل : لم يبعثوا إلى الأنبياء إلّا متمثّلين بصورة الرجال. وردّ بما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى جبرئيل عليه‌السلام على صورته الّتي هو عليها مرّتين.

وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) أي : أرسلناهم بالبيّنات والزبر ، أي : المعجزات والكتب ، كأنّه جواب قائل قال : بم أرسلوا؟ ويجوز أن يتعلّق بـ «ما أرسلنا» داخلا في الاستثناء مع «رجالا» ، أي : وما أرسلنا إلّا رجالا بالبيّنات ، كقولك : ما ضربت

__________________

(١) راجع ج ٢ ص ٣٦٣.

(٢) فاطر : ١.

٥٦٧

إلّا زيدا بالسوط ، لأنّ أصله : ضربت زيدا بالسوط ، أو صفة لهم : أي : رجالا ملتبسين بالبيّنات. أو بـ «نوحي» على المفعوليّة ، أو الحال من القائم مقام فاعله.

وعلى هذه الوجوه قوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) اعتراض. أو بـ «لا تعلمون» على أن الشرط للإلزام والتبكيت.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) أي : القرآن. وإنّما سمّي ذكرا لأنّه موعظة وتنبيه للغافلين. (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) في الذكر بتوسّط إنزاله إليك ممّا أمروا به ونهوا عنه ، أو ممّا يتشابه عليهم. والتبيين أعمّ من أن ينصّ بالمقصود ، أو يرشد إلى ما يدلّ عليه ، كالقياس المنصوص العلّة ودليل العقل. (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وإرادة أن يتأمّلوا فيه فيتنبّهوا للحقائق. وفي هذا دلالة على أنّ الله تعالى أراد من جميعهم التفكّر والنظر المؤدّي إلى المعرفة ، بخلاف ما يقوله أهل الجبر.

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) أي : المكرات السيّئات. وهم الّذين احتالوا لهلاك الأنبياء ، أو الّذين مكروا رسول الله ، ودبّروا التدابير في إطفاء نور الإسلام وإيذاء المؤمنين ، وراموا صدّ أصحابه عن الإيمان. (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسف بقارون (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) بغتة من جانب السماء ، كما فعل بقوم لوط. قال ابن عبّاس : يعني يوم بدر ، وذلك أنّهم أهلكوا يوم بدر ، وما كانوا يقدّرون ذلك ولا يتوقّعونه.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي : منقلبين في مسايرهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم. وهو خلاف قوله : (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ). (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ).

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) على مخافة بأن يهلك قوما قبلهم ، فيتخوّفوا فيأتيهم العذاب وهم متخوّفون ومتوقّعون. أو على أن ينقصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتّى يهلكوا. من : تخوّفته إذا تنقّصته. روي أنّ عمر قال على المنبر : ما تقولون فيها؟ فسكتوا. فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا ، التخوّف :

٥٦٨

التنقّص. فقال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم ، قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته :

تخوّف الرحل منها تامكا قردا

كما تخوّف عود النبعة (١) السّفن

فقال : عليكم بديوانكم لا تضلّوا. قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهليّة ، فإنّ فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

(فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث لا يعاجلكم بالعقوبة مع استحقاقكم.

ثمّ بيّن دلائل قدرته ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ) أو لم ينظر هؤلاء الكفّار الّذين جحدوا وحدانيّته وكذّبوا نبيّه. والهمزة للإنكار ، أي : قد رأو أمثال هذه الصنائع ، فما بالهم لم يتفكّروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه؟! و «ما» موصولة مبهمة بيانها.

(مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) أي : أولم ينظروا إلى المخلوقات الّتي لها ظلال

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «النبعة : الشجرة الّتي تتّخذ منها أخشاب القوس. منه».

والتامك : سنام البعير المرتفع. والقرد : الذي أكله القراد من كثرة أسفارها. والسفن : المبرد الحديد الذي ينحت به الخشب. والمعنى : تنقّص رحلها سنامها المرتفع الذي تنقب من كثرة السفر ، كما تنقّص المبرد عود النبعة.

٥٦٩

متفيّئة؟! وقرأ حمزة والكسائي : تروا بالتاء ، وأبو عمرو : تتفيّؤا بالتاء. (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) عن أيمانها وشمائلها ، أي : عن جانبي كلّ واحد منها وشقّيه ، استعارة من يمين الإنسان وشماله. ولعلّ توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ والمعنى ، فإنّ «من شيء» في معنى : ما خلق الله من كلّ شيء ، فيكون جمعا معنى ، كتوحيد الضمير في «ظلاله» وجمعه في قوله : (سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) وهما حالان من الضمير في «ظلاله».

والمراد من السجود الاستسلام ، سواء كان بالطبع أو الاختيار. يقال : سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ، وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب.

ويحتمل أن يكون «سجّدا» حالا من الظلال ، و «هم داخرون» حالا من الضمير في «ضلاله» ، لأنّه بمعنى الجمع كما عرفت آنفا. والمعنى : يرجع الظلال بارتفاع الشمس وانحدارها ، أو باختلاف مشارقها ومغاربها ، بتقدير الله تعالى من جانب إلى جانب ، منقادة لما قدّر لها من التفيّؤ ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد ، والأجرام في أنفسها أيضا داخرة ، أي : صاغرة منقادة لأفعال الله فيها. وجمع «داخرون» بالواو لأنّ من جملتها من يعقل فغلّب ، أو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء.

وقيل : المراد باليمين والشمائل يمين الفلك ، وهو جانبه الشرقي ، لأنّ الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع والسطوع ، وشماله وهو الجانب الغربي المقابل له ، فإنّ الظلال في أوّل النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض ، وعند الزوال تبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض ، جلّت قدرته وعظمته.

وعن الكلبي : معنى تفيّؤ الظلال يمينا وشمالا : أنّ الشمس إذا طلعت وأنت متوجّه إلى القبلة كان الظلّ قدّامك ، وإذا ارتفعت كان عن يمينك ، فإذا كان بعد ذلك

٥٧٠

كان خلفك ، وإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك ، فهذا تفيّؤه عن اليمين والشمال.

وقد نبّه الله تعالى بهذه الآية على أنّ جميع الأشياء تخضع له ، بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى خالقها ومدبّرها ، بما لولاه لبطلت ولم يكن لها قوام طرفة عين ، فهي في ذلك كالساجد من العباد بفعله الخاضع الذليل ، ولهذا قال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : ينقاد انقيادا يعمّ الانقياد لإرادته وتأثيره طبعا ، والانقياد لتكليفه وأمره طوعا ، ليصحّ إسناده إلى عامّة أهل السماوات والأرض.

وقوله : (مِنْ دابَّةٍ) بيان لما في السماوات والأرض جميعا ، لأنّ الدبيب هو الحركة الجسمانيّة ، سواء كان في أرض أو سماء. (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على المبيّن به عطف جبرئيل على الملائكة للتعظيم ، أو عطف المجرّدات على الجسمانيّات.

وبه احتجّ من قال : إنّ الملائكة أرواح مجرّدة.

أو بيان (١) لـ «ما في الأرض». ويراد بما في السماوات الملائكة الساكنة فيها.

وحينئذ «والملائكة» تكرير لما في السماوات ، وتعيين له إجلالا وتعظيما ، فإنّهم أعبد الخلائق. أو المراد بها ملائكتها من الحفظة وغيرهم. «وما» لمّا استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم ، كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق «من» تغليبا للعقلاء. (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته.

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) يخافونه أن يرسل عذابا من فوقهم. وتخصيص هذه الجهة أنّ أكثر العقاب المهلك إنّما يأتي من فوق. أو يخافونه وهو فوقهم ، أي : قاهرا غالبا عاليا عليهم ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) (٢) (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ

__________________

(١) عطف على قوله : بيان لما في السماوات والأرض ، قبل أربعة أسطر.

(٢) الأنعام : ١٨.

٥٧١

قاهِرُونَ) (١). وعلى الأوّل يتعلّق بـ «يخافون». وعلى الثاني حال من «ربّهم».

والجملة الفعليّة حال من الضمير في «لا يستكبرون» ، أو بيان لنفي الاستكبار وتقرير له ، لأنّ من خاف الله لم يستكبر عن عبادته.

(وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) من الطاعة والتدبير. وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا مذ خلقهم الله إلى يوم القيامة ، ترعد فرائصهم من خشية الله ، لا يقطر من دموعهم قطرة إلا صار ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حقّ عبادتك».

وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلّفون مدارون على الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والخوف والرجاء ، كسائر المكلّفين.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥))

ولمّا بيّن سبحانه دلائل قدرته وألوهيّته ، عقّبه بالتنبيه على وحدانيّته ، فقال : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكر العدد مع المعدود لم يجر في الاثنين

__________________

(١) الأعراف : ١٢٧.

٥٧٢

والواحد ، وإنّما يجري فيما عداهما ، كقولك : رجال ثلاثة وأفراس أربعة ، لأنّ المعدود فيما عداهما عار عن الدلالة على العدد الخاصّ ، بخلاف رجل ورجلان ، فإنّهما يدلّان على العدد ، فلا حاجة إلى أن يقال : رجل واحد ورجلان اثنان ، لكن ذكر ها هنا ليدلّ دلالة صريحة على أنّ المقصود نهي الاثنينيّة لا ذات المعدود.

أو إيماء بأنّ الاثنينيّة تنافي الألوهيّة ، كما ذكر الواحد في قوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) للدلالة على أنّ المقصود إثبات الوحدانيّة دون الإلهيّة. ألا ترى أنّك لو قلت : إنّما هو إله ، ولم تؤكّده بواحد ، خيّل أنّك تثبت الإلهيّة لا الوحدانيّة الّتي قصدتها ، فكذا إذا قلت : لا تتّخذوا إلهين بدون ذكر العدد ، لخيّل أنّك قصدت المعدود لا العدد ، ولمّا شفّعتهما بذكر الاثنين دلّ دلالة صريحة على أنّ مقصودك نفي الاثنينيّة لا الجنسيّة ، أو للتنبيه على أنّ الوحدة من لوازم الإلهيّة.

(فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) نقل من الغيبة إلى التكلّم مبالغة في الترهيب ، وتصريحا بالمقصود ، فكأنّه قال : فأنا ذلك الإله الواحد ، فإيّاي فارهبون لا غير.

عن بعض الحكماء : أنّه قال : نهاك ربّك أن تتّخذ إلهين فاتّخذت آلهة ، عبدت نفسك وهواك ودنياك وطبعك ومرادك ، وعبدت الخلق ، فأنّى تكون موحّدا؟! (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا (وَلَهُ الدِّينُ) أي : الطاعة (واصِباً) ثابتا لازما ، لما تقرّر من أنّه الإله وحده ، وأنّه الحقيق بأن يرهب منه.

وقيل : واصبا من الوصب ، أي : وله الدين ذا كلفة. وقيل : الدين الجزاء ، أي : وله الجزاء دائما ، لا ينقطع ثوابه لمن آمن ، وعقابه لمن كفر. وعلى التقادير ، هو حال عمل فيه الظرف.

(أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) ولا ضارّ حقيقة سواه ، كما لا نافع غيره ، كما قال : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) وأيّ شيء اتّصل بكم من نعمة فهو من الله. و «ما» شرطيّة ، أو موصولة متضمّنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول ، فإنّ استقرار النعمة

٥٧٣

لهم يكون سببا للإخبار بأنّها من الله لا لحصولها منه.

(ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) من المرض وسائر الشدائد (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) فما تتضرّعون إلّا إليه. والجؤار رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة.

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) وهم كفّاركم.

(لِيَكْفُرُوا) بعبادة غيره. هذا إذا كان الخطاب في قوله : «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ... إلخ» عامّا. فإن كان خاصّا بالمشركين كان «من» للبيان ، كأنّه قال : وإذا فريق منهم وهم أنتم. ويحتمل أن يكون للتبعيض ، على أن يعتبر بعضهم الّذي كان أشدّ عنادا منهم ، كقوله : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) (١).

(بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة الكشف عنهم ، كأنّهم قصدوا بكفرهم كفران النعمة أو إنكار كونها من الله. واللام للعلّة ، أي : جعلوا غرضهم من الشرك كفران النعمة.

ويجوز أن يكون للأمر تخلية وخذلانا ، كقوله : (فَتَمَتَّعُوا) فإنّه أمر تهديد (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما يحلّ بكم في العاقبة من العقاب وأليم العذاب. حذف المفعول لدلالة الكلام عليه ، وهذا أغلظ وعيد.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما

__________________

(١) لقمان : ٣٢.

٥٧٤

يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))

ثمّ ذكر سبحانه فعلا آخر من أفعال المشركين دالّا على جهلهم ، فقال : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ) أي : لآلهتهم الّتي لا علم لها ، لأنّها جماد ، فيكون الضمير لـ «ما». أو الّتي لا يعلمونها ، فيعتقدون فيها جهالات ، مثل أنّها تنفعهم وتشفع لهم عند الله ، وليس كذلك ، فإنّ حقيقتها أنّها جماد لا يضرّ ولا ينفع ، فهم إذا جاهلون بها ، على أنّ العائد إلى «ما» محذوف. أو لجهلهم ، على أنّ «ما» مصدريّة ، والمجعول له محذوف للعلم به. (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من زروعهم وأنعامهم ، وهي لا تشعر بذلك.

ثمّ أوعدهم الله بذلك ، فقال تأكيدا للوعيد : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَ) في الآخرة (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) تكذبون في الدنيا من أنّها آلهة حقيقة بالتقرّب إليها.

ثمّ ذكر سبحانه نوعا آخر من جهالاتهم فقال : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) الضمير لخزاعة وكنانة ، فإنّهم كانوا يقولون : الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) تنزيه له من قولهم أو تعجّب منه (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) يعني : البنين. ويجوز في «ما يشتهون» الرفع بالابتداء ، أو النصب بالعطف على البنات ، على أنّ الجعل بمعنى الاختيار. وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد ، لكنّه لا يبعد تجويزه في المعطوف.

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أخبر بولادتها (ظَلَّ وَجْهُهُ) صار ، أو دام النهار كلّه (مُسْوَدًّا) من الكآبة والحزن والحياء من الناس. واسوداد الوجه كناية عن شدّة الاغتمام. (وَهُوَ كَظِيمٌ) مملوء غيظا على المرأة.

(يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) يستخفي منهم (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) من سوء

٥٧٥

المبشّر به عرفا ، ومن أجل تعييرهم (أَيُمْسِكُهُ) محدّثا نفسه ، متفكّرا في أن يتركه (عَلى هُونٍ) هوان وذلّ (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أم يخفيه فيه ويئده.

وتذكير الضمير للفظ «ما». (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محلّه عندهم ، ويجعلون لأنفسهم من هو على العكس ، وهذا غاية الجهل.

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) صفة السوء ، وهي الحاجة إلى الولد المنادية بالموت واستبقاء الذكور استظهارا بهم ، وكراهة الإناث ووأدهنّ خشية الإملاق ، وإقرارهم على أنفسهم بالشحّ البالغ ، أو صفة النقص من الجهل والعجز.

(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الصفة العليا ، وهي الوجوب الذاتي ، والغنى المطلق ، والجود الفائق ، والنزاهة عن صفات المخلوقين (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) المنفرد بكمال القدرة والحكمة.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣))

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) بكفرهم ومعاصيهم ، ويعاجلهم بالعقوبة

٥٧٦

(ما تَرَكَ عَلَيْها) على الأرض. وإنّما أضمرها من غير ذكر لدلالة الناس والدابّة عليها (مِنْ دَابَّةٍ) أي : ممّن يستحقّ العقوبة من الظالمين. ويؤيّده ما روي عن ابن عبّاس : أنّ معناه من مشرك يدبّ عليها. أو من دابّة ظالمة. أو لأهلك الدوابّ كلّها بشؤم ظلم الظالمين. وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم.

وقيل : لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء.

وقيل : معنى الآية : لو يؤاخذهم بذنوبهم لحبس المطر عنهم حتى يهلك كلّ دابّة. وعلى هذا العذاب للظالم عقوبة ، ولغير الظالم عبرة ومحنة ، فيكون كالأمراض النازلة بالأولياء وغير المكلّفين ، فيعوّضون عنها.

وقيل : إنّه إذا هلك الظلمة ولم يبق مكلّف لا يبقى غيرهم من الحيوانات ، لأنّها إنّما خلقت للمكلّفين ، فلا فائدة في بقائها بعدهم.

(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) سمّاه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) بل هلكوا أو عذّبوا حينئذ لا محالة. ولا يلزم من عموم الناس وإضافة الظلم إليهم أن يكونوا كلّهم ظالمين حتّى الأنبياء عليهم‌السلام ، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم وصدر عن أكثرهم.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي : ما يكرهونه لأنفسهم ، من البنات ، والشركاء في الرئاسة ، والاستخفاف برسلهم ، والتهاون برسالتهم ، وجعلهم له أرذل الأموال ، ولأصنامهم أكرمها.

(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) مع ذلك ، وهو (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي : عند الله ، كقوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) (١). هذا بدل من «الكذب» ، إذ هو قولهم : لنا البنون ولله البنات.

(لا) أي : ليس الأمر على ما وصفوه (جَرَمَ) ثبت وحقّا (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ)

__________________

(١) فصّلت : ٥٠.

٥٧٧

ردّ لكلامهم ، وإثبات لضدّه (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) مقدّمون إلى النار ، من : أفرطته في طلب الماء إذا قدّمته. وقرأ نافع بكسر الراء ، على أنّه من الإفراط في المعاصي.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فأصرّوا على قبائحها ، وكفروا بالمرسلين (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) أي : قرينهم وناصرهم في الدنيا.

عبّر باليوم عن زمانها. أو فهو وليّهم حين كان يزيّن لهم. أو يوم القيامة ، على أنّه حكاية حال ماضية ، كأن يزيّن لهم الشيطان أعمالهم فيها ، أو حال آتية ، وهي حال كونهم معذّبين في النار ، أي : فهو ناصرهم اليوم ولا ناصر لهم غيره ، فيكون نفيا للناصر لهم على أبلغ الوجوه. ويجوز أن يكون الضمير لقريش ، أي : زيّن الشيطان للكفرة المتقدّمين أعمالهم ، فهو وليّ هؤلاء اليوم ، فيغرّهم ويغويهم ، وأن يقدّر مضاف ، أي : فهو وليّ أمثالهم. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في القيامة.

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥))

ثمّ بيّن سبحانه أنّه قد أقام الحجّة وأزاح العلّة وأوضح الحقّ ، فقال : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ) للناس (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) من التوحيد ، وأحوال المعاد ، وأحكام الحلال والحرام (وَهُدىً) ودلالة على الحقّ (وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). وهما معطوفان على محلّ «لتبيّن» ، إلّا أنّهما انتصبا على أنّهما مفعول لهما ، لأنّهما فعلا الّذي أنزل الكتاب. ودخل اللام على «لتبيّن» لأنّه فعل المخاطب.

وإنّما ينتصب مفعولا له ما كان فعل فاعل الفعل المعلّل.

٥٧٨

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) غيثا (فَأَحْيا بِهِ) بذلك الماء (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تدبّر وإنصاف ، لأنّ من لم يسمع بقلبه فكأنّه أصمّ لا يسمع أصلا.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧))

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من دلائل التوحيد وعجائب الصنعة وبدائع الحكمة ، فقال : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) استئناف لبيان العبرة. وإنّما ذكّر الضمير ووحّده ها هنا للفظ ، وأنّثه في سورة المؤمنين (١) للمعنى ، فإنّ الأنعام اسم جمع ، ولذلك عدّه سيبويه في المفردات المبنيّة على أفعال ، كأخلاق وأكباش (٢). ومن قال : إنّه جمع «نعم» جعل الضمير للبعض ، فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها ، أو لواحدة ، أو له على المعنى ، فإنّ المراد به الجنس.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب : نسقيكم بالفتح ، هاهنا وفي المؤمنين.

__________________

(١) المؤمنون : ٢١.

(٢) في هامش النسخة الخطّية : «ضرب من النبات غزل مرّتين. وقيل : ضرب من برود اليمن. منه».

٥٧٩

(مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً) فإنّه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولّد من الأجزاء اللطيفة الّتي في الفرث ، وهي الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش.

وعن ابن عبّاس : «أنّ البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف في كرشها ، كان أسفله فرثا ، وأوسطه لبنا ، وأعلاه دما» الحديث. فالكبد مسلّطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسّمها ، فتجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، وتبقى الفرث في الكرش. فسبحان الله ما أعظم قدرته ، وألطف حكمته ، لمن تفكّر وتأمّل.

قال صاحب الأنوار بعد ذكر هذا الحديث : «إن صحّ هذا النقل فلعلّ المراد أنّ أوسطه يكون مادّة اللبن ، وأعلاه مادّة الدم الّذي يغذّي البدن ، لأنّهما لا يتكوّنان في الكرش ، بل الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش ، ويبقى ثفله وهو الفرث ، ثمّ يمسكها ريثما يهضمها هضما ثانيا ، فيحدث أخلاطا أربعة معها مائيّة ، فتميّز القوّة المميّزة تلك المائيّة بما زاد على قدر الحاجة من المرّتين ، وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ، ثمّ يوزّع الباقي على الأعضاء بحسبها ، فيجري إلى كلّ حقّه على ما يليق به ، بتقدير العليم الحكيم.

ثمّ إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها ، لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها ، فيندفع الزائد أولا إلى الرحم لأجل الجنين ، فإذا انفصل انصبّ ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع ، فيبيض بمجاورة لحومها الغدديّة البيض ، فيصير لبنا. ومن تدبّر صنع الله في إحداث الأخلاط والألبان ، وإعداد مقارّها ومجاريها ، والأسباب المولّدة لها ، والقوى المتصرّفة فيها كلّ وقت على ما يليق به ، اضطرّ إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته» (١).

واعلم أنّ «من» الأولى تبعيضيّة ، لأنّ اللبن بعض ما في بطونها ، كقولك :

__________________

(١) أنوار التنزيل ٣ : ١٨٥.

٥٨٠