زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))

وبعد الأمر بالجهاد بيّن ما يلحقه من حكم الغنيمة ، فقال مخاطبا للمسلمين : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) «ما» موصولة ، و «من شيء» بيانه ، أي : ممّا يقع عليه اسم الشيء حتّى الخيط والمخيط ، لا في الكنز والمعدن والغوص ، فإنّ النصاب شرط فيه ، كما صرّح به فقهاؤنا في كتبهم. فلفظ «شيء» وإن اقتضى العموم ، لكن البيان من الأئمّة عليهم‌السلام خصّصه.

والغنيمة لغة : هي الفائدة. واصطلاحا : ما أخذ من الكفّار بقتال ، وإلّا فهو فيء ونفل. وهو مذهب أصحابنا والشافعي ، ويروى عن الباقر والصادق عليهما‌السلام. وقيل :

٤١

إنّهما بمعنى واحد.

ثمّ إنّ عند أصحابنا أنّ الفيء للإمام خاصّة ، والغنيمة يخرج منها الخمس ، كما قال الله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مبتدأ خبره محذوف ، أي : فثابت أنّ لله خمسه (وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) وهذه الأسهم الثلاثة اليوم للإمام القائم مقام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي : ليتامى آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومساكينهم وأبناء سبيلهم ، لا يشركهم في ذلك غيرهم ، لأنّ الله سبحانه حرّم عليهم الصدقة ، لكونها أوساخ الناس ، وعوّضهم عن ذلك الخمس. وروى ذلك الطبري (١) عن عليّ بن الحسين زين العابدين ومحمّد بن عليّ الباقر.

وعن أبي عبد الله عليهم‌السلام أيضا أنّه قال : «لمّا حرّم الله علينا الصدقة أنزل لنا الخمس ، فالصدقة علينا حرام ، والخمس لنا حلال».

ورووا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قيل له : «إنّ الله تعالى قال : (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) فقال : أيتامنا ومساكيننا» (٢). فثلاثة أسهم أخر للطوائف المذكورين من بني هاشم.

واعلم أيّدك الله تعالى أنّ علماء الجمهور على أنّ اسم الله هنا للتبرّك ، وأنّ المراد قسم الخمس على الخمسة المذكورين في الآية في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ المراد بذي القربى هم بنو هاشم وبنو المطّلب دون بني عبد شمس وبني نوفل ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ بني المطّلب ما فارقونا في جاهليّة ولا إسلام ، وبنو هاشم وبنو المطّلب شيء واحد ، وشبك بين أصابعه».

وأن الثلاثة الباقية في باقي المسلمين.

وأمّا بعد حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال مالك : الأمر فيه إلى الإمام ، يصرفه إلى ما يراه أهمّ من وجوه القرب.

__________________

(١) راجع تفسير الطبري ج ١٠ : ٧.

(٢) رواه في الكشّاف ٢ : ٢٢٢.

٤٢

وقال أبو حنيفة : يسقط سهمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسهم ذوي القربى ، وصار الكلّ مصروفا إلى الثلاثة الباقية من المسلمين.

وقال الشافعي : إنّ سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصرف إلى ما كان يصرفه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه من مصالح المسلمين. وقيل : إلى الإمام. وقيل : إلى الأقسام الأربعة.

وقال أصحابنا الإماميّة : إنّه يقسّم ستّة أقسام : ثلاثة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ، وبعده للإمام القائم مقامه ، وهو المعنيّ بذي القربى ، والثلاثة الباقية لمن سمّاهم الله من بني عبد المطّلب خاصّة دون غيرهم.

وقولهم هو الحقّ. أمّا أوّلا : فلأنّه لا يلزمهم مخالفة للآية الكريمة بسبب إسقاط سهم الله من البين ، وكذا إسقاط سهم الرسول بعد حياته.

وأمّا ثانيا : فلما ورد من النقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم‌السلام. وكذا نقله الخصم عن عليّ عليه‌السلام ، وعن ابن عبّاس ، كما حكاه الزمخشري في الكشّاف (١).

وأمّا ثالثا : فلأنّا إذا أعطينا لفقراء ذي القربى من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل جاز بالإجماع ، وبرئت الذمّة يقينا ، وإذا أعطينا غيرهم لم يجز عند الإماميّة ، فكان التخصيص بذي القربى أحوط. ولفظة الآية وإن كانت أعمّ ، لكن ما من عامّ إلّا وقد خصّ كما في الأصول ، فهذا مخصوص بما رويناه عن أئمّة الهدى كما مرّ.

على أنّا نقول لفظة الآية عامّ مخصوص بالاتّفاق ، فإنّ ذا القربى مخصوص ببني هاشم ، واليتامى والمساكين وابن السبيل عامّ في المشرك والذميّ وغيرهم ، مع أنّه مخصوص بمن ليس كذلك.

قال السيّد (٢) قدس‌سره : كون ذي القربى مفردا يدلّ على أنّه الامام القائم مقام

__________________

(١) الكشّاف ٢ : ٢٢٢.

(٢) الانتصار : ٨٧.

٤٣

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ لو أراد الجمع لقال : ذوي القربى.

وفيه نظر ، لجواز إرادة الجنس.

قوله : إذ لو كان المراد جميع قرابات بني هاشم ، لزم أن يكون ما عطف عليه ـ أعني : اليتامى والمساكين وابن السبيل ـ من غيرهم لا منهم ، لأنّ العطف يقتضي المغايرة.

وأجيب بجواز عطف الخاصّ على العامّ ، لمزيد فائدة ووفور عناية. فالأولى حينئذ الاعتماد في هذه المحتملات على بيانه عليه‌السلام ، وبيان الأئمّة بعده.

وفي الآية المذكورة من التوكيد ما ليس في غيرها ، فإنّه صدّرها بالأمر بالعلم ، أي : تحقّق عندكم ذلك حتّى إنّه لم يرد لها ناسخ اتّفاقا. ثمّ أتى بـ «أنّ» المؤكّدة في موضعين. ثمّ قال : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) وهو متعلّق بمحذوف دلّ عليه «واعلموا» أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّه جعل الخمس لهؤلاء ، فسلّموه إليهم ، واقطعوا عنه أطماعكم ، واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ، فإنّ العلم للعمل ، فإذا أمر به لم يرد منه العلم المجرّد ، لأنّه مقصود بالعرض ، والمقصود بالذات هو العمل.

(وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) معطوف على «بالله» أي : إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا من الآيات والملائكة والنصرة (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يوم بدر ، فإنّه فرّق فيه بين الحقّ والباطل (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) المسلمون والكفّار ، بدل منه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على نصر القليل على الكثير ، والإمداد بالملائكة.

عن الكلبي : أنّها نزلت ببدر. وقال الواقدي : نزل الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيّام ، للنصف من شوّال ، على رأس عشرين شهرا من الهجرة.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) من المدينة. وهو بدل ثان من (يَوْمَ الْفُرْقانِ).

٤٤

والعدوة بالحركات الثلاث شطّ الوادي. والمشهور الضمّ والكسر. وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب.

(وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) البعدى من المدينة. تأنيث الأقصى. وكان قياسه قلب الواو ياء ، كالدنيا والعليا ، تفرقة بين الاسم والصفة ، فجاء على الأصل شاذّا كالقود ، وهو أكثر استعمالا من القصيا ، كما كثر استعمال «استصوب» مع مجيء «استصاب» و «أغيلت» مع «أغالت» (١).

(وَالرَّكْبُ) أي : العير أو قوّادها (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) في مكان أسفل من مكانكم ، يعني : الساحل. قال الكلبي : كانوا على شطّ البحر بثلاثة أميال. وهو منصوب على الظرف ، واقع موقع خبر المبتدأ ، والجملة حال من الظرف قبله.

والفائدة في ذكر هذه المراكز الإخبار عن الحال الدّالة على قوّة المشركين وشوكتهم ، وتكامل عدّتهم ، وضعف المسلمين ، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلّا بأمر إلهي ، لم يتيسّر إلّا بحوله وقوّته ، وذلك أنّ العدوة القصوى الّتي أناخ بها المشركون كان فيها الماء ، والعدوة الدنيا رخوة تسوخ فيها الأرجل ، ولا يمشى فيها إلّا بتعب ومشقّة ، وما كان فيها ماء ، وكانت العير وراء ظهور العدوّ ، مع كثرة عددهم ، وفرط حمايتهم وحميّتهم ، وغاية جهدهم في أن لا يبرحوا بهم إلى مكّة.

وأيضا لمثل هذه الفائدة قال : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أي : لو تواعدتم أنتم وهم القتال ، ثمّ علمتم حالهم وحالكم (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي : لثبّطكم قلّتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ، هيبة منهم ، ويأسا من الظفر عليهم ، لتتحقّقوا أنّ ما اتّفق لكم من الفتح ليس إلّا صنعا من الله تعالى خارقا للعادة ، فتزدادوا إيمانا وشكرا.

(وَلكِنْ) جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد ، بل حين وعدكم إحدى

__________________

(١) أغالت أو أغيلت المرأة ولدها : أرضعته وهي حامل.

٤٥

الطائفتين مبهمة غير مبيّنة ، حتّى خرجتم لتأخذوا العير راغبين في الخروج ، وشخص (١) بقريش مخوّفين ممّا بلغهم من تعرّض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأموالهم ، حتّى نفروا ليمنعوا عيرهم ، وسبّب الأسباب حتّى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ، ووراءهم العير يحامون عليها ، حتّى قامت الحرب على ساق وكان ما كان.

(لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي : حقيقا بأن يفعل ، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه.

وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) بدل منه ، أو متعلّق بقوله : «مفعولا».

والمعنى : ليموت من يموت عن بيّنة عاينها (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ويعيش من يعيش عن حجّة شاهدها ، لئلّا يكون له حجّة ومعذرة ، فإنّ وقعة بدر من الآيات الواضحة والمعجزات الباهرة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أو المعنى : ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بيّنة وقيام حجّة عليه ، ويصدر إسلام من أسلم عن يقين وعلم بأنّه الدين الحقّ الّذي يجب التمسّك به. فالهلاك والحياة مستعارتان للكفر والإسلام. والمعنيّ بـ «من هلك» و «من حيّ» المشارف للهلاك الأبدي والحياة السرمدي.

وقرأ ابن كثير برواية البزّي ونافع وأبو بكر ويعقوب : من حيي بفكّ الإدغام ، للحمل على المستقبل.

(وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) لأقوال من كفر وآمن (عَلِيمٌ) بكفر من كفر وعقابه ، وإيمان من آمن وثوابه. فالجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) مقدّر بـ «اذكر». أو بدل ثان من «يوم

__________________

(١) في هامش النسخة الخطيّة : «شخص به إذا أخرجه. منه».

٤٦

الفرقان». أو متعلّق بـ «عليم» ، أي : يعلم المصالح ، إذ يقلّلهم في عينك في رؤياك ، وذلك أنّ الله سبحانه أراه إيّاهم في رؤياه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه ، فكان تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوّهم.

(وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) لجبنتم (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أمر القتال ، وتفرّقت آراؤكم بين الثبات والفرار (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعلم ما سيكون وما يغيّر أحوالها ، من الجرأة والجبن والصبر والجزع.

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) الضميران مفعولا «يري» (إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) حال من المفعول الثاني. وإنّما قلّلهم في أعين المسلمين لا غير ، لما روي عن ابن مسعود أنّه قال : لقد قلّلوا في أعيننا حتّى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ فقال : أتراهم مائة؟ تصديقا لرؤيا رسول الله وتثبيتا لهم.

(وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) حتّى قال أبو جهل : إنّ محمدا وأصحابه أكلة جزور.

وروي أيضا أنّه كان يقول : خذوهم بالأيدي أخذا ، ولا تقاتلوهم.

وإنّما قلّلهم في أعينهم قبل القتال ليجترؤا عليهم ، ولا يستعدّوا لهم بعد اللقاء ، ثم كثّرهم حتّى يرونهم مثليهم ، لتفجأهم الكثرة فتبهتهم ، وتكسر قلوبهم ، وتفلّ (١) شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم. وهذا من عظائم آيات تلك الوقعة ، فإنّ البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا ، لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحدّ ، وإنّما يتصوّر ذلك بصدّ الله الأبصار عن إبصار بعض دون بعض ، مع التساوي في شروط الرؤية.

(لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) كرّره لاختلاف المعلّل به. أو لأنّ المراد بالأمر ثمّ الاكتفاء على الوجه المحكي ، وهاهنا إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وحزبه. (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) امور العباد ، فيجازيهم على ما يستحقّونه.

__________________

(١) أي : تكسر.

٤٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))

٤٨

ثمّ أمر سبحانه بالقتال والثبات في الحرب ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) أي : إذا حاربتم جماعة كافرة. ولم يصفها ، لأنّ المؤمنين ما كانوا يحاربون إلّا الكفّار. واللقاء ممّا غلب استعماله في القتال. (فَاثْبُتُوا) للقائهم ، ولا تفرّوا.

(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) في مواطن القتال ، مستعينين به ، مستظهرين بذكره ، مترقّبين لنصره ، داعين له على عدوّكم ، بأن تقولوا : اللهمّ اخذلهم ، اللهمّ اقطع دابرهم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة.

وفيه تنبيه على أنّ العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله تعالى ، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ، ويقبل عليه بشراشره (١) فارغ البال ، واثقا بأنّ لطفه لا ينفكّ عنه في شيء من الأحوال.

وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين صلوات الله عليه في أيّام صفّين ، وفي مشاهده مع البغاة والخوارج ـ من البلاغة والبيان ، ولطائف المعاني ، وبليغات المواعظ والنصائح ـ دليلا على أنّهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا) لا تتنازعوا فيما بينكم باختلاف الآراء ، كما فعلتم ببدر أو أحد (فَتَفْشَلُوا) فتجبنوا ، وتضعفوا عن قتال عدوّكم. هذا جواب النهي منصوب بإضمار «أن». (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) والريح مستعارة للدولة ، شبّهت في تمشّي أمرها ونفاذه بهبوب الريح ونفوذها. فقيل : هبّت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، وركدت ريحه إذا أدبر أمره.

__________________

(١) الشراشر : النفس وجميع الجسد.

٤٩

وقيل : المراد بها الحقيقة ، فإنّ النصرة لا تكون إلّا بريح يبعثها الله تعالى. وفي الحديث : «نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور».

(وَاصْبِرُوا) على قتال الأعداء (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالحفظ والنصر.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعني : أهل مكّة حين خرجوا منها لحماية العير (بَطَراً) للبطر والطرب والفخر ، أو بطرين طربين متفاخرين (وَرِئاءَ النَّاسِ) ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة. وذلك أنّهم لمّا بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم. فقال أبو جهل : لا والله حتّى تقدم بدرا ، ونشرب بها الخمور ، وتعزف علينا القيان (١) ، ونطعم بها من حضرنا من العرب.

فوافوها فسقوا كأس المنايا ، وناحت عليهم النوائح مكان غناء القيان. فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين ، وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص ، من حيث إنّ النهي عن الشيء أمر بضدّه.

(وَيَصُدُّونَ) ويمنعون غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) معطوف على «بطرا» إن جعل مصدرا في موضع الحال. وكذا إن جعل مفعولا له ، لكن على تأويل المصدر.

(وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) عالم بأعمالكم ، فيجازيكم على وفقها.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) أي : اذكر وقت تزيين الشيطان (أَعْمالَهُمْ) في معاداة الرسول وغيرها (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) لا يغلبكم أحد من الناس ، لكثرة عددكم وقوّتكم. و «لكم» خبر «لا غالب» أو صفته ، تقديره : لا غالب كائن لكم. وليس مفعوله ، وإلّا لانتصب ، فقيل : لا غالبا لكم ، بمعنى : لا غالبا إيّاكم ، كقولك : لا ضاربا زيدا عندنا.

(وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي : ناصركم ودافع عنكم السوء. وهذه وسوسة نفسانيّة.

والمعنى : أنّه ألقى في خاطرهم وخيّل إليهم أنّهم لا يغلبون ولا يطاقون ، لكثرة

__________________

(١) القيان جمع القينة ، وهي المغنيّة.

٥٠

عددهم وعددهم ، وأوهمهم أنّ اتّباعهم إيّاه فيما يظنّون أنّها قربات مجير لهم ، حتّى قالوا : اللهمّ انصر أهدى الفئتين ، وأفضل الدينين ، كما ذكر.

(فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي : تلاقى الفريقان (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) رجع القهقرى ، أي : بطل كيده ، وعاد ما خيّل إليهم أنّه مجيرهم سبب هلاكهم (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) من إمداد الملائكة للمسلمين (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أخاف عذاب الله على أيدي من أراهم. يعني : تبرّأ منهم ، وخاف عليهم ، وأيس من حالهم ، لمّا رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة.

قيل : لمّا اجتمعت قريش على المسير ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب ، وكاد ذلك يثبّطهم ، فتمثّل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني ـ وكان من أشرافهم ـ في جند من الشياطين معه راية ، وقال : لا غالب لكم اليوم ، وإنّي مجيركم من بني كنانة ، فلمّا رأى الملائكة تنزل نكص.

وروي : كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلمّا نكص قال له الحارث : إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحال؟ قال : إنّي أرى ما لا ترون ، ودفع في صدر الحارث وانطلق. وانهزموا ، فلمّا بلغوا مكّة قالوا : هزم الناس سراقة. فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتّى بلغتني هزيمتكم. فلمّا أسلموا علموا أنّه الشيطان.

وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. ونقل عن الكلبي.

وهذا هو المشهور بين المفسّرين.

وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أنّي أخافه أن يصيبني مكروها من الملائكة ، أو يهلكني. ويكون الوقت في قوله : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (١) هذا الوقت الموعود ، إذ رأى فيه ما لم ير قبله ، فإنّ الملائكة لا ينزلون إلّا لقيام الساعة أو للعذاب. والأوّل قول الحسن ، واختيار ابن بحر.

__________________

(١) الحجر : ٣٨.

٥١

وفي الحديث : «ما رؤي إبليس يوما أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة ، لما راى من نزول الرحمة ، إلّا ما رؤي يوم بدر».

(وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يجوز أن يكون من كلامه ، وأن يكون مستأنفا.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) بالمدينة (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) والّذين لم يطمئنّوا إلى الإيمان بعد ، وبقي في قلوبهم شكّ وشبهة في الإسلام. وقيل : هم المشركون. وقيل : المنافقون. والعطف لتغاير الوصفين.

(غَرَّ هؤُلاءِ) يعنون المؤمنين (دِينُهُمْ) أي : اغترّوا بدينهم ، وأنّهم ينصرون من أجله ، حتّى تعرّضوا لما لا يديّ (١) لهم به ، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف.

ثمّ قال جوابا لهم : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في أموره (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يذلّ من استجار به وإن قلّ ، فيسلّط القليل الضعيف على الكثير القويّ. (حَكِيمٌ) يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه.

(وَلَوْ تَرى) ولو رأيت ، فإنّ «لو» تجعل المضارع ماضيا عكس «إن» (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) ببدر. و «إذ» ظرف «ترى» والمفعول محذوف ، أي : ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ. و «الملائكة» فاعل «يتوفّى». ويدلّ عليه قراءة ابن عامر بالتاء.

ويجوز أن يكون الفاعل ضميرا لله ، وقوله : «الملائكة» مبتدأ خبره : (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) والجملة حال من (الَّذِينَ كَفَرُوا) واستغني فيه بالضمير عن الواو. وهو على الأوّل حال منهم ، أو من الملائكة ، أو منهما ، لاشتماله على الضميرين.

__________________

(١) يديّ ويديّ جمع اليد ، وجمع الجمع الأيادي ، يقال : لا يدين لك بهذا ، أي : لا قوّة ولا طاقة لك به.

٥٢

(وَأَدْبارَهُمْ) ظهورهم أو أستاههم. وقيل : المراد تعميم الضرب ، أي : يضربون ما أقبل منهم وما أدبر.

(وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) عطف على «يضربون» بإضمار القول ، أي : ويقولون : ذوقوا ، بشارة لهم بعذاب الآخرة. وقيل : كانت مع الملائكة مقامع من حديد كلّما ضربوا التهبت النار منها في جراحاتهم. وجواب «لو» محذوف ، لتفظيع الأمر وتهويله ، تقديره : لرأيت أمرا فظيعا منكرا.

(ذلِكَ) الضرب والعذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي. وهو خبر لـ «ذلك». (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف عليه ، أي : ذلك العذاب بسببين : بسبب كفركم ومعاصيكم ، وبأن الله يعذّب الكفّار بالعدل ، لأنّه لا يظلم عباده في عقوبتهم ، وقد بالغ في نفي الظلم عن نفسه بقوله : «ظلّام» فإنّه صيغة المبالغة. أو تكثير الظلم لأجل كثرة العبيد. أو لأنّ العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذّب بمثله ظلّاما بليغ الظلم متفاقمه.

وقوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) مرفوع المحلّ بالخبر ، تقديره : دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ، وهو عملهم وطريقهم الّذي دأبوا فيه ، أي : داموا عليه. (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من قبل آل فرعون.

(كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) تفسير لدأبهم (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) كما أخذ هؤلاء (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يغلبه في دفعه شيء.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما حلّ بهم ، أي : ذلك العذاب (بِأَنَّ اللهَ) بسبب أنّ الله (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) مبدّلا إيّاها بالنقمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي : لا يصحّ ذلك في حكمته حتّى يبدّلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ ، كتغيير قريش حالهم في صلة الرحم والكفّ عن تعرّض الآيات والرسل بمعاداة الرسول ومن تبعه منهم ، والسعي في إراقة دمائهم ، والتكذيب بالآيات

٥٣

والاستهزاء بها ، إلى غير ذلك ممّا أحدثوه بعد البعث.

وعن السدّي : النعمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنعم الله به على قريش ، فكفروا به وكذّبوه ، فنقله إلى الأنصار.

وهذا من جري عادة الله تعالى ، فإنّ عادته سبحانه جارية على تغيير نعمته متى غيّر العبد أعماله بأسوأ منه ، فإنّه كما تغيّر الحال المرضيّة إلى المسخوطة ، تغيّر الحال المسخوطة إلى أسخط منها. فكفرة قريش كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلمّا بعث إليهم النبيّ بالآيات البيّنات ، فكذّبوه وعادوه ، وتحزّبوا عليه ساعين في اراقة دمه ، غيّروا حالهم إلى أسوأ ممّا كانت ، فغيّر الله ما أنعم به عليهم من إمهالهم ، وعاجلهم بالعذاب.

وأصل «يك» يكون ، فحذفت الحركة للجزم ، ثمّ الواو لالتقاء الساكنين ، ثمّ النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفا ، مع أنّ كثرة الاستعمال أيضا مقتضية للتخفيف.

(وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما يقول مكذّبو الرسل (عَلِيمٌ) بما يفعلون.

وقوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) تكرير للتأكيد ، ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله : (بِآياتِ رَبِّهِمْ) ، وبيان ما أخذ به آل فرعون.

وقيل : الأوّل لتشبيه الكفر والأخذ به ، والثاني لتشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم.

(وَكُلٌ) من الفرق المكذّبة ، أو من غرقى القبط وقتلى قريش (كانُوا ظالِمِينَ) أنفسهم بالكفر والمعاصي ، فلم يعاقبوا إلّا عن استحقاق.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦))

٥٤

ثمّ ذمّ الله سبحانه الكفّار ، فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) إنّ شرّ من يدبّ على وجه الأرض في معلوم الله أو في حكمه (الَّذِينَ كَفَرُوا) أصرّوا على الكفر ورسخوا فيه (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لإصرارهم على الكفر ، ولجاجهم وعنادهم فيه ، فلا يتوقّع منهم إيمان ، وهم قوم مطبوعون على الكفر بأنّهم لا يؤمنون. وذكر الفاء العاطفة للتنبيه على أنّ تحقّق المعطوف عليه مستدع لتحقّق المعطوف.

وقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) بدل من (الَّذِينَ كَفَرُوا) بدل البعض ، للبيان والتخصيص. وهم بنو قريظة ، عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا يمالئوا عليه عدوّا فنكثوا ، بأن أعانوا مشركي مكّة بالسلاح ، وقالوا :

نسينا وأخطأنا ، ثمّ عاهدهم فنكثوا ومالأوا عليه الأحزاب يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكّة فحالفهم.

و «من» لتضمين المعاهدة معنى الأخذ. والمراد بالمرّة مرّة المعاهدة أو مرّة المحاربة ، أي : كلّما عاهدتم نقضوا العهد ولم يفوا به. وجعلهم الله شرّ الدّوابّ ، لأنّ شرّ الناس الكفّار ، وشرّ الكفّار المصرّون منهم ، وشرّ المصرّين الّذين ينقضون العهد.

(وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) لا يخافون عاقبة الغدر وتبعته ، ولا يبالون ما فيه من العار والنار ، أو نصر الله للمؤمنين وتسليطه إيّاهم عليهم.

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨))

ثمّ حكم سبحانه في هؤلاء الناقضين للعهود ، فقال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَإِمَّا

٥٥

تَثْقَفَنَّهُمْ) فإمّا تصادفنّهم وتظفرنّ بهم (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) ففرّق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم والنكاية فيهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) من وراءهم من الكفرة. والتشريد تفريق على اضطراب. (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) لعلّ المشرّدين يتّعظون ، فلا يجسر عليك بعدهم أحد ، اعتبارا بهم ، واتّعاظا بحالهم.

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) معاهدين (خِيانَةً) نقض عهد بأمارات تلوح لك (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) فاطرح إليهم عهدهم (عَلى سَواءٍ) على طريق مقتصد مستو في العداوة ، وذلك بأن تخبرهم بنبذ العهد إخبارا ظاهرا مبيّنا لهم أنّك قطعت ما بينك وبينهم ، ولا تبدأهم بالقتال وهم على توهّم بقاء العهد ، فيكون ذلك خيانة منك. أو على سواء في الخوف ، أو العلم بنقض العهد. وهو في موضع الحال من النابذ على الوجه الأوّل ، أي : ثابتا على طريق سويّ ، أو من المنبوذ إليهم ، أو منهما على غيره ، أي : حاصلين على استواء في الخوف أو العلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تعليل للأمر بالنبذ ، والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال ، على طريقة الاستئناف. والمعنى : فلا تخنهم ، بأن تناجزهم القتال من غير إعلامهم بالنبذ.

قال الواقدي : هذه الآية نزلت في بني قينقاع ، وبهذه الآية سار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ

٥٦

هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))

ولمّا تقدّم الأمر بقتال الكفّار ، عقّبه سبحانه بوعد النصر والأمر بالإعداد لقتالهم ، فقال مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) مفعولا «يحسبنّ» ، أي : لا تحسبنّ يا محمّد الكافرين قد سبقوا أمر الله وأعجزوه ، وأنّهم فاتوك ، فإنّ الله تعالى يظفرك بهم كما وعدك ، ويظهرك عليهم. والسبق والفوت بمعنى واحد.

وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص بالياء ، على أنّ الفاعل ضمير أحد ، أو «من خلفهم» ، أو «الّذين كفروا» والمفعول الأوّل أنفسهم ، فحذف للتكرار.

وقيل فيه : أصله أن سبقوا. وهو ضعيف ، لأنّ «أن» المصدريّة كالموصول ، فلا تحذف.

وقيل : وقع الفعل على (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) بالفتح على قراءة ابن عامر ، وأنّ «لا» (١) صلة ، و «سبقوا» حال ، بمعنى : سابقين أو مفلتين.

والأظهر أنّه تعليل للنهي ، أي : لا تحسبنّهم سبقوا فأفلتوا ، لأنّهم لا يفوتون الله ، أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم. وكذا إن كسرت «إنّ» إلّا أنّه تعليل على سبيل الاستئناف. ولعلّ الآية إزاحة لما يحذر به من نبذ العهد وإيقاظ العدوّ.

وعن الزهري أنّها نزلت فيمن أفلت من فلّ المشركين.

__________________

(١) أي : زائدة ، فيكون المعنى : ولا يحسبنّ الذين كفروا أنهم يعجزون.

٥٧

(وَأَعِدُّوا) أيّها المؤمنون (لَهُمْ) لناقضي العهد أو الكفّار (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) من كلّ ما يتقوّى به في الحرب ، من العدد وسائر آلات الحرب.

وعن عقبة بن عامر سمعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول على المنبر : «ألا إنّ القوّة الرمي ، قالها ثلاثا». ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله.

ولعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّه بالذكر لأنّه أقواه.

(وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) اسم للخيل التي تربط في سبيل الله. فعال بمعنى مفعول ، أو مصدر سمّي به. يقال : ربط ربطا ورباطا ، ورابط مرابطة ورباطا. أو جمع ربيط ، كفصيل وفصال. وعطفها على «قوّة» إذا فسّرت بكلّ ما يتقوّى به ، كعطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة.

وجاء في الحديث : «أنّ الشيطان لا يقرب صاحب فرس ، ولا دارا فيها فرس عتيق».

وروي : «أنّ صهيل الخيل يرهب الجنّ».

(تُرْهِبُونَ بِهِ) تخوّفون به. وعن يعقوب : ترهّبون بالتشديد. والضمير لـ (مَا اسْتَطَعْتُمْ) أو للإعداد (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) كفّار مكّة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) وترهبون كفّارا آخرين من غيرهم من الكفرة. قيل : هم اليهود. وقيل : المنافقون.

وقيل : الفرس. وقيل : كفرة الجنّ. (لا تَعْلَمُونَهُمُ) لا تعرفونهم بأعيانهم (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) يعرفهم ، لأنّه المطّلع على الأسرار.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) في الجهاد (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) يوفّر عليكم ثوابه (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بتضييع العمل أو نقص الثواب.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) وإن مالوا للصلح أو الاستسلام ، ومنه الجناح.

وقد يعدّى باللام وإلى. وقرأ أبو بكر بكسر السين. (فَاجْنَحْ لَها) وعاهد معهم. وتأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضها وهي الحرب ، أو لأنّه بمعنى المسالمة.

٥٨

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تخف من إبطانهم خداعا فيه ، فإنّ الله يعصمك من مكرهم ، ويحيقه بهم. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بنيّاتهم.

والآية مخصوصة بأهل الكتاب ، لاتّصالها بقصّتهم. وقيل : عامّة نسختها آية السيف (١). والأصحّ أنّها ليست بمنسوخة ، لأنّها في الموادعة لأهل الكتاب ، وآية السيف لعبّاد الأوثان.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) في الصلح ، بأن يقصدوا به دفع أصحابك عن القتال ، حتّى يقوى أمرهم فيبدؤوكم بالقتال بالاستعداد التامّ (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) فإنّ محسبك الله تعالى وكافيك من مكرهم (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) جميعا ، ينصرونك على أعدائك ، يريد الأنصار ، وهم الأوس والخزرج.

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) مع ما فيهم من العصبيّة والضغينة في أدنى شيء ، والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان ، فإنّه لم يكن حيّان من العرب بينهما من العداوة مثل ما كان بين هذين الحيّين ، فألّف الله بين قلوبهم حتّى صاروا كنفس واحدة في التحابّ والتوادّ ، وهذا من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبيانه قوله : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي : كان تناهي عداوتهم بحيث لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة والإصلاح ، وإزالة ضغائن الجاهليّة (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بقدرته البالغة ، فإنّه المالك للقلوب ، يقلبها كيف يشاء. فتصافوا ، وصاروا أنصارا بميامن الإسلام ، وبركة سيّد الأنام عليه وآله أفضل الصلاة والسلام.

(إِنَّهُ عَزِيزٌ) تامّ القدرة والغلبة ، لا يعصي عليه ما يريد (حَكِيمٌ) يعلم أنّه كيف ينبغي أن يفعل ما يريده.

__________________

(١) التوبة : ٥ و ٢٩.

٥٩

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))

ثمّ أمر سبحانه بقتال الكفّار ، وحثّ عليه بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) كافيك. وقوله : (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إمّا في محلّ النصب على المفعول معه.

والمعنى : كفاك الله مع متّبعيك من المؤمنين ناصرا. أو في محلّ الجرّ عطفا على المكنيّ عند الكوفيّين. أو الرفع عطفا على اسم الله تعالى ، أي : كفاك الله عزوجل والمؤمنون. وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) بالغ في حثّهم عليه. وأصله الحرض ، وهو أن ينهكه المرض حتّى يشفى ـ أي : يشرف ـ على الموت (إِنْ يَكُنْ

٦٠