زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

ثمّ ضرب سبحانه مثلين للحقّ وأهله والباطل وأهله ، فقال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) من السحاب ، أو من جانب السماء ، أو من السماء نفسها ، فإنّ المبادئ منها (ماءً) مطرا (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) أنهار. جمع واد. وهو الموضع الّذي يسيل الماء فيه بكثرة ، فاتّسع فيه واستعمل للماء الجاري فيه. وتنكيرها لأنّ المطر يأتي على تناوب بين البقاع ، فيسيل بعض الأودية دون بعض.

(بِقَدَرِها) بمقدارها الّذي علم الله تعالى أنّه نافع غير ضارّ. أو بمقدارها في الصغر والكبر ، أي : الصغير على قدره والكبير على قدره ، فسال كلّ نهر بقدره (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً) رفعه. والزبد وضر (١) الغليان (رابِياً) أي : منتفخا مرتفعا.

فشبّه سبحانه الحقّ والإسلام بالماء الصافي النافع ، والباطل بالزبد الذاهب غير النافع.

ثمّ ذكر المثل الآخر بقوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) عبارة جامعة لأنواع الفلزّات ، كالذهب والفضّة والحديد والنحاس ، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به ، كما هو هجّير (٢) الملوك (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) طلب حليّ (أَوْ مَتاعٍ) كالأواني وآلات الحرب والحرث. والمقصود من ذلك بيان منافعها (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي : وممّا يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء ، وهو خبثه. و «من» للابتداء أو للتبعيض. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء ، على أنّ الضمير للناس. وإضماره للعلم به.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) مثّل الحقّ والباطل ، فإنّه مثّل الحقّ في إفادته وثباته بالماء الّذي ينزل من السماء ، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة ، فينتفع به أنواع المنافع ، ويمكث في الأرض ، بأن يثبت بعضه في

__________________

(١) الوضر : خبث الغليان ، ووسخ الدسم.

(٢) الهجّير : العادة والدأب.

٤٤١

مناقعه (١) ، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنيّ والآبار. وبالفلزّ الّذي ينتفع به في صوغ الحليّ ، واتّخاذ الأمتعة المختلفة ، ويدوم ذلك مدّة متطاولة. ومثّل الباطل في قلّة نفعه وسرعة زواله بزبدهما.

وبيّن ذلك بقوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) يجفأ به ، أي : يرمي به السيل أو الفلزّ المذاب. وانتصابه على الحال. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) كالماء الصافي وخلاصة الفلزّ (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ينتفع به أهلها (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) لإيضاح المشتبهات.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) للمؤمنين الّذين استجابوا (لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) أي : الاستجابة الحسنى (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الكفرة. واللام متعلّقة بـ «يضرب» ، على أنّه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما.

قال قتادة : هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد. شبّه نزول القرآن بالماء الّذي ينزل من السماء ، وشبّه القلوب بالأودية والأنهار. فمن استقصى في تدبّره وتفكّر في معانيه أخذ حظّا عظيما منه ، كالنهر الكبير الّذي يأخذ الماء الكثير.

ومن رضي بما أدّاه إلى التصديق بالحقّ على الجملة ، كان أقلّ حظّا منه ، كالنهر الصغير. فهذا مثل واحد.

ثمّ شبّه الخطرات ووساوس الشيطان بالزبد يعلو على الماء ، وذلك من خبث التربة لا عين الماء. وكذلك ما يقع في النفس من الشكوك فمن ذاتها لا من ذات الحقّ. فكما يذهب الزبد باطلا ويبقى صفوة الماء ، كذلك يذهب مخائل الشكّ هباء باطلا ويبقى الحقّ. فهذا مثل ثان.

والمثل الثالث قوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) إلى آخره. فالكفر مثل هذا الخبث الّذي لا ينتفع به ، والإيمان مثل الماء الصافي الّذي ينتفع به.

__________________

(١) المناقع جمع المنقع ، وهو الموضع يستنقع ـ أي : يجتمع ـ فيه الماء.

٤٤٢

وتمّ الكلام عند قوله : (يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ، ثمّ استأنف بقوله : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا).

وقيل : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) مبتدأ خبره (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ). وهو على الأوّل كلام مبتدأ لبيان مآل غير المستجيبين.

(أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) وهو المناقشة فيه ، بأن يحاسب الرجل بذنبه ، لا يغفر منه شيء ، كما

في الحديث : «من نوقش في الحساب عذّب».

وعن النخعي أيضا : أنّ سوء الحساب هو أن يحاسب الرجل بذنبه كلّه ، لا يغفر منه شيء. وعن الصادق عليه‌السلام : «سوء الحساب أن لا يقبل لهم حسنة ، ولا يغفر لهم سيّئة» لسوء عقيدة صاحبه.

(وَمَأْواهُمْ) ومرجعهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) المستقرّ. والمخصوص بالذمّ محذوف. وأصل المهاد الفراش الّذي يوطّأ لصاحبه.

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ

٤٤٣

يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))

ثمّ بيّن سبحانه الفرق بين المؤمن والكافر بقوله : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) فيستجيب (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) عمى القلب ، لا يستبصر فيستجيب.

والهمزة لإنكار أن تقع شبهة في تشابههما بعد ما ضرب من المثل. يعني : لا شبهة في أنّ حال من علم أنّ ما أنزل إليك من ربّك فاستجاب ، بمعزل من حال الجاهل الّذي لم يستبصر فيستجيب ، كبعد ما بين الزبد والماء ، والخبث غير النافع وخلاصة الفلزّة الّتي ينتفع بها.

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) ذوو العقول المبرّأة عن مشايعة الأهواء ومعارضة الأوهام ، فإنّ أرباب العقول الصافية يتفكّرون ويستبصرون ، فيعلمون قضايا عقولهم.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيّته حين قالوا «بلى». أو ما عهد الله عليهم في كتبه. (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد. وهو تعميم بعد تخصيص.

(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الرحم ، وموالاة المؤمنين ، والإيمان بجميع الأنبياء. ومنه وصل قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم أهل بيته المعصومون عليهم‌السلام وذرّيّتهم ، والإحسان إليهم ، والذبّ عنهم ، ونصرتهم ، والنصيحة لهم ، وعيادة مرضاهم ، وحضور جنائزهم.

روى محمد بن الفضيل عن موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام في هذه الآية قال : هي صلة آل محمّد معلّقة بالعرش تقول : اللهمّ صل من وصلني ، واقطع من قطعني».

ويندرج فيه أيضا مراعاة صلة الرحم وجميع حقوق الناس.

٤٤٤

روى أصحابنا أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام لمّا حضرته الوفاة قال : «أعطوا الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين ـ وهو الأفطس ـ سبعين دينارا. فقالت له أمّ ولد له : تعطي رجلا حمل عليك بالشفرة! فقال : ويحك أما تقرئين قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)؟!».

(وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وعيده كلّه عموما (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) خصوصا.

فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا) على ما تكرهه النفس ويخالفه الهوى ، من أوامر الله وسائر مشاقّ التكليف ، والمصائب في النفوس والأموال ، وعن المعاصي (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) طلبا لرضاه ، لا لغرض آخر من الأغراض الدنيويّة ، كسمعة وطمع عوض وغيرهما.

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) بعضه الّذي وجب عليهم إنفاقه من الحلال ، لأنّ الحرام لا يكون رزقا (سِرًّا) لمن لم يعرف بالمال (وَعَلانِيَةً) لمن عرف به ، دفعا للتهمة.

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ويدفعونها بها ، فيجازون الإساءة بالإحسان.

عن ابن عبّاس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سّيء غيرهم. وعن الحسن إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا. أو يتبعون السيّئة الحسنة ، فتمحوها ، كما

في الحديث : «أتبع السيّئة الحسنة تمحقها».

وأيضا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاذ بن جبل : «إذا عملت سيّئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها».

(أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) عاقبة الدار وما ينبغي أن يكون مآل أهلها ، وهي الجنّة ، لأنّها الّتي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها. الجملة خبر الموصولات إن رفعت بالابتداء. وإن جعلت صفات لـ (أُولُوا الْأَلْبابِ) فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.

٤٤٥

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من (عُقْبَى الدَّارِ). أو مبتدأ خبره (يَدْخُلُونَها). والعدن الإقامة ، أي : جنّات يقيمون فيها. وقيل : هو بطنان الجنّة ، أي : وسطها. وعن ابن عبّاس : هي الدرجة العليا ، وسكّانها الشهداء والصدّيقون. وقيل : قصر من ذهب ، لا يدخله إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حاكم عدل.

(وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) عطف على المرفوع في «يدخلون». وإنّما ساغ للفصل بالضمير الآخر. أو مفعول معه. والآباء جمع أبوي كلّ واحد منهم ، فكأنّه قال : من آبائهم وأمّهاتهم. والمعنى : أنّه يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم ، تبعا لهم وتعظيما لشأنهم ، كما قال : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١). وهو دليل على أنّ الدرجة تعلو بالشفاعة. أو أنّ الموصوفين بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض ـ لما بينهم من القرابة والوصلة ـ في دخول الجنّة زيادة في أنسهم. وفي التقييد بالصلاح دلالة على أنّ مجرّد الأنساب لا تنفع.

(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب المنازل ، أو من أبواب الفتوح والتحف ، قائلين : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) بشارة بدوام السلامة (بِما صَبَرْتُمْ) على الطاعة ، وعن المعاصي. وهو متعلّق بـ «عليكم» ، أو بمحذوف ، أي : هذا بما صبرتم لا بسلام ، فإنّ الخبر فاصل. والباء للسببيّة ، أو للبدليّة.

(فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الأصل : نعم ، فسكّن العين بنقل كسرتها إلى الفاء بعد حذف الفتحة.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ

__________________

(١) الطور : ٢١.

٤٤٦

يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))

ولمّا ذكر سبحانه الّذين يوفون بعهد الله ، ووصفهم بالصفات الّتي يستحقّون بها الجنّة ، عقّبه بذكر الّذين حالهم على خلاف حالهم ، فقال : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) يعني : مقابلي الأوّلين (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) من بعد ما أوثقوه به من الإقرار والقبول (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بظلم العباد ، وتهييج الفتن بينهم ، وإضلالهم عن الحقّ (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) عذاب جهنّم ، أو سوء عاقبة الدنيا.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يوسّعه ويضيّقه وفق المصلحة ، دون غيره (وَفَرِحُوا) أهل مكّة (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) بما بسط لهم في الدنيا (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) في جنب الآخرة (إِلَّا مَتاعٌ) متعة لا تدوم ، كعجالة (١) الراكب وزاد الراعي. والمعنى : أنّهم أشروا (٢) بما نالوا من الدنيا ، ولم يصرفوه فيما يستوجبون به نعيم الآخرة ، واغترّوا بما هو في جنب نعيم الآخرة حقير قليل النفع

__________________

(١) عجالة الراكب : ما يتعجّله من طعام أو شراب.

(٢) أي : فرحوا فرح بطر وأشر وتكبّر.

٤٤٧

سريع الزوال.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) اقترحناها (مِنْ رَبِّهِ) لمّا جحدوا آياته الكثيرة الّتي لم يؤتها نبيّ قبله ، ومن أعظمها القرآن الّذي يعجزون عن الإتيان بمثله مع أنّهم أبلغ بلغاء زمانهم ، ولم يعتدّوا بها عنادا وإنكارا ولجاجا ، فجعلوها كأنّها لم تنزل عليه قطّ ، وقالوا ذلك تعجّبا واستنكارا.

(قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) خذلانا وتخلية ، باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أقبل إلى الحقّ ورجع عن العناد. وهذا جواب يجري مجرى التعجّب من قولهم ، كأنّه قال : قل لهم ما أعظم عنادكم! إنّ الله يضلّ من يشاء ممّن كان على صفتكم ، فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كلّ آية ، ويهدي إليه من أناب بما جئت به من الآيات.

(الَّذِينَ آمَنُوا) بدل من «من» ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الّذين آمنوا (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أنسا به ، واعتمادا عليه ، ورجاء منه. أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته ، كقوله : (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (١). أو بذكر دلائله الدالّة على وجوده ووحدانيّته. أو بكلامه ، يعني : القرآن الّذي هو أقوى المعجزات (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) تسكن إليه.

وهذا حثّ للعباد على تسكين القلب إلى ما وعد الله به من النعيم والثواب ، والطمأنينة إليه ، فإنّ وعده سبحانه صادق ، ولا شيء تطمئنّ النفس إليه أبلغ من الوعد الصادق.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بدل من (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ). أو مبتدأ خبره (طُوبى لَهُمْ) هو فعلى من الطيب ، قلبت ياؤه واوا ، لضمّة ما قبلها. مصدر لـ «طاب» ، كبشرى وزلفى. ومعنى «طوبى لك» : أصبت خيرا وطيبا.

__________________

(١) الزمر : ٢٣.

٤٤٨

واللام للبيان ، مثلها في : سقيا لك. ومعناه : لهم عيش طيّب وقرّة عين. ويجوز فيه النصب.

وقيل : إنّ طوبى شجرة في الجنّة ، أصلها في دار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي دار كلّ مؤمن منها غصن. وهو قول عبيد بن عمير ، ووهب ، وأبي هريرة ، وشهر بن حوشب. ورواه أبو سعيد الخدري. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. قال : لو كان راكب مجدّ سار في ظلّها مائة عام ما خرج منها. ولو أنّ غرابا طار من أصلها ما بلغ أعلاها حتّى يبيضّ هرما. ألا في هذا فارغبوا ، إنّ المؤمن نفسه منه في شغل والناس منه في راحة.

وروى عليّ بن إبراهيم عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن عليّ بن رئاب ، عن أبي عبيدة الحذّاء ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكثر تقبيل فاطمة عليهما‌السلام ، فأنكرت عليه بعض نسائه ذلك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه لمّا أسري بي إلى السماء دخلت الجنّة ، فأدناني جبرئيل عليه‌السلام من شجرة طوبى ، وناولني منها تفّاحة ، فأكلتها ، فحوّل الله ذلك في ظهري ماء ، فهبطت الى الأرض وواقعت خديجة ، فحملت بفاطمة عليها‌السلام ، فكلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتها ، وما قبّلتها إلّا وجدت رائحة شجرة طوبى منها ، فهي حوراء إنسيّة».

وروى الثعلبي بإسناده عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس ، قال : طوبى شجرة أصلها في دار عليّ عليه‌السلام في الجنّة ، وفي دار كلّ مؤمن منها غصن.

ورواه أبو بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام.

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن موسى بن جعفر عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طوبى. قال : شجرة أصلها في داري ، وفرعها على أهل الجنّة. ثمّ سئل عنها مرّة اخرى. فقال : هي في دار

٤٤٩

عليّ عليه‌السلام. فقيل له في ذلك. فقال : إنّ داري ودار عليّ عليه‌السلام في الجنّة بمكان واحد» (١).

(وَحُسْنُ مَآبٍ) ولهم حسن مرجع.

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠))

ولمّا ذكر سبحانه النعمة على من تقدّم ذكره بالثواب وحسن المآب ، عقّبه بذكر النعمة على من أرسل إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (كَذلِكَ) مثل إرسال الرسل قبلك (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها) أي : في أمّة قد تقدّمتها (أُمَمٌ) كثيرة أرسلوا إليهم ، فليس ببدع إرسالك إليها ، وهي آخر الأمم ، وأنت خاتم الأنبياء عليهم‌السلام (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الّذي أوحيناه إليك (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) وحال هؤلاء أنّهم يكفرون بالله الواسع الرحمة البليغ الإحسان ، الّذي أحاطت بهم نعمته ، ووسعت كلّ شيء رحمته ، فلم يشكروا نعمه ، وخصوصا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم ، وإنزال القرآن المعجز الّذي هو مناط المنافع الدينيّة والدنيويّة عليهم.

قيل : نزلت في مشركي أهل مكّة حين قيل لهم : اسجدوا للرحمن ، فقالوا : وما الرحمن؟

(قُلْ هُوَ رَبِّي) أي : الرحمن خالقي ومتولّي أمري (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا مستحقّ للعبادة سواه ، متعاليا عن الشركاء والأنداد (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في نصرتي

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ : ٣٩٦ ح ٤١٧.

٤٥٠

عليكم (وَإِلَيْهِ مَتابِ) مرجعي ومرجعكم ، فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١))

ولمّا تقدّم كفرهم بالرحمن عظّم شأن القرآن ، وبالغ في رسوخهم في الكفر ، وتوغّلهم في العناد ، وتصميمهم على الإنكار ، مع وضوح حقيقة القرآن ، فقال : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) شرط حذف جوابه ، أي : ولو أنّ كتابا زلزلت وزعزعت به الجبال عن مقارّها.

(أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) تصدّعت من خشية الله تعالى عند قراءته. أو شقّقت فجعلت أنهارا وعيونا.

(أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) فتقرؤه به ، أو فتسمع ، وتجيب عند قراءته ، لكان هذا القرآن ، لأنّه الغاية في الإعجاز ، والنهاية في التذكير والإنذار ، كما قال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (١). أو لما آمنوا به ، كقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) (٢) الآية. وتذكير «كلّم» خاصّة لاشتمال الموتى على المذكّر الحقيقي.

وقيل : إنّ أبا جهل وطائفة من قريش قالوا : يا محمّد : إن سرّك أن نتّبعك فسيّر بقرآنك الجبال عن مكّة ، حتّى تتّسع لنا فنتّخذ فيها بساتين وقطائع ، أو سخّر

__________________

(١) الحشر : ٢١.

(٢) الأنعام : ١١١.

٤٥١

لنا به الريح لنركبها ونتّجر إلى الشام ، أو ابعث لنا به قصيّ بن كلاب وغيره من آبائنا ليكلّمونا في صدقك ، فنزلت. وعلى هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير.

وقيل : الجواب مقدّم ، وهو قوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) ، وما بينهما اعتراض.

ثمّ أضرب عمّا تضمّنته «لو» من معنى النفي ، فقال : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) بل لله القدرة على كلّ شيء ، فإنّه قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات ، لكنّ الإرادة لم تتعلّق بذلك ، لعلمه بأنّه لا تلين له شكيمتهم ، ولا يزول رسوخ عنادهم وشدّة كفرهم. أو قادر على أن يلجئهم إلى الايمان ، ولكن بناء أمر التكليف على الاختيار ، فلم يلجئهم. ولذلك قال : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) أفلم يقنطوا عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم.

وذهب أكثرهم إلى أنّ معناه : أفلم يعلم؟ لما روي أنّ عليّا عليه‌السلام وابن عبّاس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا : أفلم يتبيّن.

وهو تفسيره وإنّما استعمل اليأس بمعنى العلم ، لأنّه مسبّب عن العلم ، فإنّ اليائس عن الشيء عالم بأنّه لا يكون ، كما استعمل الرجاء بمعنى الخوف لذلك.

وعلى هذا قوله : (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) متعلّق بـ «ييأس» ، أي : أفلم يعلم المؤمنون أن لو يشاء الله مشيئة جبر وقسر لهداهم؟ وعلى الأوّل متعلّق بمحذوف تقديره : أفلم ييأس الّذين آمنوا عن إيمانهم ، علما منهم أن لو يشاء الله مشيئة جبر لهداهم جميعا. ويجوز أن يكون المعنى : لو أراد أن يهدي الخلق كلّهم إلى جنّته لهداهم ، لكنّه كلّفهم لينالوا الثواب بطاعاتهم على وجه الاستحقاق.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) من الكفر وسوء الأعمال (قارِعَةٌ) داهية تقرعهم وتقلقلهم ، من صنوف المصائب في نفوسهم وأموالهم (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) ، فيفزعون منها ، ويتطاير إليهم شررها.

وقيل : الآية في كفّار مكّة ، فإنّهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه كان لا يزال يبعث السرايا فينزلون حواليهم ، ويختطفون مواشيهم.

٤٥٢

وعلى هذا يجوز أن يكون «تحلّ» خطابا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه حلّ بجيشه قريبا من دارهم عام الحديبية.

(حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) الموت ، أو القيامة ، أو فتح مكّة (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) لامتناع الكذب في كلامه.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢))

ثمّ قال تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتوعّدا للمشركين المقترحين عليه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الإملاء أن يترك شيء ملاوة ـ أي :

مقدارا ـ من الزمان في دعة وأمن ، كالبهيمة تملى في المرعى (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي : عقابي إيّاهم.

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))

ثمّ احتجّ على المشركين في إشراكهم بالله ، فقال : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) أي :

٤٥٣

رقيب (عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) من خير أو شرّ ، بحيث لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، ولا يفوت عنده شيء من جزائهم. والخبر محذوف تقديره : كمن ليس كذلك. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) استئناف ، أو عطف على «كسبت» إن جعلت «ما» مصدريّة. أو تقدير الخبر : لم يوحّدوه ، «وجعلوا» عطف عليه. ويكون الظاهر فيه موضع المضمر للتنبيه على أنّه المستحقّ للعبادة.

ثمّ نبّه على أنّ هؤلاء الشركاء لا يستحقّون العبادة ، فقال : (قُلْ سَمُّوهُمْ) بالأسماء الّتي هي صفاتهم ، أي : صفوهم فانظروا هل لهم ما يستحقّون به العبادة ويستأهلون الشركة؟ (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ) بل أتنبّئونه (بِما) بشركاء له يستحقّون العبادة ، أو بصفات لهم يستحقّونها لأجلها (لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) لا يعلمهم فيها ، وهو العالم بكلّ شيء ، فإذا لم يعلمهم فإنّهم ليسوا بشيء يتعلّق بهم العلم. والمراد نفي أن يكون له شركاء. ونحوه : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (١).

(أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أم تسمّونهم شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة واعتبار معنى ، كتسمية الزنجي كافورا ، كقوله : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) (٢) (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) (٣).

وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ، ينادي بلسان فصيح أنه ليس من كلام البشر ، بل محض الإعجاز.

(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) تمويههم ، فتخيّلوا أباطيل ثمّ خالوها حقّا ، أو كيدهم للإسلام بشركهم (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الحقّ. وقرأ نافع وأبو عمرو

__________________

(١) يونس : ١٨.

(٢) التوبة : ٣٠.

(٣) يوسف : ٤٠.

٤٥٤

وابن عامر : وصدّوا بالفتح ، أي : وصدّوا الناس عن الإيمان.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يخذله في الضلالة ويخلّه فيها ، لفرط عناده ورسوخ كفره (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يوفّقه للهدى ، أو يقدر على هدايته.

(لَهُمْ عَذابٌ) بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ) أغلظ وأبلغ ، لشدّته ودوامه (وَما لَهُمْ مِنَ) عذاب (اللهِ مِنْ واقٍ) حافظ يدفع عنهم عذابه.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥))

ولمّا ذكر ما أعدّ للكفّار عقّبه بذكر ما أعدّ للمؤمنين ، فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي : صفتها الّتي هي مثل في الغرابة. وهو مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه ، أي : فيما قصصنا عليكم مثل الجنّة. وعند غيره خبره (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) على طريقة قولك : صفة زيد أسمر. وعن الزجّاج الموصوف محذوف ، أي : مثل الجنّة جنّة تجري من تحتها الأنهار. أو على زيادة المثل. وهو على قول سيبويه حال من العائد المحذوف ، أو من الصلة.

(أُكُلُها دائِمٌ) لا ينقطع ثمرها ، كقوله : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (١) (وَظِلُّها) أي : وظلّها كذلك ، لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس.

(تِلْكَ) أي : الجنّة الموصوفة (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) مآلهم ومنتهى أمرهم (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) لا غير. وفي ترتيب النظمين إطماع للمتّقين وإقناط للكافرين.

__________________

(١) الواقعة : ٣٣.

٤٥٥

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧))

ولمّا تقدّم ذكر الوعد والوعيد أخبر سبحانه عن حال المتّقين والكافرين في الدنيا ، فقال : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يعني : المسلمين من أهل الكتاب ، كابن سلام وأصحابه ، ومن آمن من النصارى ، وهم ثمانون رجلا : أربعون بنجران ، وثمانية باليمن ، واثنان وثلاثون بالحبشة. أو عامّتهم ، فإنّهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم.

(وَمِنَ الْأَحْزابِ) يعني : كفرتهم الّذين تحزّبوا على عداوة رسول الله ، ككعب بن الأشرف وأصحابه والسيّد والعاقب وأشياعهما (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهو ما يخالف شرائعهم ، أو ما يوافق لما حرّفوه منها ، فإنّ الأقاصيص والأحكام الّتي هي ثابتة في كتبهم لا ينكرونها.

(قُلْ) في جواب المنكرين (إِنَّما أُمِرْتُ) فيما أنزل إليّ (أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) بأن أعبد الله وأوحّده. وهو العمدة في الدين ، ولا سبيل لكم إلى إنكاره.

وأمّا ما تنكرونه لما يخالف شرائعكم ، فليس ببدع مخالفة الشرائع والكتب الإلهيّة في جزئيّات الأحكام.

(إِلَيْهِ أَدْعُوا) لا إلى غيره (وَإِلَيْهِ مَآبِ) وإليه مرجعي للجزاء ، لا إلى غيره.

وهذا هو القدر المتّفق عليه بين الأنبياء ، وأما ما عدا ذلك من التفاريع فممّا يختلف

٤٥٦

بالأعصار والأمم ، فلا معنى لإنكاركم المخالفة فيه.

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها ، أو كما أنزل الكتب إلى من تقدّم من الأنبياء بلسانهم (أَنْزَلْناهُ حُكْماً) يحكم في القضايا والوقائع بما تقتضيه الحكمة (عَرَبِيًّا) مترجما بلسان العرب ، ليسهل لهم فهمه وحفظه. وانتصابه على الحال.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) الّتي يدعونك إليها ، كتقرير دينهم ، والصلاة إلى قبلتهم حين حوّلت عنها (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بنسخ ذلك (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) ينصرك ويمنع العقاب عنك. وهو حسم لأطماعهم ، وتهييج للمؤمنين على التصلّب في دينهم ، والتثبّت فيه من الزلّة عند الشبهة بعد الاستمساك بالحجّة ، وإلّا فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من شدّة الشكيمة بمكان عظيم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠))

روي أنّهم كانوا يعيبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكثرة تزوّج النساء ، كما كانوا يقولون : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) (١). وكانوا يقترحون عليه الآيات ، وينكرون النسخ. فقال الله سبحانه ردّا عليهم : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) بشرا مثلك (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) نساء وأولادا ، كما هي لك.

__________________

(١) الفرقان : ٧.

٤٥٧

(وَما كانَ لِرَسُولٍ) وما صحّ له ولم يكن في وسعه (أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) تقترح عليه ، وبحكم يلتمس منه (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإنّه المقتدر لا غيره.

ثمّ ردّ إنكار النسخ بقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكلّ وقت وأمد حكم يكتب على العباد ، على ما يقتضيه استصلاحهم.

(مْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) ينسخ ما يستصوب نسخه (وَيُثْبِتُ) ما تقتضيه حكمته.

وقيل : يمحو سيّئات التائب ، ويثبت الحسنات مكانها ، كقوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (١).

وقيل : يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلّق به جزاء ، ويترك غيره مثبتا ، فإنّهم مأمورون بكتبة كلّ قول وفعل.

أو يمحو ما يشاء من ذنوب المؤمنين فضلا ، فيسقط عقابها ، ويثبت ذنوب من يريد عقابه عدلا.

عن ابن مسعود : أنّه عامّ في كلّ شيء ، فيمحو من الرزق ويزيد فيه ، ويمحو من الأجل ويثبت ، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما. أو يثبت ما رآه وحده في صميم قلبه.

وقيل : يمحو ما يشاء من القرون ، ويثبت ما يشاء منها ، كقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٢).

وقيل : يمحو الفاسدات ، ويثبت الكائنات.

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي : ويثبّت بالتشديد.

(وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أصل الكتب ، وهو اللوح المحفوظ ، إذ ما من كائن إلّا وهو مكتوب فيه.

__________________

(١) الفرقان : ٧٠.

(٢) المؤمنون : ٣١.

٤٥٨

روى أبو قلابة عن ابن مسعود أنّه كان يقول : اللهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء ، فامحني من الأشقياء ، واثبتني في السعداء ، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أمّ الكتاب. وروي مثل ذلك عن أئمّتنا عليهم‌السلام في دعواتهم المأثورة.

وروى عكرمة عن ابن عبّاس قال : لله كتابان : كتاب سوى أمّ الكتاب ، يمحو الله منه ما يشاء ويثبت ، وأمّ الكتاب لا يغيّر منه شيء. ورواه عمران بن حصين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن ليلة القدر. فقال : ينزل الله فيها الملائكة والكتبة إلى السماء الدنيا ، فيكتبون ما يكون من أمر السنة ، وما يصيب العباد ، وأمر ما عنده موقوف له فيه المشيئة ، فيقدّم منه ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، ويمحو ويثبت ، وعنده أمّ الكتاب».

وروى الفضيل قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : العلم علمان : علم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ، وعلم عنده محزون لم يطّلع عليه أحد ، يحدث فيه ما يشاء».

وروى زرارة عن حمران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «هما أمران : موقوف ومحتوم ، فما كان من محتوم أمضاه ، وما كان من موقوف فله فيه المشيئة ، يقضي فيه ما يشاء».

وقيل : المراد من الآية أنّ الله يغيّر الأرزاق والمحن والمصائب ، ويثبته في الكتاب ، ثمّ يزيله بالدعاء والصدقة. ففيه حثّ على الانقطاع إليه سبحانه.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) وكيفما دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم ، أو توفّيناك قبله (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) لا غير (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) للمجازاة لا عليك ، فلا تحزن ـ أي : بإعراضهم ـ ولا تستعجل بعذابهم ، فإنّا فاعلون له إمّا عاجلا وإمّا آجلا.

وفي هذه دلالة على أنّ الإسلام سيظهر على سائر الأديان ، ويبطل الشرك

٤٥٩

في أيّامه وبعد وفاته ، وقد وقع المخبر به على وفق الخبر.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١))

ثمّ ذكر سبحانه ما يكون للكفّار كالبيّنة على الاعتبار ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أرض الكفّار (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي : ننقص دار الحرب ، ونزيد في دار الإسلام بما نفتحه على المسلمين منها. والمعنى : عليك البلاغ ، ولا يهمّنّك ما وراء ذلك ، فنحن نكفيكه ، ونتمّ ما وعدناك من الظفر وإعلاء كلمة الإسلام ، فلا يضجرك تأخّره ، فإنّ ذلك لما نعلم من المصالح الّتي لا تعلمها.

(وَاللهُ يَحْكُمُ) يفصّل الأمر (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا ناقض لحكمه ، ولا رادّ لقضائه. وحقيقته الّذي يعقّب الشيء ويكرّ عليه ليبطله ، ومنه قيل لصاحب الحقّ :

معقّب ، لأنّه يقفو غريمه بالاقتضاء. والمعنى : أنه حكم للإسلام بالإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار ، وذلك كائن لا يمكن تغييره. ومحلّ «لا» مع المنفيّ النصب على الحال ، أي : يحكم نافذا حكمه.

(وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيحاسبهم عمّا قليل في الآخرة ، بعد ما عذّبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

٤٦٠