زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تتمّة كلامه ، أو ابتداء كلام من الله تعالى. وفي حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين ، وإيقاظ لهم حتّى يحاسبوا أنفسهم ، ويتدبّروا عواقبهم.

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

ولمّا تقدّم وعيد الكافرين ، عقّبه سبحانه بالوعد للمؤمنين ، فقال : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بإذن الله وأمره. والمدخلون هم الملائكة. (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي : تحيّيهم الملائكة فيها بالسلام بإذن ربّهم.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

ثمّ ضرب سبحانه مثلا يقرّب من أفهام السامعين ، ترغيبا للخلق في اتّباع

٤٨١

الحقّ ، فقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) كيف اعتمده ووضعه (كَلِمَةً طَيِّبَةً) منصوبة بفعل مضمر ، أي : جعل كلمة طيّبة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) زاكية نامية. وهو تفسير لقوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ، كما تقول : أكرم الأمير زيدا ، كساه حلّة ، وحمله على فرس. ويجوز أن تكون «كلمة» بدلا من «مثلا» و «كشجرة» صفتها ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي كشجرة. وأن تكون أول مفعولي «ضرب» ، إجراء لها مجرى «جعل».

(أَصْلُها ثابِتٌ) في الأرض ، ضارب بعروقه فيها ، راسخة أصولها فيها (وَفَرْعُها) وأعلاها (فِي السَّماءِ) في جهة العلوّ والصعود. أراد به المبالغة في الرفعة. ويجوز أن يريد : وفروعها ، أي : أفنانها (١) ، على الاكتفاء بلفظ الجنس ، لاكتسابه الاستغراق من الإضافة.

(تُؤْتِي أُكُلَها) تعطي ثمرها (كُلَّ حِينٍ) وقّته الله لإثمارها. وعن سعيد بن جبير : أراد بذلك أنّه يؤكل ثمرها في الصيف ، وطلعها في الشتاء. وما بين صرام (٢) النخلة إلى حملها ستّة أشهر. (بِإِذْنِ رَبِّها) بإرادة خالقها وتكوينه.

وقيل : معناه في جميع الأوقات ، لأنّ ثمر النخل يكون أوّلا طلعا ، ثمّ يصير بلحا ، ثمّ بسرا ، ثمّ رطبا ، ثمّ تمرا ، فيكون ثمره موجودا في الأوقات كلّها.

(وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لأنّ في ضربها زيادة إفهام وتذكير ، فإنّه تصوير للمعاني وإدناء لها من الحسّ.

والكلمة الطيّبة هي كلمة التوحيد ، كما نقل عن ابن عبّاس أنّها شهادة أن لا إله إلّا الله. وقيل : كلّ كلمة حسنة ، كالتسبيحة والتحميد والتوبة والاستغفار والدعوة ، وسائر ما أمر الله تعالى به. وإنّما سمّاها طيّبة ، لأنّها زاكية بالخيرات ، نامية

__________________

(١) الأفنان جمع الفنن ، وهو الغصن المستقيم.

(٢) أي : قطع تمرها.

٤٨٢

بالبركات في الدنيا والآخرة.

وأمّا الشجرة فكلّ شجرة مثمرة طيّبة الثمار ، كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمّان ، وغير ذلك. وعن ابن عبّاس : شجرة في الجنّة.

وروى ابن عقدة عن الباقر عليه‌السلام : «أنّ الشجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفرعها عليّ عليه‌السلام ، وعنصر الشجرة فاطمة عليهما‌السلام ، وثمرتها أولادها ، وأغصانها وأوراقها شيعتنا». ثمّ قال : «إنّ الرجل من شيعتنا ليموت فتسقط من الشجرة ورقة ، وإنّ المولود من شيعتنا ليولد فيورق مكان تلك الورقة ورقة».

وروي عن ابن عبّاس قال : قال جبرئيل عليه‌السلام للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت الشجرة ، وعليّ غصنها ، وفاطمة ورقها ، والحسن والحسين عليهما‌السلام ، ثمارها ، وشيعتكم أوراقها.

وقيل : إنّه سبحانه شبّه الإيمان بالنخلة ، لثبات الإيمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في منبتها. وشبّه علوّ مرتبة الإيمان عند الله بارتفاع فروع النخلة.

وشبّه ما يكسبه المؤمنون من بركة الإيمان وثوابه في كلّ وقت وحين ، بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلّها ، من الرطب والتمر.

وقيل : إنّ معنى قوله : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) ما يفتي به الأئمّة من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيعتهم في الحلال والحرام.

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ) استؤصلت وأخذت جثّتها بالكلّية (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) لأنّ عروقها قريبة منه (ما لَها مِنْ قَرارٍ) استقرار. يقال : قرّ الشيء قرارا ، كقولك : ثبت ثباتا ، في مقابلة قوله : «أصلها ثابت». شبّه بها القول الّذي لم يعضد بحجّة ، فهو داحض غير ثابت. وهذه الكلمة كلمة الشرك ، والدعاء إلى الكفر ، وتكذيب الحقّ ، أو كلّ كلمة مضلّة على العموم. وفسّرت الشجرة بالحنظلة والكشوث (١). وعن الباقر عليه‌السلام : أنّها بنو أميّة.

__________________

(١) الكشوث : نبات طفيليّ ، لا جذر له ولا ورق ، يلتفّ بأغصان الشجر.

٤٨٣

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) أي : الّذي ثبت بالحجّة عندهم ، وتمكّن في قلوبهم ، فاعتقدوه ، واطمأنّت إليه أنفسهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلا يزلّون إذا فتنوا في دينهم ، كزكريّا ويحيى وجرجيس وشمعون ، والّذين فتنهم أصحاب الأخدود (وَفِي الْآخِرَةِ) فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف ، ولا تدهشهم أهوال يوم القيامة.

وقيل : معناه الثبات عند سؤال القبر. وهذا قول أكثر المفسّرين ، منقول عن ابن عبّاس وابن مسعود. وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

وعن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : قال : «إنّ المؤمن الصالح إذا كان في آخر يوم من الدنيا وأوّل يوم من الآخرة ، أتاه عمله الصالح أطيب الناس ريحا ، وأحسنهم منظرا ، وأحسنهم رياشا ، فقال : أبشر بروح وريحان وجنّة نعيم ، ومقدمك خير مقدم.

فيقول له : من أنت؟

فيقول : أنا عملك الصالح ، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة ، وإنّه ليعرف غاسله ، ويناشد حامله أن يعجّله.

فإذا أدخل قبره أتاه ملكا القبر يجرّان أشعارهما ، ويخدّان الأرض بأنيابهما ، أصواتهما كالرعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، فيقولان له : من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟

فيقول : الله ربّي ، وديني الإسلام ، ونبييّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فيقولان : ثبّتك الله فيما تحبّ وترضى.

وهو قوله سبحانه وتعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ). ثمّ يفسحان له في القبر قدّ بصره ، ثمّ يفتحان له بابا إلى الجنّة ، ثمّ يقولان له : نم قرير العين نوم الشابّ الناعم ، فإنّ الله سبحانه يقول : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (١)».

__________________

(١) الفرقان : ٢٤.

٤٨٤

عن البراء بن عازب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : «ثمّ يعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ، ويقولان له : من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيقول : ربّي الله ، وديني الإسلام ، ونبيّي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي. فذلك قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ).

(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الّذين ظلموا أنفسهم بالاقتصار على تقليد شيوخهم وكبارهم وآبائهم ، فقالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (١). وإضلالهم الله في الدنيا أنّهم لا يثبّتون في مواقف الفتن ، تخلية وخذلانا.

(وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ولا يشاء إلّا ما توجبه الحكمة ، من تثبيت المؤمنين وتأييدهم ، وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم ، ومن إضلال الظالمين ، أي : خذلانهم والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) أي : شكر نعمته كفرانا ، بأن وضعوا مكانه كفرا ، فكأنّهم غيّروا الشكر إلى الكفر ، وبدّلوه تبديلا. ونحوه : (وَتَجْعَلُونَ

__________________

(١) الزخرف : ٢٢.

٤٨٥

رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (١) ، أي : شكر رزقكم ، حيث وضعتم التكذيب موضعه.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عبّاس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحّاك : أنّهم كفّار قريش ، كذّبوا نبيّهم ، ونصبوا له الحرب والعداوة.

فالمعنى : أنّ الله سبحانه خلق كفّار مكّة وأسكنهم حرمه ، وجعلهم قوّام بيته ، ووسّع عليهم أبواب رزقه ، وشرّفهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبدّلوا نفس النعمة كفرا ، فسلبت منهم ، فقحطوا سبع سنين ، وأسروا وقتلوا يوم بدر ، وصاروا أذلّاء ، فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر ، حاصلا لهم الكفر بدلها.

وأيضا عن عليّ عليه‌السلام : «هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أميّة ، فأمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأمّا بنو أميّة فمتّعوا حتّى حين».

(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) الّذين شايعوهم في الكفر (دارَ الْبَوارِ) دار الهلاك ، بحملهم على الكفر.

(جَهَنَّمَ) عطف بيان لها (يَصْلَوْنَها) حال منها ، أو من القوم ، أي : داخلين فيها مقاسين لحرّها. أو مفسّر لفعل مقدّر ناصب لـ «جهنّم».

(وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي : وبئس المقرّ جهنّم.

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «نحن والله نعمة الله الّتي أنعم بها على عباده ، وبنا يفوز من فاز من دار البوار». ذكره عليّ بن إبراهيم (٢) في تفسيره.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) الّذي هو التوحيد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بفتح الياء. وليس الضلال والإضلال غرضهم في اتّخاذ الأنداد ، لكن لمّا كان نتيجته جعل كالغرض على طريق التشبيه.

(قُلْ تَمَتَّعُوا) بشهواتكم أو بعبادة الأوثان ، فإنّها من قبيل الشهوات الّتي

__________________

(١) الواقعة : ٨٢.

(٢) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ : ٣٧١.

٤٨٦

يتمتّع بها. وفي التهديد بصيغة الأمر إيذان بأنّهم لانغماسهم في التمتّع لا يعرفون غيره ولا يريدونه ، فكأنّهم مأمورون به ، قد أمرهم آمر مطاع ، وأنّ المهدّد عليه ـ أي : التمتّع ـ كالمطلوب ، لإفضائه إلى المهدّد به ، وهو النار ، وأنّهما متلازمان ، ولذلك علّله بقوله : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ) مرجعكم (إِلَى النَّارِ) إلى نار جهنّم.

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) خصّهم بالإضافة تنويها لهم ، وتنبيها على أنّهم المقيمون لحقوق العبوديّة. ومفعول «قل» محذوف يدلّ عليه جوابه ، أي : قل لعبادي الّذين آمنوا أقيموا الصّلاة وأنفقوا. (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) فيكون إيذانا بأنّهم لفرط مطاوعتهم للرسول بحيث لا ينفكّ فعلهم عن أمره ، وأنّه كالسبب الموجب له.

وقيل : لام الأمر مقدّر فيهما ، أي : ليقيموا ولينفقوا ، ليصحّ تعلّق القول بهما.

وإنّما جاز حذف اللام ، لأنّ الأمر الّذي هو «قل» عوض منه. ولو قيل ابتداء : ليقيموا الصلاة وينفقوا ، لم يجز.

وقيل : هما جوابا «أقيموا» و «أنفقوا» يقامان مقامهما.

وهو ضعيف ، لأنّه لا بدّ من مخالفه ما بين الشرط وجوابه ، ولأنّ أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحدا.

(سِرًّا وَعَلانِيَةً) منتصبان على المصدر ، أي : إنفاق سرّ وعلانية. أو على الحال ، أي : ذوي سرّ وعلانية ، بمعنى : مسرّين ومعلنين. أو على الظرف ، أي : وقتي سرّ وعلانية. والأفضل إعلان الواجب إذا كان صاحبه متّهما ، وإلّا إخفاؤه أفضل.

وفي المتطوّع به الأفضل الإخفاء مطلقا.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاع المقصّر ما يتدارك به تقصيره ، أو يفدي به نفسه (وَلا خِلالٌ) ولا مخالّة فيشفع له خليل. أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالّة ، وإنّما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح فيهما ، على النفي العامّ.

٤٨٧

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

ثمّ بيّن سبحانه أنّه المستحقّ للإلهيّة ، فقال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) مبتدأ وخبر. وبدأ بذكرهما لعظم شأنهما وغيرهما من المكوّنات في ضمنهما. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) تعيشون به. وهو يشمل المطعوم والملبوس. وهذا مفعول لـ «أخرج» ، و «من الثمرات» بيان له وحال منه. ويحتمل عكس ذلك. ويجوز أن يراد به المصدر ، فينتصب بالعلّة أو المصدر ، لأنّ «أخرج» في معنى : رزق.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) بمشيئته إلى حيث توجّهتم (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) فجعلها معدّة لانتفاعكم وتصرّفكم. وقيل : تسخير هذه الأشياء تعليم كيفيّة اتّخاذها.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) يدأبان في سيرهما وإنارتهما ، وإصلاح ما يصلحانه من المكوّنات (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم.

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي : بعض جميع ما سألتموه ، نظرا في

٤٨٨

مصالحكم. أو بعضا من كلّ من الأصناف سألتموه ، فإنّ الموجود من كلّ صنف بعض ما في قدرة الله تعالى. ويحتمل أن يكون المراد بـ «ما سألتموه» ما كان حقيقا بأن يسأل ، لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل. ويحتمل أن تكون «ما» موصولة وموصوفة ومصدريّة ، ويكون المصدر بمعنى المفعول.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي : لا تقدروا على إحصائها وحصرها ، ولا تطيقوا عدّ أنواعها ، فضلا عن أفرادها ، فإنّها غير متناهية. وفيه دليل على أنّ المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) يظلم النعمة بإغفال شكرها ، أو يظلم نفسه ، بأن يعرّضها للحرمان (كَفَّارٌ) شديد الكفران لنعم ربّه. وقيل : ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع ، كفّار في النعمة يجمع ويمنع.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ

٤٨٩

الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

ولمّا نهى الله سبحانه عن عبادة الأصنام ، وأمر بعبادة الله وحده ، عقّبه بما كان عليه إبراهيم عليه‌السلام من التشدّد في إنكار عبادة الأصنام ، والدعاء بما دعا به ، فقال عطفا على الجمل السابقة : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) بلدة مكّة (آمِناً) ذا أمن لمن فيها. والفرق بين قوله : اجعل هذا بلدا آمنا ، وبين قوله : اجعل هذا البلد آمنا ، أنّ المسؤل في الأوّل جعله من جملة البلاد الّتي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني إخراجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدّها من الأمن ، كأنّه قال : هو بلد مخوف ، فاجعله آمنا. فاستجاب الله دعاء إبراهيم عليه‌السلام ، حتّى كان الإنسان يرى قاتل أبيه فيها فلا يتعرّض له ، وتدنو الوحوش فيها من الناس فتأمن منهم.

(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) بعّدني وإيّاهم (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي : ثبّتني وبنيّ على اجتناب عبادة الأوثان. والمعنى : الطف لي ولبنيّ لطفا نتجنّب به عن عبادة الأصنام إلى آخر العمر. وأراد بنيه من صلبه ، كما هو المتبادر ، فلا يتناول أحفاده وجميع ذرّيّته. وفيه دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله وحفظه إيّاهم.

وزعم ابن عيينة أنّ أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم ، محتجّا به ، وإنّما كانت لهم حجارة يدورون بها ، ويسمّونها الدوار ـ بتخفيف الواو وتشديدها ـ ويقولون : البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته.

قيل : إنّ إبراهيم عليه‌السلام لمّا فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء ثمّ قال : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) فلذلك سألت منك العصمة ، واستعذت بك من إضلالهنّ. وإسناد الإضلال إليهنّ باعتبار السببيّة ، كقوله : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ

٤٩٠

الدُّنْيا) (١) ، بمعنى : اغترّوا بها وبسببها.

(فَمَنْ تَبِعَنِي) على ديني (فَإِنَّهُ مِنِّي) هو بعضي ، لفرط اختصاصه بي وملابسته لي. ومثل ذلك قولهم : «من غشّنا فليس منّا» ، أي : ليس بعض المؤمنين ، لأنّ الغشّ ليس من أفعالهم وأوصافهم. والمعنى : فإنّه لا ينفكّ عنّي في أمر الدين.

(وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ) تستر على العباد معاصيهم (رَحِيمٌ) بهم في جميع أحوالهم ، ومنعهم عليهم. وقيل : ومن عصاني فيما دون الشرك.

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي : بعض ذرّيّتي ، أو ذرّيّة من ذرّيّتي ، فحذف المفعول ، وهم إسماعيل ومن ولد منه ، فإنّ إسكانه متضمّن لإسكانهم.

وروي عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «نحن بقيّة تلك العترة».

وقال عليه‌السلام : «كانت دعوة إبراهيم عليه‌السلام لنا خاصّة».

(بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) لا يكون فيه شيء من زرع قطّ ، كقوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (٢). بمعنى : لا يوجد فيه اعوجاج ، ما فيه إلّا الاستقامة. يعني : وادي مكّة ، فإنّها حجريّة لا تنبت.

(عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الّذي حرّمت التعرّض له والتهاون به ، بحيث لا يحلّ انتهاكه أصلا ، وما حوله محرّم بحرمته. أو لم يزل محترما معظّما ممنّعا تهابه الجبابرة. أو منع منه الطوفان ، فلم يستول عليه ، ولذلك سمّي عتيقا ، أي : أعتق منه.

ولو دعا بهذا الدعاء أوّل ما قدم ، فتسميته بالبيت باعتبار ما كان ، أو ما سيؤل إليه.

وإنّما أضاف البيت إليه سبحانه ، لأنّه مالكه لا يملكه أحد سواه ، وما عداه من البيوت قد ملكه غيره من العباد.

وروي أنّ هاجر كانت لسارة ، فوهبتها لإبراهيم عليه‌السلام ، فولدت منه إسماعيل ،

__________________

(١) الأنعام : ٧٠.

(٢) الزمر : ٢٨.

٤٩١

فعرضت لها الغيرة ، فناشدته أن يخرجهما من عندها. فأخرجهما إلى أرض مكّة.

فأظهر الله عين زمزم. ثمّ إنّ جرهم رأو ثمّ طيورا فقالوا : لا طير إلّا على الماء ، فقصدوه فرأوهما وعندهما عين ، فقالوا : أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ، ففعلت. وتفصيل هذه القصّة مرّت قبل (١).

(رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) اللام لام «كي» متعلّقة بـ «أسكنت» أي : ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كلّ مرتفق ومرتزق إلّا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرّم.

وتكرير النداء وتوسيطه للإشعار بأنّها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمّة ، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها.

وقيل : لام الأمر. والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة ، كأنّه طلب منهم الإقامة ، وسأل من الله أن يوفّقهم لها.

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) أي : أفئدة من أفئدة الناس. و «من» للتبعيض.

ويدلّ عليه ما روي عن مجاهد : لو قال : أفئدة النّاس ، لازدحمت عليهم فارس والروم. وعن سعيد بن جبير : لو قال : افئدة الناس ، لحجّت اليهود والنصارى والمجوس. أو للابتداء ، كقولك : القلب منّي سقيم ، أي : أفئدة ناس. (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) تسرع إليهم شوقا وودادا.

(وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) مع سكناهم واديا لا نبات فيه ، بأن تجلب إليه من البلاد (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) في أن يرزقوا أنواع الثمرات ، حاضرة في واد ليس فيه زرع ولا شجر ولا ماء. فأجاب الله دعوته ، فجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كلّ شيء ، حتّى يوجد فيه الفواكه الربيعيّة والصيفيّة والخريفيّة في يوم واحد.

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) تعلم سرّنا كما تعلم علننا. والمعنى : أنّك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ، وأرحم بنا منّا بأنفسنا ، فلا حاجة لنا إلى الطلب ، لكنّا

__________________

(١) راجع ج ١ ص ٢٣٢ ذيل الآية ١٢٦ من سورة البقرة.

٤٩٢

ندعوك إظهارا للعبوديّة لك ، وتخشّعا لعظمتك ، وتذلّلا لعزّتك ، وافتقارا إلى ما عندك ، واستعجالا لنيل مواهبك ، وولها إلى رحمتك ، كما يتملّق العبد بين يدي سيّده رغبة في إصابة معروفه ، مع توفّر السيّد على الوجه الحسن.

(وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي : هو علّام الغيوب في كلّ مكان من الأرض والسماء ، لأنّه العالم بعلم ذاتيّ يستوي إلى كلّ معلوم. و «من» للاستغراق.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أي : مع الكبر ، كقول الشاعر : إنّي على ما ترين من كبري ... وهو في موضع الحال ، أي : وهب لي وأنا كبير آيس من الولد (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) قيّد الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة ، من حيث إنها حال وقوع اليأس من الولادة ، والظفر بالحاجة على عقب اليأس ، من أجلّ النعم وأحلاها في نفس الظافر ، وإظهارا لما فيها من آلائه. روي أنّه ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة ، وإسحاق لمائة واثنتي عشرة سنة.

(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي : لمجيبه ، من قولك : سمع الملك كلامي ، إذا اعتدّ به. وهو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل ، أضيف إلى مفعوله. ويجوز أن يكون من قبيل إضافة الفعل إلى فاعله ، فيجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازي ، والمراد سماع الله الدعاء. وفيه إشعار بأنّه دعا ربّه وسأل منه الولد حال اليأس ، فأجابه ووهب له سؤله حينما وقع اليأس منه.

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) هذا سؤال من إبراهيم من الله بأن يلطف له اللطف الّذي عنده يقيم الصلاة ، معدّلا لها مواظبا عليها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) عطف على المنصوب في «اجعلني». والتبعيض لعلمه بإعلام الله أنّه يكون في ذرّيّته كفّار ، وذلك قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١).

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

٤٩٣

(رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي : واستجب دعائي ، أو وتقبّل عبادتي ، فإنّ قبول الدعاء إنما هو الاجابة ، وقبول الطاعة الإثابة.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) في هذا دلالة على أنّ أبويه لم يكونا كافرين ، وإنّما كان آزر عمّه أو جدّه لأمّه على الخلاف ، لأنّه سأل المغفرة لهما يوم القيامة ، فلو كانا كافرين لما سأل ذلك ، لأنّه قال : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (١).

ومن قال : إنّما دعا لأبيه لأنّه كان وعده أن يسلم ، فلمّا مات على الكفر تبرّأ منه ، على ما روي عن الحسن ، فقول فاسد ، لأنّ إبراهيم عليه‌السلام إنّما دعا بهذا الدعاء بعد الكبر ، وبعد أن وهب له إسماعيل وإسحاق ، وقد تبيّن له في هذا الوقت عداوة أبيه الكافر لله ، فلا يجوز أن يقصده بدعائه.

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي : يثبت. مستعار من قيام القائم على الرجل ، كقولهم : قامت الحرب على ساقها. أو يقوم إليه أهله ، فحذف المضاف ، أو أسند إليه قيامهم مجازا.

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣))

ولمّا ذكر سبحانه يوم الحساب بيّن أنّه لا يمهل الظالمين عن غفلة من أفعالهم القبيحة ، لكن لتأكيد الحجّة ، فقال وعيدا للظالم وتسلية للمظلوم : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والمراد به تثبيته على ما هو

__________________

(١) التوبة : ١١٤.

٤٩٤

عليه ، من أنّه مطّلع على أحوالهم وأفعالهم ، لا يخفى عليه خافية ، ووعيدهم بأنّه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة. أو خطاب لكلّ من توهّم غفلته ، جهلا بصفاته ، واغترارا بإمهاله.

(إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) يؤخّر عذابهم. وعن أبي عمرو بالنون. (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي : تشخص فيه أبصارهم ، فلا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى في ذلك اليوم.

(مُهْطِعِينَ) مسرعين في المحشر إلى الداعي. وقيل : الإهطاع أن تقبل ببصرك على ما ترى ، تديم النظر إليه لا تطرف. فالمعنى : مقبلين بأبصارهم لا يطرفون هيبة وخوفا ، فإنّ أصل الكلمة هو الإقبال على الشيء.

(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لا ترجع إليهم أعينهم ، فلا يغمضونها ولا يطبقونها ، بل بقيت عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم.

(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) خلاء. أي : خالية عن الفهم ، كفؤاد ذي الحيرة والدهشة ، ومنه يقال للأحمق وللجبان : قلبه هواء ، أي : لا رأي فيه ولا قوّة. وقيل : خالية عن الخير ، خاوية عن الحقّ.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥))

٤٩٥

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ) يا محمّد (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) يعني : يوم القيامة ، أو يوم الموت ، أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، فإنّه أوّل أيّام عذابهم. وهو مفعول ثان لـ «أنذر».

(فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) نفوسهم بالشرك والتكذيب (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أخّر العذاب عنّا. أو ردّنا إلى الدنيا ، وأمهلنا إلى حدّ من الزمان قريب. أو أخّر آجالنا ، وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ونجيب دعوتك (نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) جواب للأمر. ونظيره : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١).

فيقول الله تعالى مخاطبا لهم ، أو يقول الملائكة بأمره : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) من انتقال إلى دار اخرى. وهو على إرادة القول ، و «ما لكم» جواب القسم ، جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية. ولو حكى لفظ المقسمين لقيل : ما لنا من زوال. والمعنى : أقسمتم أنّكم باقون في الدنيا ، لا تزالون بالموت. ولعلّهم أقسموا بطرا وغرورا ، لما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه ، أو دلّ عليه حالهم ، حيث بنوا شديدا وأملوا بعيدا.

وقيل : أقسموا أنّهم لا ينتقلون إلى دار اخرى ، يعني : أنّهم كفروا بالبعث ، كقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) (٢). (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) (٣).

(وَسَكَنْتُمْ) من السكون ، أو السكنى (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي ، كعاد وثمود. وأصل «سكن» أن يعدّى بـ «في» كقرّ وغني وأقام.

وقد يستعمل بمعنى التبوّء ، فيجري مجراه ، كقولك : سكنت الدار. والمعنى :

__________________

(١) المنافقون : ١٠.

(٢) النور : ٥٣.

(٣) النحل : ٣٨.

٤٩٦

اطمأننتم فيها طيّبي النفوس ، سائرين سيرة من قبلكم في الظلم.

(وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) بالأخبار المتواترة عندكم أو بالمشاهدة (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) كيف أهلكناهم (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) من أحوالهم ، أي : بيّنّا لكم أنّكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب ، أو في صفات ما فعلوا وفعل بهم الّتي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧))

ثمّ أبان سبحانه عن مكر الكفّار ودفعه ذلك عن رسله ، تسلية لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) المستفرغ فيه جهدهم لإبطال الحقّ وتقرير الباطل (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) يمكن أن يكون مضافا إلى الفاعل ، على معنى : ومكتوب عنده مكرهم ، فهو مجازيهم عليه. أو مضافا إلى المفعول ، يعني : وعنده ما يمكرهم به ، وهو عذابهم الّذي يأتيهم به من حيث لا يحتسبون ، جزاء لمكرهم وإبطالا له.

(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) بالأنبياء قبلك في العظم والشدّة (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) مسوّى لإزالة الجبال.

وقيل : «إن» نافية ، واللام مؤكّدة لها ، كقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) (١).

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٢). أي : وما كان مكرهم لتزول منه ما هو مثل

__________________

(١) الأنفال : ٣٣.

(٢) البقرة : ١٤٣.

٤٩٧

الجبال الراسية ـ من دلائل النبيّ وشرائعه ـ في الثبات والتمكّن. يعني : لا تزول منه الجبال ، فكيف يزول منه الدين الّذي هو أثبت من الجبال؟! وقيل : مخفّفة من الثقيلة ، أي : وإنّه كان مكرهم ليزيلوا به ما هو كالجبال الراسية ثباتا وتمكّنا ، من آيات الله وشرائعه. يعني : أنّ مكرهم وإن بلغ كلّ مبلغ فلا يزيل دين الله ، ولا يضرّ ذلك أنبياءه ، ولا يزيل أمرهم ، ولا سيّما أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه أثبت من الجبال.

وقرأ الكسائي بالفتح والرفع ، على أنّها المخفّفة ، واللام هي الفاصلة. ومعناه : تعظيم مكرهم.

قيل : إنّ المراد به نمرود بن كوش بن كنعان ، حين أخذ التابوت ، وأخذ أربعة من النسور فأجاعها أيّاما ، وعلّق فوقها لحما ، وربط التابوت إليها ، وطارت النسور بالتابوت وهو ووزيره فيه ، إلى أن بلغت حيث شاء الله تعالى ، وظنّ أنّه بلغ السماء ، ففتح باب التابوت من أعلاه فرأى بعد السماء منه كبعدها حين كان في الأرض ، وفتح بابا من أسفل التابوت فرأى الأرض قد غابت عنه ، فهاله الأمر ، فصوّب النسور ، وسقط التابوت ، وكانت له وجبة. وهذا القول مرويّ عن ابن مسعود وابن عبّاس وجماعة.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) مثل قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) (١) ، (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (٢). وأصله : مخلف رسله وعده ، فقدّم المفعول الثاني إيذانا بأنّه لا يخلف وعده أصلا ، كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣). وإذا لم يخلف وعده أحدا فكيف يخلف رسله الّذين هم خيرته وصفوته؟!

__________________

(١) غافر : ٥١.

(٢) المجادلة : ٢١.

(٣) آل عمران : ٩.

٤٩٨

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يماكر ، قادر لا يدافع (ذُو انتِقامٍ) لأوليائه من أعدائه.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) أي : الأرض الّتي تعرفونها (غَيْرَ الْأَرْضِ) أي : أرضا اخرى غيرها. وهو بدل من «يوم يأتيهم» ، أو ظرف للانتقام ، أو مقدّر بـ : اذكر ، أو : لا يخلف وعده. ولا يجوز أن ينتصب بـ «مخلف» ، لأنّ ما قبل «أن» لا يعمل فيما بعده.

(وَالسَّماواتُ) عطف على «الأرض». وتقديره : والسماوات غير السماوات.

والتبديل يكون في الذات ، كقولك : بدّلت الدراهم دنانير. وعليه قوله : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (١). (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) (٢). وفي الصفة ، كقولك : بدّلت الحلقة خاتما ، إذا أذبتها وسوّيتها خاتما ، فنقلتها من شكل إلى شكل. وعليه قوله :

__________________

(١) النساء : ٥٦.

(٢) سبأ : ١٦.

٤٩٩

(يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (١). والآية تحتملهما.

وعن عليّ عليه‌السلام : «تبدّل أرضا من فضّة ، وسماوات من ذهب».

وعن ابن مسعود وأنس : يحشر الناس على أرض بيضاء ، لم يخطئ عليها أحد خطيئة.

وفي تفسير أهل البيت عليهم‌السلام بالإسناد عن زرارة ومحمد بن مسلم وحمران بن أعين ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قالا : «تبدّل الأرض خبزة نقيّة ، يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب ، قال الله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) (٢). وهو قول سعيد بن جبير ومحمد بن كعب.

وروي عن ابن مسعود أنّه قال : تبدّل الأرض بنار ، فتصير الأرض كلّها يوم القيامة نارا ، والجنّة من ورائها ، يرى كواعبها وأكوابها ، ويلجم الناس العرق ، ولم يبلغ الحساب بعد.

وقال كعب : تصير السماوات جنانا ، ويصير مكان البحر النار ، وتبدّل الأرض غيرها. ويؤيّده قوله : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (٣). وقوله : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (٤).

وعن أبي أيّوب الأنصاري قال : أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبر من اليهود فقال : أرأيت إذ يقول الله في كتابه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين الخلق عند ذلك؟ فقال : أضياف الله ، فلن يعجزهم ما لديه.

وقيل : تبدّل الأرض لقوم بأرض الجنّة ، ولقوم بأرض النار.

وعن ابن عبّاس : هي تلك الأرض ، وإنّما تغيّر صفاتها. ويدلّ عليه ما روى

__________________

(١) الفرقان : ٧٠.

(٢) الأنبياء : ٨. (٣ ، ٤) المطفّفين : ١٨ و ٧.

٥٠٠