زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

أخذت من مال زيد ثوبا. والثانية ابتدائيّة ، كقولك : سقيت من الحوض ، لأنّ بين الفرث والدم المحلّ الّذي يبتدأ منه الإسقاء. وهي متعلّقة بـ «نسقيكم». أو حال من «لبنا» ، قدّم عليه لتنكيره ، وللتنبيه على أنّه موضع العبرة.

سئل شقيق عن الإخلاص ، فقال : تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين فرث ودم.

(خالِصاً) صافيا لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث. أو مصفّى عمّا يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه. (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) سهل المرور في حلقهم.

بيّن سبحانه في هذه الآية لمن ينكر البعث أنّ من قدر على إخراج لبن أبيض سائغ من بين الفرث والدم من غير أن يختلط بهما ، قادر على إخراج الموتى من الأرض من غير أن يختلط شيء من أبدانهم بأبدان غيرهم.

ثمّ قال تعدادا لنعمة اخرى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) متعلّق بمحذوف ، أي : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ، أي : من عصيرهما. وحذف لدلالة «نسقيكم» قبله عليه.

وقوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) استئناف لبيان الإسقاء ، أو يتعلّق بـ «تتّخذون».

و «منه» تكرير للظرف تأكيدا ، كقولك : زيد في الدار فيها ، أو خبر لمحذوف صفته (تَتَّخِذُونَ) أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتّخذون منه. وتذكير الضمير على الوجهين الأوّلين ، لأنّه للمضاف المحذوف الّذي هو العصير ، أو لأنّ الثمرات بمعنى الثمر. والسكر مصدر : سكر يسكر سكرا وسكرا ، سمّي به الخمر. (وَرِزْقاً حَسَناً) كالتمر والزبيب والدبس والخلّ. والآية جامعة بين العتاب والمنّة.

روى الحاكم في صحيحة بالإسناد عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الآية فقال : «السكر ما حرّم من ثمرها ، والرزق الحسن ما أحلّ من ثمرها». وهذا القول

٥٨١

أيضا مرويّ عن ابن مسعود وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد وغيرهم.

وقال قتادة : نزلت الآية قبل تحريم الخمر ، ونزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة (١).

وقال أبو مسلم : لا حاجة إلى ذلك ، سواء كان حراما أو حلالا ، لأنّه تعالى خاطب المشركين وعدّد إنعامه عليهم بهذه الثمرات ، والخمر من أشربتهم ، فكانت نعمة عليهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم بالنظر والتأمّل في الآيات. بيّن سبحانه بذلك أنّكم تستخرجون من الثمرات عصيرا يخرج من قشر قد اختلط به ، فكذلك يستخلص الله سبحانه ما تبدّد من الميّت ممّا هو مختلط به من التراب.

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

ثمّ ذكر نعمة اخرى من نعمة الّتي تتضمّن كمال قدرته ، فقال : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ألهمها وقذف في قلوبها ، وعلّمها على وجه لا سبيل إلى الوقوف عليه.

وأصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالاستتار والإخفاء.

__________________

(١) المائدة : ٩٠ ـ ٩١.

٥٨٢

(أَنِ اتَّخِذِي) بأن اتّخذي. ويجوز أن تكون «أن» مفسّرة ، لأنّ في الإيحاء معنى القول. وتأنيث الضمير على المعنى ، فإنّ النحل مذكّر.

(مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) تتعسّل فيها (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي : من الكرم ، لأنّه الّذي يعرش ويتّخذ منه العريش. أو ما يرفعون من سقوف البيوت ، فإنّ العرش سقف البيت. والمعنى : ما يبني الناس للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن الّتي تتعسّل فيها ، ولولا إلهام الله إيّاها ما كانت تأوي إلى ما بني لها من بيوتها.

وإنّما أتى بلفظ الأمر وإن كانت النحل لا تعقل الأمر ولا تكون مأمورة ، لأنّه لمّا أتى بلفظ الوحي أجرى عليه لفظ الأمر اتّساعا. وذكر بحرف التبعيض ، لأنّها لا تبني في كلّ جبل وكلّ شجر وكلّ ما يعرش من كرم أو سقف ، ولا في كلّ مكان منها.

وإنّما سمّي ما تبنيه لتتعسّل فيه بيتا تشبيها ببناء الإنسان ، لما فيه من حسن الصنعة وصحّة القسمة ، الّتي لا يقوى عليها حذّاق المهندسين إلّا بآلات وأنظار دقيقة.

وقرأ ابن عامر وأبو بكر : يعرشون بضمّ الراء.

(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) من كلّ ثمرة تشتهينها ، فإذا أكلتها (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي : الطرق الّتي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك ، فاسلكي راجعة إلى بيوتك الّتي هي سبل ربّك ، لا تضلّين فيها. أو فاسلكي ما أكلت في مسالك ربّك ، الّتي يحيل فيها بقدرته النّور (١) المرّ عسلا من أجوافك.

(ذُلُلاً) جمع ذلول. وهي حال من السبل ، أي : مذلّلة ذلّلها الله وسهّلها لك ،

__________________

(١) النّور : الزهر.

٥٨٣

أو من الضمير في «اسلكي» أي : وأنت ذلل منقادة لما أمرت به.

(يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) كأنّه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس ، لأنّه محلّ الإنعام عليهم ، والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم (شَرابٌ) يعني : العسل ، لأنّه ممّا يشرب. واحتجّ به من زعم أنّ النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة ، فتستحيل في بطنها عسلا ، ثمّ تقيء ادّخارا للشتاء. وفسّر البطون بالأفواه من زعم انّها تلتقط بأفواهها أجزاء طليّة (١) حلوة صغيرة متفرّقة على الأوراق والأزهار ، وتضعها في بيوتها ادّخارا ، فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها كان العسل.

(مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أبيض وأصفر وأحمر وأسود ، بسبب اختلاف سنّ النحل والفصل (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) إمّا بنفسه كما في الأمراض البلغميّة ، أو مع غيره كما في سائر الأمراض ، إذ قلّما يكون معجون إلّا والعسل جزء منه. وليس الغرض أنّه بنفسه شفاء لكلّ مرض ، كما أنّ كلّ دواء كذلك. والدليل عليه أنّ التنكير مشعر بالتبعيض. ويجوز أن يكون للتعظيم ، فإنّه سبب لدفع معظم الأمراض.

وعن ابن بابويه في كتاب الاعتقادات : «اعتقادنا في العسل أنّه شفاء للأمراض البلغميّة».

وعن قتادة : أنّ رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إنّ أخي يشتكي بطنه.

فقال : اسقه العسل. فذهب ثمّ رجع فقال : قد سقيته فما نفع. فقال : اذهب واسقه عسلا ، فقد صدق الله وكذب بطن أخيك. فسقاه فبرىء ، فكأنّما أنشط من عقال».

وعن عبد الله بن مسعود أنّه قال : عليكم بالشفاءين : القرآن والعسل.

وقيل : الضمير للقرآن ، أو لما بيّن الله من أحوال النحل.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإنّ من تدبّر اختصاص النحل بتلك العلوم

__________________

(١) أي : ناعمة غضّة.

٥٨٤

الدقيقة والأفعال العجيبة حقّ التدبّر ، علم قطعا أنّه لا بدّ له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه.

قال صاحب المجمع : «ومن جملة عجائبه خروج العسل من فيه. ومنها : جعل الشفاء في موضع السمّ ، فإنّ النحل يلسع. ومنها : ما ركّب الله من البدائع والعجائب فيه وفي طباعه. ومن أعجبها أن جعل الله سبحانه لكلّ فئة يعسوبا هو أميرها ، يقدّمها ويحامي عنها ، ويدبّر أمرها ويسوسها ، وهي تتبعه وتقتفي أثره ، ومتى فقدته انحلّ نظامها ، وزال قوامها ، وتفرّقت شذر مذر. وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله : «أنا يعسوب المؤمنين» (١).

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))

ثمّ بيّن سبحانه نعمته علينا في خلقنا وإخراجنا من العدم إلى الوجود ، فقال :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) بآجال مختلفة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ) يعاد (إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أخسّه وأوضعه ، يعني : الهرم الّذي يشابه الطفوليّة في نقصان القوّة والعقل.

وقيل : هو خمس وتسعون سنة. وقيل : خمس وسبعون. وهذا مرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام.

(لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفوليّة في النسيان وسوء الفهم.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بمقادير أعماركم (قَدِيرٌ) يميت الشابّ النشيط ، ويبقى الهرم الفاني. وفيه تنبيه على أنّ تفاوت آجال الناس ليس إلّا بتقدير قادر حكيم ، ركّب أبنيتهم ، وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم ، ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ.

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٣٧٢.

٥٨٥

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١))

ثمّ عدّد سبحانه نعمة منه اخرى ، فقال : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أي : جعلكم متفاوتين في الرزق ، فمنكم غنيّ ومنكم فقير ، ومنكم موال يتولّون رزقهم ورزق غيرهم ، ومنهم مماليك حالهم على خلاف ذلك ، وهم بشر مثلكم وإخوانكم ، فكان ينبغي أن تردّوا فضل ما رزقتموه عليهم حتّى تتساووا في الملبس والمطعم ، كما يحكى عن أبي ذرّ رضى الله عنه عنه أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّما هم إخوانكم ، فاكسوهم ممّا تلبسون ، وأطعموهم ممّا تطعمون ، فما رؤي عبده بعد ذلك إلّا ورداؤه رداؤه ، وإزاره إزاره من غير تفاوت».

(فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) بمعطي رزقهم (عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) على مماليكهم ، فإنّ ما يردّون عليهم رزقهم الّذي جعله الله في أيديهم (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) فالموالي والمماليك سواء في أنّ الله رزقهم ، فلا يحسبنّ الموالي أنّهم يردّون على مماليكهم من عندهم شيئا من الرزق ، فإنّما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم. وهذه الجملة لازمة للجملة المنفيّة أو مقرّرة لها.

قيل : هذا مثل ضربه الله للّذين جعلوا له شركاء ، فقال لهم : أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت عليكم ، ولا تجعلونهم فيه شركاء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم ، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟! (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أفبهذه النعم الّتي عدّدتها واقتصصتها يجحد هؤلاء الكفّار ، حيث يتّخذون له شركاء؟! فإنّه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم ، ويجحدوا أنّه من عند الله. أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعد ما أنعم الله عليهم بإيضاحها. والباء لتضمّن الجحود معنى الكفر. وقرأ أبو بكر : تجحدون بالتاء ، لقوله : «خلقكم» و «فضّل بعضكم».

٥٨٦

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

ثمّ عدّد سبحانه نعمة اخرى ، فقال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي : من جنسكم لتأنسوا بها ، ولتكون أولادكم مثلكم. وقيل : هو خلق حوّاء من ضلع آدم.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ) تسرّون بهم وتزيّنون بهم (وَحَفَدَةً) وأولاد أولاد أو بنات ، فإنّ الحافد هو الّذي يحفد ، أي : يسرع في الطاعة وفي الخدمة ، والبنات يخدمن في البيوت أتمّ خدمة. وقيل : هم الأختان (١) على البنات. وهو مرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وعن ابن مسعود. وقيل : الربائب. ويجوز أن يراد بها البنون أنفسهم. والعطف لتغاير الوصفين ، كقوله : (سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) (٢). فكأنّه قيل : وجعل لكم منهنّ أولادا هم بنون وهم حافدون ، أي : جامعون بين الأمرين.

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من اللذائذ الّتي قد أباحها لكم. و «من» للتبعيض ،

__________________

(١) الأختان جمع الختن ، وهو الصهر ، أي : زوج الابنة.

(٢) النحل : ٦٧.

٥٨٧

لأنّ كلّ الطيّبات في الجنّة ، وما طيّبات الدّنيا إلّا أنموذج منها.

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ، وأنّ من الطيّبات ما يحرم عليهم ، كالبحائر والسوائب (وَبِنِعْمَتِ اللهِ) المشاهدة المعاينة الّتي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز أنّها من الله (هُمْ يَكْفُرُونَ) وينكرون لها كما ينكر المحال الّذي لا يتصوّره العقل.

وقيل : الباطل ما يسوّل لهم الشيطان من تحريم البحائر والسوائب وغيرهما ، ونعمة الله ما أحلّ لهم في السماوات والأرض ، فأضافوا نعمه إلى الأصنام ، أو حرّموا ما أحلّ الله لهم.

وتقديم الصلة على الفعل إمّا للاهتمام ، أو لإيهام التخصيص مبالغة ، أو للمحافظة على الفواصل.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) من مطر ونبات. و «رزقا» إن جعلته مصدرا فـ «شيئا» منصوب به. وإن أردت المرزوق كان «شيئا» بدلا منه ، بمعنى : قليلا منه. و (مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صلة للرزق إن كان مصدرا ، بمعنى : لا يرزق من السماوات مطرا ، ولا من الأرض نباتا. أو صفة إن كان اسما لما يرزق.

(وَلا يَسْتَطِيعُونَ) ليس فيه تقدير راجع ، وإنّما المعنى : لا يملكون أن يرزقوا ، والاستطاعة منفيّة عنهم أصلا ، لأنّهم موات. أو يقدّر الراجع ، ويراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة التوكيد. أو يراد : أنّهم لا يملكون الرزق ، ولا يمكنهم أن يملكوه ، ولا يتأتّى ذلك منهم. وعلى التقادير ، لا يكون معنى قوله : «لا يملك» و «ولا يستطيعون» شيئا واحدا ليلزم التكرار. وجمع الضمير في «لا يستطيعون» وتوحيده في «لا يملك» ، لأنّ «ما» مفرد في معنى الآلهة.

ويجوز أن يعود إلى الكفّار ، أي : ولا يستطيع هؤلاء ـ مع أنّهم أحياء متصرّفون ـ

٥٨٨

شيئا من ذلك ، فكيف بالجماد؟! (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) فلا تجعلوا له مثلا تشركونه به أو تقيسونه عليه ، فإنّ ضرب المثل تشبيه حال بحال (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) فساد ما تعوّلون عليه من القياس ، على أنّ عبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من عبادته (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، ولو علمتموه لما جرّأتم عليه. أو أنّ الله يعلم كنه ما تفعلون وعظمه ، وهو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم ، لأنّ العقاب على مقدار الإثم ، وأنتم لا تعلمون كنهه وكنه عقابه ، فذاك هو الّذي جرّكم إليه وجرّأكم عليه ، فهو تعليل للنهي. أو أنّه يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه ، فدعوا رأيكم دون نصّه.

ويجوز أن يراد : فلا تضربوا لله الأمثال ، فإنّه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥))

ثمّ علّمهم كيف يضرب مثلا لنفسه ولمن عبد دونه ، فقال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) بيّن الله تبيينا فيه بيان المقصود ، تقريبا للخطاب إلى أفهامهم. ثمّ أبدل من المثل قوله : (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ) من أمره (عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ) وحرّا رزقناه وملّكناه مالا ونعمة (مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) لا يخاف من أحد (هَلْ يَسْتَوُونَ) لم يقل : يستويان ، لأنّه أراد بقوله : (وَمَنْ رَزَقْناهُ) وقوله : (عَبْداً مَمْلُوكاً) الشيوع في الجنس لا التخصيص ، فإنّ المعنى : هل يستوي

٥٨٩

الأحرار والعبيد؟! وتقييد العبد بالمملوك للتمييز بينه وبين الحرّ ، فإنّه أيضا عبد الله. وسلب القدرة عنه للتمييز عن المكاتب والمأذون. وجعله قسيما للمالك المتصرّف يدلّ على أنّ المملوك لا يملك. و «من» موصوفة ، كأنّه قيل : وحرّا ، ليطابق : عبدا. ولا يمتنع أن تكون موصولة.

مثّل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرّف رأسا ، ومثّل نفسه بالحرّ المالك الّذي رزقه الله مالا كثيرا ، فهو يتصرّف فيه وينفق منه كيف يشاء. واحتجّ بامتناع الاشتراك والتسوية بينهما ، مع تشاركهما في الجنسيّة والمخلوقيّة ، على امتناع التسوية بين الأصنام الّتي هي أعجز المخلوقات ، وبين الله الغنيّ القادر على الإطلاق.

وتوضيح المعنى : أنّ الاثنين المتساويين في الخلق ، إذا كان أحدهما مالكا قادرا على الإنفاق ، والآخر مملوكا لا يمكن أن يكون مالكا لشيء مّا ، لا يستويان ، فكيف يستوي بين الحجارة الّتي لا تعقل بل لا تتحرّك ، وبين الله القادر على كلّ شيء ، الخالق الرازق لجميع خلقه؟! وقيل : إنّ هذا المثل للكافر والمؤمن ، فإنّ الكافر لا خير عنده ، والمؤمن يكسب الخير. نبّه سبحانه بذلك على اختلاف حالهما ، فدعا إلى حال المؤمن ، وصرف عن حال الكافر.

ولمّا ذكر هذا المثال ، وكان مثلا مطابقا للغرض ، كاشفا عن المقصود ، قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الّذي دلّنا على توحيده ومعرفته ، وهدانا إلى شكر نعمته ، وأوضح لنا السبيل إلى جنّته. أو كلّ الحمد له ، لا يستحقّه غيره ، فضلا عن العبادة ، لأنّه مولى النعم كلّها. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيضيفون نعمه إلى غيره ، ويعبدونه لأجلها.

٥٩٠

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦))

ثمّ ضرب سبحانه مثلا آخر ، فقال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من الصنائع والتدابير ، لنقصان عقله (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) حيثما يرسله مولاه في طلب حاجة ومهمّ (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) بنجح وكفاية مهمّ.

(هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) هذا الأبكم الموصوف بهذه الصفة (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) ومن هو فهم منطيق ذو كفاية ورشد ، ينفع الناس بحثّهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل (وَهُوَ) في نفسه (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على سيرة صالحة ودين قويم ، لا يتوجّه إلى مطلب إلّا ويبلغه بأقرب سعي. وإنّما قابل تلك الصفات بهذين الوصفين ، لأنّهما كمال ما يقابلهما.

وهذا تمثيل ثان ضربه الله لذاته المفيض رحمته وألطافه ونعمه الدينيّة والدنيويّة ، وللأصنام الّتي هي أموات لا تضرّ ولا تنفع ، لإبطال المشاركة بينه وبينها ، أو للمؤمن والكافر.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ

٥٩١

أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨))

ثمّ وصف سبحانه نفسه مؤكّدا لما قدّم ذكره من أوصاف الكمال ، فقال : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يختصّ به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم. وقيل : يوم القيامة ، فإنّ علمه غائب عن أهل السماوات والأرض ، ولم يطّلع عليه أحد منهم.

(وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) وما أمر قيام القيامة في سرعته وسهولته (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) إلّا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أو أمرها أقرب منه ، بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة ، بل في الآن الّذي تبتدئ فيه ، فإنّه تعالى يحيي الخلائق دفعة ، وما يوجد دفعة كان في آن. و «أو» للتخيير ، أو بمعنى : بل.

وقيل : معناه : أنّ قيام الساعة وإن تراخى فهو عند الله كالشيء الّذي تقولون فيه : هو كلمح البصر أو هو أقرب ، مبالغة في استقرابه.

ووجه اتّصاله بما قبله : أنّ أمر القيامة من الأمور الغائبة ، ومن أعظمها وأهمّها ، لما فيه من الثواب والعقاب ، والإنصاف والانتصاف.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على أن يقيم الساعة ، وأن يحيي الخلائق دفعة ، كما قدر أن أحياهم متدرّجا.

ثمّ دلّ على قدرته ، فقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) وقرأ الكسائي بكسر الهمزة على أنّه لغة ، أو إتباع لما قبلها. وحمزة بكسرها وكسر الميم. والهاء مزيدة ، مثل : أراق وأهراق ، والأصل : أمّات. (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) في موضع الحال ، أي : غير عالمين شيئا من حقّ المنعم الّذي خلقكم في البطون ، وسوّاكم وصوّركم ،

٥٩٢

ثمّ أخرجكم من الضيق إلى السعة ، مستصحبين جهل الجماديّة. ويجوز أن يكون «شيئا» مصدرا ، أي : لا تعلمون علما.

(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) وركّب فيكم هذه الآلات والأدوات لإزالة الجهل الّذي ولدتم عليه ، واجتلاب العلم والعمل به ، من معرفة المنعم وعبادته ، والقيام بحقوقه ، والترقّي إلى ما يسعدكم ، فإنّكم أوّلا تحسّون بمشاعركم جزئيّات الأشياء فتدركونها ، ثمّ تتنبّهون بقلوبكم لمشاركات ومباينات بينها ، بتكرّر الإحساس حتّى تتحصّل لكم العلوم البديهيّة ، وتتمكّنوا من تحصيل المعالم الكسبيّة بالنظر فيها.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كي تعرفوا ما أنعم الله عليكم طورا بعد طور فتشكروه.

والأفئدة جمع الفؤاد ، كالأغربة في غراب. وهي من جموع القلّة الّتي جرت مجرى جموع الكثرة.

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩))

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من الدلائل بدلالة اخرى ، فقال : (أَلَمْ يَرَوْا) ينظروا ويتفكّروا (إِلَى الطَّيْرِ) قرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب بالتاء ، على أنّه خطاب للعامّة (مُسَخَّراتٍ) مذلّلات للطيران صاعدة ومنحدرة ، ذاهبة وجائية ، بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المؤاتية لذلك (فِي جَوِّ السَّماءِ) في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلوّ (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) فإنّ ثقل جسدها يقتضي سقوطها ، ولا علاقة فوقها ، ولا دعامة تحتها تمسكها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) في تسخير الطير للطيران ، بأنّ خلقها خلقة يمكن معها الطيران ، وخلق الجوّ بحيث يمكن الطيران فيه ، وإمساكها في الهواء على خلاف

٥٩٣

طبعها (لَآياتٍ) على وحدانيّته وكمال قدرته (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنّهم هم المنتفعون بها.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢))

ثمّ عدّد سبحانه نعما أخر ، فقال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم ، ممّا يتّخذ من الحجر والمدر. فعل بمعنى مفعول. وذلك بأن خلق سبحانه الخشب والمدر ، والآلة الّتي يمكن بها تسقيف البيوت وبناؤها.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) هي القباب والأبنية المتّخذة من الأدم والأنطاع. ويجوز أن يتناول المتّخذة من الوبر والصوف والشعر ، فإنّها من حيث إنّها نابتة على جلودها يصدق عليها أنّها من جلودها. (تَسْتَخِفُّونَها) تجدونها خفيفة ، يخفّ عليكم حملها ونقضها ونقلها (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) وقت ترحالكم من بلد إلى آخر (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) وقت الحضر ، أو النزول. واليوم بمعنى الوقت ، يعني : يخفّ عليكم في أوقات السفر والحضر جميعا. وقرأ الحجازيّان والبصريّان : يوم ظعنكم

٥٩٤

بالفتح. وهو لغة.

(وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) الصوف للضأن ، والوبر للإبل ، والشعر للمعز. وإضافتها إلى ضمير الأنعام لأنّها من جملتها. (أَثاثاً) ما يلبس ويفرش (وَمَتاعاً) ما يتّجر به (إِلى حِينٍ) إلى وقت أن يبلى ويفنى ، أو إلى حين مماتكم ، أو إلى أن تقضوا منه أوطاركم.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من الشجر والجبل والأبنية وغيرها (ظِلالاً) تتّقون بها من حرّ الشمس (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) مواضع تسكنون بها ، من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها. جمع كنّ.

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) قمصانا وثيابا من الصوف والكتّان والقطن وغيرها (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) خصّه بالذكر اكتفاء بأحد الضدّين ، أو لأنّ وقاية الحرّ كانت أهمّ عندهم ، وقلّما يهمّهم البرد ، لأنّهم أهل حرّ في بلادهم ، محتاجون إلى ما يقي الحرّ أكثر (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) يعني : الدروع والجواشن (١). والسربال يعمّ كلّ ما يلبس من حديد وغيره.

(كَذلِكَ) كإتمام هذه النعم الّتي تقدّمت (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) يريد نعمة الدنيا ، لقوله : (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أي : تنظرون في نعمه فتؤمنون به ، وتنقادون لحكمه. وقال ابن عبّاس : معناه : لعلّكم يا أهل مكّة تعلمون أنّه لا يقدر على هذا غيره ، فتوحّدوه وتصدّقوا رسوله.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإيمان ، ولم يقبلوه منك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) تبليغ ما أرسلت به ، وقد بلّغت. فذكر سبب العذر ـ وهو البلاغ ـ ليدلّ على المسبّب ، فهو من إقامة السبب مقام المسبّب. وهذا تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) الجوشن : الصدر والدرع ، وجمعه : جواشن.

٥٩٥

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥))

ثمّ أخبر عن حال الكفرة ، فقال : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) أي : يعرف المشركون نعمته الّتي عدّدها عليهم وغيرها ، حيث يعترفون بها وبأنّها من الله (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) بعبادتهم غير المنعم بها ، وقولهم : هي من الله ولكنّها بشفاعة آلهتنا ، أو بسبب قولهم : ورثناها من آبائنا ، أو قولهم : لولا فلان ما أصبت كذا ، أو بإعراضهم عن أداء حقوقها. وقيل : نعمة الله نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عرفوها بالمعجزات ، ثمّ أنكروها عنادا.

(وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) وذكر الأكثر إمّا لأنّ بعضهم لم يعرف الحقّ ، لنقصان العقل ، أو التفريط في النظر ، أو لم تقم عليه الحجّة ، لأنّه لم يبلغ حدّ التكليف. وإمّا لأنّه يقام مقام الكلّ ، كما في قوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١).

وفي هذه الآية دلالة على فساد قول المجبّرة : أنّه ليس لله سبحانه على الكافر نعمة ، وأنّ جميع ما فعله بهم إنّما هو خذلان ونقمة ، لأنّه سبحانه نصّ في هذه الآية على خلاف قولهم.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) وهو نبيّها ، يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق ، والكفر والتكذيب. والمعنى : لا حجّة لهم ولا عذر. وكذا العدول من كلّ عصر يشهدون على الناس بأعمالهم. وقال الصادق عليه‌السلام : «لكلّ زمان وأمّة إمام ، تبعث كلّ أمّة مع إمامها».

__________________

(١) النحل : ٧٥.

٥٩٦

وفائدة بعث الشهداء مع علم الله سبحانه بذلك : أنّ ذلك أهول في النفس ، وأشدّ في الفضيحة ، إذا قامت الشهادة بحضرة الملأ ، مع جلالة الشهود وعدالتهم عند الله تعالى ، لأنّهم إذا علموا أنّ العدول عند الله يشهدون عليهم بين يدي الخلائق ، فإنّ ذلك يكون زجرا لهم عن المعاصي.

(ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في الاعتذار ، إذ لا عذر لهم صحيح. وقيل : في الرجوع إلى الدنيا. و «ثمّ» لزيادة ما يحيق بهم من شدّة المنع عن الاعتذار ، لما فيه من الإقناط الكلّي على ما يمنون (١) به من شهادة الأنبياء عليهم‌السلام. والمعنى : لا حجّة لهم ، فدلّ بترك الإذن على أنّ لا حجّة لهم ولا عذر. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ولا هم يسترضون ، من العتبى ، وهي الرضا ، أي : لا يقال لهم : أرضوا ربّكم ، لأنّ الآخرة ليست بدار عمل.

وانتصاب «يوم» بمحذوف تقديره : اذكر ، أو خوّفهم ، أو يحيق بهم ما يحيق. وكذا قوله : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) أي : عذاب جهنّم (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) أي : العذاب (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨))

ثمّ أبان سبحانه عن حال المشركين يوم القيامة ، فقال : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ)

__________________

(١) أي : يبتلون ويختبرون ، يقال : مناه الله بكذا ، أي : ابتلاه.

٥٩٧

أوثانهم الّتي دعوها شركاء ، أو الشياطين الّذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ)

(كُنَّا نَدْعُوا) في أنّهم شركاء لله (مِنْ دُونِكَ) نعبدهم أو نطيعهم. وهو اعتراف بأنّهم كانوا مخطئين في ذلك ، أو التماس لأن يشطّر عذابهم.

(فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) إلقاء المعنى إلى النفس إظهاره لها حتى تدركه متميّزا عن غيره ، أي : فقالت الأصنام وسائر ما كانوا يعبدون من دون الله ، بإنطاق الله إيّاهم لهؤلاء (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) يعني : أجابوهم بالتكذيب في أنّهم شركاء الله. أو أنّهم ما عبدوهم حقيقة ، وإنّما عبدوا أهواءهم ، كقوله : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) (١). أو في أنّهم حملوهم على الكفر وألزموهم إيّاه ، كقوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (٢).

(وَأَلْقَوْا) وألقى الّذين ظلموا (إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الاستسلام لأمره وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وضاع عنهم وبطل (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من أنّ لله شركاء ، وأنّهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذّبوهم وتبرّؤا منهم.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ومنعوا الناس عن الإسلام ، وحملوهم على الكفر (زِدْناهُمْ عَذاباً) أي : عذّبناهم على صدّهم عن دين الله (فَوْقَ الْعَذابِ) المستحقّ بكفرهم ، أي : زيادة على عذاب الكفرة (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) بكونهم مفسدين الناس بصدّهم عن سبيل الله.

عن سعيد بن جبير : زيادة عذابهم حيّات أمثال البخت والفيلة ، وعقارب

__________________

(١) مريم : ٨٢.

(٢) إبراهيم : ٢٢.

٥٩٨

أمثال البغال الدلم (١) ، تلسع إحداهنّ اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفا.

وعن ابن مسعود : زيادة عذابهم الأفاعي والعقارب في النار ، لها أنياب كالنخل الطوال.

وعن ابن عبّاس : هي أنهار من صفر مذاب كالنار يعذّبون بها. وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير ، فيبادرون من شدّة برده إلى النار.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني : نبيّهم الّذي أرسل إليهم ، أو الحجّة الّذي هو إمام عصرهم (وَجِئْنا بِكَ) يا محمّد (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) على أمّتك. وإنّما أفرده بالذكر تشريفا له.

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) استئناف أو حال بإضمار «قد». (تِبْياناً) بيانا بليغا (لِكُلِّ شَيْءٍ) من أمور الدين على التفصيل أو الإجمال ، فإنّه ما من شيء إلّا وقد بيّن في القرآن ، إمّا بالنصّ عليه ، أو بالإحالة على ما يوجب العلم ، من بيان النبيّ والحجج القائمين مقامه ، أو إجماع الأمّة ، أو القياس المنصوص العلّة ، فحكم الجميع مستفاد من القرآن.

(وَهُدىً) ودلالة إلى الرشد (وَرَحْمَةً) ونعمة للجميع ، لما فيه من الشرائع والأحكام ، وإنّما حرمان المحروم من تفريطه (وَبُشْرى) وبشارة بالثواب الدائم

__________________

(١) أي : السود ، جمع الأدلم ، وهو الطويل الأسود.

٥٩٩

والنعيم المقيم (لِلْمُسْلِمِينَ) خاصّة.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠))

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) بالتوسّط في الأمور اعتقادا ، كالتوحيد المتوسّط بين التعطيل والتشريك ، وعملا كالتعبّد بأداء الواجبات المتوسّط بين البطالة والترهّب ، وخلقا كالجود المتوسّط بين البخل والتبذير.

(وَالْإِحْسانِ) إحسان الطاعات. وهو إمّا بحسب الكمّيّة كالتطوّع بالنوافل ، أو بحسب الكيفيّة ، كما قال عليه‌السلام : «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

وقيل : العدل أن تنصف وتنتصف ، والإحسان أن تنصف ولا تنتصف.

وقيل : العدل في الأفعال ، والإحسان في الأقوال ، فلا يفعل إلّا ما هو عدل ، ولا يقول إلّا ما هو حسن. وعن ابن عبّاس : العدل التوحيد ، والإحسان أداء الفرائض.

(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) وإعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه. وهو تخصيص بعد تعميم للمبالغة. وقيل : المراد بذي القربى قرابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين أرادهم الله بقوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) (١).

وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، فإنّه قال : نحن هم.

(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) عن الإفراط في متابعة القوّة الشهويّة كالزنا ، فإنّه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها (وَالْمُنْكَرِ) ما ينكر على متعاطيه في إثارة القوّة الغضبيّة (وَالْبَغْيِ) والاستعلاء والاستيلاء على الناس ، وطلب التطاول بالظلم والتجبّر عليهم ، فإنّها الشيطنة الّتي هي مقتضى القوّة الوهميّة. ولا يوجد من الإنسان

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

٦٠٠