زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

يقاربه كلام البشر ولا يدانيه. منها : أنّه خرج مخرج الأمر ، وإن كانت الأرض والسماء من الجماد ، ليكون أدلّ على الاقتدار. ومنها : حسن تقابل المعنى وائتلاف الألفاظ. ومنها : حسن البيان في تصوير الحال. ومنها : الإيجاز من غير إخلال ، إلى غير ذلك ممّا يعلمه من تدبّره ، وله معرفة بكلام العرب ومحاوراتهم. ويروى أنّ كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البرّ ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم ، فلمّا أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية ، فقال بعضهم لبعض : هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين ، وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا» (١).

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧))

ثمّ حكى الله سبحانه تمام قصّة نوح ، فقال : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) أي : أراد نداءه ، بدليل عطف قوله : (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) فإنّه النداء (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) وإن كلّ وعد تعده حقّ لا يتطرّق إليه الخلف ، وقد وعدت أن تنجي أهلي ،

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ١٦٥.

٢٨١

فما حاله أو فماله لم ينج؟ ويجوز أن يكون هذا النداء قبل غرقه (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) لأنّك أعلمهم وأعدلهم. أو لأنّك أكثر حكمة من ذوي الحكم ، على أنّ الحاكم من الحكمة ، كالدارع من الدرع.

(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) لقطع الولاية بين الكافر والمؤمن. وأشار إليه بقوله : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) فإنّه تعليل لنفي كونه من أهله. وأصله : إنّه ذو عمل فاسد ، فجعل ذاته ذات العمل الفاسد للمبالغة. ثمّ بدّل الفاسد بغير الصالح ، تصريحا بالمناقضة بين وصفي الأهليّة وغير الصلاح ، وانتفاء ما أوجب النجاة ـ من صالح العمل ـ لمن نجا من أهله عنه. وقرأ الكسائي ويعقوب : إنّه عمل ، أي : عمل عملا غير صالح.

وفيه إيذان بأنّ قرابة الدين غامرة لقرابة النسب. وفي الحديث القدسي : «خلقت الجنّة لمن أطاعني ولو كان عبدا حبشيّا ، وخلقت النار لمن عصاني ولو كان سيّدا قرشيّا».

(فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فلا تلتمس منّي التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب؟ حتّى تقف على كنهه. وإنّما سمّى نداءه سؤالا لتضمّن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه في شأن ولده ، أو استفسار المانع للإنجاز في حقّه. وإنّما سمّاه جهلا وزجر عنه بقوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) لأنّ استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دلّه على الحال ، وأغناه عن السؤال ، لكن أشغله عنه حبّ الولد حتّى اشتبه الأمر عليه.

وقرأ ابن كثير بفتح اللام والنون المشدّدة. وكذا نافع وابن عامر ، غير أنّهما كسرا النون ، على أنّ أصله : تسألنّني ، فحذفت نون الوقاية ، لاجتماع النونات ، وكسرت الشديدة للياء ، ثمّ حذفت اكتفاء بالكسرة. وعن نافع إثباتها في الوصل.

والوعظ : الدعاء إلى الحسن ، والزجر عن القبيح ، على وجه الترغيب

٢٨٢

والترهيب. ومعنى الكلام : إنّي أدعوك إلى الحسن ، وأزجرك عن القبائح ، كراهة أن تكون ، أو لئلّا تكون من الجاهلين الّذين يسألون شيئا قبل أن يتأمّلوا فيه تأمّلا تامّا ، ليعلموا صحّة سؤالهم عن فسادهم. ولا شكّ أنّ وعظه سبحانه يصرف عن الجهل وينزّه عن القبيح.

(قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ) أن أطلب منك فيما يستقبل (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) ما لا علم لي بصحّته ، تأدّبا بأدبك واتّعاظا بموعظتك (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) وإن لم تغفر لي ما فرط منّي في السؤال الّذي يكون تركه أولى. والمراد بالغفران هنا لازمه ، وهو إعطاء الثواب على فعل الأولى ، وعدم حرمانه منه لتركه.

(وَتَرْحَمْنِي) بالتوبة عن ترك الندب (أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أعمالا ، لتفويتي الثواب الّذي يترتّب على فعل الأولى. وقيل : قاله على سبيل الخضوع لله عزّ اسمه والتذلّل له والاستكانة ، وإن لم يسبق منه ذنب لعصمته.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

ثمّ حكى الله سبحانه ما أمر به نوحا حين استقرّت سفينته على الجبل بعد خراب الدنيا بالطوفان ، فقال : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) انزل من السفينة مسلما محفوظا من المكاره من جهتنا ، أو مسلّما عليك مكرّما (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) ومباركا عليك حالا بعد حال. والبركات : الخيرات الناميات. أو زيادات في نسلك

٢٨٣

حتّى تصير آدما ثانيا. (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) وعلى أمم هم الّذين معك. سمّوا أمما لتحزّبهم ، أو لأنّ الأمم تتشعّب منهم. فـ «من» للبيان. والأوجه أن تكون للابتداء.

والمعنى : وعلى أمم ناشئة ممّن معك إلى آخر الدهر. والمراد بهم المؤمنون ، لقوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) أي : وممّن معك أمم سنمتّعهم في الدنيا (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة. والمراد بهم الكفّار من ذرّيّة من معه. وقيل : هم قوم هود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله عليهم ، والعذاب ما نزل بهم.

(تِلْكَ) إشارة إلى قصّة نوح. ومحلّها الرفع بالابتداء ، وخبرها (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي : بعضها (نُوحِيها إِلَيْكَ) خبر ثان. والضمير للقصّة ، أي : موحاة إليك.

أو حال من الأنباء. أو هو الخبر و «من أنباء» متعلّق به. أو حال من الهاء في «نوحيها». (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) خبر آخر ، أي : مجهولة عندك وعند قومك من قبل إيحائنا إليك. أو حال من الهاء في «نوحيها» أو الكاف في «إليك» أي : جاهلا أنت وقومك بها. وفي ذكر القوم تنبيه على أنّه لم يتعلّمها ، إذ لم يخالط غيرهم ، وأنّهم مع كثرتهم لمّا لم يسمعوها فكيف بواحد منهم؟ (فَاصْبِرْ) على مشاقّ الرسالة وأذيّة القوم كما صبر نوح عليه‌السلام (إِنَّ الْعاقِبَةَ) في الدنيا بالظفر والنصرة ، وفي الآخرة بالفوز (لِلْمُتَّقِينَ) عن الشرك والمعاصي.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)

٢٨٤

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

ثمّ عطف سبحانه قصّة هود عليه‌السلام على قصّة نوح ، فقال : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ) في النسب (هُوداً) عطف على قوله : (نُوحاً إِلى قَوْمِهِ). و «هودا» عطف بيان.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحّدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) على الله تعالى كذبا ، باتّخاذكم الأوثان له شركاء ، وجعلها شفعاء.

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) خاطب كلّ رسول به قومه إزاحة للتهمة وتمحيضا للنصيحة ، فإنّها لا تنجع ما دامت مشوبة

٢٨٥

بالمطامع (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تستعملون عقولكم ، فتعرفوا المحقّ من المبطل ، والصواب من الخطأ.

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا مغفرة الله بالإيمان (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ثمّ توسّلوا إليها بالتوبة ، فإنّ التبرّي عن الغير إنّما يكون بعد الإيمان بالله والرغبة فيما عنده (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) كثير الدرور ، كالمغزار (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) ويضاعف قوّتكم. وإنّما رغّبهم بكثرة المطر وزيادة القوّة ، لأنّهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات ، حرّاصا عليها أشدّ الحرص ، فكانوا أحوج إلى الماء والقوّة في صنع العمارات.

وقيل : حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين ، فوعدهم هود عليه‌السلام على الإيمان والتوبة كثرة الأمطار وتضاعف القوّة على النكاح بالتناسل.

(وَلا تَتَوَلَّوْا) لا تعرضوا عمّا أدعوكم إليه (مُجْرِمِينَ) مصرّين على إجرامكم.

وفي الكشّاف عن الحسن بن عليّ عليه‌السلام : «أنّه وفد على معاوية فلمّا خرج تبعه بعض حجّابه فقال : إنّي رجل ذو مال ولا يولد لي ، فعلّمني شيئا لعلّ الله يرزقني ولدا. فقال : عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتّى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرّة ، فولد له عشرة بنين. فبلغ ذلك معاوية فقال : هلّا سألته ممّ قال ذلك؟ ، فوفد وفدة أخرى ، فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود عليه‌السلام : «ويزدكم قوّة إلى قوّتكم» وقول نوح عليه‌السلام : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) (١)» (٢).

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) بحجّة تدلّ على صحّة دعواك. وهو لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات ، كما قالت قريش لرسول

__________________

(١) نوح : ١٢.

(٢) الكشّاف ٢ : ٤٠٢.

٢٨٦

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا أنزل عليه آية من ربّه ، مع كثرة آياته من ربّه ومعجزاته. (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) بتاركي عبادتهم (عَنْ قَوْلِكَ) صادرين عن قولك. حال من الضمير في «تاركي». (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) إقناط له من الإجابة والتصديق.

وفي المجمع : «إنّما حملهم على دفع البيّنة مع ظهورها أشياء ، منها : تقليد الآباء والرؤساء. ومنها : اتّهامهم لمن جاء بها ، حيث لم ينظروا فيها نظر تأمّل.

ومنها : أنّه دخلت عليهم الشبهة في صحّتها. ومنها : اعتقادهم لأصول فاسدة دعتهم إلى جحدها. وإنّما حملهم على عبادة الأوثان أشياء ، منها : اعتقادهم أن عبادتها تقرّبهم إلى الله زلفى. ومنها : أن الشيطان ربما ألقى إليهم أنّ عبادتها تحظيهم في الدنيا. ومنها : أنّهم ربما اعتقدوا مذهب المشبّهة ، فاتّخذوا الأوثان على صورته عندهم فعبدوها» (١).

(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ) ما نقول إلّا قولنا : اعتراك ، أي : أصابك ، من : عراه يعروه إذا أصابه (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) بجنون ، لسبّك إيّاها وصدّك عن عبادتها ، ومن ذلك تهذي وتتكلّم بالخرافات. والجملة مقول القول ، وإلّا لغو ، لأنّ الاستثناء مفرّغ ، أي : ما نقول شيئا إلّا قولنا : اعتراك بعض آلهتنا بسوء.

(قالَ إِنِّي) أي : أجاب عن مقالتهم الحمقاء بأنّي (أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ) أي : أشهد الله على براءتي من آلهتكم وفراغي عن إضراركم ، تأكيدا لذلك وتثبيتا له. وأمرهم بأن يشهدوا عليه استهانة بدينهم ، وقلّة مبالاة بهم.

قال (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) أي : اجتمعوا على الكيد في إهلاكي (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) لا تمهلوني ، فإنّي لا ابالي بكم وبكيدكم. وإنّما قال : «واشهدوا» ولم يقل : وأشهدكم على طبق «أشهد الله» ، لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ١٧٠.

٢٨٧

صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشدّ معاقده ، وأمّا إشهادهم فما هو إلّا تهاون بدينهم ، دلالة على قلّة المبالاة بهم فحسب ، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة ، كما يقول الرجل لمن لا يحبّه : اشهد على أنّي لا أحبّك ، تهكّما به واستهانة بحاله.

والّذي بعثه على هذا القول أنّهم إذا اجتهدوا في إهلاكه ، ورأوا أنّهم عجزوا من أوّلهم إلى آخرهم ـ وهم الأقوياء الأشدّاء ـ أن يضرّوه ، لم يبق لهم شبهة أنّ آلهتهم الّتي هي جماد لا يضرّ ولا ينفع لا تتمكّن من إضراره انتقاما منه ، فلزمت الحجّة عليهم. وهذا من جملة معجزاته ، فإنّ مواجهة الواحد الجمّ الغفير من الجبابرة الفتّاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام ليس إلّا لثقته بالله تعالى ، وتثبّطهم عن إضراره ليس إلّا بعصمته إيّاه ، ولذلك عقّبه بقوله : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) تقريرا له.

والمعنى : أنّكم وإن بذلتم غاية وسعكم لن تضرّوني ، فإنّي متوكّل على الله تعالى ، واثق بحفظه ، وهو مالكي ومالككم ، فلا يحيق بي ما أردتم ، ولا تقدرون على إهلاكي ، لأنّه يصرف كيدكم عنّي.

(ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي : إلّا وهو مالك لها قادر عليها ، فهي ذليلة مقهورة له. والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك ، فإنّ من أخذ بناصية غيره فقد قهره وأذلّه.

ولمّا ذكر توكّله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم ، وصفه بما يوجب التوكّل عليه من قهره وسلطانه ، فقال : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : إنّه على الحقّ والعدل ، لا يضيع عنده معتصم ، ولا يفوته ظالم.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) فإن تتولّوا لم أعاتب على التفريط في الإبلاغ (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فقد أدّيت ما عليّ من الإبلاغ وإلزام الحجّة ، فأبيتم إلّا تكذيب

٢٨٨

الرسالة ، فلا تفريط منّي ولا عذر لكم (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) استئناف بالوعيد لهم ، بأنّ الله يهلكهم ويستخلف قوما آخرين في ديارهم وأموالهم ، يوحّدونه ويعبدونه (وَلا تَضُرُّونَهُ) بتولّيكم وإعراضكم (شَيْئاً) من الضرر ، أي : لا ضرر عليه في إهلاككم ، لأنّه لم يخلقكم لحاجة منه إليكم (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) رقيب ، فلا تخفى عليه أعمالكم ، ولا يغفل عن مجازاتكم. أو حافظ مستول عليه ، فلا يمكن أن يضرّه شيء.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) عذابنا ، أو أمرنا بالعذاب (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وكانوا أربعة آلاف (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) تكرير لبيان ما نجّاهم منه. وهو السموم ، كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم ، فتتقطّع أعضاؤهم. وقيل : أراد بالتنجية الثانية إنجاءهم من عذاب الآخرة ، تعريضا بأنّ المهلكين كما عذّبوا في الدنيا بالسموم ، فهم معذّبون في الآخرة بالعذاب الغليظ.

(وَتِلْكَ عادٌ) أنّث اسم الإشارة باعتبار القبيلة ، أو لأنّ الإشارة إلى قبورهم (جَحَدُوا) كفروا (بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) لأنّهم عصوا رسولهم ، ومن عصى رسولا فكأنّما عصى الكلّ ، لأنّهم أمروا بطاعة كلّ رسول (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) يعني : كبراءهم الطاغين. و «عنيد» من : عند يعند عنودا إذا طغى. والمعنى : عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم ، وأطاعوا من دعاهم الى الكفر وما يرديهم.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين ، يكبّهم في العذاب (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) جحدوه ، أو كفروا نعمه ، أو كفروا به ، فحذف الجارّ (أَلا بُعْداً لِعادٍ) دعاء عليهم بالهلاك. والمراد به الدلالة على أنّهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما صدر عنهم من الآثام العظام. وكرّر «ألا» ، وأعاد ذكر عاد ، ولم يكتف بالضمير ، تفظيعا لأمرهم ، وحثّا على الاعتبار بحالهم (قَوْمِ هُودٍ) عطف بيان لعاد. وفائدته تمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم والإيماء إلى أنّ استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم وبين هود.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً

٢٨٩

فَذَرُ‌وهَا تَأْكُلْ فِي أَرْ‌ضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِ‌يبٌ (٦٤) فَعَقَرُ‌وهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِ‌كُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ‌ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُ‌نَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَ‌حْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَ‌بَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِ‌هِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُ‌وا رَ‌بَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِّثَمُودَ (٦٨))

(وَتِلْكَ عَادٌ) أنت اسم الإشارة باعتبار القبيلة ، أو لأن الإشارة إلى قبورهم (جَحَدُوا) كفروا (بِآيَاتِ رَ‌بِّهِمْ وَعَصَوْا رُ‌سُلَهُ) لأنهم عصوا رسولهم ، ومن عصى رسولاً فكأنّما عصى الكلّ ، لأنهم أمروا بطاعة كلّ رسول (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ‌ كُلِّ جَبَّارٍ‌ عَنِيدٍ) يعني : كبراء هم الطاغين ، وو «عنيد» من : عند يعند عنواداً إذا طغى. والمعنى : عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم ، وأطاعوا من دعا هم إلى الإيمان وما ينجيهم ، وأطاعوا من دعاهم الى الكفر وما يرديهم.

(وَأُتْبِعُوا فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي : جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين ، يكبهم في العذاب (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُ‌وا رَ‌بَّهُمْ) جحدوا ، أو كفروا نعمه ، أو كفروا به فحذف الجارّ (أَلَا بُعْدًا لِّعَادٍ) دعا عليهم بالهلاك. والمراد به الدلالة على أنّهم مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما صدر عنهم من الآثام العظام. وكرّر «ألا» ، وأعاد ذكر عاد ، ولم يكتف بالضمير ، وتفظيعاً لأمرهم ، وحثّاً على الاعتبار باحالهم (قَومِ هُودٍ) عطف بيان لعاد. وفائدته تمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم ،

٢٩٠

والإيماء إلى أنّ استحاقهم للبعد بما جرى بينهم وبين هود.

ثمّ عطف على ذلك قصّة صالح وقومه فقال : (وَإِلى ثَمُودَ) منع صرفه باعتبار التعريف والتأنيث ، فإنّه بمعنى القبيلة (أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) هو كوّنكم منها لا غيره ، فإنّه خلق آدم وموادّ النطف الّتي خلق نسله منها من التراب (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) عمّركم فيها واستبقاكم ، من العمر. وعن الضحّاك : كانت أعمارهم من ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة. أو أقدركم على عمارتها وأمركم بها. وقيل : هو من العمري ، بمعنى أعمركم فيها دياركم ، ويرثها منكم بعد انصرام أعماركم. أو جعلكم معمرين دياركم ، بأن تسكنوها مدّة عمركم ثمّ تتركونها لغيركم ، فإنّ الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنّما أعمره إيّاها ، لأنّه يسكنها عمره ثمّ يتركها لغيره.

(فَاسْتَغْفِرُوهُ) من الشرك (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي : دوموا على التوبة (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) قريب الرحمة (مُجِيبٌ) لداعيه.

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) لما نرى فيك من مخائل رشدك والسداد ، أن تكون لنا سيّدا ومستشارا في الأمور ، وأن توافقنا في الدين ، فلمّا سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا عنك (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) على حكاية الحال الماضية (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد والتبرّؤ عن الأوثان (مُرِيبٍ) موقع في الريبة ، من : ارابه إذا أوقعه ، أو ذي ريبة على الإسناد المجازي ، من : أراب في الأمر إذا كان ذا ريبة.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) بيان وبصيرة (مِنْ رَبِّي) حرف الشكّ باعتبار المخاطبين (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) نبوّة (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) فمن يمنعني من عذابه (إِنْ عَصَيْتُهُ) في تبليغ رسالته والمنع عن الإشراك به (فَما تَزِيدُونَنِي) حينئذ باستتباعكم إيّاي (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) غير أن تخسروني بإبطال ما منحني الله به

٢٩١

والتعرّض لعذابه. أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران.

ويؤيّده ما روي عن ابن عبّاس أنّ معناه : ما تزيدونني إلّا بصيرة في خسارتكم.

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) أشار الى ناقته الّتي جعلها معجزته ، لأنّه سبحانه أخرجها لهم من جوف صخرة يشاهدونها على تلك الصفة ، وخرجت كما طلبوه وهي حامل ، وكانت تشرب يوما جميع الماء فتنفرد به ولا ترد الماء معها دابّة ، فإذا كان يوم لا ترد فيه وردت الواردة كلّها الماء ، وهذا أعظم آية ومعجزة.

وأضافها إلى الله تشريفا لها ، كما يقال : بيت الله. ونصب «آية» على الحال ، وعاملها معنى الإشارة. و «لكم» حال منها ، تقدّمت عليها لتنكيرها.

(فَذَرُوها) فاتركوها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) ترع نباتها ، وتشرب ماءها (وَلا تَمَسُّوها) ولا تصيبوها (بِسُوءٍ) قتل أو جرح أو غيره (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) عاجل لا يتراخى عن مسّكم لها بالسوء إلّا يسيرا ، وهو ثلاثة أيّام.

(فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ) عيشوا في منازلكم. سمّي المنزل والبلد دارا لأنّه يدار فيه بالتصرّف. أو في داركم الدنيا. (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) الأربعاء والخميس والجمعة ، ثمّ تهلكون. قيل : عقروها يوم الأربعاء ، وهلكوا يوم السبت.

روي أنّهم لمّا عقروا الناقة صعد فصيلها الجبل ورغا ثلاث مرّات ، فقال صالح : لكلّ رغوة أجل يوم. فاصفرّت ألوانهم أوّل يوم ، ثمّ احمرّت من الغد ، ثم اسودّت اليوم الثالث ، فهو قوله : (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي : غير مكذوب فيه ، فاتّسع فيه بإجرائه مجرى المفعول به ، كقولك : يوم مشهود. أو غير مكذوب على المجاز ، وكأنّ الواعد قال له : أفي بك ، فإن وفى به صدّقه ، وإلّا كذّبه. أو وعد غير كذب ، على أنّه مصدر ، كالمجلود بمعنى الجلد ، والمعقول بمعنى الإدراك ، والمصدوقة بمعنى الصدق.

روى جابر بن عبد الله الأنصاري : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزل الحجر في غزوة

٢٩٢

تبوك قام فخطب الناس ، وقال : أيّها الناس لا تسألوا نبيّكم الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث لهم الناقة ، وكانت ترد من الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها ، ويحلبون من لبنها مثل الّذي كانوا يشربون من مائها يوم غبّها ، فعتوا عن أمر ربّهم ، فقال : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وكان وعدا من الله غير مكذوب. ثمّ جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان في مشارق الأرض ومغاربها منهم إلّا رجلا كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله من عذاب الله ، يقال له : أبو رغال. قيل : يا رسول الله من أبو رغال؟ قال : أبو ثقيف.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أي : ونجّيناهم من خزي يومئذ ، وهو هلاكهم بالصيحة ، أو ذلّهم وفضيحتهم يوم القيامة ، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وباسمه. وقرأ نافع :

يومئذ بالفتح ، على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُ) القادر على كلّ شيء (الْعَزِيزُ) الغالب عليه.

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) أمر الله سبحانه جبرئيل فصاح بهم صيحة ماتوا عندها (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) في منازلهم ميّتين واقعين على وجوههم. وقيل : قاعدين على ركبهم.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) كأن لم يكونوا في منازلهم قطّ ، لانقطاع آثارهم بالهلاك ، من : غنى بالمكان أي : أقام ، وغنى أي : عاش (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) ، نوّنه أبو بكر ها هنا وفي النجم (١) والكسائي في جميع القرآن ، وابن كثير ونافع وأبو عمرو في قوله (٢) : (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) ذهابا إلى الحيّ ، فإنّه مذكّر ، أو الأب (٣) الأكبر.

__________________

(١) النجم : ٥١.

(٢) أي : قرءوا : لثمود.

(٣) أي : على هذين التقديرين يكون «ثمود» منصرفا ، لأنّه مذكّر. وأمّا إذا فسّر بالقبيلة ، يكون

٢٩٣

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

ثمّ ذكر سبحانه قصّة إبراهيم ولوط ، فقال : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ) يعني : الملائكة. قيل : كانوا أربعة رابعهم اسمه كروبيل. وهذا منقول عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وقيل : تسعة. وقيل : أحد عشر. (بِالْبُشْرى) ببشارة الولد (قالُوا سَلاماً) سلّمنا عليك سلاما. ويجوز نصبه بـ «قالوا» على معنى : ذكروا سلاما ، لتضمّن الذكر القول. (قالَ سَلامٌ) أي : أمركم أو جوابي سلام ، أو وعليكم سلام.

رفعه إجابة بأحسن من تحيّتهم. وقرأ حمزة والكسائي : سلم. وكذلك في

__________________

غير منصرف بالتأنيث والعلميّة ، فلا يدخله التنوين.

٢٩٤

الذاريات (١). وهما لغتان ، كحرم وحرام. والمراد به الصلح.

(فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) فما ابطأ مجيئه به ، أو فما أبطأ في المجيء به ، أو فما تأخّر عنه. والجارّ في «أن» مقدّر. والحنيذ المشويّ بالرضف ، وهو الحجارة المحماة في أخدود من الأرض. وقيل : الّذي يقطر دسمه ، من : حنذت الفرس إذا عرّقته بالجلّ (٢) ، لقوله : بعجل سمين.

(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ) فلمّا راى إبراهيم أيدي الملائكة (لا تَصِلُ إِلَيْهِ) لا يمدّون إلى العجل الحنيذ أيديهم (نَكِرَهُمْ) أنكر ذلك ، فإنّ نكر وأنكر واستنكر بمعنى (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) وخاف أن يريدوا به مكروها ، وذلك أنّ أهل ذلك الزمان إذا أكل بعضهم طعام بعض أمنه صاحب الطعام على نفسه. وقيل : إنّه ظنّهم لصوصا يريدون به سوء. والإيجاس الإدراك. وقيل : الإضمار.

(قالُوا) له لمّا أحسّوا منه أثر الخوف (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) إنّا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب ، وإنّما لم نمدّ إليه أيدينا لأنّا لا نأكل. قيل : إنّهم دعوا الله فأحيا العجل الّذي كان ذبحه إبراهيم وشواه فرغا ، فعلم حينئذ أنّهم رسل الله.

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) وراء الستر تسمع محاورتهم ، أو على رؤوسهم للخدمة (فَضَحِكَتْ) سرورا بزوال الخيفة ، أو بهلاك أهل الخبائث ، أو بإصابة رأيها ، فإنّها كانت تقول لإبراهيم : اضمم إليك لوطا ، فإنّي أعلم أنّ العذاب ينزل بهؤلاء القوم.

وقيل : «فضحكت» من الضحك بفتح الضاد بمعنى : حاضت. يقال : ضحكت الأرنب إذا حاضت. ومنه : ضحكت السمرة إذا سال صمغها. وهي : سارة بنت هارون بن يا حور بن ساروع بن فالع. وهي كانت ابنة عمّ إبراهيم.

(فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) نصب «يعقوب» ابن عامر وحمزة وحفص بفعل يفسّره ما دلّ عليه الكلام. وتقديره : ووهبنا من وراء إسحاق

__________________

(١) الذاريات : ٢٥.

(٢) أي : ألقيت عليه الجلّ وأجريته حتى عرق.

٢٩٥

يعقوب. وقيل : إنّه معطوف على موضع «بإسحاق» ، فإنّه مفعول بواسطة الجرّ ، أو على لفظ «إسحاق» ، وفتحته للجرّ ، فإنّه غير منصرف. وردّ للفصل بينه وبين ما عطف عليه بالظرف. وقرأ الباقون بالرفع ، على أنّه مبتدأ خبره الظرف ، أي : ويعقوب مولود من بعده.

وعن ابن عبّاس : الوراء ولد الولد. ولعلّه سمّي به لأنّه بعد الولد. وعلى هذا تكون إضافته إلى إسحاق ليس من حيث إنّ يعقوب وراءه ، بل من حيث إنّه وراء إبراهيم من جهة إسحاق. وعن الشعبي : أنّه قيل له : هذا ابنك؟ قال : نعم من الوراء ، وكان ولد ولده. وتوجيه البشارة إليها للدلالة على أنّ الولد المبشّر به يكون منها ، ولأنّها كانت عقيمة حريصة على الولد.

(قالَتْ يا وَيْلَتى) يا عجبا. وأصله في الشرّ ، فأطلق على كلّ أمر فظيع.

والألف فيه مبدلة عن ياء الإضافة. وكذلك : يا لهفا ويا عجبا. (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) ابنة تسعين ، أو تسعة وتسعين (وَهذا بَعْلِي) زوجي. وأصله القائم بالأمر.

(شَيْخاً) ابن مائة وعشرين. ونصبه على الحال ، والعامل فيها معنى اسم الاشارة.

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) يعني : الولد من الهرمين.

وهو استعجاب من حيث العادة الّتي أجراها الله ، دون القدرة ، ولذلك (قالُوا) قالت الملائكة منكرين عليها : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ) بكثرة خيراته النامية الباقية (عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي : إنّ هذه وأمثالها ممّا يكرمكم الله به أهل بيت النبوّة ، فليست بمكان عجب ، فإنّ خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوّة ومهبط المعجزات ، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ، ليس ببدع وعجيب ، ولا حقيق بأن يستغربه عاقل ، فضلا عمّن نشأت وشابت في ملاحظة الآيات.

قال في الكشّاف : «قوله : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) مستأنف علّل به إنكار التعجّب ، كأنّه قيل : إيّاك والتعجّب ، فإنّ أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل : الرحمة النبوّة ، والبركات الأسباط من بني إسرائيل ،

٢٩٦

لأنّ الأنبياء منهم ، وكلّهم من ولد إبراهيم» (١).

ونصب «أهل البيت» على المدح ، أو النداء لقصد التخصيص ، كقولهم : اللهم اغفر لنا أيّتها العصابة.

روي : «أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام مرّ بقوم فسلّم عليهم ، فقالوا : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه. فقال عليه‌السلام : لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم : ورحمة الله وبركاته أهل البيت».

(إِنَّهُ حَمِيدٌ) فاعل ما يستوجب به الحمد (مَجِيدٌ) كثير الخير والإحسان.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) ما أوجس من الخيفة ، واطمأنّ قلبه بعرفانهم أنّهم الملائكة (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) بدل الروع (يُجادِلُنا) يجادل رسلنا (فِي قَوْمِ لُوطٍ) في شأنهم. وكانت مجادلته إيّاهم قوله لهم : إن كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونهم؟ قالوا : لا. قال : فأربعون؟ قالوا : لا. فما زال ينقص حتّى قال : فواحد؟ قالوا : لا. فقال : إنّ فيها لوطا؟ قالوا : نحن أعلم بمن فيها ، لننجّينّه وأهله.

وقيل : إنّه جادلهم وقال : بأيّ شيء استحقّوا عذاب الاستئصال؟ وهل ذلك واقع لا محالة ، أم هو تخويف ليرجعوا إلى الطاعة؟ وبأيّ شيء يهلكون؟ وكيف ينجي المؤمنين؟

وقوله : «يجادلنا» إمّا جواب «لمّا» ، جيء به مضارعا على حكاية الحال. أو لأنّه في سياق الجواب بمعنى الماضي ، كجواب «لو». أو دليل جوابه المحذوف ، مثل : اجترأ على خطاب رسلنا ، أو شرع في جدالهم. أو متعلّق بالجواب أقيم مقامه ، مثل : أخذ أو أقبل يجادل رسلنا.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) غير عجول على الانتقام من المسيء إليه (أَوَّاهٌ) كثير التأوّه من الفرطات ، والتاسّف على صدور ما هو تركه أولى (مُنِيبٌ) راجع إلى الله تعالى بما يحبّ ويرضى. وفيه بيان الحامل له على المجادلة ، وهو رقّة قلبه وفرط

__________________

(١) الكشّاف ٢ : ٤١١.

٢٩٧

ترحّمه ، رجاء أن يرفع العذاب عنهم.

(يا إِبْراهِيمُ) على إرادة القول ، أي : قالت الملائكة : يا إبراهيم (أَعْرِضْ عَنْ هذا) عن الجدال ، وإن كانت الرحمة ديدنك (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) قضاؤه وحكمه الّذي لا يصدر إلّا عن حكمة ، والعذاب نازل بهم لا محالة ، وهو أعلم بحالهم (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) غير مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١))(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

٢٩٨

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) ساءه مجيئهم ، لأنّهم جاؤوه في صورة غلمان حسان الوجوه ، فظنّ أنّهم أناس ، فخاف عليهم خبث قومه وسوء سيرتهم ، فيعجز عن مدافعتهم. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي : سيء وسيئت بإشمام السين الضمّ ، وفي العنكبوت (١) والملك (٢). والباقون باختلاس حركة السين.

(وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) وضاق بمكانهم صدره. وهو كناية عن شدّة الانقباض ، للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه. (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) شديد ، من : عصبه إذا شدّه.

قال الصادق عليه‌السلام : «جاءت الملائكة لوطا وهو في زراعة قرب القرية فسلّموا عليه ، ورأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض وعمائم بيض. فقال لهم : ائتوا المنزل ، فتقدّمهم ومشوا خلفه. فقال في نفسه : أيّ شيء صنعت؟! آتي بهم قومي وأنا أعرفهم ، فالتفت إليهم فقال : لتأتون شرارا من خلق الله. وكان قد قال الله لجبرئيل : لا تهلكهم حتّى يشهد لوط عليهم ثلاث مرّات. فقال جبرئيل : هذه واحدة. ثمّ مشى لوط ثم التفت إليهم فقال : إنّكم لتأتون شرارا من خلق الله. فقال جبرئيل : هذه ثنتان. ثمّ مشى ولمّا بلغ باب المدينة التفت إليهم فقال مثل ذلك. فقال جبرئيل عليه‌السلام : هذه الثالثة. ثمّ دخل ودخلوا معه حتّى دخل منزله ، ولمّا رأت امرأته هيئة حسنة صعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا ، فدخنت ، فلمّا رأوا الدخان أقبلوا يهرعون ، فذلك قوله : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) يسرعون إليه ، كأنّهم يدفعون دفعا لشدّة طلب الفاحشة من أضيافه.

__________________

(١) العنكبوت : ٣٣.

(٢) الملك : ٢٧.

٢٩٩

(وَمِنْ قَبْلُ) أي : ومن قبل ذلك الوقت (كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الفواحش مع الذكور ، فتمرّنوها ولم يستحيوا منها ، حتّى جاؤا يهرعون لها مجاهرين.

(قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي) فتزوّجوهنّ. وكانوا يطلبونهنّ قبل فلا يجيبهم ، لخبثهم وعدم كفاءتهم ، لا لحرمة المسلمات على الكفّار كما قيل ، فإنّه شرع مجدّد في الإسلام. وكذا كان أيضا في مبدأ الإسلام ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوّج ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل أن يسلما وهما كافران ، ثمّ نسخ ذلك.

أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه ، حتّى إنّ ذلك أهون منه. أو إظهار لشدّة غيظه من ذلك كي يرقّوا له. وقيل : المراد بالبنات نساء قومه ، فإنّ كلّ نبيّ أبو أمته من حيث الشفقة والتربية.

(هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) أنظف فعلا ، وأحلّ عملا. وهذا مثل قولك : الميتة أطيب من المغصوب وأحلّ منه ، ولا يلزم أن يكون في المغصوب طيب وحلّية. فالأطهر بمعنى كثير النزاهة والطيب في نفسه.

(فَاتَّقُوا اللهَ) في مواقعة الذكران ، أو بترك جميع الفواحش (وَلا تُخْزُونِ) ولا تفضحوني ، من الخزي. أو ولا تخجلوني ، من الخزاية بمعنى الحياء. (فِي ضَيْفِي) في شأن أضيافي ، فإنّ إخزاء ضيف الرجل إخزاؤه (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي : في جملتكم رجل واحد يهتدي إلى سبيل الرشد وفعل الجميل ، والكفّ عن القبيح.

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) من حاجة ، لأنّ نكاح الإناث أمر خارج من مذهبنا الّذي نحن عليه ، فإنّا نرغب عن نكاح الإناث بنكاح الذكران (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) وهو إتيان الذكران.

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي : لو قويت بنفسي على دفعكم (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) إلى قويّ أتمنّع به عنكم. شبّهه بركن الجبل في شدّته ومنعته. قال جبرئيل

٣٠٠