زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

جاءت بخيلائها وفخرها يكذّبون رسولك ، اللهمّ إنّي أسألك ما وعدتني. فأتاه جبرئيل وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فلمّا التقى الجمعان قال لعليّ عليه‌السلام : أعطني قبضة من حصباء الوادي ، فأعطاه فرمى بها في وجوههم ، وقال : شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلّا شغل بعينيه فانهزموا ، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم.

ثمّ لمّا انصرفوا أقبلوا على التفاخر ، فيقول الرجل : قتلت وأسرت ، فنزلت : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) الفاء جواب شرط محذوف ، تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم بقوّتكم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بإنزال الملائكة وإلقاء الرعب في قلوبهم.

(وَما رَمَيْتَ) يا محمّد رمية توصلها إلى أحداقهم ، ولم تقدر عليه (إِذْ رَمَيْتَ) أي : أتيت بصورة الرمي (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أتى بما هو غاية الرمي ، فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتّى انهزموا ، وتمكّنت من قطع دابرهم. وهذا من عجائب المعجزات. واللفظ كما يطلق على المسمّى ، يطلق على ما هو كماله والمقصود منه.

وقيل : معناه : ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ، ولكنّ الله رمى بالرعب في قلوبهم.

وقيل : إنّه نزل في طعنة طعن بها أبيّ بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم ، فجعل يخور حتّى مات. أو في رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه. وأكثر المفسّرين على القول الأوّل.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : ولكن بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين.

(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) ولينعم عليهم نعمة عظيمة من ذلك النصر والغنيمة ومشاهدة الآيات ، أو من عنده تعالى. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لاستغاثتهم

٢١

ودعائهم (عَلِيمٌ) بنيّاتهم وأحوالهم.

(ذلِكُمْ) إشارة إلى البلاء الحسن ، أو القتل ، أو الرمي. ومحلّه الرفع ، أي : الغرض أو الأمر ذلكم. وو قوله : (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) معطوف عليه ، أي : المقصود إبلاء المؤمنين ، وتوهين كيد الكافرين ، وإبطال حيلهم.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : موهّن بالتشديد ، وحفص : موهن كيد بالإضافة والتخفيف.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

ثمّ خاطب أهل مكّة على سبيل التهكّم بقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) وذلك أنّهم حين أرادوا الخروج تعلّقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهمّ انصر أعلى الجندين ، وأهدى الفئتين ، وأكرم الحزبين. وبرواية أخرى : اللهمّ انصر أقرانا للضيف ، وأوصلنا للرحم ، وأفكّنا للعاني ، إن كان محمّد على حقّ فانصره ، وإن كنّا على حقّ فانصرنا.

٢٢

وروي أنّ أبا جهل قال يوم بدر : اللهمّ أيّنا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم ، أي : فأهلكه.

(وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن الكفر ومعاداة الرسول (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لتضمّنه سلامة الدارين وخير المنزلتين. وقيل : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) خطاب للمؤمنين ، و (إِنْ تَنْتَهُوا) للكافرين. (وَإِنْ تَعُودُوا) لمحاربته (نَعُدْ) لنصره (وَلَنْ تُغْنِيَ) ولن تدفع (عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ) جماعتكم (شَيْئاً) من الإغناء أو المضارّ (وَلَوْ كَثُرَتْ) فئتكم (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصر والمعونة.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص : وأنّ بالفتح ، على تقدير : ولأنّ الله مع المؤمنين كان ذلك.

وقيل : الآية خطاب للمؤمنين. والمعنى : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال والرغبة عمّا يستأثره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو خير لكم ، وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدوّ ، ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر ، فإنّ الله مع الكاملين في إيمانهم.

ويؤيّد ذلك أمر الله سبحانه المؤمنين بالطاعة الّتي هي سبب النصرة ، ونهيهم عن التولّي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تلك الآية ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي : لا تتولّوا عن الرسول ، فإنّ المراد بالآية الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه. وذكر طاعة الله للتوطئة والتنبيه على أنّ طاعة الله تعالى في طاعة الرسول ، لقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١).

وقيل : الضمير للجهاد ، أو للأمر الّذي دلّ عليه الطاعة.

__________________

(١) النساء : ٨٠.

٢٣

(وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) القرآن والمواعظ سماع فهم وتصديق.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) كالكفرة أو المنافقين الذين ادّعوا السماع (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماعا ينتفعون به ، لأنّهم ليسوا بمصدّقين ، فكأنّهم لا يسمعون رأسا.

والمعنى : أنّكم تصدّقون بالقرآن والنبوّة ، فإذا تولّيتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور ـ من قسمة الغنائم وغيرها ـ كان تصديقكم كلا تصديق ، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن به.

ثمّ قال ذمّا للمعرضين عن أمر الله ورسوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) أي : شرّ ما يدبّ على الأرض ، أو شرّ البهائم (الصُّمُ) عن سماع الحقّ (الْبُكْمُ) عن قراءته (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) شيئا منه. عدّهم من البهائم أوّلا ثمّ جعلهم شرّها ، لإبطالهم ما ميّزوا به وفضّلوا لأجله ، وهو العقل.

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ) في هؤلاء الصمّ البكم (خَيْراً) انتفاعا باللطف (لَأَسْمَعَهُمْ) للطف بهم حتّى يسمعوا سماع المصدّقين (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) أي : ولو لطف بهم وقد علم أن لا خير فيهم (لَتَوَلَّوْا) عنه ولم ينتفعوا به. أو ولو لطف بهم فصدّقوا لارتدّوا بعد التصديق والقبول ، وكذّبوا فلم يستقيموا (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) لعنادهم. وفي هذا دلالة على أنّه سبحانه لا يمنع أحدا اللطف ، إذا علم أنّه ينتفع به.

وقال الباقر عليه‌السلام : «بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير وسويد بن حرملة». وكانوا يقولون : نحن صمّ بكم عمّا جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قتلوا جميعا بأحد ، وكانوا أصحاب اللواء.

وقيل : قالوا للنبيّ : أحي لنا قصيّا ، فإنّه كان شيخا مباركا حتّى يشهد لك فنؤمن بك. فالمعنى : لأسمعهم كلام قصيّ.

وعن ابن جريج : هم المنافقون. وعن الحسن : هم أهل الكتاب.

٢٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥))

ثمّ أمر سبحانه عباده بطاعة رسوله ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) بالطاعة والامتثال (إِذا دَعاكُمْ) وحّد الضمير فيه لما سبق ، ولأنّ دعوة الله تسمع من الرسول (لِما يُحْيِيكُمْ) من العلوم الدينيّة والأحكام الشرعيّة ، فإنّها حياة القلب ، والجهل موته ، قال :

لا تعجبنّ الجهول حلّته

فذاك ميت وثوبه كفن

أو ممّا يورثكم الحياة الأبديّة في النعيم الدائم ، من العقائد الحسنة المرضيّة والأعمال السنيّة. أو من الجهاد ، فإنّه سبب بقاء المؤمنين ، إذ لو تركوه لغلبهم العدوّ وقتلهم. أو الشهادة ، لقوله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١).

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) تمثيل لغاية قربه من العبد ، كقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٢) ، فإنّ الحائل بين الشيء وغيره أقرب إلى ذلك الشيء من ذلك الغير. وتنبيه على أنّه مطّلع على مكنونات القلوب وضمائرها ، ممّا عسى يغفل عنه صاحبها ، فكأنّه بينه وبين قلبه.

أو حثّ على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله تعالى بينه وبين قلبه بالموت أو غيره ، فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة.

أو تصوير وتخييل لتملّكه على العبد قلبه ، فيفسخ عزائمه ، ويغيّر مقاصده ،

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩.

(٢) ق : ١٦.

٢٥

ويبدله بالخوف أمنا ، وبالأمن خوفا ، وبالذكر نسيانا ، وبالنسيان ذكرا ، وما أشبه ذلك ممّا هو جائز عليه تعالى. ومنه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «عرفت الله بفسخ العزائم».

وما جاء في الدعاء : يا مقلّب القلوب.

وروى يونس بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أنّ الله يحول بين المرء وقلبه» معناه : لا يستيقن القلب أنّ الحقّ باطل أبدا ، ولا يستيقن القلب أنّ الباطل حقّ أبدا».

وروى هشام بن سالم عنه قال : «معناه : يحول بينه وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ». أوردهما العيّاشي في تفسيره (١).

(وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيجازيكم بأعمالكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) أي : اتّقوا ذنبا يعمّكم أثره ، كترك النهي عن المنكر ، والمداهنة في الأمر بالمعروف ، وافتراق الكلمة ، وإظهار البدع ، والتكاسل في الجهاد. وقيل : الفتنة العذاب.

وقوله : «لا تصيبنّ» لا يخلو : إما أن يكون جوابا للأمر ، أو نهيا بعد أمر معطوفا عليه بحذف الواو ، أو صفة لـ «فتنة».

فإذا كان جوابا فالمعنى : إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصّة ، بل تعمّكم. وإنّما جاز دخول النون في جواب الشرط ، مع أنّه متردّد لا يليق به النون المؤكّدة ، لأنّ فيه معنى النهي فساغ ، كقوله : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) (٢) ، وكما تقول : انزل عن الدابّة لا تطرحك ، ويجوز ، لا تطرحنّك.

وإذا كانت نهيا ـ بعد أمر باتّقاء الذنب ـ عن التعرّض للظلم ، فإنّ وباله يصيب الظالم خاصّة ويعود عليه. فكأنّه قيل : واحذروا ذنبا أو عقابا ، ثمّ قيل : لا تتعرّضوا

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٥٢ ح ٣٦ و ٣٩.

(٢) النمل : ١٨.

٢٦

للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصّة. وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول ، كأنّه قيل : واتّقوا فتنة مقولا فيها : لا تصيبنّ. ونظيره قوله :

حتّى إذا جنّ الظلام واختلط

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

والمذق اللبن المخلوط بالماء. والمعنى : بمذق مقول فيه هذا القول ، لأنّ فيه لون الورقة (١) الّتي هي لون الذئب. ويعضده قراءة ابن مسعود : لتصيبنّ ، على جواب القسم المحذوف. ويكون «من» للتبيين على هذا ، لأنّ المعنى : لا تصيبنّكم خاصّة على ظلمكم ، لأنّ الظلم أقبح منكم من سائر الناس ، وللتبعيض على الوجه الأوّل.

وفي الكشّاف : «روي عن الحسن : أنّها نزلت في عليّ وعمّار وطلحة والزبير ، وهو يوم الجمل خاصّة. قال الزبير : نزلت فينا وقرأناها زمانا ، وما أرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيّون بها».

وروي : أنّ الزبير كان يساير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما ، إذا أقبل عليّ عليه‌السلام ، فضحك إليه الزبير ، فقال رسول الله : كيف حبّك لعليّ؟ فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمّي ، إنّي أحبّه كحبّي لوالدي أو أشدّ حبّا. قال : فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟». (٢)

وقال في المجمع (٣) : «روى الثعلبي بإسناده عن حذيفة أنّه قال : أتتكم فتن كقطع الليل المظلم ، يهلك فيها كلّ شجاع بطل ، وكلّ راكب موضع ، وكلّ خطيب مصقع (٤)».

وفي حديث أبي أيّوب الأنصاري أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمّار : «إنّه سيكون بعدي هنات ، حتّى يختلف السيف فيما بينهم ، وحتّى يقتل بعضهم بعضا ، وحتّى يبرأ بعضهم من بعض ، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني عليّ بن أبي طالب ،

__________________

(١) الورقة : سواد في غبرة ، والأورق : الذي لونه لون الرماد.

(٢) الكشّاف ٢ : ٢١٢.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٥٣٤.

(٤) راكب موضع أي : مسرع ، والمصقع : البليغ.

٢٧

فإن سلك الناس كلّهم واديا وسلك عليّ واديا فاسلك وادي علي ، وخلّ عن الناس.

يا عمّار إنّ عليّا لا يردّك عن هدى ، ولا يدلّك على ردى. يا عمّار طاعة عليّ طاعتي ، وطاعتي طاعة الله» (١). رواه السيّد أبو طالب الهروي بإسناده عن علقمة والأسود عن أبي أيّوب الأنصاري.

وفي كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني رحمة الله ، وحدّثنا عنه السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني ، حدّثني محمد بن القاسم ابن أحمد ، قال : حدّثني أبو سعيد محمّد بن الفضيل بن محمّد ، قال : حدّثنا محمّد ابن صالح العرزمي ، قال : حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، قال : حدّثنا أبو سعيد الأشجّ ، عن أبي خلف الأحمر ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيّب ، عن ابن عبّاس قال : «لمّا نزلت هذه الآية : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من ظلم عليّا مقعدي هذا بعد وفاتي ، فكأنّما جحد نبوّتي ونبوّة الأنبياء قبلي» (٢).

وعن ابن عبّاس : أنّه سئل عن هذه الفتنة فقال : أبهموا ما أبهم الله.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن لم يتّق المعاصي والمظالم.

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦))

ثمّ عاد سبحانه إلى وقعة بدر ، وبيّن حالتهم السالفة في القلّة والضعف ، وإنعامه عليهم بالنصر والتأييد والتكثير ، فقال (وَاذْكُرُوا) معشر المهاجرين (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) أي : وقت كونكم أقلّة أذلّة (مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) أرض مكّة ،

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٥٣٤.

(٢) شواهد التنزيل ١ : ٢٧١ ح ٢٦٩.

٢٨

يستضعفكم قريش قبل الهجرة. و «إذ» هنا مفعول به ، وليس بظرف لـ «مستضعفون».

وقيل : الخطاب للعرب ، كانوا أذلّاء في أيدي الفرس والروم.

(تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) يستلبكم كفّار قريش إن خرجتم من مكّة ، أو من عداهم ، فإنّهم كانوا جميعا معادين مضادّين لهم.

(فَآواكُمْ) إلى المدينة ، أو جعل لكم مأوى تتحصّنون به عن أعاديكم (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) وقوّاكم على الكفّار بمظاهرة الأنصار ، أو بإمداد الملائكة يوم بدر (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الغنائم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إرادة أن تشكروا هذه النعم.

وعن قتادة : كانت العرب أذلّ الناس وأشقاهم عيشا ، وأعراهم جلدا ، يؤكلون ولا يأكلون ، فمكّن الله لهم في البلاد ، ووسّع عليهم في الرزق والغنائم ، وجعلهم ملوكا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨))

روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير ، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام. فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.

٢٩

فقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة. وكان مناصحا لهم ، لأنّ عياله وماله وولده كانت عندهم.

فبعثه رسول الله ، فأتاهم. فقالوا : ما ترى يا أبا لبابة أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه أنّه الذبح فلا تفعلوا. فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فأخبره بذلك.

قال أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله. فنزلت في شأنه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) من الخون ، وهو النقص ، كما أنّ أصل الوفاء التمام. ومنه : تخوّنه ، أي : تنقّصه ، ثمّ استعمل في ضدّ الأمانة والوفاء ، لأنّك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه.

والمعنى : لا تخونوا الله بترك أوامره ، والرسول بترك سننه وشرائعه.

وعن الحسن : أنّ من ترك شيئا من الدين وضيّعه فقد خان الله ورسوله.

(وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) ولا تخونوا الأمانات فيما بينكم ، بأن لا تحفظوها.

وهو مجزوم بالعطف على الأوّل ، أو منصوب على الجواب بالواو. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنّكم تخونون. أو أنتم علماء تميّزون الحسن من القبيح. أو أنتم تعلمون ما في الخيانة من الذمّ والعقاب.

ولمّا نزلت هذه الآية شدّ أبو لبابة نفسه على سارية من سواري المسجد ، وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ ، فمكث سبعة أيّام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا ، حتّى خرّ مغشيّا عليه ، ثمّ تاب الله عليه. فقيل له : يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال : لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله هو الّذي يحلّني ، فحلّه بيده.

ثمّ قال أبو لبابة : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي الّتي أصبت فيها

٣٠

الذنب ، وأن انخلع عن مالي. فقال النبيّ : يجزيك الثلث أن تتصدّق به.

وهذه الرواية مرويّة أيضا عن الكلبي والزهري.

وقال عطاء : سمعت جابر بن عبد الله يقول : إنّ أبا سفيان خرج من مكّة ، فأتى جبرئيل عليه‌السلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فاخرجوا إليه واكتموا. قال : فكتب إليه رجل من المنافقين : إنّ محمّدا يريدكم فخذوا حذركم.

فأنزل الله هذه الآية.

وقال السدّي : كانوا يسمعون الشيء من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيفشونه حتّى يبلغ المشركين ، فنزلت.

وقيل : المراد بالخيانة الغلول في المغانم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) لأنّهم سبب الوقوع في الإثم أو العقاب ، أو محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم ، فلا يحملنّكم حبّهم على الخيانة ، كأبي لبابة (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن آثر رضا الله تعالى عليهم ، وراعى حدوده فيهم ، فعليكم أن تزهدوا في الدنيا ، ولا تحرصوا على جمع المال وحبّ الأولاد ، ولا تؤثروهما على نعيم الأبد.

قال في المجمع : «بيّن سبحانه بهذه الآية أنّه يختبر خلقه بالأموال والأولاد ، ليتبيّن الراضي بقسمه ممّن لا يرضى به ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن ليظهر الأفعال الّتي بها يستحقّ الثواب والعقاب. وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله : «لا يقولنّ أحدكم : اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة ، لأنّه ليس أحد إلّا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن ، فإنّ الله سبحانه يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود أيضا» (١).

__________________

(١) مجمع البيان ٤ : ٥٣٦.

٣١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

ولمّا أمر الله سبحانه بالطاعة وترك الخيانة ، بيّن بعده ما أعدّه لمن امتثل أمره في الدنيا والآخرة ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) إن تتّقوا عقابه باتّقاء معاصيه وأداء فرائضه (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) هداية ونورا في قلوبكم ، وشرحا في صدوركم بوسيلة التوفيق واللطف ، تفرّقون به بين الحقّ والباطل. أو نصرا وفتحا ، كقوله تعالى (يَوْمَ الْفُرْقانِ) (١) لأنّه يفرّق بين المحقّ والمبطل ، بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين. أو مخرجا من الشبهات. أو نجاة عمّا تحذرون في الدارين. أو ظهورا يشهّر أمركم في أقطار الأرض ويبثّ صيتكم ، من قوله : بتّ أفعل كذا حتّى سطع الفرقان ، أي : الصبح.

(وَيُكَفِّرْ) ويستر (عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم بالتجاوز والعفو عنها. قيل : السيّئات الصغائر ، والذنوب الكبائر. وقيل : المراد ما تقدّم وما تأخّر ، لأنّها في أهل بدر ، وقد غفرهما الله تعالى لهم.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) على خلقه بما أنعم عليهم في الدنيا من أنواع النعم من غير سبق استحقاق منهم ، وفي الآخرة بما زاد على قدر استحقاقهم.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠))

روي أنّ قريشا ـ لمّا أسلمت الأنصار وبايعوه ـ خافوا أن يعلو أمره ويعظم

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

٣٢

شأنه ، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره ، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ ، وقال : أنا شيخ من نجد ، ما أنا من تهامة ، دخلت مكّة فسمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا منّي رأيا ونصحا.

فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوه في بيت ، وتشدّوا وثاقه ، وتسدّوا بابه غير كوّة ، تلقون إليه طعامه وشرابه منها ، وتتربّصوا به ريب المنون.

فقال إبليس : بئس الرأي ، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلّصه من أيديكم.

فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم ، فلا يضرّكم ما صنع واسترحتم.

فقال إبليس : بئس الرأي ، يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم.

فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كلّ بطن غلاما ، وتعطوه سيفا صارما ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فيتفرّق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلّهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا.

فقال الشيخ : هذا الفتى هو أجودكم رأيا.

فتفرّقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، وأمره بالهجرة وأن يبيّت في مضجعه عليّا ، فنام في مضجعه ، وقال له : اتّشح ببردتي ، فإنّه لن يصل إليك أمر تكرهه ، وخرج مع أبي بكر إلى الغار.

وباتوا مترصّدين ، فلمّا أصبحوا ساروا إلى مضجعه فأبصروا عليّا فبهتوا ، وخيّب الله سعيهم ، واقتصّوا أثره ، وأرسلوا في طلبه ، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو كان ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاثا ، ثمّ قدم المدينة ، فأبطل الله تعالى مكرهم.

فذكّر عزوجل ها هنا رسوله إنجاءه إيّاه من مكرهم حين كان بمكّة ، ليشكر الله على خلاصه من مكرهم واستيلائه عليهم ، فقال : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : اذكر إذ يحتال كفّار قريش في إبطال أمرك ، ويدبّرون في هلاكك (لِيُثْبِتُوكَ) بالوثاق أو الحبس أو الإثخان بالجرح ، من قولهم : ضربه حتّى أثبته لا حراك به ولا

٣٣

براح (١). والأوّل مرويّ عن ابن عبّاس. (أَوْ يَقْتُلُوكَ) بسيوفهم وخناجرهم (أَوْ يُخْرِجُوكَ) من مكّة.

(وَيَمْكُرُونَ) ويخفون المكائد لك (وَيَمْكُرُ اللهُ) ويخفي الله ما أعدّ لهم حتّى يأتيهم بغتة. أو المراد بمكر الله مجازاته إيّاهم على مكرهم ، أو معاملته معهم معاملة الماكرين. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي : مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيرا.

أو لأنّه لا ينزل إلّا ما هو حقّ وعدل. وإسناد أمثال هذا ممّا يحسن للمزاوجة ، أو لضرب من التأويل. ولا يجوز إطلاقها ابتداء ، لتضمّنه القبح والذمّ ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢))

ثمّ أخبر سبحانه عن عناد هؤلاء الكفّار في الحقّ ، فقال : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ما سطره الأوّلون من القصص. قائله النضر بن الحارث بن كلدة ، فإنّه حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون ، قال : لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الّذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وإسفنديار ، فزعم أنّ هذا مثل ذلك ، وأنّه من جملة الأساطير.

وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم ، فإنّه كان قاصّهم.

وقيل : هو قول الّذين ائتمروا في أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذا غاية مكابرتهم وفرط عنادهم ، إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم عن أن يقولوا مثله؟! وقد تحدّاهم وقرعهم

__________________

(١) أي : لم يبرح ولم يزل من مكانه.

٣٤

بالعجز عشر سنين ، ثمّ قارعهم بالسيف فلم يعارضوا سورة ، مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا ، خصوصا في باب البلاغة والفصاحة.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) القرآن (هُوَ الْحَقَ) منزلا (مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) أي : حجارة من سجّيل عقوبة على إنكاره ، كما فعلت بأصحاب الفيل (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) بنوع آخر من أنواع العذاب.

هذا أيضا من كلام النضر.

روي أنّه لمّا قال : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويلك إنّه كلام الله. فقال ذلك.

ومراده من هذا القول التهكّم وإظهار اليقين والجزم التامّ على كونه باطلا ، فكان تعليق العذاب بكونه حقّا مع اعتقاد أنّه ليس بحقّ كتعليقه بالمحال عنده ، كما في قولك : إن كان الباطل حقّا فأمطر علينا حجارة.

وفائدة تعريف الحقّ الدلالة على أنّ المعلّق به كونه حقّا بالوجه الّذي يدّعيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو تنزيله ، لا الحقّ مطلقا ، لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل ، كأساطير الأوّلين.

روي أنّ معاوية قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة!! قال : أجهل من قومي قومك ، قالوا لرسول الله حين دعاهم إلى الحقّ : «إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة» ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحقّ فاهدنا له.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤))

ثمّ ذكر سبحانه سبب إمهالهم ، وموجب التوقّف في إجابة دعائهم ، مع فرط

٣٥

عنادهم وشقاهم ، فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) اللّام لتأكيد النفي ، والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرهم خارج عن عادة الله تعالى ، غير مستقيم في قضائه ، لفضله وحرمته. قال ابن عبّاس : إنّ الله تعالى لم يعذّب قومه حتّى أخرجوه من مكّة. وكذا لا يعذّبهم حين الاستغفار عن الذنوب ، لقوله : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

والمراد باستغفارهم إما استغفار من بقي فيهم من المؤمنين بعد خروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مكّة ، كما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج من مكّة بقيت فيها بقيّة من المؤمنين ، ولم يهاجروا لعذر ، وكانوا على عزم الهجرة ، فرفع الله العذاب عن مشركي مكّة لحرمة استغفارهم ، فلمّا خرجوا أذن الله في فتح مكّة.

وهذا منقول عن ابن عبّاس وعطيّة والضحّاك. واختاره الجبائي.

وقيل : معناه : وما كان الله ليعذّبهم بعذاب الاستئصال في الدنيا وهم يقولون : اللهمّ غفرانك ، وإنّما يعذّبهم في الآخرة. أو المراد فرض الاستغفار على معنى : لو استغفروا لم يعذّبوا ، كقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١) أي : لو أصلحوا.

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) وما يمنع تعذيبهم متى لم تكن فيهم ، ولم يمكن الاستغفار؟ وكيف لا يعذّبون (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)؟ وحالهم صدّ الناس عنه ، ومن صدّهم عنه إلجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين إلى الهجرة ، وإحصارهم عام الحديبية. روي أنّهم قالوا : نحن ولاة البيت والحرم ، فنصدّ من نشاء ، وندخل من نشاء.

(وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي : مستحقّين ولاية أمره مع شركهم (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) من الشرك ، الّذين لا يعبدون فيه غير الله تعالى. أو إلّا المتّقون من

__________________

(١) هود : ١١٧.

٣٦

المسلمين ، فليس كلّ مسلم أيضا ممّن يصلح لأن يلي أمره ، بل إنّما يستأهل ولايته من كان برّا تقيّا ، فكيف بالكفرة وعبدة الأصنام؟

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن لا ولاية لهم عليه. كأنّه استثنى من كان يعلم ويعاند لطلب الرئاسة. أو أراد بالأكثر الجميع ، كما يراد بالقلّة العدم.

(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥))

روي أنّهم كانوا يطوفون عراة ، الرجال والنساء ، مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفّقون ، فنزلت : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ) أي : دعاؤهم ، أو ما يسمّونه صلاة ، أو ما يضعون موضعها (إِلَّا مُكاءً) صفيرا ، من : مكا يمكو إذا صفر (وَتَصْدِيَةً) تصفيقا. وهو ضرب اليد على اليد. تفعلة من الصدى ، أو من : صدّ يصدّ ، كقوله تعالى : (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) (١) أي : يصيحون ، على إبدال أحد حرفي التضعيف بالياء.

واعلم أنّ مساق الكلام لتقرير استحقاقهم العذاب ، أو عدم ولايتهم للمسجد ، فإنها لا تليق ممّن هذه صلاته.

وقيل : كانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاته ، لما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا صلّى في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران ، ورجلان عن يساره يصفّقان بأيديهما ، فيخلطان عليه صلاته ، فقتلهم الله جميعا ببدر ، كما قال : (فَذُوقُوا الْعَذابَ) يعني : القتل والأسر يوم بدر. وقيل : عذاب الآخرة. واللّام يحتمل أن تكون للعهد ، والمعهود : ائتنا بعذاب أليم (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) اعتقادا وعملا.

__________________

(١) الزخرف : ٥٧.

٣٧

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧))

روي أنّ أبا سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش ، وهم فرق مختلفون من قبائل شتّى ، ومنه يقال : عندي أحبوش منهم ، أي : جماعة منهم ، سوى من استجاش (١) من العرب ، وأنفق عليهم أربعين أوقية ، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا ، أو استأجرهم لأصحاب العير ، فإنّه لمّا أصيب قريش ببدر قيل لهم : أعينوا بهذا المال على حرب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لعلّنا ندرك منه ثأرنا ، ففعلوا ، فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) في قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ليمنعوا بذلك الناس عن دين الله الّذي أتى به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلا من قريش ، يطعم كلّ واحد منهم كلّ يوم عشر جزر (٢). وغرضهم في هذا الإنفاق الصدّ عن اتّباع محمّد ، وهو سبيل الله.

وإنّما قال : ليصدّوا ، وإن كانوا لم يقصدوا ذلك ، من حيث لم يعلموا أنّ ذلك دين الله ، لأنّ فعلهم ذلك كان صدّا عن دين الله وإن لم يقصدوا ذلك.

(فَسَيُنْفِقُونَها) بتمامها. ويحتمل أن يكون الأوّل إخبارا عن إنفاقهم في تلك الحال ، وهو إنفاق يوم بدر ، والثاني إخبارا عن إنفاقهم فيما يستقبل ، وهو الإنفاق في يوم أحد. أو يراد بهما واحد ، على أنّ مساق الأوّل لبيان غرض الإنفاق ،

__________________

(١) أي : جمع الجيش منهم.

(٢) الجزر جمع الجزور ، وهو من الإبل يقع على الذكر والأنثى.

٣٨

ومساق الثاني لبيان عاقبته ، وأنّه لم يقع بعد.

(ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) ندما وغمّا ، لفواتها من غير مقصود. وجعل ذاتها حسرة ـ وهي عاقبة إنفاقها ـ مبالغة. (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) آخر الأمر ، وإن كان الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا قبل ذلك ، أي : مرّة تكون لهم ومرّة عليهم.

وفي هذا دلالة على صحّة نبوّة النبيّ ، لأنّه أخبر بالشيء قبل كونه ، فوجد على ما أخبر به.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ثبتوا على الكفر منهم ، إذ أسلم بعضهم (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) يساقون.

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي : الفريق الخبيث ـ وهم الكافرون ـ من الفريق الطيّب ، وهم المؤمنون. أو يميز الفساد من الصلاح. واللّام متعلّقة بـ «يحشرون» أو «يغلبون» ، أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله ممّا أنفقه المسلمون في نصرته. وحينئذ اللّام متعلّقة بقوله : (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً).

وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب : ليميّز من التمييز ، وهو أبلغ من الميز.

(وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ) ويجعل الفريق الخبيث من الكفّار (بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) فيجمعه ويضمّ بعضه إلى بعض حتّى يتراكبوا ، لفرط ازدحامهم. أو يضمّ إلى الكافر ما أنفقه ، ليزيد به عذابه ، ليعاقبهم به ، كما قال : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) (١) الآية. (فَيَجْعَلَهُ) كلّه (فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ) إشارة إلى الخبيث ، لأنّه مقدّر بالفريق الخبيث ، أو إلى المنفقين (هُمُ الْخاسِرُونَ) الكاملون في الخسران ، لأنّهم خسروا أنفسهم وأموالهم.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ

__________________

(١) التوبة : ٣٥.

٣٩

لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)) ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدعائهم إلى التوبة والإيمان ، فقال : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : أبا سفيان وأصحابه. والمعنى : قل لأجلهم ، لقوله : (إِنْ يَنْتَهُوا) على صيغة الغائب ، أي : ينتهوا عن معاداة الرسول بالدخول في الإسلام (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) من الشرك وعداوة الرسول وسائر ذنوبهم. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإسلام يجبّ ما قبله».

(وَإِنْ يَعُودُوا) إلى قتاله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) الّذين تحزّبوا على الأنبياء بالتدمير ، كما جرى على أهل بدر ، فليتوقّعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) لا يوجد فيهم شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ويضمحلّ كلّ دين ، ويبقى دين الإسلام وحده.

عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لم يجيء تأويل هذه الآية ، ولو قد قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية ، وليبلغنّ دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بلغ الليل ، حتّى لا يكون مشرك على ظهر الأرض».

(فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم. وعن يعقوب : تعملون بالتاء ، على معنى : فإنّ الله بما تعملون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام ، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان بصير ، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء. ويكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنّه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة ، يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبّب.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) وإن لم ينتهوا (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) ناصركم فثقوا بولاية الله ونصرته ، ولا تبالوا بمعاداتهم (نِعْمَ الْمَوْلى) لا يضيع من تولّاه (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لا يغلب من نصره.

٤٠