زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

(دَعَوُا اللهَ) عند نزول هذه الشدائد (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من غير إشراك ، لتراجع الفطرة ، وزوال المعارض من شدّة الخوف. وهو بدل من «ظنّوا» بدل الاشتمال ، لأنّ دعاءهم من لوازم ظنّهم الهلاك ، فهو ملتبس به. والجملة الشرطيّة بعد «حتّى» بما في حيّزها غاية للتسيير ، فكأنّه قال : هو الّذي يسيّركم حتّى وقعت هذه الحادثة ، وكان كيت وكيت ، من مجيء الريح العاصف ، وتراكم الأمواج ، والظنّ بالهلاك ، والدعاء بالإنجاء خالصا ومخلصا.

(لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) يا ربّ (مِنْ هذِهِ) الشدّة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي : من جملة من يشكرك ، على إرادة القول ، أو مفعول «دعوا» لأنّه من جملة القول.

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) أخلصهم الله تعالى من تلك المحن إجابة لدعائهم (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) فاجئوا الفساد فيها ، وسارعوا إلى ما كانوا عليه (بِغَيْرِ الْحَقِ) مبطلين فيه. وهو احتراز عن تخريب المسلمين ديار الكفرة وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم ، فإنّها إفساد بحقّ.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) فإنّ وباله عليكم ، وإنّما بغيكم على أمثالكم وأبناء جنسكم (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) منفعة الحياة الدّنيا لا تبقى ، ويبقى عقابها. ورفعه على أنّه خبر «بغيكم» و «على أنفسكم» صلته ، أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : ذلك متاع الحياة الدنيا ، و «على أنفسكم» خبر «بغيكم» ونصبه حفص على أنّه مصدر مؤكّد ، أي : تمتّعون متاع الحياة الدنيا. أو مفعول البغي ، لأنّه بمعنى الطلب ، فيكون الجارّ من صلته والخبر محذوف ، تقديره : بغيكم متاع الحياة الدّنيا محذور أو ضلال. أو مفعول فعل دلّ عليه البغي ، و «على أنفسكم» خبر.

(ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) في الآخرة (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالجزاء عليه.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثنتان يعجّلهما الله في الدنيا : البغي ، وعقوق الوالدين».

وعن ابن عبّاس : لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي.

٢٠١

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤))

ولمّا تقدّم ما يوجب الترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا ، عقّبه سبحانه بذكر صفة الدارين ، فقال : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) حالها العجيبة في سرعة تقضّيها ، وذهاب نعيمها بعد إقبالها ، واغترار الناس بها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فاشتبك بسببه حتّى خالط بعضه بعضا (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) من الزروع والبقول والحشيش.

(حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) تزيّنت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة ، كعروس أخذت ألوان الثياب والزينة وتزيّنت بها. وأصل «ازّيّنت» تزيّنت ، فأدغم ثمّ أدخل عليه الهمزة المكسورة ، لتعذّر الابتداء بالساكن.

(وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) متمكّنون من حصدها ورفع غلّتها (أَتاها أَمْرُنا) هو ضرب زرعها ببعض العاهات والآفات بعد أمنهم وإيقانهم أن قد سلم (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها) فجعلنا زرعها (حَصِيداً) شبيها بما حصد من أصله واستؤصل (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) زرعها ، أي : لم ينبت. والمضاف محذوف في الموضعين للمبالغة.

(بِالْأَمْسِ) فيما قبيله. وهو مثل في الوقت القريب ، كأنّه قيل : كأن لم تغن آنفا.

واعلم أنّ الممثّل به مضمون الحكاية ، وهو زوال خضرة النبات فجأة ، وذهابه حطاما ، بعد ما كان غضّا والتفّ وزيّن الأرض حتى طمع فيه أهله ، وظنّوا

٢٠٢

أنّه قد سلم من الجوائح (١) ، لا الماء وإن وليه حرف التشبيه ، لأنّه من التشبيه المركّب.

(كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإنّهم المنتفعون به.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))

ولمّا بيّن سبحانه أنّ الدنيا تنقطع وتفنى بالموت كما يفنى هذا النبات بفنون الآفات ، ونبّه على التوقّع لزوالها والتحرّز عن الاغترار بأحوالها ، رغّب عقيبه في الآخرة ، فقال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) دار السلامة من التقضّي والآفة ، أو دار الله. وتخصيص هذا الاسم أيضا للتنبيه على ذلك. أو دار يسلّم الله والملائكة فيها على من يدخلها. والمراد الجنّة. (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق. وهو الّذي علم أنّ اللطف يجدي عليه ، فإنّ مشيئته تابعة لحكمته. (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو طريقها الّذي هو الإسلام والتدرّع بلباس التقوى.

__________________

(١) الجوائح جمع الجائحة ، وهي البليّة والتهلكة.

٢٠٣

والمعنى : يدعو العباد كلّهم إلى دار السلام ، ولا يدخلها إلّا الّذي استرشد فوفّق بالاهتداء ، فإنّ الحكمة الإلهيّة مقتضية أن يوفّق طالب الحقّ ويهديه ، ويخذل المعاند المكابر ويمنع لطفه وتوفيقه عنه.

ثمّ بيّن حال أهل دار السلام فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) المثوبة (الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) وما يزيد على المثوبة تفضّلا ، لقوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (١). وعن عليّ عليه‌السلام «الزيادة : غرفة من لؤلؤة واحدة ، لها أربعة أبواب».

وعن ابن عبّاس : الحسنى مثل حسناتها ، والزيادة عشر أمثالها. وعن الحسن : عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف وأكثر. وعن مجاهد : الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن شجرة : الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنّة فتقول : ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلّا أمطرتهم. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : «الزيادة هي ما أعطاهم الله تعالى من النعم في الدنيا ، لا يحاسبهم به في الآخرة».

(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ) لا يغشاها (قَتَرٌ) غبرة فيها سواد (وَلا ذِلَّةٌ) هوان وأثر كآبة. والمعنى : لا يرهقهم ما يرهق أهل النار ، كقوله : (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) (٢) و (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (٣).

روى الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من عين ترقرقت (٤) بمائها إلّا حرّم الله ذلك الجسد على النار ، فإن فاضت من خشية الله لم يرهق ذلك الوجه قتر ولا ذلّة».

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون لا زوال فيها ، ولا انقراض

__________________

(١) النساء : ١٧٣.

(٢) عبس : ٤١.

(٣) القلم : ٤٣.

(٤) ترقرقت العين : دمعت.

٢٠٤

لنعيمها ، بخلاف الدنيا وزخارفها.

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) عطف على قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) على مذهب من يجوّز : في الدار زيد والحجرة عمرو. أو «الّذين» مبتدأ ، والخبر «جزاء سيّئة» على تقدير : وجزاء الّذين كسبوا السيّئات جزاء سيّئة بمثلها. والمعنى : جزاؤهم أن تجازى سيّئة بسيّئة مثلها لا يزاد عليها. أو «الّذين» مبتدأ ، والخبر «كأنّما أغشيت» أو «أولئك أصحاب النار» ، وما بينهما اعتراض.

فـ «جزاء سيّئة» مبتدأ خبره محذوف ، أي : فجزاء سيّئة بمثلها واقع ، أو بمثلها ، على زيادة الباء أو تقدير مقدّر : بمثلها.

وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل ، لأنّه دلّ بترك الزيادة على السيّئة على عدله ، ودلّ ثمّة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله.

(وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) ما من أحد يعصمهم من سخط الله ، أو من جهة الله تعالى ومن عنده ، كما يكون للمؤمنين (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) لفرط سوادها وظلمتها. و «مظلما» حال من الليل ، والعامل فيه «أغشيت» ، لأنّه العامل في «قطعا» ، وهو موصوف بالجارّ والمجرور ، والعامل في الموصوف عامل في الصفة. أو العامل معنى الفعل في «من الليل».

وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب : قطعا بسكون الطاء. وعلى هذا يصحّ أن يكون «مظلما» صفة له أو حالا منه.

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وهذه الآية في المشركين ، فلا تكون ممّا يحتجّ به الوعيديّة.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً

٢٠٥

بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

ولمّا تقدّم ذكر الجزاء بيّن سبحانه وقت الجزاء ، فقال : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) نجمع الخلائق أجمعين من كلّ أوب إلى الموقف (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) الزموا مكانكم حتّى تنظروا ما يفعل بكم (أَنْتُمْ) تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله ، لأنّه سدّ مسدّ : الزموا (وَشُرَكاؤُكُمْ) عطف عليه (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) ففرّقنا بينهم ، وقطّعنا الوصل الّتي كانت بينهم (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم ، فإنّهم عبدوا في الحقيقة أهواءهم ، لأنّها الآمرة بالإشراك لا ما أشركوا به.

وقيل : ينطق الله الأصنام فتشافههم بذلك مكان الشفاعة الّتي توقّعوا منها.

وقيل : المراد بالشركاء الملائكة والمسيح. وقيل : الشياطين.

(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) فإنّه العالم بكنه الحال (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) «إن» هي المخفّفة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة.

(هُنالِكَ) في ذلك المقام (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) تختبر ما قدّمت من عمل ، فتعاين نفعه وضرّه ، مقبوله ومردوده ، ومنه (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (١). وقرأ حمزة والكسائي : تتلو ، من التلاوة ، أي : تقرأ ذكر ما قدّمت ، أو من التلو ، أي : تتبع عملها فيقودها إلى الجنّة أو إلى النّار. (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ) إلى جزائه إيّاهم بما اسلفوا (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) ربّهم الثابتة ربوبيّته ، ومتولّي أمورهم على الحقيقة ، لا ما اتّخذوه مولى. أو الّذي يتولّى حسابهم ، العدل الّذي لا يجوز. (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وضاع عنهم

__________________

(١) الطارق : ٩.

٢٠٦

(ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من أنّ آلهتهم تشفع لهم ، أو ما كانوا يدّعون أنّها آلهة.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))

ثمّ قرّر سبحانه أدلّة التوحيد والبعث عليهم ، فقال : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : منهما جميعا ، فإنّ الأرزاق تحصل بأسباب سماويّة وموادّ أرضيّة ، أو من كلّ واحد منهما توسعة عليكم. وقيل : «من» لبيان «من» على حذف المضاف ، أي : من أهل السماء والأرض.

(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أم من يستطيع خلقهما وتسويتهما؟ أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما من أدنى شيء؟

(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي : ومن يحيي ويميت؟ ومن ينشئ الحيوان من النطفة ، والنطفة منه؟ (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ومن يلي تدبير أمر العالم. وهو تعميم بعد تخصيص.

(فَسَيَقُولُونَ اللهُ) إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك ، لفرط وضوحه (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أنفسكم عقابه بإشراككم إيّاه ما لا يشاركه في شيء من ذلك.

٢٠٧

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) أي : المتولّي لهذه الأمور المستحقّ للعبادة هو ربّكم الثابت ربوبيّته ، لأنّه الّذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبّر أموركم (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) استفهام إنكار ، أي : ليس بعد الحقّ إلّا الضلال ، فمن تخطّى الحقّ ـ الّذي هو عبادة الله ـ وقع في الضلال (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن الحقّ إلى الضلال.

(كَذلِكَ) أي : كما حقّت الربوبيّة لله تعالى ، أو أنّ الحقّ بعده الضلال ، أو أنّهم مصروفون عن الحقّ (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي : ثبت حكمه بالعذاب (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) تمرّدوا في كفرهم ، وخرجوا عن حدّ الاستصلاح (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدل من الكلمة ، أي : حقّ عليهم انتفاء الإيمان. أو تعليل لحقّيتها ، أي : حقّ عذاب الله على الّذين فسقوا ، لعدم إيمانهم.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))

ثمّ احتجّ سبحانه عليهم في التوحيد باحتجاج آخر ، فقال : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) من هذه الأصنام التي جعلتموها شركاء لله تعالى (مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) جعل إعادة الخلق كالإبداء في الإلزام بها ، لظهور برهانها ، ومكابرة دافعها ، وعدم مساعدته عليها ، ولذلك أمر الرسول بأن ينوب عنهم في الجواب ، فقال : (قُلِ

٢٠٨

اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لأن لجاجهم ومكابرتهم لا يدعهم أن يعترفوا بها (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون عن قصد السبيل.

ثمّ استأنف الحجاج بنوع آخر ، فقال : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) إلى الرشد وما فيه من الصلاح والنجاة ، بنصب الحجج وإرسال الرسل ، والتوفيق للنظر والتدبّر. و «هدى» كما يعدّى بـ «إلى» لتضمّنه معنى الانتهاء ، يعدّى باللام ، للدلالة على أنّ المنتهى غاية الهداية ، وأنّها لم تتوجّه نحوه على سبيل الاتّفاق ، ولذلك عدّي بها ما أسند إلى الله تعالى ، وقال : (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) بما ركّب في المكلّفين من العقول ، ومكّنهم من النظر في الأدلّة ، ووقفهم على الشرائع.

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي) لا يهتدي (إِلَّا أَنْ يُهْدى) من قولهم : هدى بنفسه إذا اهتدى. أو لا يهدي غيره إلّا أن يهديه الله. وهذا حال أشراف شركائهم ، كالملائكة والمسيح وعزير.

وقرأ ابن كثير وورش عن نافع وابن عامر : لا يهدّي ، بفتح الهاء وتشديد الدال. ويعقوب وحفص بالكسر والتشديد. والأصل : يهتدي ، فأدغم ، وفتحت الهاء بحركة التاء ، أو كسرت لالتقاء الساكنين. وروى أبو بكر : يهدّي باتّباع الهاء. وقرأ أبو عمرو بالإدغام المجرّد عن الفتحة أو الكسرة ، ولم يكن يبال بالتقاء الساكنين ، لأنّ المدغم في حكم المتحرّك. وعن نافع برواية قالون مثله.

(فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بما يقتضي صريح العقل بطلانه ، كقولهم : إنّ هذه الأصنام آلهة ، وأنّها شفعاء عند الله. والاستفهام للتعجيب.

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) فيما يعتقدونه (إِلَّا ظَنًّا) مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة ، كقياس الغائب على الشاهد ، والخالق على المخلوق ، بأدنى مشاركة موهومة. والمراد بالأكثر الجميع ، أو من ينتمي إلى تمييز ونظر ، ولا يرضى بالتقليد الصرف.

٢٠٩

(إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِ) من العلم والاعتقاد الحقّ الثابت (شَيْئاً) من الإغناء. ويجوز أن يكون مفعولا به ، و «من الحقّ» حالا منه. وفيه دليل على أنّ تحصيل العلم في الأصول واجب ، والاكتفاء بالتقليد والظنّ غير جائز. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) وعيد على اتّباعهم للظنّ ، وإعراضهم عن البرهان.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩))

ثمّ ردّ الله سبحانه على الكفّار قولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) ، وقولهم : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افترى هذا القرآن ، فقال : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) وما صحّ وما استقام وكان محالا أن يكون مثله في علوّ أمره وإعجازه مفترى من الخلق (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) مطابقا لما تقدّمه من الكتب الإلهيّة المشهود على صدقها ، ولا يكون كذبا ، كيف وهو ـ لكونه معجزا دونها ـ عيار عليها ، شاهد على صحّتها. ونصبه بأنّه خبر لـ «كان» مقدّرا ، أو علّة لفعل محذوف ، تقديره : لكن أنزله الله تصديق الّذي بين يديه.

(وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) وتفصيل ما حقّق وأثبت من العقائد وفرض الأحكام ، وبيان سائر الشرائع (لا رَيْبَ فِيهِ) منتفيا عنه الشكّ. وهو خبر ثالث داخل في

٢١٠

حكم الاستدراك. ويجوز أن يكون حالا من «الكتاب» ، فإنّه مفعول في المعنى ، وأن يكون استئنافا.

(مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر آخر ، تقديره : كائنا من ربّ العالمين. أو متعلّق بـ «تصديق» أو بـ «تفصيل» ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض. أو بالفعل المعلّل بالتصديق والتفصيل ، أي : أنزله الله كائنا من ربّ العالمين. ويجوز أن يكون حالا من الكتاب ، أو من الضمير في «فيه». ومساق الآية بعد المنع من اتّباع الظنّ لبيان ما يجب اتّباعه والبرهان عليه.

(أَمْ يَقُولُونَ) بل أيقولون (افْتَراهُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ومعنى الهمزة فيه للإنكار. (قُلْ) إن افتريته كما زعمتم (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) في البلاغة وحسن النظم وقوّة المعنى على وجه الافتراء ، فإنّكم مثلي في العربيّة والفصاحة ، وأشدّ تمرّنا في النظم والعبارة (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) ومع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به (مِنْ دُونِ اللهِ) سوى الله تعالى ، فإنّه وحده قادر على أن يأتي بمثله ، ولا يقدر على ذلك أحد غيره (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّ محمدا اختلقه.

(بَلْ كَذَّبُوا) بل سارعوا إلى التكذيب (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) بالقرآن الّذي لم يعلموه من جميع وجوهه أوّل ما سمعوه ، قبل أن يتدبّروا آياته ، ويحيطوا بالعلم بشأنه وكنه أمره ، من كيفيّة نظمه وصحّة معانيه. أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علما ، من ذكر البعث وسائر ما يخالف دينهم.

(وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) ولم يقفوا بعد على حقيقته ، ولم تبلغ أذهانهم معانيه ، لنفورهم عمّا يخالف ما ألفوه من آبائهم. أولم يأتهم بعد عاقبة ما فيه من الإخبار بالغيوب حتّى يتبيّن لهم أنّه صدق أو كذب. والمعنى : أنّ القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى. ثمّ إنّهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبّروا نظمه ويتفحّصوا معناه.

ومعنى التوقّع في «لمّا» أنّه قد ظهر لهم بالأخرة إعجازه لمّا كرّر عليهم التحدّي ، فجرّبوا قواهم في معارضته فضعفت دونها ، أو لمّا شاهدوا وقوع ما أخبر

٢١١

به طبقا لإخباره مرارا ، فلم يقلعوا عن التكذيب تمرّدا وعنادا.

(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك التكذيب (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أنبياءهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧))

ثمّ أخبر سبحانه أنّ من جملة هؤلاء الكفّار الّذين كذّبوا بالقرآن ونسبوه إلى الافتراء من سيؤمن به في المستقبل ، ويصدّق بأنّه من عند الله ، ومنهم من يموت

٢١٢

على كفره ، فقال : (وَمِنْهُمْ) ومن المكذّبين (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) من سيؤمن ويتوب عن كفره ، أو يصدّق به في نفسه ويعلم أنّه حقّ ولكن يعاند (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) فيما يستقبل ، بأن يموت على الكفر ، أو لا يؤمن به في نفسه ، لقلّة تدبّره فيه (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) بالمعاندين أو بالمصرّين.

ثمّ خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) وإن اصرّوا على تكذيبك بعد إلزام الحجّة (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم ، حقّا كان أو باطلا (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) لا تؤاخذون بعملي ، ولا أؤاخذ بعملكم. ومثله : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (١). وقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلى آخر السورة.

وملخّص المعنى : إن عاندوا وأصرّوا على تكذيبك فتبرّأ منهم وخلّهم ، فقد أعذرت في التبليغ إليهم. وهذا وعيد لهم من الله تعالى ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) (٢). ولا تنافي بين هذه الآية وآية القتال ، لأنّه براءة ووعيد ، وذلك لا ينافي الجهاد ، فلا تكون منسوخة بإنزال آية (٣) السيف كما توهّم بعضهم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ، ولكن لا يقبلون ولا يعون ، كالأصمّ الّذي لا يسمع أصلا (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) أتقدر على إسماعهم (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) ولو انضمّ إلى صممهم عدم تعقّلهم ، لأنّ الأصمّ العاقل ربما تفرّس واستدلّ وعلم إذا وقع في صماخه دويّ الصوت ، فإذا اجتمع سلب العقل والسمع جميعا فقد تمّ الأمر.

وفيه تنبيه على أنّ حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه ، ولذلك لا

__________________

(١) الشعراء : ٢١٦.

(٢) الأنعام : ١٣٥.

(٣) التوبة : ٥ و ٢٩.

٢١٣

توصف به البهائم ، وهو لا يتأتّى إلّا باستعمال العقل السليم في تدبّره ، وعقولهم لمّا كانت مؤفة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد تعذّر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة ، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق ، وهو مجرّد استماع الصوت.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) يعاينون دلائل نبوّتك ولكن لا يصدّقونك (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) أتقدر على هدايتهم (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) وإن انضمّ إلى عدم البصر عدم البصيرة ، فإنّ المقصود من الإبصار هو الاعتبار والاستبصار ، والعمدة في ذلك البصيرة ، ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطّن لما لا يدركه البصير الأحمق. يعني : أنّهم في اليأس من قبولهم وتصديقهم الحقّ كالصمّ والعمي الّذين لا عقول لهم ولا بصائر. والآية كالتعليل للأمر بالتبرّي والإعراض عنهم. والاستفهام في الآيتين للإنكار.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) بسلب حواسّهم وعقولهم (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإفسادها وتفويت منافعها عليهم. أو لا يظلمهم في تعذيبهم يوم القيامة ، بل العذاب لا حق بهم على سبيل العدل والاستحقاق. وقرأ حمزة والكسائي بتخفيف «لكن» ورفع الناس.

ثمّ بيّن حالهم يوم الجمع بقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) يعني : يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا أو في القبور ، لهول ما يرون.

والجملة التشبيهيّة في موضع الحال ، أي : يحشرهم مشبّهين بمن لم يلبث إلّا ساعة.

أو صفة لـ «يوم» ، والعائد محذوف تقديره : كأن لم يلبثوا قبله ، أو لمصدر محذوف ، أي : حشرا كأن لم يلبثوا قبله.

(يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يعرف بعضهم بعضا كأنّهم لم يتفارقوا إلّا قليلا ، وذلك عند خروجهم عن القبور ، ثمّ ينقطع التعارف بينهم ، لشدّة العذاب عليهم. وهي حال

٢١٤

أخرى مقدّرة ، نحو : خرجت مع البازي صائدا ، والصيد لا يكون حين الخروج بل بعده. أو بيان لقوله : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا). أو متعلّق الظرف ، والتقدير : يتعارفون يوم يحشرهم.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) على إرادة القول. والمعنى : يتعارفون بينهم قائلين ذلك. أو هي شهادة من الله على خسرانهم. والمعنى : قد خسروا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر. (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق استعمال ما منحوا من القوى في تحصيل المعارف ، فاستكسبوا بها جهالات أدّت بهم إلى الردى والعذاب الدائم ، فما كانوا عارفين بالتجارة المربحة ، والمثمرة للسعادة الأبديّة.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) نبصّرنّك (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب في حياتك ، كما أراه يوم بدر (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن نريك (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) فنريكه في الآخرة.

وهو جواب «نتوفّينّك». وجواب «نرينّك» محذوف ، مثل : فذاك. (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) أي : مجاز عليه. ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها ، فكأنّه قال : ثمّ الله معاقب على ما يفعلون ، ولذا رتّبها على الرجوع بـ «ثمّ». أو معناه : مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية (رَسُولٌ) يبعث إليهم ليدعوهم إلى الحقّ (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) بالبيّنات فكذّبوه (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الرسول ومكذّبيه (بِالْقِسْطِ) بالعدل ، فأنجي الرسول وأهلك المكذّبون (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

وقيل : معناه لكلّ أمّة يوم القيامة رسول تنسب إليه ، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضى بينهم بإنجاء المؤمن وعقاب الكافر ، كقوله : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (١).

__________________

(١) الزمر : ٦٩.

٢١٥

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))

ولمّا وعد سبحانه المكذّبين بيّن عقيبه أنّهم استعجلوا ذلك على سبيل التكذيب والردّ ، فقال : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) استبعادا له واستهزاء به (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) خطاب منهم للنبيّ والمؤمنين.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا) من فقر أو مرض (وَلا نَفْعاً) من غنى أو صحّة ، فكيف أملك لكم فأستعجل في جلب العذاب إليكم؟! (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن أملكه ، أو ولكن ما شاء الله من ذلك كائن (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مضروب محدود من الزمان

٢١٦

لهلاكهم (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يتأخّرون ولا يتقدّمون ، فلا تستعجلوا فسيحين (١) وقتكم وينجز وعدكم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) الّذي تستعجلون به (بَياتاً) وقت بيات واشتغال بالنوم. وهو بمعنى التبييت ، كالسلام بمعنى التسليم. (أَوْ نَهاراً) حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أيّ شيء من العذاب يستعجلونه ، وليس شيء منه يوجب الاستعجال ، فإنّ كلّه مكروه ، فلا يلائم الاستعجال؟! وهو متعلّق بـ «أرأيتم» لأنّه بمعنى : أخبروني. والمجرمون وضع موضع الضمير ، للدلالة على أنّهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء الوعيد ، لا أن يستعجلوه. ويجوز ان يكون معناه التعجّب ، كأنّه قال : أي هول شديد يستعجلون منه؟

وقيل : الضمير في «منه» لله تعالى ، وتعلّق الاستفهام بـ «أرأيتم». والمعنى : أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون؟ وجواب الشرط محذوف ، وهو : تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا الخطأ فيه.

ويجوز أن يكون (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) جوابا للشرط ، كقولك : إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ثمّ تتعلّق الجملة بـ «أرأيتم» أو بقوله : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) بمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان. و «ماذا يستعجل» اعتراض. ودخول حرف الاستفهام على «ثمّ» لإنكار التأخير.

(آلْآنَ) تؤمنون وقد اضطررتم لحلوله. وهو على إرادة القول ، أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب : الآن آمنتم به. وعن نافع : الآن بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام. (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ) أي : بالعذاب (تَسْتَعْجِلُونَ) تكذيبا واستهزاء.

(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) عطف على «قيل» المقدّر (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ)

__________________

(١) أي : سيأتي ويقرب وقتكم ، من : حان يحين أي : قرب.

٢١٧

المؤلم على الدوام (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من الكفر والمعاصي.

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) ويستخبرونك (أَحَقٌّ هُوَ) أحقّ ما تقول من الوعد أو ادّعاء النبوّة ، تقوله بجدّ أم باطل تهزل به. قاله حييّ بن أخطب لمّا قدم مكّة. والأظهر أنّ الاستفهام فيه على أصله ، لقوله : «ويستنبؤنك». وقيل : إنّه للإنكار. و «أحقّ» مبتدأ ، والضمير مرتفع به سادّ مسدّ الخبر ، أو خبر مقدّم ، والجملة في موقع النصب بـ «يستنبؤنك».

(قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ) إنّ العذاب لكائن لا شكّ فيه ، أو ما ادّعيته لثابت.

وقيل : كلا الضميرين للقرآن. و «إي» بمعنى «نعم» وهو من لوازم القسم ، كما كان «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصّة ، ولذلك يوصل بواوه في التصديق فيقال : إي والله ، ولا يقال : إي وحده. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) فائتين العذاب ، وهو لاحق بكم لا محالة.

(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) صفة نفس ، أي : لكلّ نفس ظالمة بالشرك أو التعدّي على الغير (ما فِي الْأَرْضِ) من خزائنها وأموالها على كثرتها (لَافْتَدَتْ بِهِ) لجعلته فدية لها من العذاب ، من قولهم : افتداه بمعنى : فداه (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) لأنّهم بهتوا بما عاينوا ممّا لم يحتسبوه من فظاعة الأمر وهوله ، ورأوا من تفاقم الأمر ما سلبهم قواهم ، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ، ولم يقدروا أن ينطقوا سوى إسرار الندامة في القلوب.

وقيل : أسرّ الرؤساء منهم الندامة من أتباعهم ، حياء منهم وخوفا من توبيخهم.

وقيل : أسرّوا الندامة أخلصوها ، لأنّ إخفاءها إخلاصها ، أو لأنّه يقال : سرّ الشيء لخالصته ، من حيث إنّها تخفى ويضنّ بها.

وقيل : معناه : أظهروها ، من قولهم : أسرّ الشيء وأشرّه إذا أظهره. فهو من

٢١٨

لغات الأضداد.

ويؤيّد المعنى الأوّل ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إنّما اسرّوا الندامة وهم في النار كراهية لشماتة الأعداء».

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ليس فيه تكرار ، لأنّ الأوّل قضاء بين الأنبياء ومكذّبيهم ، والثاني مجازاة المشركين على الشرك ، أو الحكومة بين الظالمين والمظلومين. والضمير إنّما يتناولهم والحال أنّهم لم يذكروا لدلالة الظلم عليهم.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ) من الثواب والعقاب (حَقٌ) ثابت كائن لا خلف فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لعدم تدبّرهم وتفكّرهم في العقبى ، وقصر همّتهم إلى متاع الحياة الدنيا.

(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) في الدنيا ، فهو يقدر عليهما في العقبى ، لأنّ القادر لذاته لا يزول قدرته ، والمادّة القابلة للحياة والموت قابلة لهما أبدا (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالموت أو النشور.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

ولمّا تقدّم ذكر القرآن وما فيه من الوعد والوعيد ، عقّبه سبحانه بذكر جلالة موقع القرآن وعظم محلّه في باب الأدّلة ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ

٢١٩

مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العمليّة الكاشفة عن محاسن الأعمال ومقابحها ، والمرغّبة في المحاسن ، والزاجرة عن القبائح ، والحكمة النظريّة الّتي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد ، وهدى إلى الحقّ واليقين ، ورحمة للمؤمنين ، حيث أنزل عليهم فنجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان ، وتبدّلت مقاعدهم من دركات النيران بمصاعد من درجات الجنان. والتنكير في الجميع للتعظيم. وخصّ المؤمنين بالذكر ، وإن كان القرآن عظة ورحمة لجميع الخلق ، لأنّهم الّذين انتفعوا به.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) بإنزال القرآن. والباء متعلّقة بفعل يفسّره قوله : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أصل الكلام : بفضل الله ورحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا.

والتكرير لتأكيد التقرير ، وللبيان بعد الإجمال ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا. فأحد الفعلين حذف لدلالة الآخر عليه.

ودخلت الفاء لمعنى الشرط ، كأنّه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصّوهما بالفرح ، فإنّه لا مفروح به أحقّ منهما. وعن يعقوب : فلتفرحوا بالتاء على الأصل المرفوض.

وعن أبي سعيد الخدري والحسن : فضل الله هو القرآن ، ورحمته هو الإسلام. وعن مجاهد وقتادة وغيرهما : فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن.

وروى أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من هداه الله للإسلام ، وعلّمه القرآن ، ثمّ شكا الفاقة كتب الله عزوجل الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة ، ثمّ تلا : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) إلى آخر الآية».

وروى الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس : فضل الله رسول الله ، ورحمته عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. وهو أيضا مرويّ عن الباقر عليه‌السلام.

(هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من حطام الدنيا ، فإنّها منتهية إلى الزوال. وضمير «هو» راجع إلى ذلك. وقرأ ابن عامر : تجمعون ، على معنى : فبذلك فليفرح

٢٢٠