زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

في جوابه : إنّ ركنك لشديد. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد». وجواب «لو» محذوف ، تقديره : لدفعتكم.

روي أنّ لوطا أغلق بابه دون أضيافه ، وأخذ يجادلهم من وراء الباب ، فتسوّروا الجدار ، فلمّا رأت الملائكة ما على لوط من الكرب (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) لهلاكهم فلا تغتمّ (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) إلى إضرارك ، ولن يقدروا عليه بإضرارنا ، فهوّن عليك ، ودعنا وإيّاهم ، فخلّاهم أن يدخلوا ، ففتح الباب فدخلوا.

فاستأذن جبرئيل ربّه في عقوبتهم ، فأذن له ، فقام في الصورة الّتي يكون فيها فنشر جناحه ـ وله جناحان ، وعليه وشاح من درّ منظوم ، وهو براق الثنايا ـ فضرب جبرئيل بجناحه وجوههم ، فطمس أعينهم فأعماهم ، كما قال الله عزوجل : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) (١).

وعن الصادق عليه‌السلام : «كابر قوم لوط معه حتّى دخلوا البيت ، فصاح به جبرئيل أن يا لوط دعهم يدخلوا ، فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم ، فصاروا لا يعرفون الطريق ، فخرجوا يقولون : النجاء النجاء (٢) ، فإنّ في بيت لوط سحرة».

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) بقطع الهمزة من الإسراء. وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث وقع في القرآن (٣) من السرى. (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) بطائفة منه. وعن ابن عبّاس : في ظلمة الليل. (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) ولا يتخلّف ، أو لا ينظر إلى ورائه. والأوّل قول ابن عبّاس ، والثاني قول مجاهد. والنهي في اللفظ لـ «أحد» وفي المعنى للوط.

وعلى هذا ، كأنّهم تعبّدوا بذلك للنجاة بالطاعة في هذه العبادة. (إِلَّا امْرَأَتَكَ) استثناء

__________________

(١) القمر : ٣٧.

(٢) أي : أسرعوا أسرعوا.

(٣) الحجر : ٦٥ ، طه : ٧٧ ، الشعراء : ٥٢ ، الدخان : ٢٣.

٣٠١

من قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ).

قال في الأنوار : «وهذا إنّما يصحّ على تأويل الالتفات بالتخلّف ، فإنّه إن فسّر بالنظر إلى الوراء في الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالرفع على البدل من «أحد». ولا يجوز حمل القراءتين على الروايتين في أنّ الملائكة أمروا لوطا أن يخلّفها في المدينة مع قومها أو يخرجها ، فلمّا سمعت صوت العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجر فقتلها ـ كما قال صاحب الكشّاف (١) ـ لأنّ القواطع لا يصحّ حملها على المعاني المتناقضة. والأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله : «لا يلتفت» مثله في قوله : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (٢).

ولا يبعد أن يكون أكثر القرّاء على غير الأفصح. ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات ، بل عدم نهيها عنه استصلاحا ، ولذلك علّله على طريقة الاستئناف ـ لبيان هلاكها معهم ـ بقوله : (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعا على قراءة الرفع (٣).

(إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) كأنّه علّة الأمر بالإسراء. روي : أنّه قال لوط : متى موعد هلاكهم؟ قالوا : الصبح. فقال : أريد أسرع من ذلك ، لضيق صدره بهم. فقالوا : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) فهذا جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) عذابنا ، أو أمرنا بالعذاب. ويؤيّده الأصل ، وجعل التعذيب مسبّبا عنه بقوله : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) فإنّه جواب «لمّا». وكان حقّه : جعلوا عاليها ، أي : الملائكة المأمورون به ، فأسند سبحانه إلى نفسه من حيث إنّه

__________________

(١) الجملة المعترضة من كلام المؤلّف ، وليست من كلام البيضاوي ، راجع الكشّاف ٢ : ٤١٦.

(٢) النساء : ٦٦.

(٣) أنوار التنزيل ٣ : ١١٦.

٣٠٢

المسبّب ، تعظيما للأمر ، فإنّه روي أنّ جبرئيل عليه‌السلام ادخل جناحه تحت مدائنهم الأربع ورفعها إلى السماء ، حتّى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ، ثمّ قلبها عليهم.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) على المدن بعد التقليب ، تغليظا للعقوبة. أو على شذاذها.

(حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجّر ، لقوله : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) (١). وهذا معرّب ، وأصله : سنگ گل. وقيل : إنّه من : أسجله إذا أرسله ، أو أدرّ عطيّته. والمعنى : من مثل الشيء المرسل ، أو من مثل العطيّة في الإدرار. أو من السجلّ ، أي : ممّا كتب الله تعالى أن يعذّبهم به. وقيل : أصله من سجّين ، أي : من جهنّم ، فأبدلت نونه لاما.

(مَنْضُودٍ) نضد معدّا لعذابهم في السماء. أو نضد في الإرسال بتتابع بعضه بعضا ، كقطار الأمطار. أو نضد بعضه على بعض ، وألصق به.

(مُسَوَّمَةً) معلمة للعذاب. وقيل : معلمة ببياض وحمرة ، أو بسيماء تتميّز به عن حجارة الأرض ، أو باسم من يرمى بها. (عِنْدَ رَبِّكَ) في خزائنه ، أي : فيها علامات يدلّ على أنّها معدّة للعذاب (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) فإنّهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم. روي أنّ حجرا بقي معلّقا بين السماء والأرض أربعين يوما ، يتوقّع به رجل من قوم لوط كان في الحرم ، حتّى خرج منها فأصابه. قال قتادة : وكانوا أربعة ألف ألف.

وفي خاتمة الآية وعيد لكلّ ظالم. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سأل جبرئيل عليه‌السلام فقال : «يعني ظالمي أمّتك ، ما من ظالم منهم إلّا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة».

وقيل : الضمير للقرى ، أي : هي قريبة من ظالمي مكّة ، يمرّون بها في

__________________

(١) الذاريات : ٣٣.

٣٠٣

أسفارهم إلى الشام. وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨))

ثمّ عطف سبحانه قصّة شعيب على ما تقدّمها من قصص الأنبياء عليهم‌السلام ، فقال : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أراد أولاد مدين بن إبراهيم ، أو أهل مدين. وهو بلد بناه ، فسمّي باسمه. (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أمرهم بالتوحيد أوّلا ، فإنّه أصل الأمر. ثمّ نهاهم عمّا اعتادوه من البخس المنافي للعدل ، المخلّ بحكمة التعاوض. ثمّ علّل لهذا النهي بقوله : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) بسعة وثروة من الأموال تغنيكم عن البخس والتطفيف. أو بنعمة حقّها

٣٠٤

أن تتفضّلوا على الناس شكرا عليها ، لا أن تنقصوا حقوقهم. أو بسعة من الله ، فلا تزيلوها عنكم بما أنتم عليه من البخس.

(وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) لا يشذّ منه أحد منكم. وقيل : عذاب مهلك ، من قوله : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) (١). والمراد عذاب يوم القيامة ، أو عذاب الاستئصال. وأصله من إحاطة العدوّ. وتوصيف اليوم بالإحاطة ـ وهي صفة العذاب ـ لاشتماله عليه ، فإنّ الزمان يشتمل على ما يحدث فيه.

ثمّ صرّح بالأمر بالإيفاء بعد النهي عن ضدّه مبالغة ، فقال : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي : أوفوا حقوق الناس في المكيلات والموزونات (بِالْقِسْطِ) بالعدل والسويّة من غير زيادة ونقصان ، فإنّ الازدياد فوق أصل الإيفاء مندوب غير مأمور به. وفيه تنبيه على أنّه لا يكفيهم الكفّ عن تعمّد التطفيف ، بل يلزم السعي في الإيفاء ، ولو بزيادة لا يتأتّى الإيفاء بدونها ، كغسل اليد من باب المقدّمة.

وقوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) تعميم بعد تخصيص ، فإنّه أعمّ من أن يكون في المقدار أو في غيره. وكذا قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فإنّ العثوّ يعمّ تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد.

وقيل : المراد بالبخس مكس درهم مثلا ، إذ كانوا يأخذون من كلّ شيء يباع شيئا ، كما تفعل السماسرة ، أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء ، فنهوا عن ذلك. والعثوّ : السرقة وقطع الطريق والغارة. وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح ، كما فعله الخضر عليه‌السلام.

وقيل : معناه : ولا تعثوا في الأرض مفسدين أمر دينكم ومصالح آخرتكم.

(بَقِيَّتُ اللهِ) ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزّه عمّا حرّم عليكم (خَيْرٌ لَكُمْ) ممّا تجمعون بالتطفيف.

__________________

(١) الكهف : ٤٢.

٣٠٥

قال في الكشّاف : «إضافة البقيّة إلى الله من حيث إنّها رزقه الّذي يجوز أن يضاف إليه. وأمّا الحرام فلا يضاف إلى الله ، ولا يسمّى رزقا على مذهبنا» (١).

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بشرط أن تؤمنوا ، فإنّ خيريّتها باستتباع الثواب مع النجاة ، وذلك مشروط بالإيمان. أو إن كنتم مصدّقين لي في قولي لكم. وقيل : البقيّة الطاعة ، فإنّه يبقى ثوابها أبدا والدنيا تفنى. ويؤيّده قوله تعالى : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ) (٢).

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظكم عن القبائح ، أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها ، وإنّما أنا ناصح مبلّغ ، وقد أعذرت حين أنذرت. أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم.

(قالُوا) إنما أجابوه بعد أمرهم بالتوحيد استهزاء وتهكّما بصلاته (يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام. أشعروا بذلك أنّ مثل قولك لا يدعو إليه داع عقليّ ، وأنّ ما دعاك إليه وساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان عليه‌السلام كثير الصلاة ، فلذلك جمعوا وخصّوا الصلاة بالذكر. وقرأ حمزة والكسائي وحفص على الإفراد. والمعنى : أصلوتك الّتي تداوم عليها ليلا ونهارا تأمرك بتكليف أن نترك ، فحذف المضاف ، لأنّ الرجل لا يؤمر بفعل غيره. وإسناد الأمر إلى الصلاة على طريق المجاز ، كإسناد النهي إليها في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٣).

(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) عطف على «ما» ، أي : وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا. وهذا جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء. وقيل : كان شعيب

__________________

(١) الكشّاف ٢ : ٤١٩.

(٢) الكهف : ٤٦.

(٣) العنكبوت : ٤٥.

٣٠٦

ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير ، فأرادوا به ذلك. ثمّ قالوا تهكّما به : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) لأنّهم قصدوا بذلك وصفه بضدّ ذلك ، وهو غاية السّفه والغيّ ، فعكسوا ليتهكّموا به ، كما يقال للشحيح : لو أبصرك حاتم لسجد لك. أو علّلوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنّه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجّة واضحة (مِنْ رَبِّي) إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوّة (وَرَزَقَنِي مِنْهُ) من عنده وبإعانته ، بلا كدّ منّي في التحصيل (رِزْقاً حَسَناً) إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من المال الحلال الطيّب غير مشوب بالنجس. وجواب الشرط محذوف ، تقديره : فهل يصحّ لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانيّة والجسمانيّة أن أخون في وحيه ، وأخالفه في أمره ونهيه؟ وهل يصحّ لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكفّ عن المعاصي ، والأنبياء لا يبعثون إلّا لذلك؟ وهو اعتذار عمّا أنكروا عليه من تغيير مألوفهم ، والنهي عن دين آبائهم.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي : ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم الّتي نهيتكم عنها وأختارها لنفسي ، فاستبدّ بها دونكم ، فلو كانت صوابا لآثرتها ولم أعرض عنها ، فضلا عن أن أنهى عنها. يقال : خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدته وهو مولّ عنه ، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس.

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) ما أريد إلّا أن أصلحكم أموركم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر (مَا اسْتَطَعْتُ) ما دمت أستطيع الإصلاح ، أي : فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه. و «ما» مصدريّة واقعة موقع الظرف ، اي : مدّة استطاعتي وتمكّني منه. وقيل : خبريّة بدل من لإصلاح ، أي : المقدار الّذي استطعته ، أو إصلاح ما استطعته ، فحذف المضاف.

٣٠٧

ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا الترتيب شأن ، وهو التنبيه على أنّ العاقل يجب أن يراعي في كلّ ما يفعله ويتركه أحد حقوق ثلاثة ، أهمّها وأعلاها حقّ الله.

وثانيها : حقّ النفس. وثالثها : حقّ الناس. فقال شعيب : كلّ ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به ، وأنهاكم عمّا نهيتكم عنه.

(وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) وما كوني موفّقا لإصابة الحقّ والصواب إلّا بهدايته ومعونته. والمعنى : أنّي أطلب التوفيق من ربّي في إمضاء الأمر على سننه ، وأطلب منه التأييد والإظهار على عدوّه. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) وفوّضت الأمور إليه ، فإنّه القادر المتمكّن من كلّ شيء ، وما عداه عاجز في حدّ ذاته ، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار. وفيه إشارة إلى محض التوحيد الّذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ.

(وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) إشارة إلى معرفة المعاد. وهو يفيد الحصر بتقديم الصلة على «أنيب» ، كتقديم الصلة على «توكّلت».

وفي هذه الكلمات الثلاثة طلب التوفيق لإصابة الحقّ فيما يأتيه ويذره من الله عزوجل ، والاستعانة به في مجامع أمره ، والإقبال عليه بشراشره ، وحسم أطماع الكفّار ، وإظهار الفراغ عنهم ، وعدم المبالاة بمعاداتهم وتهديدهم ، بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ

٣٠٨

(٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) لا يكسبنّكم خلافي ومعاداتي (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الرجفة. و «أن» بصلتها ثاني مفعولي «جرم» فإنّه يعدّى إلى واحد وإلى اثنين ، ككسب. وعن ابن كثير : لا يجر منّكم بضمّ الياء. وهو منقول من المتعدّي إلى مفعول واحد ، كما نقل أكسبه المال وكسب المال. والأوّل أفصح ، كما أنّ «كسبته مالا» أفصح من : أكسبته ، فإن «أجرم وأكسب» أقلّ دورانا على ألسنة الفصحاء.

(وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) زمانا أو مكانا ، فإن لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم. وعن قتادة : أن دارهم قريبة من داركم. أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوئ ، فلا يبعد عنكم ما أصابهم. وإفراد البعيد لأنّ المراد : وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد. ولا يبعد أن يسوّى في أمثاله ـ كقريب وكثير وقليل ـ بين المذكّر والمؤنّث ، لأنّها على زنة المصادر ، كالصهيل وهو صوت الفرس ، والنهيق صوت الحمار.

٣٠٩

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) داوموا على الاستغفار والتوبة عمّا أنتم عليه (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) عظيم الرحمة للتائبين (وَدُودٌ) فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة لمن يودّه من اللطف والإحسان. وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.

(قالُوا) قال قوم شعيب له حين سمعوا منه الوعظ والتخويف (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) ما نفهم (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) كوجوب التوحيد وحرمة البخس ، وما ذكرت دليلا عليهما ، وذلك لقصور عقولهم وعدم تفكّرهم. وقيل : قالوا ذلك استهانة بكلامه ، أو لأنّهم لم يلقوا إليه أذهانهم ، لشدّة نفرتهم عنه.

(وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لا قوّة لك فتمتنع منّا إن أردنا بك سوء ، أو مهينا لا عزّ لك فيما بيننا. وقيل : أعمى بلغة حمير ، كما يسمّى ضريرا ، أي : ضرّ بذهاب بصره. وهو مع عدم مناسبته يردّه التقييد بالظرف وهو «فينا» ، فإن من كان أعمى يكون كذلك كيف كان غير مختصّ ببعض مكان.

(وَلَوْ لا رَهْطُكَ) قومك وعزّتهم عندنا ، لكونهم على ملّتنا لا لخوف من شوكتهم ، فإنّ الرهط من الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : إلى التسعة (لَرَجَمْناكَ) لقتلناك برمي الأحجار ، أو بأصعب وجه. (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي : لا تعزّ علينا ولا تكرم ، فتمنعنا عزّتك عن الرجم. وهذا من عادة السفيه المحجوج اللجوج يقابل الحجج والآيات بالسبّ والتهديد.

وقد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل ، كأنّه قيل : وما أنت علينا بعزيز ، بل رهطك هم الأعزّة علينا ، ولذلك (قالَ) في جوابهم (يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ) أعظم حرمة (عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ)؟ ولو قيل : وما عززت علينا ، لم يصحّ هذا الجواب.

(وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) وجعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر ، لا يعبأ به بإشراككم به وإهانتكم رسوله. وهو يحتمل الإنكار والتوبيخ ، والردّ

٣١٠

والتكذيب. والظهريّ منسوب إلى الظهر ، والكسر من تغييرات النسب ، كالأمس يقال له : امسيّ بالكسر.

(إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) قد أحاط بأعمالكم علما ، فلا يخفى عليه شيء منها ، فيجازي عليها.

ثمّ قال تهديدا لهم : (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان ، يقال : مكان ومكانة ومقام ومقامة ، أو يكون مصدرا من : مكن مكانة فهو مكين. والمعنى : اعملوا قارّين على جهتكم الّتي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي ، أو اعملوا متمكّنين من عداوتي مطيعين لها.

(إِنِّي عامِلٌ) على حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد ويمكّنني (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يجوز أن تكون «من» استفهاميّة معلّقة لفعل العلم عن عمله فيها ، كأنّه قيل : سوف تعلمون أيّنا يأتيه عذاب يخزيه وأيّنا هو كاذب. وأن تكون موصولة قد عمل فيها ، كأنّه قيل : سوف تعلمون الشقيّ الّذي يأتيه عذاب يخزيه والّذي هو كاذب. وذكر الفاء في (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) في سورة الأنعام (١) للتصريح بأنّ الإصرار والتمكّن فيما هم عليه سبب لذلك ، وحذفها هاهنا لأنّه جواب سائل قال : فما ذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل.

(وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) عطف على (مَنْ يَأْتِيهِ) لا لأنّه قسيم له ، كقولك : ستعلم الكاذب والصادق ، بل لأنّهم لمّا أوعدوه وكذّبوه قال : سوف تعلمون من المعذّب والكاذب منّي ومنكم. وقيل : كان قياسه : ومن هو صادق ، لينصرف الأوّل إليهم والثاني إليه ، لكنّهم لمّا كانوا يدعونه كاذبا قال : (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) على زعمهم.

(وَارْتَقِبُوا) وانتظروا ما أقول لكم (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) منتظر. فعيل بمعنى الراقب كالصريم ، أو المراقب كالعشير بمعنى المعاشر ، أو المرتقب كالرفيع بمعنى

__________________

(١) الأنعام : ١٣٥.

٣١١

المرتفع.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) إنّما ذكره بالواو لا بالفاء كما في قصّة لوط وصالح ، إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له ، بخلاف قصّتي صالح (١) ولوط (٢) ، فإنّه ذكر بعد الوعد ، وذلك قوله : (وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (٣) وقوله : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) (٤) ، فلذلك جاء بفاء السببيّة.

(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) قيل : صاح بهم جبرئيل عليه‌السلام فهلكوا (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ميّتين. وأصل الجثوم اللزوم في المكان.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) كأن لم يقيموا فيها (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) شبّههم بهم ، لأنّ عذابهم كان أيضا بالصيحة ، غير أنّ صيحتهم كانت من تحتهم ، وصيحة مدين كانت من فوقهم. و «بعد» بالكسر مخصوص ، بمعنى البعد الّذي يكون بسبب الهلاك. والبعد بالضمّ مصدر : بعد وبعد. والبعد بالفتح مصدر المكسور خاصّة. يقال : بعد بعدا وبعدا ، إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩))

ثمّ عطف سبحانه قصّة موسى عليه‌السلام على ما تقدّم من قصص الأنبياء ، فقال :

__________________

(١ ، ٢) هود : ٦٦ و ٨٢.

(٣ ، ٤) هود : ٦٥ و ٨١.

٣١٢

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) بالتوراة أو المعجزات (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) هو المعجزة القاهرة المخلصة من التلبيس والتمويه على أتمّ وجه. وهي العصا.

وإفرادها بالذكر لأنّها أبهرها. ويجوز أن يراد بهما واحد ، أي : ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطانا له على نبوّته ، واضحا في نفسه ، أو موضحا نبوّته ، فإنّ «أبان» جاء لازما ومتعدّيا. والفرق بين الآيات والسلطان المبين : أنّ الآية تعمّ الأمارة والدليل القاطع ، والسلطان يخصّ بالقاطع ، والمبين يخصّ بما فيه جلاء ، كالعصا.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) فاتّبعوا أمره بالكفر بموسى عليه‌السلام. أو فما اتّبعوا موسى الهادي إلى الحقّ المؤيّد بالمعجزات القاهرة الباهرة ، واتّبعوا ـ لفرط جهالتهم ـ طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان ، الداعي إلى مالا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل. وذلك أنّه ادّعى الإلهيّة وهو بشر مثلهم ، وجاهر بالعسف والظلم والشرّ الّذي لا يأتي إلّا من شيطان مارد ، ومثله بمعزل عن الإلهيّة ذاتا وأفعالا.

(وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) مرشد ، أو ذي رشد ، وإنّما هو غيّ محض وضلال صريح. وفيه تجهيل لمتّبعيه حيث شايعوه على أمره ، وهو ضلال مبين.

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إلى النار ، كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال.

يقال : قدم ، بمعنى : تقدّم. والمعنى : أنّ فرعون يمشي بين يدي قومه يوم القيامة على قدميه حتّى يهجم بهم على النار ، كما كان يقدمهم في الدنيا يدعوهم إلى طريق النار. (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه. ونزّل النار لهم منزلة الماء ، فسمّى إتيانها ورودا ، تهكّما. (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) أي : بئس المورد الّذي وردوه ، فإنّ الورد إنّما يراد لتبريد الأكباد وتسكين العطش ، والنار بالضدّ.

والآية كالدليل على قوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) ، فإنّ من كان هذه عاقبته

٣١٣

لم يكن في أمره رشد. أو تفسير له ، على أنّ المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) أي : هذه الدنيا (لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يلعنون في الدنيا والآخرة (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) بئس العون المعان ، أو العطاء المعطى. وأصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده ، فإنّ رفد الدنيا عون ومعين لعذاب الآخرة ومدد له ، ورفد الآخرة معان لرفد الدنيا. وإنّما سمّاه رفدا ، لأنّه في مقابلة ما يعطى أهل الجنّة من أنواع النعم. والمخصوص بالذمّ محذوف ، أي : رفدهم ، وهو اللعنة في الدارين.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما

٣١٤

شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨))

(ذلِكَ) ذلك النّبأ (مِنْ أَنْباءِ) بعض (الْقُرى) أنباء بعض القرى المهلكة (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) مقصوص عليك (مِنْها) من تلك القرى (قائِمٌ) باق ، كالزرع القائم على ساقه (وَحَصِيدٌ) ومنها عافي الأثر ، كالزرع المحصود. وهذه الجملة مستأنفة لا محلّ لها. وقيل : حال من الهاء في «نقصّه». وليس بصحيح ، إذ لا واو ولا ضمير.

(وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكنا إيّاهم (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن عرّضوها للهلاك بارتكاب ما يوجبه (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) فما قدرت أن تدفع عنهم (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ) يعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) شيئا من بأس الله. هي حكاية حال ماضية. (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي : عذابه. و «لمّا» منصوب بـ «ما أغنت». (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) هلاك وتخسير. يقال : تبّ إذا خسر ، وتبّبه غيره إذا أوقعه في الخسران.

(وَكَذلِكَ) مرفوع المحلّ ، أي : مثل ذلك الأخذ (أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) أي : أهلها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) حال من القرى. وهي في الحقيقة لأهلها ، لكنّها لمّا أقيمت مقامه أجريت عليها. وفائدة هذه الحال الإشعار بأنّهم أخذوا لظلمهم ، وإنذار كلّ ظالم ظلم نفسه أو غيره من وخامة العاقبة. (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وجيع غير مرجوّ الخلاص منه. وهو مبالغة في التهديد والتحذير.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) إشارة إلى ما قصّ الله من قصص الأمم الهالكة بذنوبها ، أو إلى

٣١٥

ما نزل بالأمم الهالكة (لَآيَةً) لعبرة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) يعتبر به عظمته ، لعلمه بأنّ ما حاق بهم أنموذج ممّا أعدّ الله تعالى للمجرمين في الآخرة ، أو ينزجر به عن موجباته ، لعلمه بأنّها من إله مختار ، يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء ، فإنّ من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم ـ كالفلاسفة ـ لم يقل بالفاعل المختار ، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكيّة اتّفقت في تلك الأيّام ، لا لذنوب المهلكين بها.

ونحو ذلك قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (١).

(ذلِكَ) إشارة إلى يوم القيامة ، وإن لم يذكر صريحا لكن دلّ عليه قوله : (عَذابَ الْآخِرَةِ) وقوله : (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ). والتغيير من الفعليّة إلى الاسميّة للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنّ الثبات من شأنه لا محالة ، وأنّ الناس لا ينفكّون عن هذا اليوم. فهو أبلغ من قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) (٢). ومعنى الجمع له : الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة.

(وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي : مشهود فيه أهل السماوات والأرضين بحيث لا يغيب عنه غائب ، فاتّسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به. ولو جعل اليوم مشهودا في نفسه لا مشهودا فيه ، لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه عن سائر الأيّام ، فإنّ سائرها كذلك.

ثمّ أخبر سبحانه عن اليوم المشهود ، وهو يوم القيامة ، فقال : (وَما نُؤَخِّرُهُ) أي : ذلك اليوم (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) إلّا لانتهاء مدّة معدودة متناهية ، على حذف المضاف وإرادة مدّة التأجيل كلّها بالأجل ، من زمان حياتهم إلى المقدّر ، لا منتهاها ، فإنّه غير معدود.

__________________

(١) النّازعات : ٢٦.

(٢) التغابن : ٩.

٣١٦

(يَوْمَ يَأْتِ) أي : اليوم ، كقوله تعالى : (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) (١). والمراد بإتيانه إتيان هوله وشدائده ، إذ لولا هذا التقدير لزم أن يكون الزمان ظرفا لنفسه. أو المراد : يأتي الله ، أي : أمره تعالى ، كقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) (٢).

وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة : يأت بحذف الياء ، اجتزاء عنها بالكسرة.

وانتصب الظرف بـ «أذكر» أو بقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) لا تتكلّم بما ينفع وينجي ، من جواب أو شفاعة (إِلَّا بِإِذْنِهِ) إلّا بإذن الله تعالى ، كقوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) (٣). وهذا في موقف. وقوله : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٤) في موقف آخر ، فإنّ ذلك اليوم يوم طويل له مواقف ومواطن ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يكفّون عن الكلام ، فلا يؤذن لهم ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلّمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم ، وتكلّم أيديهم وتشهد أرجلهم. أو المأذون فيه هي الجوابات الحقّة ، والممنوع عنه ـ في قوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) ـ هي الأعذار الباطلة.

(فَمِنْهُمْ) الضمير لأهل الموقف. ولم يذكروا ، لأنّ ذلك معلوم مدلول عليه بقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ). أو للناس في قوله : (مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ). (شَقِيٌ) وجبت له النار بإساءته (وَسَعِيدٌ) وجبت له الجنّة بإحسانه.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) وهو إخراج النفس (وَشَهِيقٌ) وهو ردّ النفس. واستعمالهما في أوّل النهيق وآخره. والمراد بهما الدلالة على شدّة كربهم وغمّهم ، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحبس فيه روحه ،

__________________

(١) يوسف : ١٠٧.

(٢) البقرة : ٢١٠.

(٣) النبأ : ٣٨.

(٤) المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦.

٣١٧

أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ليس ذلك لارتباط دوامهم في النار بدوامهما ، فإنّ النصوص القاطعة دالّة على تأبيد دوامهم وعلى انقطاع دوامهما.

فالمراد منه التعبير عن التأبيد والمبالغة بما كان العرب يعبّرون به عنه على سبيل التمثيل ، كما قالوا : هو دائم ومؤبّد ما دام جبل قبيس باقيا ، وما أقام ثبير ، وما لاح كوكب ، وغير ذلك من كلمات التأبيد عندهم ، ومعلوم أنّها فانية. وعلى تقدير الارتباط لم يلزم أيضا من زوال السماوات والأرض زوال عذابهم ، ولا من دوامه دوامهما ، إلّا من قبيل مفهوم المخالف ، ودلالة المفهوم ليست بحجّة على المذهب الصحيح. وعلى تقدير حجّيّته لا يقاوم المنطوق الصريح القاطع الدالّ على التأبيد المؤبّد ، وعدم الانقطاع.

أو المراد سماوات الآخرة وأرضها ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) (١). وهما مخلوقتان للأبد. وأيضا لا بدّ لأهل الآخرة من مظلّ ومقلّ. وكلّ ما علاك وأظلّك سماء ، وكلّ ما أقلّك أرض.

وهذا القول مرجوح ، من حيث إنّه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلائق وجوده ودوامه ، ومن عرفه فإنّما يعرفه بما يدلّ على دوام الثواب والعقاب ، فكيف يجوز له التشبيه ، إذ لا بدّ من وجود الشبه فيه؟

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) استثناء من الخلود في النار ، لأنّ بعضهم ـ وهم فسّاق الموحّدين ـ يخرجون منها ، وذلك كاف في صحّة الاستثناء ، لأنّ زوال الحكم عن الكلّ يكفيه زواله عن البعض. وهم المراد بالاستثناء الثاني ، فإنّهم مفارقون عن الجنّة أيّام عذابهم ، فإنّ التأبيد من مبدأ معيّن ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء ، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم.

__________________

(١) إبراهيم : ٤٨.

٣١٨

وهذا مرويّ عن ابن عبّاس ، وجابر بن عبد الله ، وأبي سعيد الخدري ، وقتادة ، والسدّي ، والضحّاك ، وجمع من المفسّرين.

إن قيل : فعلى هذا لم يكن قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) تقسيما صحيحا ، لأنّ شرط التقسيم أن تكون صفة كلّ قسم منتفية عن قسيمه.

قلنا : ذلك الشرط من حيث التقسيم ، لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع ، وهاهنا المراد مانع الخلوّ ، فإنّ المعنى المراد : أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين ، وحالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة ، وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين.

وقيل : الاستثناء من الخلود باعتبار أنّ أهل النار لا يخلّدون في عذاب النار وحده ، بل يعذّبون بالزمهرير ، وبأنواع أخر من العذاب سوى عذاب النار ، وبما هو أغلظ منها كلّها ، وهو سخط الله عليهم وخسئه لهم وإهانته إيّاهم ، كما أنّ أهل الجنّة لهم سوى الجنّة ما هو أكبر منها وأجلّ موقعا منهم ، وهو رضوان الله ، كما قال : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (١). فلهم ما يتفضّل الله به عليهم سوى ثواب الجنّة ممّا لا يعرف كنهه إلّا هو. فهو المراد من الاستثناء. والدليل عليه قوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي : إنّه يفعل بأهل النار ما يريد من أنواع العذاب المخلّد ، كما يعطي أهل الجنّة عطاءه الّذي لا انقطاع له.

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) بطاعات الله ، وانتهائهم عن المعاصي (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) غير مقطوع. وهو تصريح بأنّ الثواب لا ينقطع.

وقيل : «إلّا» بمعنى : سوى ، كقولك : عليّ ألف إلّا الألفين القديمين. والمعنى :

__________________

(١) التوبة : ٧٢.

٣١٩

سوى ما شاء ربّك من الزيادة الّتي لا آخر لها على مدّة بقاء السماوات والأرض.

وقرأ حمزة وحفص : سعدوا على البناء للمفعول ، من : سعده الله تعالى ، بمعنى : أسعده. و «عطاء» نصب على المصدر المؤكّد ، أي : اعطوا عطاء ، أو الحال من «الجنّة» ، فإنّه مفعول بواسطة.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩))

ولمّا قصّ سبحانه قصص الكفّار ، وما أحلّ بهم من نقمه ، وما أعدّ لهم من عذابه ، قال تسلية لرسوله ، وعدة بالانتقام منهم ، ووعيدا لهم : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) شكّ بعد ما أنزل إليك من مآل الناس ، من الشقاوة والسعادة (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) «ما» مصدريّة ، أي : من عبادة هؤلاء المشركين ، في أنّها ضلال مؤدّ إلى مثل ما حلّ بمن قبلهم ممّن قصصنا عليك سوء عاقبة عبادتهم. أو موصولة ، أي : من حال ما يعبدونه في أنّه يضرّ ولا ينفع.

(ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) استئناف ، معناه : تعليل النهي عن المرية ، أي : هم وآباؤهم سواء في الشّرك ، ما يعبدون إلّا كعبادة آبائهم ، على تقدير المصدريّة. أو ما يعبدون شيئا إلّا مثل ما عبدوه من الأوثان ، على تقدير الموصوليّة.

وقد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك ، فسيلحقهم مثله ، لأنّ التماثل في الأسباب ـ وهي عبادة الأوثان هنا ـ يقتضي التماثل في المسبّبات ، وهي العقوبات. ومعنى «كما يعبد» : كما كان يعبد ، فحذف لدلالة «من قبل» عليه.

(وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) حظّهم من العذاب كما وفّيناءاباءهم. أو من الرزق ، فيكون عذرا لتأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه. (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال من النصيب ، لإفادة معنى التوفية حقيقة ، ورفع توهّم المعنى المجازي ، فإنّك تقول :

٣٢٠