زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

(وَيُعَلِّمُكَ) كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه الّذي يفهم من «كذلك» ، لأنّه يلزم أن يكون تعليم التعبير أيضا سابقا ، فيلزم أن يعلم تعبير رؤياه قبل ذلك الوقت ، وليس كذلك ، لأنّ هذا التعليم في مستقبل الزمان ، لقوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) (١). كأنّه قيل : وهو يعلّمك.

(مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) من تعبير الرؤيا. سمّى التعبير تأويلا ، لأنّه يؤول أمره إلى ما رأى في المنام. وسمّى الرؤيا أحاديث ، لأنّها أحاديث تلك الرؤيا إن كانت صادقة ، وأحاديث النّفس أو الشيطان إن كانت كاذبة. أو من تأويل غوامض كتب الله تعالى ، وسنن الأنبياء ، وكلمات الحكماء. وهو اسم جمع للحديث ، كأباطيل اسم جمع للباطل.

روي : أنّ يوسف أعبر الناس للرؤيا ، وأصحّهم عبارة لها.

(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) معنى إتمام النعمة : أنّه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة ، فجعلهم أنبياء وملوكا ، ثمّ نقلهم إلى نعيم الآخرة والدرجات العلى من الجنّة (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) يريد أهله ونسله ، بأن يثبّتهم على ملّة الإسلام ، ويشرّفهم بمكانك ، ويجعل فيهم النبوّة. وأصل آل : أهل ، بدليل أن تصغيره اهيل ، إلّا أنّه لا يستعمل إلّا فيمن له خطر ، فيقال : آل النبيّ وآل الملك.

(كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ) بالرسالة. وقيل : على إبراهيم عليه‌السلام بالخلّة والإنجاء من النار ، وعلى إسحاق بإنقاذه من الذبح ، وفدائه بذبح عظيم.

وقيل : بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. والقول الأخير قول أكثر المفسّرين.

(مِنْ قَبْلُ) من قبلك ، أو من قبل هذا الوقت (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان لـ «أبويك» (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) بمن يستحقّ الاجتباء (حَكِيمٌ) يفعل الأشياء على ما ينبغي.

__________________

(١) يوسف : ٢١.

٣٤١

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧))

ثمّ أنشأ سبحانه في ذكر قصّة يوسف ، فقال : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي : في قصّتهم (آياتٌ) دلائل قدرة الله تعالى وحكمته ، أو عبر وأعاجيب ، أو علامات نبوّتك (لِلسَّائِلِينَ) لمن سأل عن قصّتهم فأخبرهم بالصحّة من غير سماع ولا قراءة كتاب.

والمراد بالإخوة بنو علّاته الأحد عشر. والعلّات إخوة من أمّهات شتّى.

وهم : يهوذا ، وروبيل ، وشمعون ، وهو أكبرهم ، ولاوي ، وزبالون ، ويشخر ، ودينة.

وهذه السبعة كانوا من ليا بنت خالة يعقوب ، تزوّجها أوّلا ، فلمّا توفّيت تزوّج أختها راحيل ، فولدت له بنيامين ويوسف. وقيل : جمع بينهما ، ولم يكن الجمع محرّما حينئذ. وأربعة آخرون : جاد ، ودان ، ونفتالى ، وآشر ، من سرّيتين : زلفة وبلهة.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩))

ثم أخبر سبحانه عمّا قال إخوة يوسف حين سمعوا منام يوسف وتأويل يعقوب إيّاه ، فقال : (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ) اللام للابتداء. وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. (وَأَخُوهُ) بنيامين. وتخصيصه بالاضافة لاختصاصه بالأخوّة من الطرفين. (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) وحّده لأنّ «أفعل من» لا يفرّق فيه بين الواحد وما فوقه ، والتذكير والتأنيث ، بخلاف أخويه ، فإنّ الفرق واجب في المحلّى باللام جائز في المضاف.

٣٤٢

(وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) والحال أنّا جماعة أقوياء ، أحقّ بالمحبّة من صغيرين لا كفاية للمهمّات فيهما. والعصبة والعصابة العشرة فصاعدا. سمّوا بذلك لأنّ الأمور تعصب بهم ، أي : تشتدّ. (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عن طريق الحقّ والصواب ، لتفضيله المفضول ، أو لترك التعديل في المحبّة.

روي أنّه كان أحبّ إليه ، لما يرى فيه من الخصال الحسنة الرضيّة ، والخلال السنيّة المرضيّة ، وكان إخوته يحسدونه ، فلمّا رأى الرؤيا ضاعف له المحبّة بحيث لم يصبر عنه ، فزاد حسدهم حتّى حملهم على التعرّض له.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ) من جملة المحكيّ بعد قوله : (إِذْ قالُوا) ، كأنّهم اتّفقوا على ذلك إلّا من قال : لا تقتلوا. وقيل : إنّما قاله شمعون. وقيل : دان ورضي به الآخرون.

(أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) منكورة مجهولة بعيدة عن العمران. وهو معنى تنكيرها وإبهامها ، ولذلك نصبت كالظروف المبهمة. (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) جواب الأمر.

والمعنى : يخلص لكم وجه أبيكم ، فيقبل بكلّيته عليكم ، ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ، ولا ينازعكم في محبّته أحد. فذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم ، لأنّ الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه. وقيل : «يخل» يفرغ لكم من الشغل بيوسف.

(وَتَكُونُوا) جزم بالعطف على «يخل» ، أو نصب بإضمار أن (مِنْ بَعْدِهِ) بعد يوسف ، أو الفراغ من أمره أو قتله أو طرحه (قَوْماً صالِحِينَ) تائبين إلى الله تعالى عمّا جنيتم. أو صالحين مع أبيكم ، يصلح ما بينكم وبينه بعذر تمهّدونه. أو صالحين في أمر دنياكم ، فإنّه ينتظم لكم بعد يوسف بخلوّ وجه أبيكم.

واعلم أنّ أكثر المفسّرين على أنّ إخوة يوسف كانوا أنبياء. وقال بعضهم : لم يكونوا أنبياء ، لأنّ الأنبياء لا تقع منهم القبائح. وهذا موافق لأصول مذهب الإماميّة.

وقال علم الهدى قدس‌سره : «لم تقم لنا الحجّة بأنّ إخوة يوسف الّذين فعلوا به ما فعلوا كانوا أنبياء. ولا يمتنع أن يكون الأسباط الّذين كانوا أنبياء غير هؤلاء الإخوة

٣٤٣

الّذين فعلوا بيوسف ما قصّه الله عنهم. وليس في ظاهر الكتاب أنّ جميع إخوة يوسف وسائر الأسباط فعلوا بيوسف ما حكاه الله تعالى من الكيد. ويجوز أن يكون هؤلاء الإخوة في تلك الحال لم يكونوا بلغوا الحلم ، ولا توجّه إليهم التكليف ، وقد يقع ممّن قارب البلوغ من الغلمان مثل هذه الأفعال ، ويعاتب على ذلك ويلام ويضرب» (١). وهذا الوجه قول البلخي والجبائي. ويدلّ عليه قوله : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ).

وقوله : (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) لا ينافي ذلك ، فإنّ المراهق يجوز أن يعلم ذلك خاصّة ، خصوا إذا كان مربّى في حجر الأنبياء ومن أولادهم.

وروى أبو جعفر بن بابويه رحمه‌الله في كتاب النبوّة بإسناده عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن حنان بن سدير ، قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام أكان أولاد يعقوب أنبياء؟

فقال : لا ، ولكنّهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء ، ولم يفارقوا الدنيا إلّا سعداء ، تابوا وتذكّروا ما صنعوا».

وقال الحسن : كانوا رجالا بالغين ، ووقعت ذلك منهم صغيرة.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

ثمّ أخبر سبحانه عن واحد من جملتهم بقوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي : من إخوة يوسف ، وهو يهوذا. وكان أحسنهم فيه رأيا ، وهو الّذي قال : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) (٢) الآية. وقيل : روبيل ، وهو ابن خالة يوسف. وقيل : لاوي. رواه عليّ بن إبراهيم (٣) في تفسيره. (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) فإنّ القتل أمر عظيم (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) في قعره. سمّي به لغيبوبته عن عين الناظر. وقرأ نافع غيابات في الموضعين

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) يوسف : ٨٠.

(٣) تفسير القمّي ١ : ٣٤٠.

٣٤٤

على الجمع ، كأنّه لتلك الجبّ غيابات ، أي : أسافل. والجبّ البئر التي لم تطو ، لأنّ الأرض تجبّ جبّا ، أي : تقطع. (يَلْتَقِطْهُ) يأخذه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) بعض الذين يسيرون في الأرض (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) بمشورتي. أو إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم ، وهو التفريق بينه وبين أبيه ، فإنّ هذا رأيي.

واختلف في ذلك الجبّ ، فقال قتادة : هو بئر بيت القدس. وعن كعب : بئر بين مدين ومصر. وعن وهب : بئر بأرض الأردنّ. وقال مقاتل : بئر على رأس ثلاث فراسخ من منزل يعقوب.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

٣٤٥

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم عند اتّفاق آرائهم فيما تآمروا فيه من أمر يوسف ، كيف سألوا أباهم ، فقال : (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) لم تخافنا عليه؟ (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) مخلصون في إرادة الخير له والشفقة عليه. وفي هذا دلالة على أنّه عليه‌السلام كان يأبى عليهم أن يرسله معهم ، لظهور حسدهم ليوسف عليه ، فأرادوا استنزاله عن رأيه وعادته في حفظه منهم ، لما تنسّم (١) من حسدهم. والمشهور «تأمنّا» بالإدغام مع الإشمام. وعن نافع ترك الإشمام.

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) إلى الصحراء (يَرْتَعْ) نتّسع في أكل الفواكه ونحوها ، من الرتعة ، وهي الخصب (وَيَلْعَبْ) بالاستباق والانتضال لقتال العدوّ ، لا لمجرّد اللهو. وإنّما سمّوه لعبا لأنّه في صورته. وقرأ ابن كثير : نرتع بكسر العين ، على أنّه من : ارتعى يرتعي. ونافع بالكسر والياء فيه وفي «نلعب». وقرأ الكوفيّون ويعقوب بالياء وسكون العين ، على إسناد الفعل إلى يوسف. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أن يناله مكروه.

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) لشدّة مفارقته عليّ ، وقلّة صبري عنه (وَأَخافُ) عليه إن ذهبتم به إلى الصحراء (أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) لأنّ الأرض كانت مذأبة. وقيل : لأنّ يعقوب رأى في منامه كأنّ يوسف قد شدّ عليه عشرة أذؤب ليقتلوه ، وإذا ذئب يحمي عنه ، وكأنّ الأرض انشقّت فدخل فيها يوسف ، فلم يخرج منها إلّا بعد ثلاثة أيّام. وقد همزها على الأصل ابن كثير ونافع في رواية اليزيدي ، وأبو عمرو درجا ووقفا ، وعاصم وحمزة درجا. واشتقاقه من : تذاءبت الريح إذا هبّت من كلّ جهة. (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) لاشتغالكم بالرتع واللّعب ، أو لقلّة اهتمامكم بحفظه.

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) اللام موطّئة للقسم ، وجوابه : (إِنَّا إِذاً

__________________

(١) تنسم فلان الخبر : تلطف في التماسه شيئا فشيئا.

٣٤٦

لَخاسِرُونَ) ضعفاء عجزة مغبونون ، كالّذين تذهب عنهم رؤوس أموالهم. أو مستحقّون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار. والواو في «ونحن» للحال.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) وعزموا على إلقائه فيها. وجواب «لمّا» محذوف ، مثل : فعلوا به ما فعلوا من الأذى.

فقد روي أنّهم لمّا برزوا به إلى البرّيّة أظهروا له العداوة ، وأخذوا يؤذونه ويضربونه ، وكلّما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلّا بالإهانة والضرب ، حتّى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح : يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء. فقال يهوذا : أما أعطيتموني موثقا ألّا تقتلوه؟ فلمّا أرادوا إلقاءه في الجبّ تعلّق بثيابهم ، فنزعوها من يديه ، فتعلّق بحائط البئر ، فربطوا يديه ونزعوا قميصه. فقال : يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به. وإنّما نزعوه ليلطّخوه بالدم ، ويحتالوا به على أبيهم. فقالوا له : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا يلبسوك ويؤنسوك. ودلوه في البئر ، فلمّا بلغ نصفها ألقوه ليموت ، وكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثمّ آوى إلى صخرة ، فقام عليها وهو يبكي. فنادوه ، فظنّ أنّها رحمة أدركتهم فأجابهم ، فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه ، فمنعهم يهوذا ، وكان يأتيه بالطعام.

وقيل : إنّ الجبّ أضاء له وعذب ماؤه حتّى أغناه عن الطعام والشراب. وعن مقاتل : كان الماء كدرا فصفا وعذب ، ووكّل الله به ملكا يحرسه ويطعمه.

ويروى أنّ إبراهيم صلوات الله عليه حين القي في النار جرّد عن ثيابه ، فأتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه ، فدفعه إلى إسحاق ، وإسحاق إلى يعقوب ، فجعله يعقوب في تميمة (١) علّقها في عنق يوسف ، فجاءه جبرئيل فألبسه إيّاه ، وهو القميص الّذي وجد يعقوب ريح يوسف فيه.

وأوحى إليه كما قال عزّ

__________________

(١) التميمة : خرزة أو ما يشبهها كان الأعراب يضعونها على أولادهم للوقاية من العين ودفع الأرواح.

٣٤٧

اسمه : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) وكان ابن سبع عشرة سنة. وقيل : كان مراهقا أوحي إليه في صغره ، كما اوحي إلى يحيى وعيسى عليهم‌السلام (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) لتحدّثنّهم بما فعلوا بك بعد أن تتخلّص ممّا أنت فيه (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنّك يوسف ، لعلوّ شأنك ، وكبرياء سلطانك ، وبعده عن أوهامهم ، وطول العهد المغيّر للحلّي والهيئات. وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر حين دخلوا عليه ممتارين ـ أي : يشترون الغلّة ـ فعرفهم وهم له منكرون. فبشّره جبرئيل عليه‌السلام في البئر بما يئول إليه أمره إيناسا له وتطييبا لقلبه. وقيل : «وهم لا يشعرون» متّصل بـ «أوحينا» ، أي : آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك.

وفي كتاب النبوّة عن الحسن بن محبوب ، عن الحسن بن عمارة ، عن مسمع أبي سيّار ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «لمّا ألقى إخوة يوسف إيّاه في الجبّ نزل عليه جبرئيل فقال له : يا غلام من طرحك؟

فقال : إخوتي ، لمنزلتي من أبي حسدوني ، ولذلك طرحوني.

فقال : أتحبّ أن تخرج من هذا الجبّ؟

قال : ذلك إلى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

فقال له جبرئيل : فإنّ إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لك قل : اللهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد ، لا إله إلّا أنت ، بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، أن تصلّي على محمّد وآل محمّد ، وأن تجعل من أمري فرجا ومخرجا ، وترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب.

فقالها يوسف ، فجعل الله له من الجبّ يومئذ فرجا ، ومن كيد المرأة مخرجا ، وأتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب».

وروى عليّ بن إبراهيم : «أنّ يوسف عليه‌السلام قال في الجبّ : يا إله إبراهيم

٣٤٨

وإسحاق ويعقوب ، ارحم ضعفي وقلّة حيلتي وصغري» (١).

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً) آخر النهار (يَبْكُونَ) متباكين ليوهموه أنّهم صادقون. وفيه دلالة على أنّ البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي في دعواه.

روي أنّه لمّا سمع بكاءهم فزع وقال : ما لكم يا بنيّ هل أصابكم في غنمكم؟ قالوا : لا قال : فما لكم وأين يوسف؟

(قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) نتسابق في العدو أو في الرمي. وقد يشترك الافتعال والتفاعل ، كالانتضال والتناضل. (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) بمصدّق لنا ، لسوء ظنّك بنا ، وفرط محبّتك ليوسف (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) من أهل الصدق والثقة عندك.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) أي : ذي كذب ، بمعنى مكذوب فيه.

ويجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة ، كزيد عدل. و «على قميصه» في موضع النصب على الظرف ، أي : فوق قميصه ، أو على الحال من الدم إن جوّز تقديمها على المجرور.

روي أنّهم ذبحوا سخلة ولطخوا قميصه بدمها ، وزلّ عنهم أن يمزّقوه ، ولمّا سمع يعقوب بخبر يوسف صاح وسأل قميصه ، فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتّى خضب وجهه بدم القميص ، وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا ، أكل ابني ولم يمزّق عليه قميصه ، ولذلك (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي : سهّلت لكم أنفسكم ، وهوّنت في أعينكم أمرا عظيما ، من السول ، وهو الاسترخاء.

قيل : إنّه كان في قميص يوسف ثلاث آيات : حين قدّ من دبر ، وحين ألقي على وجه أبيه فارتدّ بصيرا ، وحين جاءوا عليه بدم كذب. فتنبّه يعقوب على أنّ الذئب لو أكله لخرق قميصه.

__________________

(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ : ٣٤١.

٣٤٩

وقيل : لمّا قال لهم يعقوب ذلك قالوا : بل قتله اللصوص. فقال عليه‌السلام : فكيف قتلوه وتركوا قميصه ، وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله؟! (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل أو أحسن أو أمثل أو أولى. وفي الحديث : «الصبر الجميل الّذي لا شكوى فيه إلى الخلق».

(وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي : بالله أستعين على دفع ما تصفونه ، أو على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف.

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

ثمّ أخبر سبحانه عن حال يوسف بعد إلقائه في الجبّ ، فقال : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) رفقة يسيرون من مدين إلى مصر ، فنزلوا قريبا من الجبّ ، وكان ذلك بعد ثلاثة أيّام من إلقائه فيه ، فأخطأوا الطريق فنزلوا قريبا منه ، وكان الجبّ في قفره بعيدة من العمران ، وإنّما هو للرعاة ، وكان ماؤه ملحا فعذب (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ)

٣٥٠

الّذي يرد الماء ويستقي لهم. وكان هو مالك بن ذعر الخزاعي. (فَأَدْلى دَلْوَهُ) فأرسلها في الجبّ ليملأها ، فتدلّى يوسف بالحبل ، فلمّا خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) نادى : البشرى ، بشارة لنفسه أو لقومه ، كأنّه قال للبشارة : تعالي فهذا أوانك. وقيل : هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه. وقرأ غير الكوفيّين : يا بشراي بالإضافة.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعطي يوسف شطر الحسن ، والنصف الآخر لسائر الناس».

وقال كعب الأحبار : كان يوسف حسن الوجه جدّا ، جعد الشعر ، ضخم العينين ، مستوي الخلق ، أبيض اللون ، غليظ الساقين والعضدين ، خميص البطن ، صغير السرّة. وكان إذا تبسّم رأيت النور في ضواحكه ، وإذا تكلّم رأيت في كلامه شعاع النور يلتهب عن ثناياه. وكان حسنه كضوء النهار عند الليل. كان يشبه خلق آدم عليه‌السلام يوم خلقه الله عزوجل وصوّره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية.

ويقال : إنّه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة ، وكانت قد أعطيت سدس الحسن.

فلمّا رآه المدلي (وَأَسَرُّوهُ) أي : الوارد وأصحابه من سائر الرفقة. وقيل : أخفوا أمره ، وقالوا لهم : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وعن ابن عبّاس : الضمير لإخوة يوسف ، وذلك أنّ يهوذا كان يأتيه كلّ يوم بالطعام ، فأتاه يومئذ فلم يجده فيها ، فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وأسرّوه ، أي : كتموا أنّه أخوهم ، فقالوا : هذا غلامنا أبق منّا ، فاشتروه من إخوته ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه.

(بِضاعَةً) نصب على الحال ، أي : أخفوه متاعا للتجارة. واشتقاقه من البضع ، بمعنى القطع ، فإنّه ما بضع من المال للتجارة. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) بما يصنعون ، لم يخف عليه أسرارهم ، أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم.

(وَشَرَوْهُ) أي : باعوه ، أو اشتروه من إخوته. وفي مرجع الضمير الوجهان.

٣٥١

(بِثَمَنٍ بَخْسٍ) مبخوس ، لزيفه أو نقصانه نقصانا ظاهرا (دَراهِمَ) بدل من الثمن (مَعْدُودَةٍ) قليلة ، فإنّهم كانوا يزنون ما بلغ الاوقية ، ويعدّون ما دونها. قيل : كان عشرين درهما. وقيل : اثنين وعشرين. وقيل : عشرة. فاقتسموها درهمين درهمين.

(وَكانُوا فِيهِ) في يوسف (مِنَ الزَّاهِدِينَ) الراغبين عنه. والضمير في «وكانوا» إن كان للإخوة فظاهر. وإن كان للرفقة وكانوا بائعين من العزيز ، فزهدهم فيه لأنّهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به ، خائف من انتزاعه ، مستعجل في بيعه وإن كانوا مبتاعين من الإخوة ، فلأنّهم اعتقدوا أنّه آبق. و «فيه» متعلّق بالزاهدين إن جعل اللام للتعريف. وإن جعل بمعنى «الّذي» فهو متعلّق بمحذوف يبيّنه «الزاهدين» ، لأنّ متعلّق الصلة لا يتقدّم على الموصول.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) وهو العزيز الّذي كان على خزائن مصر.

واسمه قطفير أو اطفير ، والعزيز لقبه ، ومن كان بمكانه يسمّى بالعزيز ، لعزّته عند الناس ، ولهذا لمّا عبّر يوسف رؤيا الملك سمّي العزيز وجعل مكان العزيز. وكان الملك يومئذ ريّان بن الوليد العمليقي ، وقد آمن بيوسف حين شاهد منه المعجزات ، ومات في حياته.

وقيل : كان فرعون موسى ، عاش أربعمائة سنة ، وكان إلى زمن موسى ، بدليل قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) (١).

والمشهور أنّ فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء.

روي أنّه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشر سنة ، ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة ، واستوزره الريّان وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفّى وهو ابن مائة وعشرين سنة.

__________________

(١) غافر : ٣٤.

٣٥٢

واختلف فيما اشتراه به من جعل شراءه غير الأوّل ، فقيل : عشرون دينارا ، وزوجا نعل ، وثوبان أبيضان. وقيل : وزنه فضّة. وقيل : ذهبا. وقيل : أدخلوه السوق يعرضونه ، فترافعوا في ثمنه ، حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرا ، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ.

(لِامْرَأَتِهِ) راعيل ، ولقبها زليخا. وهي المشهورة. (أَكْرِمِي مَثْواهُ) اجعلي مقامه عندنا كريما ، أي : حسنا مرضيّا. والمعنى : أحسني تعهّده حتّى تكون نفسه طيّبة في صحبتنا ، ساكنة في كنفنا. روي : أنّه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه ، فعرفه وأمر زوجته بإكرامها له. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) في ضياعنا وأموالنا ، ونستظهر به في مصالحنا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) نتبنّاه ، وكان عقيما ، لما تفرّس فيه من الرشد.

(وَكَذلِكَ) أي : وكما مكّنّا محبّة يوسف في قلب العزيز ، أو كما مكّنّاه في منزله ، أو كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) جعلناه ملكا يتصرّف فيها بأمره ونهيه (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) عطف على مضمر ، تقديره : ليتصرّف فيها بالعدل ولنعلّمه ، أي : كان القصد في إنجائه وتمكينه إلى أن يقيم العدل ، ويدبّر أمور الناس ، ويعلّم كتاب الله وأحكامه فينفذها ، أو يعبّر المنامات المنبّهة على الحوادث الكائنة ليستعدّ لها ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحلّ ، كما فعله لسنوات القحط.

(وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) لا يردّه شيء ، ولا ينازعه فيما يشاء. أو على أمر يوسف ، يعني : إخوة يوسف أرادوا به شيئا ، وأراد الله تعالى غيره ، فلم يكن إلّا ما أراده ودبّره. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنّ الأمر كلّه بيده ، أو لطائف صنعه وخفايا لطفه.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) منتهى اشتداد جسمه وقوّته ، وهو سنّ الوقوف ما بين الثلاثين والأربعين. وقيل : سنّ الشباب ، ومبدؤه بلوغ الحلم. وقيل : الأشدّ ثماني

٣٥٣

عشرة سنة ، وعشرون ، وثلاث وثلاثون ، وأربعون. وقيل : أقصاه ثنتان وستّون.

(آتَيْناهُ حُكْماً) حكمة ، وهو العلم المؤيّد بالعمل. أو حكما بين الناس ، أو النبوّة.

(وَعِلْماً) يعني : علم تأويل الأحاديث ، أو علم الشريعة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تنبيه على أنّه تعالى إنّما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله ، واتّقائه في عنفوان أمره. وعن الحسن : من أحسن عبادة ربّه في شيبته ، آتاه الله الحكمة في اكتهاله.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥))

ثمّ أخبر سبحانه عن امرأة العزيز وما همّت به ، فقال : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) طلبت منه وتمحّلت (١) أن يواقعها ، من : راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ، ومنه : الرائد. كأنّ المعنى : خادعته عن نفسه ، أي : فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الّذي لا يريد أن يخرجه من يده ، يحتال أن يغلبه عليه

__________________

(١) تمحّل الشيء : احتال في طلبه.

٣٥٤

ويأخذه منه ، وهي ها هنا عبارة عن التمحّل لمواقعته إيّاها. وهذا الكلام أبلغ من : راودته امرأة العزيز أو زليخا ، لاستهجان ذكر المرأة في المراودة.

(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) قيل : كانت سبعة. والتشديد للتكثير ، أو للمبالغة في إيثاقها. (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) أي : أقبل وبادر ، أو تهيّأت. و «هيت» على الوجهين اسم فعل بني على الفتح ، كـ : أين. واللام للتبيين ، كالّتي في : سقيا لك ، كأنّه قال يوسف : لمن تهيّأت؟ فقالت : لك. وكذا في : سقيا.

وقرأ ابن كثير بضمّ التاء وفتح الهاء ، تشبيها له بـ «حيث». ونافع وابن عامر برواية ابن ذكوان بفتح التاء وكسر الهاء من غير همز ، كـ : عيط صوت يصاح به الغنم.

وهي لغة فيه. وهشام كذلك ، إلّا أنّه يهمز. وقد روي عنه ضمّ التاء.

(قالَ مَعاذَ اللهِ) أعوذ بالله معاذا (إِنَّهُ) إنّ الشّأن (رَبِّي) سيّدي قطفير (أَحْسَنَ مَثْوايَ) أحسن تعهّدي ، إذ قال لك فيّ : أكرمي مثواه ، فليس جزاؤه أن أخونه في أهله. وقيل : الضمير لله تعالى ، أي : أنّه خالقي وأحسن منزلتي ، بأن عطف عليّ قلب قطفير ، فلا أعصيه. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي : المجازون الحسن بالسيّء. وقيل : الزناة.

وفي هذه دلالة على أنّ يوسف لم يهمّ بالفاحشة ولم يردها بقبيح ، لأنّ من همّ بالقبيح لا يقول مثل ذلك. فقوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) معناه : قصدت مخالطته قصدا اختياريّا ، فإنّ الهمّ بالشيء قصده والعزم عليه ، ومنه الهمّام الّذي إذا همّ بشيء أمضاه. (وَهَمَّ بِها) ومال إلى مخالطتها ميلا طبيعيّا بشريّا غير اختياريّ ، مع المنازعة إليها عن شهوة الشباب الّتي هي تحت القدرة والاختيار.

فالمراد بهمّه إيّاها ميل الطبع البشري مع الامتناع عنه ، لا القصد الاختياري والعزم على الفعل الّذي هو ممّا يدخل تحت التكليف. والحقيق بالمدح الجميل والأجر الجزيل من الله الجليل من يكفّ نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ ، ولو لم

٣٥٥

يكن ذلك الميل الشديد ـ المسمّى همّا لشدّته ـ لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع عنه ، لأنّ استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء وشدّته.

ولو كان همّه كهمّها عن عزيمة اختياريّة ، لما مدحه الله بأنّه من عباده الصالحين.

أو المراد بهمّه مشارفة الهمّ ، كقولك : قتلته لو لم أخف الله تعالى ، تريد مشارفة القتل. أو من قبيل : هممت بفلان ، أي : بضربه وإيقاع المكروه به. ومن حقّ القارئ أن يقف على (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ويبتدئ قوله (وَهَمَّ بِها) ، لاختلاف معنى الهمّين.

ولا يخفى على من له أدنى مسكة لو وجدت من يوسف عليه‌السلام أدنى زلّة لنعيت عليه ، وذكرت توبته واستغفاره ، كما نعيت على آدم عليه‌السلام زلّته ، وهي ترك الأولى ، وكذا على داود ، وعلى نوح وعلى أيّوب وعلى ذي النون ، وذكرت توبتهم واستغفارهم. كيف وقد أثني عليه وسمّي مخلصا؟! فعلم بالقطع أنّه ثبت في هذا المقام الدّحض (١) ، وهو أنّه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوّة والعزم ، ناظرا في دليل التحريم ووجه القبح ، حتى استحقّ من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأوّلين ، ثمّ في القرآن الّذي هو حجّة على سائر كتبه ومصداق لها ، ولم يقتصر إلّا على استيفاء قصّته وضرب سورة كاملة عليها ، ليجعل له لسان صدق في الآخرين ، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه‌السلام ، وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفّة وطيب الإزار.

(لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) في قبح الزنا وسوء عاقبته لخالطها ، لشبق (٢) الغلمة وكثرة المبالغة منها. ولا يجوز أن يجعل «وهمّ بها» جواب «لولا» ، فإنّها في حكم أدوات الشرط ، فلا يتقدّم عليها جوابها ، بل الجواب محذوف يدلّ عليه قوله :

__________________

(١) المكان الدحض : إذا كان مزلّة لا تثبت عليها الأقدام.

(٢) أي : اشتداد الشهوة.

٣٥٦

«وهمّ بها» كما عرفت.

(كَذلِكَ) الكاف في محلّ النصب ، أي : مثل ذلك التثبيت ثبّتناه ، أو في محلّ الرفع ، أي : الأمر مثل ذلك (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) خيانة السيّد (وَالْفَحْشاءَ) الزنا (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) الّذين أخلصهم الله تعالى لطاعته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالكسر في كلّ القرآن إذا كان محلّى باللام ، أي : الّذين أخلصوا دينهم لله تعالى.

فأخزى الله الحشويّة والجبريّة حيث أوردوا هذه القصّة على وجه يؤدّي إلى أنّ يوسف صلوات الله عليه عزم على ارتكاب الزنا الّذي هو أقبح القبائح وأفحش الفواحش ، فقالوا : إنّه حلّ تكّة سراويله ، وجلس من زليخا مجلس المجامع ، وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها. وفسّروا البرهان بأنّه سمع صوتا : إيّاك وإيّاها ، فلم يكترث ، فسمعه ثانيا فلم يعمل به ، فسمع ثالثا : أعرض عنها ، فلم ينجع فيه ، حتّى مثّل له يعقوب عاضّا على أنملته ، وضرب بيده في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله.

وقالوا : كلّ ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا إلّا يوسف ، فإنّه ولد له أحد عشر ولدا ، من أجل ما نقص من شهوته حين همّ.

وقالوا صيح بيوسف : لا تكن كالطائر كان له ريش فلمّا زنى قعد لا ريش له.

وقالوا : بدت كفّ فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم ، مكتوب فيها : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) (١) فلم ينصرف. ثمّ رأى فيها : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٢) فلم ينتبه. ثمّ رأى فيها :

__________________

(١) الانفطار : ١٠ ـ ١١.

(٢) الإسراء : ٣٢.

٣٥٧

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (١) فلم ينجع فيه. فقال الله لجبرئيل : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة.

فانحطّ جبرئيل وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟! وقالوا : رأى تمثال العزيز.

وغير ذلك من الأقاويل الباطلة وتقوّلاتهم الحشويّة. فيا له من مذهب ما أفحشه! ومن ضلال ما أبينه! الّذي يتضمّن الجبر والقسر الّذي يرتفع معه الاختيار الّذي هو مناط التكليف ، ويقتضي أن لا يستحقّ على الامتناع من القبيح مدحا ولا ثوابا. فلعنة الله عليهم ، وعلى من يعتقد معتقدهم ، حتى قال قائل من قبلهم : إنّ قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) خرجا مخرجا واحدا ، فلم جعلتم همّها به متعلّقا بالقبيح ، وهمّه بها متعلّقا بغيره؟

قلنا : إنّ من الظاهر أنّ الظاهر لا يكون دليلا وحجّة إذا عارضه الدليل العقلي والنقلي. أمّا النقلي على أنّه ما همّ بالفاحشة فقوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ، وقوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) (٢) ، وقوله : (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) (٣). ولا شبهة في أن العزم على الفاحشة من السوء. وأمّا العقلي فلأنّه عليه‌السلام نبيّ ، والنبيّ لا بدّ أن يكون معصوما من جميع الصغائر والكبائر ، والقبائح والفواحش ، كما قرّر في الكتب الكلاميّة بأوضح وجه.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي : تسابقا إلى الباب. فحذف الجارّ ، أو ضمّن الفعل معنى الابتدار ، فلا يحتاج إلى تقدير صلة. وذلك أنّ يوسف عليه‌السلام فرّ منها ليخرج ويتخلّص

__________________

(١) البقرة : ٢٨١.

(٢) يوسف : ٥٢.

(٣) يوسف : ٥١.

٣٥٨

منها ، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. روي عن كعب أنّه لمّا هرب يوسف جعل فراش (١) القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الباب.

(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) اجتذبته من ورائه فانقدّ قميصه. والقدّ الشقّ طولا ، والقطّ الشقّ عرضا. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) وصادفا زوجها (لَدَى الْبابِ) عنده. وتسمية الزوج بالسيّد لأنّه مالك أمرها ، أو لأنّ المرأة تقول لبعلها : سيّدي. وقيل : إنّما لم يقل سيّدهما لأنّ ملك يوسف لم يصحّ ، فلم يكن سيّدا له على الحقيقة.

(قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) إيهاما بأنّها فرّت منه ، تبرئة لساحتها عند زوجها ، وتغييره على يوسف ، وإغراءه به انتقاما منه.

و «ما» نافية أو استفهاميّة ، بمعنى : أيّ شيء جزاؤه إلّا السجن؟ كما تقول : من في الدار إلّا زيد؟ وقيل : العذاب الأليم الضرب بالسياط ضربا وجيعا.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

ولمّا عرّضته له من السجن أو العذاب ، وأغرته به ، ووجب عليه دفع هذا

__________________

(١) فراش القفل : ما ينشب ويدخل فيه ، سمّي بذلك لرقّته.

٣٥٩

الضرر عن نفسه (قالَ) لدفعه (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) طالبتني بالمؤاتاة (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قيل : ابن عمّها ، وكان حكيما يرجع إليه الملك ويستشيره ، وهو جالس مع زوجها عند الباب. وقيل : ابن خالها صبيّا في المهد. وهذا أصحّ.

ويؤيّده ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تكلّم أربعة صغارا : ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى».

وإنّما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم عليها حجّة ، وأوثق دليلا ، وأنفى للتهمة عنه.

(إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) لأنّه يدلّ على أنّها قدّت قميصه من قدّامه بالدفع عن نفسها ، أو أنّه أسرع خلفها فتعثّر بذيله فانقدّ جيبه.

(وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لأنّه يدلّ على أنّها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدّته. والشرطيّة محكيّة على إرادة القول ، أو على أنّ فعل الشهادة من القول ، كأنّه قيل : وشهد شاهد فقال : إن كان قميصه. وتسميتها شهادة وإن لم يكن بلفظ الشهادة ، ولم يكن مرئيّا ، لأنّها أدّت مؤدّاها. والشّرط وإن كان ماضيا ولكنّه في تأويل المضارع ، وهو : إن يعلم أنّه كان. فجاز الجمع بين «إن» الّذي هو للاستقبال وبين «كان». ونظيره قولك : إن أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك من قبل ، أي : وإن تمنن عليّ بإحسانك امنن عليك بإحساني السابق.

(فَلَمَّا رَأى) قطفير (قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) وبه علم براءة يوسف وصدقه وكذبها (قالَ إِنَّهُ) إن قولك : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) ، أو إنّ السّوء ، أو إنّ هذا الأمر (مِنْ كَيْدِكُنَ) من حيلتكنّ. والخطاب لها ولأمثالها ، أو لسائر النساء.

(إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) استعظم كيد النساء وإن كان في الرجال ، لأنّ كيدهنّ أعلق بالقلب ، وألطف به ، وأشدّ تأثيرا في أنفس الرجال ، فإنّ قليل حيل النساء أسبق إلى

٣٦٠