زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

منها فإنّك رجيم». (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) سأل الإنظار إلى اليوم الّذي فيه يبعثون لئلّا يموت ، لأنّه لا يموت يوم البعث أحد ، فلم يجب إلى ذلك الوقت ، بل (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) المسمّى فيه أجلك عند الله ، أو انقراض الناس كلّهم ، وهو النفخة الأولى.

ويجوز أن يكون المراد بالأيّام الثلاثة يوم القيامة ، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات. فعبّر عنه أوّلا بيوم الجزاء لما عرفته ، وثانيا بيوم البعث ، إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف واليأس عن التضليل ، وثالثا بالمعلوم ، لوقوعه في الكلامين. ولا يلزم من ذلك أن لا يموت ، ويمكن أن يموت أوّل اليوم ويبعث مع الخلائق في تضاعيفه. وهذه المخاطبة وإن لم تكن بواسطة لم تدلّ على منصب إبليس ، لأنّ خطاب الله له على سبيل الإهانة والإذلال.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) الباء للقسم ، و «ما» مصدريّة ، وجوابه (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ). والمعنى : أقسم بإغوائك إيّاي لأزيّننّ لهم المعاصي في الدنيا الّتي هي دار الغرور. ومعنى إغوائه إيّاه تسبيبه لغيّه ، بأن أمره بالسجود لآدم ، فأفضى ذلك إلى غيّه. وما الأمر بالسجود إلّا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله ، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك ، والله تعالى بريء من غيّه ومن إرادته والرضا به ، كما هو رأي الأشعريّة ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. ونحو ذلك قوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ) (١) في أنّه إقسام ، إلّا أنّ أحدهما إقسام بصفته ، والآخر إقسام بفعله.

ويجوز أن لا تكون الباء للقسم ، بل للسببيّة ، ويقدّر قسم محذوف. والمعنى : بسبب تسبيبك لإغوائي أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم ، بأن أزيّن لهم المعاصي.

__________________

(١) ص : ٨٢.

٥٢١

(وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ولأحملنّهم أجمعين على الغواية ، وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم في الدنيا الّتي هي دار الغرور ، كقوله : (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) (١). أو أراد : أنّي أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء ، فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر. أو أراد : لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض ، ولأوقعنّ تزييني فيها ، أي : لأزيّننّها في أعينهم ، ولأحدّثنّهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها حتّى يستحبّوها على الآخرة ، ويطمئنّوا إليها دونها.

(إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الّذين أخلصتهم لطاعتك ، وطهّرتهم من الشوائب ، فلا يعمل فيهم كيدي.

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَ) حقّ عليّ أن أراعيه (مُسْتَقِيمٌ) لا انحراف عنه.

وهذا إشارة إلى ما تضمّنه الاستثناء ، وهو تخليص المخلصين من إغوائه. أو إلى الإخلاص ، على معنى أنّه طريق عليّ يؤدّي إلى الوصول إليّ من غير اعوجاج وضلال.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) تصديق لإبليس فيما استثناه. وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين ، ولأنّ المقصود بيان عصمتهم ، وانقطاع مخالب الشيطان عنهم. أو تكذيب له فيما أوهم أنّ له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده ، فإنّ منتهى تزيينه التحريض والتدليس ، كما قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (٢). وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا. وعلى الأول يدفع قول من شرط أن يكون المستثنى أقلّ من الباقي ، لإفضائه إلى تناقض الاستثناءين ، لأنّه استثنى الغاوين من العباد تارة ، وعكس

__________________

(١) الأعراف : ١٧٦.

(٢) إبراهيم : ٢٢.

٥٢٢

اخرى ، فيكون كلّ من الفريقين أقلّ من الآخر وأكثر.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ) لموعد الغاوين أو المتّبعين (أَجْمَعِينَ) تأكيد للضمير ، أو حال. والعامل فيها الموعد إن جعلته مصدرا على تقدير مضاف ، ومعنى الإضافة إن جعلته اسم مكان ، فإنّه لا يعمل.

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) يدخلون منها لكثرتهم. أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة ، كما

روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنّ جهنّم لها سبعة طبقات بعضها فوق بعض ، ووضع إحدى يديه على الاخرى فقال : هكذا ، وإنّ الله وضع الجنان على العرض ، ووضع النيران بعضها فوق بعض ، فأسفلها جهنّم ، وفوقها لظى ، وفوقها الحطمة ، وفوقها سقر ، وفوقها الجحيم ، وفوقها السعير ، وفوقها الهاوية».

وفي رواية الكلبي : أسفلها الهاوية ، وأعلاها جهنّم.

وعن ابن عبّاس : أنّ الباب الأوّل جهنّم ، والثاني سعير ، والثالث سقر ، والرابع جحيم ، والخامس لظى ، والسادس الحطمة ، والسابع الهاوية.

ولعلّ تخصيص العدد لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات ، ومتابعة القوّة الشهويّة والغضبيّة ، أو لأنّ أهلها سبع فرق.

(لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من الأتباع في الدنيا (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) نصيب أفرز له ، فأعلاها للموحّدين العصاة ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين.

وعن ابن عبّاس : أنّ جهنّم لمن ادّعى الربوبيّة ، ولظى لعبدة النار ، والحطمة لعبدة الأصنام ، وسقر لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحّدين.

وقرأ أبو بكر : جزء بضمّتين. و «منهم» حال منه ، أو من المستكن في الظرف لا في «مقسوم» ، لأنّ الصفة لا تعمل فيما تقدّم موصوفها.

٥٢٣

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨))

ولمّا ذكر سبحانه عبادة المخلصين عقّبه بذكر حالهم في الآخرة ، فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) من اتّباعه في الكفر والفواحش ، فإنّ غيرهما مكفّرة بالصلوات وغيرها (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لكلّ واحد جنّة وعين. أو لكلّ عدّة منهما ، كقوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (١) ثمّ قوله : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) (٢) وقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) الآية (٣).

وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام : وعيون ، حيث وقع بضمّ العين ، والباقون بكسر العين.

(ادْخُلُوها) على إرادة القول (بِسَلامٍ آمِنِينَ) سالمين. أو مسلّما عليكم ، يسلّم عليكم الملائكة. أو آمنين من الإخراج.

(وَنَزَعْنا) في الدنيا بما ألّفنا بين قلوبهم ، أو في الجنّة بتطييب نفوسهم (ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) من حقد كان في الدنيا. والمعنى : وأزلنا ما كان في قلوبهم من أسباب العداوة في الدنيا. أو طهّرنا قلوبهم من أن يتحاسدوا على درجات الجنّة ومراتب القرب.

(إِخْواناً) حال من الضمير في «جنّات» ، أو فاعل «ادخلوها» ، أو الضمير

__________________

(١ ، ٢) الرحمن : ٤٦ و ٦٢.

(٣) محمد : ١٥.

٥٢٤

في «آمنين» ، أو الضمير المضاف إليه ، والعامل فيها معنى الإضافة. وكذا قوله :

(عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) كائنين على مجالس السرر متواجهين ، ينظر بعضهم إلى وجه بعض. وعن مجاهد : تدور بهم الأسرّة حيثما داروا ، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. ويجوز أن يكونا صفتين لـ «إخوانا» ، أو حالين من ضميره ، لأنّه في معنى : متصافّين. وأن يكون «متقابلين» حالا من المستتر في «على سرر».

(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) تعب وعناء. استئناف ، أو حال بعد حال ، أو حال من الضمير في «متقابلين». (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) فإنّ تمام النعمة بالخلود.

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦))

ثمّ قرّر ما ذكره من الوعد والوعيد ، ومكّنه في نفوسهم بقوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) وفي ذكر المغفرة دليل على أنّه لم يرد بالمتّقين من يتّقي الذنوب بأسرها ، كبيرها وصغيرها. وفي توصيف ذاته بالغفران والرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد وتأكيده. وعن ابن عبّاس : غفور لمن

٥٢٥

تاب ، وعذابه لمن لم يتب.

وعطف قوله : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) على «نبئ عبادي» ليتّخذوا ما أحلّ من العذاب بقوم لوط عبرة يعتبرون بها ، ويعلموا أنّ رحمة الله على المتّقين ، وسخط الله وانتقامه من المجرمين ، فيتحقّقوا عنده أنّه هو الغفور الرحيم ، وأنّ عذابه هو العذاب الأليم. وضيف إبراهيم كانوا أحد عشر ملكا في صورة أمارد.

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) أي : نسلّم عليك سلاما ، أو سلّمنا عليك سلاما (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) خائفون. وذلك لأنّهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت ، أو لأنّهم امتنعوا من الأكل. والوجل اضطراب النفس لتوقّع مكروه.

(قالُوا لا تَوْجَلْ) لا تخف (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل. أرادوا : أنّك بمثابة الآمن المبشّر ، فلا توجل ، فإنّ المبشّر لا يخاف منه.

وقرأ حمزة : نبشرك ، من البشر. (بِغُلامٍ) هو إسحاق ، لقوله : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) (١) (عَلِيمٍ) إذا بلغ.

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) بالمولود (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) تعجّب من أن يولد له مع مسّ الكبر إيّاه ، أو إنكار لأن يبشّر به في مثل هذه الحالة. وكذلك قوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) «ما» استفهاميّة دخلها معنى التعجّب ، كأنّه قال : فبأيّ أعجوبة تبشّرون؟! أو أراد : أنّكم تبشّرونني بما هو غير متصوّر في العادة ، فبأيّ شيء تبشّرونني؟! فإنّ البشارة بما لا يتصوّر وقوعه عادة بشارة بغير شيء.

وقرأ ابن كثير بكسر النون مشدّدة في كلّ القرآن ، على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وكسرها.

(قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) بما يكون لا محالة ، أو باليقين الّذي لا لبس فيه ، أو بطريقة هي حقّ ، وهو قول الله وأمره (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) من الآيسين من ذلك ،

__________________

(١) الصافّات : ١١٢.

٥٢٦

فإنّه تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين ، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر؟! وكان استعجاب إبراهيم باعتبار العادة دون القدرة ، ولذا (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ) استفهام إنكاري بمعنى النفي ، أي : لا يقنط البتّة منها (إِلَّا الضَّالُّونَ) أي : المخطئون طريق المعرفة ، فلا يعرفون سعة رحمة الله وكمال علمه وقدرته ، كما قال : (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (١). فكأنّه قال : لم استنكر ذلك قنوطا من رحمته ، ولكن استبعادا للعادة الّتي أجراها الله في الخلق. وقرأ أبو عمرو والكسائي : يقنط بالكسر.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠))

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي : فما شأنكم الّذي أرسلتم لأجله سوى البشارة؟ لأنّهم كانوا عددا ، والبشارة لا تحتاج إلى العدد ، ولذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريّا ومريم. أو لأنّهم بشّروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ، ولو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها.

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعني : قوم لوط (إِلَّا آلَ لُوطٍ) إن كان استثناء من «قوم» كان منقطعا ، إذ القوم موصوفون بالإجرام ، فاختلف لذلك الجنسان. وإن كان استثناء من الضمير في «مجرمين» كان متّصلا ، والقوم والإرسال شاملين للمجرمين وآل لوط المؤمنين به. وكأنّهم قالوا : إنّا أرسلنا إلى قوم أجرم

__________________

(١) يوسف : ٨٧.

٥٢٧

كلّهم إلا آل لوط منهم ، لنهلك المجرمين ، وننجّي آل لوط منهم.

ويدلّ عليه قوله : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) ممّا يعذّب به القوم. وهو استئناف إذا اتّصل الاستثناء ، كأنّ إبراهيم قال لهم : فما حال آل لوط؟ قالوا : إنّا لمنجّوهم.

ومتعلّق بـ «آل لوط» جار مجرى خبر «لكن» إذا انقطع ، لأنّ المعنى : لكن آل لوط منجّون.

وعلى هذا جاز أن يكون قوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من آل لوط أو من ضميرهم. وعلى الأوّل لا يكون إلّا من ضميرهم ، لاختلاف الحكمين ، لأنّ آل لوط متعلّق بـ «أرسلنا» أو بـ «مجرمين» ، و «إلّا امرأته» متعلّق بـ «منجّوهم» ، فأنّى يكون استثناء من استثناء؟ فإنّ الاستثناء من الاستثناء إنّما يكون فيما اتّحد الحكم فيه ، بأن يقال : أهلكناهم إلّا آل لوط إلّا امرأته ، كما اتّحد الحكم في قول المطلّق : أنت طالق ثلاثا إلّا ثنتين إلّا واحدة ، وفي قول المقرّ : لفلان عليّ عشرة دراهم إلّا ثلاثة إلّا درهما. اللهمّ إلّا أن يجعل «إنّا لمنجّوهم» اعتراضا. وقرأ حمزة والكسائي : لمنجوهم مخفّفا.

(قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) الباقين مع الكفرة لتهلك معهم. وقرأ أبو بكر عن عاصم : قدرنا ، هنا وفي النمل (١) بالتخفيف. وإنّما علّق فعل التقدير ، والتعليق من خواصّ أفعال القلوب ، لتضمّنه معنى العلم ، ولذلك فسّر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم.

وفي المدارك : «لو لم تكن اللام في خبرها لوجب فتح «إنّ» ، لأنّ «إنّ» مع اسمه وخبره مفعول (قَدَّرْنا) (٢).

ويجوز أن يكون «قدّرنا» أجري مجرى «قلنا» لأنّ التقدير بمعنى القضاء ، وهو بمعنى القول. وأصله جعل الشيء على مقدار غيره.

__________________

(١) النمل : ٥٧.

(٢) مدارك التنزيل للنسفي المطبوع بهامش تفسير الخازن ٣ : ٩٩.

٥٢٨

وإسناد الملائكة التقدير إلى أنفسهم وهو فعل الله ، لما لهم من القرب والاختصاص به ، كما يقول خاصّة الملك : دبّرنا كذا وأمرنا بكذا ، والمدبّر والآمر هو الملك لا هم ، وإنّما يظهرون بذلك اختصاصهم وأنّهم لا يتميّزون عنه.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦))

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) غير معروفين ، تنكركم نفسي وتنفر عنكم ، مخافة أن تطرقوني بشرّ.

(قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي : ما جئناك بما تنكرنا لأجله ، بل جئناك بما يسرّك ويشفي لك من عدوّك ، وهو العذاب الّذي توعّدتهم به ، فيمترون فيه ، أي : يشكّون.

(وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) باليقين من عذابهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به من نزول العذاب عليهم.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) فاذهب بهم في الليل. وقرأ الحجازيّان بوصل الهمزة ، من السّرى. وهما بمعنى. (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) في طائفة من الليل بعد ما يمضي أكثره (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) اقتف آثارهم ، وكن وراءهم تسرع بهم ، وتطّلع على حالهم ، لئلّا يتخلّف أحد منهم.

٥٢٩

(وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) لا ينظر ما وراءه ، فيرى من الهول ما لا يطيقه ، أو فيصيبه ما أصابهم. أو ولا ينصرف أحدكم ولا يتخلّف ، فيصيبه العذاب. وقيل : نهوا عن الالتفات ليوطّنوا نفوسهم على المهاجرة ، ولا يشتغل بمن خلفهم قلوبهم ، ولا يتحسّروا على مفارقة أوطانهم ومن به.

(وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) اذهبوا إلى الموضع الّذي أمرتم بالذهاب إليه ، وهو الشام أو مصر. وعدّي «امضوا» إلى «حيث» كما يعدّى إلى الظرف المبهم ، لأنّ «حيث» مبهم في الأمكنة. وكذلك الضمير (١) في «تؤمرون».

(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) أوحينا إليه مقضيّا مبتوتا ، ولذلك عدّي بـ «إلى» (ذلِكَ الْأَمْرَ) مبهم يفسّره (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) ومحلّه النصب على البدل منه. وفي ذلك تفخيم للأمر وتعظيم له. ودابر الشيء آخره. والمعنى : يستأصلون عن آخرهم حتّى لا يبقى منهم أحد. (مُصْبِحِينَ) داخلين في الصبح. وهو حال من «هؤلاء» ، أو من الضمير في «مقطوع». وجمعه للحمل على المعنى ، فإنّ دابر هؤلاء في معنى مدبري هؤلاء.

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢))

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) وهي قرية سدوم (يَسْتَبْشِرُونَ) يبشّر بعضهم بعضا

__________________

(١) أي : الضمير المحذوف في : تؤمرونه.

٥٣٠

بنزول من هو في صورة أضياف لوط ، طمعا فيهم.

(قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) بفضيحة ضيفي ، فإنّ من اسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في ركوب الفاحشة (وَلا تُخْزُونِ) ولا تذلّوني بإذلال ضيفي ، من الخزي وهو الهوان. أو لا تخجلوني فيهم ، من الخزاية وهو الحياء.

(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) عن أن تجير منهم أحدا ، أو تضيفه ، أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنّهم كانوا يتعرّضون لكلّ أحد ، وكان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه ، أو عن ضيافة الناس وإنزالهم.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي) فانكحوهنّ ، فلا تتعرّضوا لهم ، يعني : نساء القوم ، فإنّ نبيّ كلّ أمّة بمنزلة أبيهم. وفيه وجوه ذكرت في سورة هود (١). (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) قضاء الوطر ، أو ما أقول لكم. فهذا شكّ في قبولهم لقوله.

(لَعَمْرُكَ) قسم بحياة المخاطب ، وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال ابن عبّاس : ما خلق الله عزوجل ولا ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلّا بحياته ، فقال : لعمرك. وقيل : قسم بحياة لوط ، قالت الملائكة له ذلك.

والأصحّ الأوّل. والتقدير : بحياتك ومدّة بقائك قسمي. والعمر والعمر واحد ، إلّا أنّهم خصّوا القسم بالمفتوح ، لإيثار الأخفّ فيه ، لأنّه كثير الدوران على ألسنتهم ، ولذلك حذفوا الخبر ، وهو قسمي.

(إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) لفي غوايتهم ، أو شدّة غلمتهم (٢) الّتي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ الّذي هم عليه ، وبين الصواب الّذي يشار به إليهم ، من ترك البنين إلى البنات (يَعْمَهُونَ) يتحيّرون. فكيف يسمعون نصحك؟! وقيل : الضمير لقريش ، والجملة معترضة.

__________________

(١) راجع ص ٣٠٠ ذيل الآية ٧٨ من سورة هود.

(٢) الغلمة : اشتداد الشهوة واهتياجها.

٥٣١

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤))

ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة عذاب قوم لوط بقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) الصوت الهائل المهلك. وهي صيحة جبرئيل. (مُشْرِقِينَ) داخلين في وقت شروق الشمس.

(فَجَعَلْنا عالِيَها) عالي مدينتهم ، أو عالي قريتهم (سافِلَها) وصارت منقلبة بهم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) من طين متحجّر ، أو طين عليه كتاب من السجلّ ، بدليل قوله تعالى : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) (١) أي : معلّمة بكتاب. وقد سبق (٢) مزيد بيان لهذه القصّة في سورة هود.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما سبق ذكره من إهلاك قوم لوط (لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتفرّسين المتأمّلين. وحقيقة المتوسّمين النظّار المتثبّتون في نظرهم حتّى يعرفوا

__________________

(١) الذاريات : ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) راجع ص ٣٠٣ ذيل الآية ٨٣ من سورة هود.

٥٣٢

حقيقة الشيء بسمته. يقال : توسّمت في فلان كذا ، أي : عرفت وسمه فيه. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتّقوا فراسة المؤمن ، فإنّه ينظر بنور الله.

وقال : إنّ لله عبادا يعرفون الناس بالتوسّم ، ثمّ قرأ هذه الآية.

(وَإِنَّها) وإنّ المدينة أو القرى (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ثابت يسلكه الناس ، ويرون آثارها. وهو تنبيه لقريش ، كقوله : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) (١).

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّه روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «نحن المتوسّمون ، والسبيل فينا مقيم ، والسبيل طريق الجنّة» (٢).

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسله. خصّهم بالذكر ، لأنّهم هم المنتفعون بها.

(وَإِنْ كانَ) وإنّه كان (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) هم قوم شعيب كانوا يسكنون الغيضة ، فبعثه الله إليهم فكذّبوه فأهلكوا بالظلّة. والأيكة الشجرة المتكاثفة.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالإهلاك. روي : أنّهم أهلكوا بالظلّة الّتي احترقوا بنارها.

(وَإِنَّهُما) يعني : سدوم والأيكة. وقيل : الأيكة ومدين ، فإنّه كان مبعوثا إليهما ، فكان ذكر إحداهما منبّها على الاخرى. (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) لبطريق واضح يؤتمّ ويتّبع ويهتدى به باعتباره. والامام اسم ما يؤتمّ به ، فسمّي به اللوح الّذي يكتب فيه ومطمر البناء ـ وهو حبل يقدّر به البناء ـ لأنّه ممّا يؤتمّ به.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) يعني : ثمود كذّبوا صالحا ، ومن كذّب واحدا من الرسل فكأنّما كذّب الجميع. ويجوز أن يراد بالمرسلين صالحا ومن معه من المؤمنين. والحجر واد بين المدينة والشام يسكنونه.

(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) يعني : آيات الكتاب المنزل على

__________________

(١) الصافّات : ١٣٧.

(٢) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ : ٣٧٧.

٥٣٣

نبيّهم. أو معجزاته ، كالناقة وسقبها (١) وشربها ودرّها. أو ما نصب لهم من الأدلّة.

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) من الانهدام ، لاستحكامها جدّا.

أو من نقب اللصوص وتخريب الأعداء ، لوثاقتها. أو من العذاب ، لفرط غفلتهم ، أو حسبانهم أنّ الجبال تحميهم منه.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ) فما دفع عنهم العذاب (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من بناء البيوت الوثيقة ، واستكثار الأموال والعدد.

عن جابر قال : مررنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحجر فقال لنا : «لا تدخلوا مساكن الّذين ظلموا أنفسهم إلّا أن تكونوا باكين ، حذرا أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء». ثمّ زجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راحلته فأسرع حتّى خلّفها.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إهلاك هؤلاء الأمم لأجل أنّهم خالفوا الحقّ ، فقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) خلقا ملتبسا بالحقّ لا يلائم استمرار الفساد ودوام الشرور ، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء ، وإزاحة فسادهم من الأرض.

(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فينتقم الله لك فيها ممّن كذّبك من أعدائك ، ويجازيك وإيّاهم على حسناتك وسيّئاتهم ، فإنّه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلّا لذلك (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) فأعرض عنهم إعراضا جميلا ، فلا تعجل بالانتقام منهم ، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. وقيل : هو منسوخ بآية السيف (٢). ويجوز

__________________

(١) السقب : ولد الناقة ساعة يولد.

(٢) التوبة : ٥ و ٢٩.

٥٣٤

أن يكون المراد به المخالقة (١) ، فلا يكون منسوخا.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) الّذي خلقك وخلقهم ، وبيده أمرك وأمرهم (الْعَلِيمُ) بحالك وحالهم ، فهو حقيق بأن تكل ذلك إليه ليحكم بينكم. أو هو الّذي خلقكم وعلم الأصلح لكم ، وقد علم أنّ الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح.

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

ثمّ ذكر سبحانه ما خصّ به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النعم ، لتطيب نفسه في احتمال

__________________

(١) أي : المعاشرة بخلق حسن.

٥٣٥

المشاقّ والمتاعب في التبليغ ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً)

سبع آيات ، وهي الفاتحة. وهو قول عليّ عليه‌السلام ، وابن عبّاس ، والحسن ، وأبي العالية ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وقتادة. وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وقال ابن مسعود والضحّاك وابن عمر : هي سبع سور ، وهي الطوال. واختلف في سابعتها ، فقيل : الأنفال والتوبة ، فإنّهما في حكم سورة ، ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية. وقيل التوبة. وقيل : يونس ، أو الحواميم السبع. وقيل : سبع صحائف ، وهي الأسباع.

(مِنَ الْمَثانِي) بيان للسبع. والمثاني جمع المثناة أو المثنية ، من التثنية أو الثناء ، فإنّ كلّ ذلك مثنّى ، تكرّر قراءته أو ألفاظه أو قصصه ومواعظه ، أو مثنيّ عليه بالبلاغة والإعجاز ، أو مثن على الله بما هو أهله من صفاته العظمى وأسمائه الحسنى. ويجوز أن يراد بالمثاني القرآن أو كتب الله كلّها ، فتكون «من» للتبعيض.

(وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكلّ على البعض. وإن أريد به الأسباع فمن عطف أحد الوصفين على الآخر. يعني : ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم ، أي : الجامع لهذين النعتين ، وهو التثنية أو الثناء والعظم. ووجه عظمه أنّه يتضمّن جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين ، بأوجز لفظ ، وأحسن نظم ، وأتمّ معنى.

ولمّا علمت أنّ القرآن أعظم النعم ، وما دونه بالنسبة إليه حقير جدّا ، من النعم الدنيّة الفانية الدنياويّة ، فعليك أن تستغني به و (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تطمح ببصرك طموح راغب (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفّار من أنواع النعم ، فإنّه مستحقر جدّا بالإضافة إلى ما أوتيته ، فإنّه كمال مقصود بالذات ، مفض إلى دوام اللذّات. وفي الحديث : «من اوتي القرآن فرأى أنّ أحدا أوتي من الدنيا أفضل

٥٣٦

ممّا أوتي ، فقد صغّر عظيما ، وعظّم صغيرا».

قيل وافت من بصرى وأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير ، فيها أنواع البزّ (١) والطيب والجوهر وسائر الأمتعة. فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ، ولأنفقناها في سبيل الله. فقال لهم الله سبحانه :

لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. والمعنى : لا تتمنّ أموالهم ، ولا تحزن عليهم أنّهم لم يؤمنوا ، فيتقوّى بمكانهم الإسلام ، وينتعش بهم المؤمنون.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أنّهم لم يؤمنوا. وقيل : إنّهم المتمتّعون به. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم ، وارفق بهم ، وطب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء.

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أنذركم ببيان وبرهان أنّ عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) أي : عذابا مثل العذاب الّذي أنزلنا عليهم.

فهو وصف لمفعول «النذير» أقيم مقامه.

والمقتسمون هم الاثنا عشر الّذين اقتسموا مداخل مكّة ، فقعدوا في كلّ مدخل متفرّقين أيّام الموسم لينفّروا الناس عن الإيمان بالرسول ، يقول بعضهم : لا تغترّوا بالخارج منّا ، فإنّه ساحر ، ويقول الآخر : كذّاب ، والآخر شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر. أو الرهط الّذين اقتسموا ، أي : تقاسموا على أن يبيّتوا صالحا عليه‌السلام ، أي : يقتلوه ليلا.

وقيل : هو صفة مصدر محذوف ، يدلّ عليه قوله : «ولقد آتيناك» فإنّه بمعنى : أنزلنا إليك. والمعنى : أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب المقتسمين.

__________________

(١) البزّ : السلاح ، والثياب من الكتّان أو القطن.

٥٣٧

(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي : جزّؤه أجزاء حيث قالوا بعنادهم وشدّة عداوتهم وحسدهم : بعضه موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حقّ وباطل. وواحد عضين عضة ، بمعنى الجزء. وأصلها عضوة ، من : عضى الشاة ، إذا جعلها أعضاء. وقيل : أسحارا ، من : عضهته إذا بهتّه (١). وفي الحديث : «لعن رسول الله العاضهة (٢) والمستعضهة».

وإنّما جمع جمع السلامة جبرا لما حذف منه.

وقيل : كانوا يستهزؤن ، فيقول بعضهم : سورة البقرة لي ، ويقول الآخر : سورة آل عمران لي.

ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرءونه من كتبهم ، وقد اقتسموه بتحريفهم ، وبأنّ اليهود أقرّت ببعض التوراة وكذّبت ببعض ، والنصارى أقرّت ببعض الإنجيل وكذّبت ببعض.

وهذه تسلية لرسول الله عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم ، وقولهم : إنّه سحر وشعر وأساطير الأوّلين ، بأنّ غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم.

والموصول بصلته صفة لـ «المقتسمين» ، أو مبتدأ خبره (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) من التقسيم ، فنجازيهم عليه. وقيل : هو عامّ في كلّ ما فعلوا من الكفر والمعاصي. عن أبي العالية : يسأل العباد عن خلّتين : عمّا كانوا يعبدون ، وماذا أجابوا المرسلين. وأضاف الله سبحانه نفسه إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريفا له ، وتنبيها للخلق على عظم منزلته عنده. وهذا سؤال تقريع وتوبيخ ، بأن يقول لهم :لم عصيتم؟ وما حجّتكم في ذلك؟ فيظهر عند ذلك خزيهم وفضيحتهم.

__________________

(١) أي : اتّهمته.

(٢) العاضهة : الساحر بلغة قريش.

٥٣٨

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) فأظهر ، من : صدع بالحجّة إذا تكلّم بها جهارا. أو فافرق به بين الحقّ والباطل. وأصله الإبانة والتمييز. و «ما» مصدريّة ، أي : بأمرك ، مصدر من المبنيّ للمفعول. أو موصولة ، والراجع محذوف ، أي : بما تؤمر به من الشرائع. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ولا تلتفت إلى ما يقولون.

(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) بقمعهم وإهلاكهم.

روي : أنّهم كانوا خمسة نفر ذووا أسنان وشرف : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطّلب ، والحارث بن قيس ـ وقيل : ستّة ، سادسهم الحارث بن الطلاطلة ـ يبالغون في إيذاء النبيّ والاستهزاء به. فقال جبرئيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبال فتعلّق بثوبه سهم ، فلم ينعطف تعظّما لأخذه ، أي : منعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعه ، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات. وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيه شوكة ، فقال : لدغت لدغت ، وانتفخت رجله حتّى صارت كالرحى ومات. وأشار إلى أنف الحارث بن الطلاطلة فامتخط (١) قيحا فمات. وأشار إلى عيني الأسود بن المطّلب فعمي. وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات.

وقيل : إنّ الحارث بن قيس أكل حوتا مالحا فأصابه العطش ، فما زال يشرب حتّى نفخ بطنه فمات. وعن ابن عبّاس : ماتوا كلّهم قبل وقعة بدر.

(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم في الدارين.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من الشرك ، والطعن في القرآن ، والاستهزاء بك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فافزع إلى الله فيما نابك بالتسبيح والتحميد يكفك المهمّ ، ويكشف الغمّ عنك. أو فنزّهه عمّا يقولون ، حامدا له على أن هداك

__________________

(١) أي : أخرج القيح ، وهو ما يسيل من الجراحة والقرح.

٥٣٩

للحقّ. (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) من المصلّين. وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا حزبه (١) أمر فزع إلى الصلاة.

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي : الموت ، فإنّه متيقّن لحاقه كلّ حيّ مخلوق. ويحتمل أن يكون أراد : حتّى يأتيك العلم الضروري بالموت والخروج من الدنيا ، الّذي يزول معه التكليف. والمعنى : فاعبده ما دمت حيّا ، ولا تخلّ بالعبادة لحظة.

__________________

(١) أي : اصابه غمّ وأمر شديد ، ومنه : الحزيب ، أي : الأمر الشديد.

٥٤٠