زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

مؤتمن على كلّ شيء.

روي أنّه لمّا خرج من السجن كتب على بابه : «هذا قبور الأحياء ، وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء». ثمّ اغتسل وتنظّف ولبس ثيابا جددا ، وهو يومئذ كان ابن ثلاثين سنة ، فلمّا رآه الملك شابّا حدث السنّ قال : يا غلام أنت مأوّل رؤياي؟ قال : نعم. فأقعده قدّامه ، وقصّ عليه رؤياه.

وروي : أنّه لمّا دخل على الملك قال : اللهمّ إنّي أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بعزّتك وقدرتك من شرّه. ثمّ سلّم عليه ودعا له بالعبرانيّة.

فقال : ما هذا اللسان؟

قال : لسان آبائي. وكان الملك يعرف سبعين لسانا ، فكلّمه بها ، فأجابه بجميعها. فتعجّب منه ، فقال : أحبّ أن أسمع رؤياي منك شفاها.

فقال يوسف : نعم ، أيّها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب حسان ، كشف لك عنهنّ النيل ، فطلعن عليك من شاطئه ، تشخب أخلافهنّ (١) لبنا.

فبينا تنظر إليهنّ ويعجبك حسنهنّ ، إذ نضب (٢) النيل فغار ماؤه وبدا يبسه ، فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر ، مقلّصات (٣) البطون ، ليس لهنّ ضروع وأخلاف ، ولهنّ أنياب وأضراس ، وأكفّ كأكفّ الكلاب ، وخراطيم كخراطيم السباع. فاختلطن بالسمان ، فافترستهنّ افتراس السبع ، فأكلن لحومهنّ ، ومزّقن جلودهنّ ، وحطّمن عظامهنّ ، وتمشّشن (٤) مخّهنّ.

فبينا أنت تنظر وتتعجّب إذا سبع سنابل خضر وأخر سود في منبت واحد ،

__________________

(١) الأخلاف جمع الخلف ، وهو : حلمة ضرع الناقة ، أي : مكان مصّ الحليب من الثدي.

(٢) نضب الماء : غار في الأرض.

(٣) أي : انكمشت بطونهنّ هزالا.

(٤) تمشّش العظم : مصّه واستخرج منه المخّ.

٣٨١

عروقهنّ في الثرى والماء.

فبينا أنت تقول في نفسك : أنّى هذا وهؤلاء خضر مثمرات ، وهؤلاء سود يابسات ، والمنبت واحد ، وأصولهنّ في الماء؟ إذ هبّت ريح فذرّت الأوراق من اليابسات السود على الثمرات الخضر ، فاشتعلت فيهنّ النار وأحرقتهنّ ، وصرن سودا متغيّرات. فهذا آخر ما رأيت من الرؤيا ، ثمّ انتبهت من نومك مذعورا.

فقال الملك : والله ما شأن هذه الرؤيا بأعجب ممّا سمعته منك ، فما ترى في رؤياي أيّها الصديق؟

فقال يوسف : أرى أن تجمع الطعام ، وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة ، فتجمع الحبوب بقصبها وسنبلها لتأمن من السوس ، ويكون القصب والسنبل علفا للدوابّ. ويأتيك الخلق من النواحي ، فيمتارون منك بحكمك ، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد ذلك.

فقال الملك : ومن لي بهذا؟ ومن يجمعه ويبيعه ، ويكفي الشغل فيه؟

فعند ذلك (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) ولّني أمر أرض مصر (إِنِّي حَفِيظٌ) لها ممّن لا يستحقّها (عَلِيمٌ) بوجوه التصرّف فيه. وإنّما قال ذلك لأنّه عليه‌السلام لمّا رأى أنّه يستعمله لا محالة آثر ما تعمّ فوائده وتجلّ عوائده ، فيتوصّل بذلك إلى إمضاء أحكام الله ، وبسط العدل ، ووضع الحقوق موضعها.

وفيه دليل على جواز طلب التولية ، وإظهار أنّه مستعدّ لها ، والتولّي من يد الكافر ، إذا علم أنّه لا سبيل إلى إقامة الحقّ وسياسة الخلق إلّا بالاستظهار به.

روي : أنّ الملك أجلسه على السرير ، وفوّض إليه أمره. وقيل : توفّي قطفير في تلك السنين فنصبه في منصبه ، وزوّج منه راعيل ، فوجدها عذراء ، وولدت له أفرائيم وميشا.

وروي : أنّ الملك كان يصدر عن رأيه ، ولا يعترض عليه في كلّ ما رأى ،

٣٨٢

فكان في حكم التابع له والمطيع. وعن مجاهد : أنّ الملك أسلم على يده.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال : «لمّا مات العزيز وذلك في سنيّ الجدبة افتقرت امرأة العزيز واحتاجت حتّى سألت الناس. فقالوا لها : ما يضرّك لو قعدت للعزيز؟ وكان يوسف يسمّى العزيز ، وكلّ ملك كان لهم سمّوه بهذا الاسم.

فقالت : استحي منه. فلمّا كثر اضطرارها وعجزها قعدت له. فأقبل يوسف في موكبه فقامت إليه زليخا ، وقالت : سبحان من جعل الملوك بالمعصية عبيدا ، وجعل العبيد بالطاعة ملوكا. فقال لها يوسف : أأنت تيك؟ قالت : نعم. فقال لها : هل لك فيّ؟ قالت : دعني أتهزأ بي؟ قال : لا. قالت : نعم. فأمر بها فحوّلت إلى منزله ، وكانت هرمة. فقال لها يوسف : ألست فعلت بي كذا وكذا؟ قالت : يا نبيّ الله لا تلمني ، فإنّي بليت ببليّة لم يبتل بها أحد. قال : وما هي؟ قالت : بليت بحبّك ، وبليت بزوج عنّين. فقال لها يوسف : فما حاجتك؟ قالت : تسأل الله أن يردّ عليّ شبابي.

فسأل الله فردّ عليها ، فتزوّجها وهي بكر شابّة» (١).

روي عن ابن عبّاس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) لولّاه من ساعته ، ولكنّه أخّر ذلك سنة».

قال ابن عبّاس : فأقام في بيت الملك سنة ، فلمّا انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة ، دعاه الأمير فتوّجه وختّمه بخاتمه وأعطاه سيفه ، وأمر بأن يوضع له سرير من ذهب مكلّل بالدرّ والياقوت ، ويضرب عليه كلّة (٢) من إستبرق ، ثمّ أمره أن يخرج متوّجا ، لونه كالثلج ، ووجهه كالقمر ، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه.

فانطلق حتّى جلس على السرير ، ودانت له الملوك ، فعدل بين الناس ، وأحبّه الرجال والنساء. وذلك قوله عزّ اسمه : (وَكَذلِكَ) مثل ذلك الإنعام الّذي أنعمنا على

__________________

(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ : ٣٥٧.

(٢) الكلّة : ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقّى به من البعوض.

٣٨٣

يوسف (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أقدرناه ما يريد (فِي الْأَرْضِ) في أرض مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) ينزل من بلادها في كلّ مكان يهوى ، لاستيلائه على جميعها.

وقرأ ابن كثير : نشاء بالنون. (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا) بعطائنا (مَنْ نَشاءُ) في الدنيا والآخرة (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا.

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) الشرك والفواحش ، لعظمه ودوامه.

روي : أنّه لمّا استوزره الملك أقام العدل ، واجتهد في تكثير الزراعات وضبط الغلّات ، حتّى دخلت السنون المجدبة ، وعمّ القحط مصر والشام ونواحيهما ، وتوجّه إليه الناس ، فباعها.

وفي كتاب النبوّة بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن عليّ بن بنت إلياس ، قال : «سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : وأقبل يوسف على جمع الطعام ، فجمع في السبع سنين المخصبة ، فكبسه في الخزائن. فلمّا مضت تلك السنون وأقبلت المجدبة ، أقبل يوسف على بيع الطعام ، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير ، حتّى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم إلا صار في مملكته.

ثمّ باعهم في السنة الثانية بالحليّ والجواهر ، حتّى لم يبق بمصر وما حولها حليّ ولا جواهر إلا صار في مملكته.

وباعهم في السنة الثالثة بالدوابّ والمواشي ، حتّى لم يبق بمصر وما حولها دابّة ولا ماشية إلا صارت في مملكته.

وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء ، حتّى لم يبق بمصر عبد ولا أمة إلا صار في مملكته.

وباعهم في السنة الخامسة بالدور والعقار ، حتّى لم يبق بمصر وما حولها دار

٣٨٤

ولا عقار إلا صار في مملكته.

وباعهم في السنة السادسة بالمزارع والأنهار ، حتّى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة إلا صار في مملكته.

وباعهم في السنة السابعة برقابهم ، حتّى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حرّ إلا صار عبد يوسف ، فملك أحرارهم وعبيدهم. وقال الناس : ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما أعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا.

ثمّ قال يوسف للملك : أيّها الملك ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر وأهلها ، أشر علينا برأيك ، فإنّي لم أصلحهم لأفسدهم ، ولم أنجهم من البلاء لأكون بلاء عليهم ، ولكنّ الله تعالى أنجاهم على يديّ.

قال له الملك : الرأي رأيك.

قال : أشهد الله وأشهدك أيّها الملك بأنّي قد أعتقت أهل مصر كلّهم ، ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ، ورددت عليك أيّها الملك خاتمك وسريرك وتاجك ، على أن لا تسير إلّا بسيرتي ، ولا تحكم إلا بحكمي.

قال له الملك : إنّ ذلك لزيني وفخري ، فلا أسير إلا بسيرتك ، ولا أحكم إلا بحكمك ، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له ، ولقد جعلت سلطاني عزيزا لا يرام ، وإنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّك رسوله ، فأقم على ما ولّيتك ، فإنّك لدينا مكين أمين».

وقيل إن يوسف عليه‌السلام كان لا يمتلي شبعا من الطعام في تلك الأيّام المجدبة ، فقيل له : تجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال : إنّي أخاف أن أشبع فأنسى الجياع.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي

٣٨٥

الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧))

وكان في السنين المجدبة قد أصاب كنعان ما أصاب سائر البلاد ، فجمع يعقوب بنيه غير بنيامين ، وقال : بلغني أنّه يباع الطعام بمصر وأنّ صاحبه رجل

٣٨٦

صالح ، فاذهبوا إليه. فتجهّزوا وساروا حتّى وردوا مصر للميرة (١) ، كما قال عزوجل : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) ليمتاروا من مصر كما امتار غيرهم. وكان لا يبيع أحدا من الممتارين أكثر من حمل بعير ، تقسيطا بين الناس. (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي : عرفهم يوسف ولم يعرفوه ، لطول العهد ومفارقتهم إيّاه في سنّ الحداثة ، ونسيانهم إيّاه ، وتوهّمهم أنّه هلك ، وبعد حاله الّتي رأوه عليها من حاله حين فارقوه ، وقلّة تأمّلهم في حاله ، ولأنّ الملك ممّا يبدّل الزيّ ويلبس صاحبه من المهابة والاستعظام ما ينكر له المعروف.

وقيل : رأوه على زيّ فرعون عليه ثياب الحرير ، جالسا على سرير ، في عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج ، فما خطر ببالهم أنّه هو.

وقيل : ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب ، وما وقفوا إلا حيث يقف طلّاب الحوائج. وإنّما عرفهم لأنّه فارقهم وهم رجال ، ورأى زيّهم قريبا من زيّهم إذ ذاك ، ولأنّ همّته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم ، فكان يتأمّل ويتفطّن.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) والجهاز ما يعدّ من الأمتعة للنقلة ، كعدد السفر ، وما يحمل من بلدة إلى اخرى ، وما تزفّ به المرأة إلى زوجها. والمعنى : ولمّا أصلحهم بعدّتهم ، وأوقر ركائبهم بما جاؤا لأجله (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يعني : بنيامين.

والباعث على صدور هذا القول منه ـ على ما قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره (٢) ، والزمخشري في الكشّاف (٣) ـ أنّهم لمّا دخلوا عليه قال : من أنتم وما

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «الميرة : الامتيار. وهو ابتياع الغلّات. والميرة : الغلّة التي تطلب. منه».

(٢) لم نجده في تفسيره.

(٣) الكشّاف ٢ : ٤٨٤.

٣٨٧

أمركم ، فإنّي أنكركم؟

قالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة ، أصابنا الجهد فجئنا نمتار.

فقال : لعلّكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟

قالوا : معاذ الله نحن بنو أب واحد ، وهو شيخ صدّيق ، نبيّ من الأنبياء اسمه يعقوب.

قال : كم أنتم؟

قالوا كنّا اثني عشر ، فذهب أحدنا إلى البرّيّة فهلك.

قال : فكم أنتم هنا؟

قالوا : عشرة.

قال : فأين الحادي عشر؟

قالوا : عند أبينا يتسلّى به عن الهالك.

قال : فمن يشهد لكم؟

قالوا : لا يعرفنا ها هنا من يشهد لنا.

قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة ، وائتوني بأخيكم من أبيكم حتّى أصدّقكم. فاقترعوا فأصابت شمعون.

وقيل : كان يوسف يعطي لكلّ نفس حملا ، فسألوا حملا زائدا لأخ لهم من أبيهم ، فأعطاهم وشرط عليهم أن يأتوه به ليعلم صدقهم. ثمّ رغّبهم في أن يأتوا بأخيهم ، فقال : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أتمّه (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) للضيف والمضيفين لهم. وكان عليه‌السلام أحسن إنزالهم وضيافتهم.

ثمّ رهّبهم من حرمانهم عن الكيل إن لم يأتوا به ، فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ) فليس لكم (عِنْدِي) طعام أكيله عليكم (وَلا تَقْرَبُونِ) أي : لا تقربوني ، ولا تدخلوا دياري. وهو إمّا نهي ، أو نفي مجزوم معطوف على الجزاء ،

٣٨٨

وهو قوله : (فَلا كَيْلَ لَكُمْ). كأنّه قال : فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا.

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) سنجتهد في طلبه من أبيه (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك لا نتوانى فيه.

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ) لغلمانه الكيّالين. جمع فتى (١). وقرأ حمزة والكسائي وحفص : لفتيانه على جمع الكثرة ، ليوافق الرحال في قوله : (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) فإنّه وكلّ بكلّ رحل واحدا يعبّئ فيه بضاعتهم الّتي شروا بها الطعام ، أي : يجعل في رحالهم خفية كيلا يفهموا. واحدها : رحل. يقال للوعاء رحل ، وللمسكن رحل. وأصله : الشيء المعدّ للرحيل. وكانت البضاعة نعالا وأدما. وإنّما ردّ عليهم البضاعة توسيعا وتفضّلا عليهم ، وترفّعا من أن يأخذ ثمن الطعام منهم ، وخوفا من أن لا يكون عند أبيهم ما يعيشون به.

(لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) لعلّهم يعرفون حقّ ردّها ، أو لكي يعرفوها (إِذَا انْقَلَبُوا) انصرفوا ورجعوا (إِلى أَهْلِهِمْ) وفتحوا أوعيتهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعلّ معرفتهم ذلك الإحسان التامّ تدعوهم إلى الرجوع إلينا لطلب الميرة ثانيا.

قيل : معناه : أنّ ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة الّتي لا يستحلّون إمساكها ، فيرجعون لأجلها. ولم يعرّف يوسف نفسه ، مع علمه بشدّة حزن أبيه وقلقه واحتراقه على ألم فراقه ، لأنّه لم يؤذن له في التعريف ، استتماما للمحنة عليه وعلى يعقوب ، ولما علم الله من الحكمة والصلاح في تشديد البليّة ، تعريضا للمنزلة السنيّة.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) حكم بمنعه بعد هذا إن لم نذهب بنيامين (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) بنيامين (نَكْتَلْ) أي : نأخذ ما نحتاج إليه من الطعام بالكيل ، ونرفع المانع منه. وقرأ حمزة والكسائي بالياء ، على إسناده إلى

__________________

(١) أي : على قراءة : لفتيته.

٣٨٩

الأخ ، أي : يكتل لنفسه ، فينضمّ اكتياله إلى اكتيالنا. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من أن يناله مكروه.

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) على بنيامين (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) وقد قلتم في يوسف : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ثمّ لم تفوا بضمانكم (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) فأتوكّل عليه ، وأفوّض أمري إليه. وانتصابه على التمييز. وقرأ حمزة والكسائي وحفص : حافظا. وهو يحتمل التمييز والحال ، كقولهم : لله درّه فارسا. (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأرجو أن يرحم ضعفي وكبر سنّي ، فيحفظه ويردّه عليّ ، ولا يجمع عليّ مصيبتين.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) استفهاميّة ، أي : ماذا نطلب؟ هل من مزيد على لك ، أكرمنا ، وأحسن مثوانا ، وباع منّا ، وردّ علينا متاعنا؟! أو نافية ، أي : لا نطلب وراء ذلك إحسانا. أو لا نبغي في القول ، ولا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه.

ثمّ استأنفوا كلاما موضحا لقولهم : «ما نبغي» ، فقالوا : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) فلا ينبغي أن تخاف على أخينا ممّن قد أحسن إلينا هذا الإحسان (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) ونجلب إليهم الطعام. وهو معطوف على محذوف ، أي : ردّت إلينا ، فنستظهر بها ، ونمير أهلنا بالرجوع إلى الملك. (وَنَحْفَظُ أَخانا) عن المخاوف في ذهابنا وإيابنا (وَنَزْدادُ) باستصحاب أخينا (كَيْلَ بَعِيرٍ) وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا ، فأيّ شيء نطلب وراء هذه المباغي الّتي نستصلح بها أحوالنا؟! (ذلِكَ) الّذي جئناك به (كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي : مكيل قليل لا يكفينا. استقلّوا ما كيل لهم ، فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ، ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. أو «ذلك» إشارة إلى «كيل بعير» ، أي : ذلك شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك ولا يتعاظمه ، بل يستقلّه. ويجوز أن يكون «كيل يسير» من كلام يعقوب عليه‌السلام. ومعناه : أنّ حمل بعير

٣٩٠

شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد.

(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ) إذ رأيت منكم ما رأيت في يوسف (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) حتّى تعطوني ما أتوثّق به من عند الله ، أي : عهدا مؤكّدا بذكر الله تعالى (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب القسم ، إذ المعنى : حتّى تحلفوا بالله لتأتنّني به ، أي :

لتردّونه إليّ. روي عن ابن عبّاس : يعني : حتّى تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيّين وسيّد المرسلين ألّا تعذروا بأخيكم. (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) إلا أن تغلبوا فلم تقدروا على الإتيان به ، أو إلا أن تهلكوا جميعا. وهو استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال.

والتقدير : لتأتنّني به على كلّ حال من الأحوال إلا حال الإحاطة بكم. أو من أعمّ العلل ، على أنّ قوله : (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) في تأويل النفي ، أي : لا تمتنعون من الإتيان به لعلّة من العلل إلا لعلّة الإحاطة بكم ، كقولهم : أقسمت بالله إلا فعلت ، أي : ما أطلب إلا فعلك.

(فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) ما يوثق به من العهود والأيمان (قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ) من طلب الموثق وإتيانه (وَكِيلٌ) رقيب مطّلع ، إن أخلفتم بعد ما أحلفتم.

(وَ) لمّا تجهّزوا للمسير إلى مصر (قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) لأنّهم كانوا ذوي جمال وأبّهة ، مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة عند الملك ، فخاف عليهم أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا. وإنّما لم يوصّهم بذلك في الكرّة الأولى ، لأنّهم كانوا مجهولين حينئذ ، أو كان الداعي إليها خوفه على بنيامين.

واعلم أنّه خلاف بين العلماء في تأثير العين ، وجوّزه كثير من المحقّقين.

وروي فيه الخبر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ العين حقّ ، والعين تستنزل الحالق».

والحالق : المكان المرتفع من الجبل وغيره. فجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل ، من قوّة أخذها وشدّة بطشها.

٣٩١

وروي في الخبر : أنّه كان يعوّذ الحسن والحسين عليهما‌السلام ، بأن يقول : أعيذكما بكلمات الله التامّة ، من كلّ شيطان وهامّة ، ومن كلّ عين لامّة.

وروي أنّ إبراهيم عليه‌السلام عوّذ ابنيه ، وأنّ موسى عليه‌السلام عوّذ ابني هارون بهذه العوذة.

وروي أنّ بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلمانا بيضا ، فقالت أسماء بنت عميس : يا رسول الله إنّ العين إليهم سريعة ، أفأسترقي لهم من العين؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم.

وروي أنّ جبرئيل عليه‌السلام رقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلّمه الرقية. وهي : بسم الله أرقيك من كلّ عين حاسد ، الله يشفيك.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين».

ثمّ اختلفوا في وجه الإصابة بالعين ، فروي عن عمرو بن بحر الجاحظ أنّه قال : لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاء لطيفة ، فتتّصل به وتؤثّر فيه ، ويكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعين ، كالخواصّ في الأشياء. وليس ببعيد أن يحدث الله تعالى عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصانا فيه وخللا من بعض الوجوه ، ويكون ذلك ابتلاء من الله وامتحانا لعباده. والله أعلم بحقائق الأمور.

(وَما أُغْنِي) وما أدفع (عَنْكُمْ) بما أشرت به إليكم من التفرّق (مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ممّا قضى عليكم من المصيبة ، فإنّ الحذر لا يمنع القدر (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) يصيبكم لا محالة إن قضى عليكم سوءا ، ولا ينفعكم ذلك (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) فوّضت إليه أمري (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) جمع بين الواو والفاء في عطف الجملة على الجملة ، لتقدّم الصلة ، لاختصاص التوكّل به ، فكأنّ الواو للعطف ، والفاء لإفادة التسبّب ، فإنّ فعل الأنبياء صلّى الله عليهم سبب لأن يقتدى بهم.

٣٩٢

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) أي : من أبواب متفرّقة في البلد (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ) رأي يعقوب واتّباعهم له في دخولهم متفرّقين (مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)

٣٩٣

ممّا قضاه عليهم ، فسرّقوا (١) وافتضحوا بذلك ، وأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله ، وتضاعفت المصيبة على يعقوب (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) أظهرها ووصّى بها. والاستثناء منقطع ، أي : ولكن حاجة في نفسه ، يعني : إظهار شفقته عليهم ، ودغدغته من أن يعانوا.

(وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) أي : حصل له العلم بتعليمنا إيّاه بطريق الوحي ونصب الحجج ، ولذلك قال : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، ولم يغترّ بتدبيره (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) سرّ القدر ، وأنّه لا يغني عنه الحذر. أو لا يعلمون مرتبة يعقوب في العلم ، أو ما ألهم الله أولياءه.

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) ضمّ إليه بنيامين على الطعام ، أو في المنزل.

روي أنّهم قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به. فقال لهم : أحسنتم وأصبتم ، وستجدون أجره عندي. فأنزلهم وأكرمهم ، ثمّ أضافهم فأجلسهم مثنى مثنى على مائدة. ولمّا أجلس كلّ اثنين على مائدة وبقي بنيامين وحيدا بكى وقال : لو كان أخي يوسف حيّا لجلس معي ، فأجلسه معه على مائدته ، وجعل يؤاكله. ثمّ قال : لينزل كلّ اثنين منكم بيتا ، وهذا لا ثاني له فيكون معي ، فبات عنده. وقال له :

أتحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : من يجد أخا مثلك؟! ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل. فبكى يوسف وقام إليه وعانقه.

(قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ) فلا تحزن. افتعال من البؤس ، وهو الحزن. (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعمل إخوتنا في حقّنا ، فإنّ الله قد أحسن إلينا وجمعنا.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ) المشربة (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي : أمر حتّى جعلها في متاع أخيه. وإنّما أضاف الله تعالى ذلك إليه لوقوعه بأمره. روي أنّها

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «التسريق إسناد السرقة إلى الغير. منه».

٣٩٤

مشربة جعلت صاعا في السنين الشداد القحاط يكال بها ، فهي الصواع. وقيل : كان يسقى بها الملك ، ثمّ جعلت صاعا يكال به. وقيل : كانت الدوابّ تسقى بها ، ويكال بها. روي أنّها كانت إناء مستطيلا يشبه المكّوك (١). وقيل : هي المكّوك الفارسي الّذي يلتقي طرفاه ، تشرب به الأعاجم ، وكانت من فضّة مموّهة بالذهب. وقيل : كانت من ذهب مرصّعة بالجواهر. وروي أنّهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتّى انطلقوا ، ثمّ أمر بردّهم فأدركوا وحبسوا.

(ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد. يقال : أذنه إذا أعلمه ، وأذّن : إذا أكثر الإعلام ، ومنه : المؤذّن ، لكثرة ذلك منه. (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) والعير القافلة. وهو اسم الإبل الّتي عليها الأحمال ، لأنّها تعير ، أي : تذهب وتجيء ، فقيل لأصحاب العير ، كقوله عليه‌السلام : يا خيل الله اركبي ، بمعنى : يا صاحب الخيل. وقيل : جمع عير.

وأصله : فعل ، كسقف وسقف ، فعل به ما فعل ببيض. يطلق على قافلة الحمير ، ثمّ استعير لكلّ قافلة.

قيل : إنّما قال ذلك بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غير أمره ، ولم يعلم بما أمر به يوسف من جعل الصاع في رحالهم.

وقيل : إنّ يوسف أمر المنادي بأن ينادي به ، ولم يرد به سرقة الصاع ، وإنّما عنى به أنّكم سرقتم يوسف عن أبيه وألقيتموه في الجبّ.

وقيل : إنّ الكلام يجوز أن يكون خارجا مخرج الاستفهام ، كأنّه قال : أإنّكم لسارقون ، فأسقط همزة الاستفهام.

ويؤيّده ما روي عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «ما سرقوا ولا كذب».

__________________

(١) المكّوك : مكيال يسع صاعا ونصف صاع ، أو نحو ذلك ، أو طاس يشرب فيه. وجمعه مكاكيك.

٣٩٥

وقيل : كان تعبئة السقاية والنداء على السرقة برضا بنيامين.

وكانت عبارة الكشّاف هكذا : «وروي أنّه قال له : أنا لا أفارقك. قال : قد علمت اغتمام والدي بي ، فإذا حبستك ازداد غمّه ، ولا سبيل إلى ذلك إلّا أن أنسبك إلى ما لا يجمل. قال : لا أبالي فافعل ما بدا لك. قال : فإنّي أدسّ صاعي في رحلك ، ثمّ أنادي عليك بأنّك قد سرقته ، ليتهيّأ لي ردّك بعد تسريحك معهم. قال : افعل» (١).

انتهى كلامه.

أقول : ظاهر هذه الرواية غير مطابق لأصول الكلام كما لا يخفى.

وقال في المجمع : «ويجوز أن يكون ذلك بأمر الله تعالى. وروي أنّه أعلم أخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسّك به» (٢).

(قالُوا) قال أصحاب العير (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) حال كونهم مقبلين على أصحاب يوسف (ما ذا تَفْقِدُونَ) أيّ شيء ضاع عنكم؟ والفقد غيبة الشيء عن البصر بحيث لا يعرف مكانه.

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) من الطعام ، جعلا له (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) كفيل أؤدّيه إلى من ردّه. وفيه دليل على جواز الجعالة وضمان الجعل قبل تمام العمل.

(قالُوا تَاللهِ) قسم فيه معنى التعجّب. والتاء بدل من الباء ، مختصّة بالله سبحانه. (لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم ، لما عرفوا منهم في كرّتي مجيئهم ومداخلتهم للملك ممّا يدلّ على فرط أمانتهم ، كردّ البضاعة الّتي جعلت في رحالهم ، وكعم (٣) أفواه الدوابّ لئلّا تتناول

__________________

(١) الكشّاف ٢ : ٤٨٩.

(٢) مجمع البيان ٥ : ٢٥٢.

(٣) كعم البعير كعما : شدّ فمه لئلّا يعضّ أو يأكل.

٣٩٦

زرعا أو طعاما لأحد من أهل الأسواق. (وَما كُنَّا سارِقِينَ) وما كنّا نوصف قطّ بالسرقة ، فالسرقة منافية لحالنا.

(قالُوا فَما جَزاؤُهُ) فما جزاء السارق أو السرق أو الصواع ، على حذف المضاف ، أي : جزاء سرقة الصواع (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) في ادّعاء البراءة.

(قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي : جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله ، واسترقاقه سنة. هكذا كان شرع يعقوب عليه‌السلام. وقوله : «فهو جزاؤه» تقرير للحكم وإلزام له ، أو خبر «من» والفاء لتضمّنها معنى الشرط ، أو جواب لكلمة «من» على أنّها شرطيّة. والجملة كما هي خبر «جزاؤه» على إقامة الظاهر فيها مقام الضمير ، كأنّه قيل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو. (كَذلِكَ) مثل ما ذكرناه من الجزاء (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) بالسرقة ، يعني : إذا سرقوا استرقّوا.

(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ) فبدأ المؤذّن. وقيل : بدأ يوسف بأوعيتهم ، لأنّهم ردّوا إلى مصر. (قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) بنيامين نفيا للتهمة (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أي : السقاية أو الصواع ، لأنّه يذكّر ويؤنّث (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ).

(كَذلِكَ) مثل ذلك الأمر الخفيّ الّذي هو في صورة الكيد والبهتان لا حقيقة ، كما مرّ (١) في تفسير قوله : «ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ... إلخ» (كِدْنا لِيُوسُفَ) بأن علّمناه إيّاه وأوحينا به إليه ليتوصّل بما يتهيّأ له أن يحبس أخاه ، ليكون ذلك سببا لوصول خبره إلى أبيه (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) ملك مصر ، لأنّ دينه الضرب وتغريم ضعف ما أخذ ، دون الاسترقاق. وهو بيان للكيد (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إلّا بمشيئة الله وإذنه أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك. فالاستثناء من أعمّ الأحوال. ويجوز أن يكون منقطعا ، أي : لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه.

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم ، كما رفعنا درجة يوسف (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)

__________________

(١) راجع ص : ٣٩٥.

٣٩٧

أرفع درجة منه في علمه ، حتّى ينتهي إلى الله تعالى العالم لذاته ، فلا يختصّ بمعلوم دون معلوم ، فيقف عليه ولا يتعدّاه.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))

روي : أنّهم لمّا استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء ، وأقبلوا عليه وقالوا له : ما الّذي صنعت؟ فضحتنا وسوّدت وجوهنا ، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء ، متى أخذت هذا الصاع؟ ثمّ (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ) بنيامين (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) يعنون يوسف (مِنْ قَبْلُ) فليست سرقته بأمر بديع ، فإنّه اقتدى بأخيه يوسف.

قيل : ورثت عمّته من أبيها منطقة (١) إبراهيم ، وكانت تحضن يوسف وتحبّه حبّا شديدا ، فلمّا ترعرع أراد يعقوب انتزاعه منها ، فشدّت المنطقة على وسطه ثمّ أظهرت ضياعها ، فتفحّص عنها فوجدت محزومة عليه ، فصارت أحقّ به في شريعتهم.

__________________

(١) المنطقة : ما ينتطق به ، اي : يشدّ على الوسط.

٣٩٨

وقيل : كان لأبي أمّه صنم ، فسرقه وكسره وألقاه في الجيف. وقيل : كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل.

والقول الأوّل أشهر وأكثر ، ومرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام وابن عبّاس والضحّاك والجبائي.

(فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) فأخفى يوسف تلك الكلمة الّتي قالوها ، أو تلك الإجابة ، أو نسبة السرقة إليه (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) ولم يظهرها لهم. وقيل : الضمير كناية بشريطة التفسير ، وتفسيرها قوله : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) فإنّه بدل من «أسرّها». والمعنى : قال في نفسه : أنتم شرّ مكانا ، أي : منزلة في السرقة ، لسرقتكم أخاكم ، أو في سوء الصنيع ممّا كنتم عليه من ظلمكم على أخيكم وعقوق أبيكم.

وتأنيث هذا القول باعتبار الكلمة أو الجملة. وفيه نظر ، إذ المفسّر بالجملة لا يكون إلّا ضمير الشأن. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) وهو يعلم أنّه ليس الأمر كما تصفون ، ولم يصحّ لي ولأخي سرقة.

ثمّ رقّقوا في القول واستعطفوه بذكر أبيهم (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) في القدر أو السنّ (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد ، فإنّ أباه ثكلان على أخيه الهالك ، مستأنس به (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إمّا متعدّ ، ومعناه : من المحسنين إلينا ، فأتمم إحسانك. أو لازم ، ومعناه : من الّذين عادتهم الإحسان ، فلا تغيّر عادتك.

(قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ) نعوذ بالله معاذا من أن نأخذ ، فأضيف المصدر إلى المفعول به ، وحذف «من» (إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) هذا كلام موجّه بوجهين ، ظاهره : أنّ أخذ غيره ظلم على فتواكم ، فلو أخذنا أحدكم مكانه (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) في مذهبكم هذا ، فلا تطلبوا منّي ما تعرفون أنّه ظلم. وباطنه : أنّ الله تعالى أذن في أخذ من وجدنا الصاع في رحله ، لمصلحته ورضاه عليه ، فلو أخذت غيره كنت ظالما عاملا بخلاف ما أمرت به.

٣٩٩

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢))

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) يئسوا من يوسف وإجابته إيّاهم. وزيادة السين والتاء للمبالغة ، مثل : استعصم. وعن البزّي : استأيس ، بالألف وفتح الياء من الهمزة. وإذا وقف حمزة ألقى حركة الهمزة على الياء على أصله. (خَلَصُوا) انفردوا عن الناس واعتزلوا بحيث لا يخالطهم سواهم (نَجِيًّا) متناجين. وإنّما وحّده لأنّه مصدر أو بزنته ، كما قيل : هم صديق. وجمعه أنجية ، كـ : نديّ وأندية. أو كان التقدير : ذوي نجوى ، أو فوجا نجيّا ، أي : متناجيا. وكان تناجيهم في تدبير أمرهم ، أيرجعون أم يقيمون؟ وإذا رجعوا فما ذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟

(قالَ كَبِيرُهُمْ) في السنّ ، وهو روبيل ابن خالة يوسف ، وهو الّذي نهى إخوته عن قتله. أو في الرأي والعلم ، وهو شمعون ، وكان رئيسهم. وقيل : في الشجاعة ، وهو يهوذا. وعن محمّد بن إسحاق وعليّ بن إبراهيم بن هاشم (١) أنّه

__________________

(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ : ٣٤٩.

٤٠٠