زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

للدلالة على أنّ كلّ واحد منهما مخلوط بالآخر ، كما تقول : خلطت الماء واللبن ، تريد خلطت كلّ واحد منهما بصاحبه ، وفيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن ، لأنّك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به ، وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما ، كأنّك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء.

وفيه دلالة على بطلان القول بالإحباط ، لأنّه لو كان أحد العملين محبطا لم يكن لقوله : «خلطوا» معنى ، لأنّ الخلط يستعمل في الجمع مع امتزاج ، كخلط الماء واللبن ، وبغير امتزاج ، كخلط الدنانير والدراهم.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أن يقبل توبتهم. وهي مدلول عليها بقوله : (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ). (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز عن التائب ويتفضّل عليه.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية أطلقهم رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه النفيسة ، ولمّا أطلقوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا الّتي خلّفتنا فتصدّق بها وطهّرنا. فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ، فنزلت : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) من الذنوب ، أو حبّ المال المؤدّي بهم إلى مثله. والفعل صفة للصدقة ، أي : صدقة مطهّرة. ويجوز

١٦١

أن يكون التاء للخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي : تطهّرهم أنت.

(وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وتنمي بها حسناتهم ، وترفعهم إلى منازل المخلصين. وقيل : التزكية بمعنى التطهير تأكيدا. ولا شبهة أنّ التأسيس أولى. وإنّما لم يجزم الفعلين ليكون جوابا للأمر ، لأنّ في جعلهما صفتين فائدة زائدة ، وهي أنّ المأمور أخذ صدقة مطهّرة ، وهي الّتي تكون عن طيب نفس وانشراح صدر بنيّة خالصة ، لا مطلق الصدقة ، ومع الجزم لا يفيد إلّا مطلق الصدقة. فعلى هذا تكون التاء للخطاب.

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) وترحّم عليهم بالدعاء لهم بقبول صدقاتهم والاستغفار لهم (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) هو ما يسكن إليه. والمراد أنّهم تسكن إليها نفوسهم ، وتطمئنّ بها قلوبهم ، وتطيب بقبول صدقتهم. وجمعها لتعدّد المدعوّ لهم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتوحيد. (وَاللهُ سَمِيعٌ) باعترافهم بذنوبهم (عَلِيمٌ) بما في ضمائرهم من الندم والغمّ لما فرط منهم.

والأمر للوجوب عند أكثر أصحابنا ، وعند آخرين للندب. وهذه مسألة أصوليّة ، من أراد تحقيقها فليرجع إلى الكتب الأصوليّة. وهذا الحكم ثابت في أئمّتنا عليهم‌السلام القائمين مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل في الفقير والساعي ، للتاسّي ، ولجريان علّة الصلاة فيهم ، وهي تطييب النفوس وطمأنينة القلوب.

قال الزهري بعد ذكر ما تقدّم : قال أبو لبابة : يا رسول الله إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي الّتي أصبت فيها الذنب ، وأنا انخلع من مالي كلّه. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يجزيك يا أبا لبابة الثلث. فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلث أموالهم وترك الثلثين ، لأنّ الله تعالى قال : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) ولم يقل : خذ أموالهم.

وعن الحسن : المراد بها الأمر بأن يأخذ الصدقة من أموال هؤلاء التائبين تشديدا للتكليف ، وليست بالصدقة المفروضة ، بل هي على سبيل الكفّارة للذنوب الّتي أصابوها.

١٦٢

وعن الجبّائي وأكثر المفسّرين أنّ المراد بهذه الصدقة الصدقة المفروضة ، أعني : الزكاة. وهو الظاهر ، لأنّ حمله على الخصوص بغير دليل لا وجه له ، فيكون أمرا بأن يأخذ من المالكين للنصاب الزكاة من الورق إذا بلغ مائتي درهم ، ومن الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا ، ومن الإبل إذا بلغ خمسا ، ومن البقر إذا بلغت ثلاثين ، ومن الغنم إذا بلغت أربعين ، ومن الغلّات الأربع إذا بلغت خمسة أوسق.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا) الضمير إمّا للمتوب عليهم ، والهمزة للتقرير والتنبيه على وجوب علمهم بأنّ الله تعالى هو يقبل التوبة ، وهو الّذي يأخذ الصدقة. والمعنى : ألم يعلموا قبول توبتهم ـ قبل أن يتوب عليهم وتقبل صدقاتهم ـ والاعتداد بصدقاتهم.

أو الضمير لغيرهم ، والمراد به التحضيض عليهما.

(أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) إذا صحّت. وتعديته بـ «عن» لتضمّنه معنى التجاوز. (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) يقبلها إذا صدرت عن خلوص النيّة ، قبول من يأخذ شيئا ليؤدّي بدله (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وأنّ من شأنه قبول توبة التائبين والتفضّل عليهم.

ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار لعدم علمهم ، وذلك أنّهم لمّا سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ أموالهم ويقبل توبتهم كما تقدّم ذكره ، ولم يعلموا أنّه لا يقبل التوبة غير الله ولا يأخذ الصدقة إلّا هو ، أنكر ذلك عليهم. وفائدة لفظ «هو» للحصر ، أي : لا يقبل إلّا هو.

وفي الآية من المبالغة في وجوب العلم بقبول التوبة وأخذ الصدقة ، وأنّه كثير القبول للتوبة ورحيم بعباده ، ما يظهر لمن تدبّر تركيبها بإيراد الاستفهام بالمعنيين المذكورين ، وإردافه بالعلم ، ثمّ الإتيان بالجملة المؤكّدة بـ «أنّ» وأداة الحصر ، وذلك غاية رأفته بعباده ورحمته لهم.

(وَقُلِ اعْمَلُوا) ما شئتم (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) فإنّه لا يخفى عليه ، خيرا كان

١٦٣

أو شرّا (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) فإنّه تعالى لا يخفى عنهم كما رأيتم وتبيّن لكم.

وإنّما أدخل السين لأنّ ما لم يحدث لا تتعلّق به الرؤية ، فكأنّه قال : كلّ ما تعملونه يراه الله تعالى. وقيل : أراد بالمؤمنين الشهداء. وقيل : الملائكة الّذين هم الحفظة الّذين يكتبون الأعمال. وروى أصحابنا أنّ أعمال الأمّة تعرض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ اثنين وخميس فيعرفها ، وكذلك تعرض على أئمّة الهدى عليهم‌السلام القائمين مقامه فيعرفونها ، وهم المعنيّون بقوله : «والمؤمنون». (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بالموت (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمجازاة عليه.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

روي أنّ كعب بن مالك وهلال بن أميّة ومرارة بن الربيع ـ وهم من الأوس والخزرج ـ لمّا انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم من تبوك ، أتوا عنده وقالوا : يا رسول الله ما لنا من عذر ، ولم نعتذر إليك بالكذب ، وإنّما تخلّفنا توانيا عن الاستعداد حتّى فاتنا المسير. فقال : صدقتم قوموا حتّى يقضي الله حكمه. فنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مكالمتهم ، وأمر نساءهم باعتزالهم ، حتّى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. فأقاموا على ذلك خمسين ليلة ، وبنى كعب خيمة على سلع (١) يكون فيها وحده.

فنزلت فيهم : (وَآخَرُونَ) من المتخلّفين (مُرْجَوْنَ) مؤخّرون ، أي : موقوف أمرهم ، من : أرجأته إذا أخّرته. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص : مرجون بالواو. وهما لغتان (٢). (لِأَمْرِ اللهِ) في شأنهم (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) إن بقوا على الإصرار على النفاق

__________________

(١) السلع : جبل بالمدينة.

(٢) أي : قراءة مرجئون بالهمز ومرجون.

١٦٤

ولم يتوبوا (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) إن تابوا. والترديد للعباد. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوالهم (حَكِيمٌ) فيما يفعل بهم. ولمّا أخلصوا نيّاتهم وفوّضوا أمرهم إلى الله تعالى رحمهم وقبل توبتهم. وتصدّق كعب بثلث ماله شكرا لله على توبته.

وفي هذه الآية دلالة على صحّة مذهبنا في جواز العفو عن العصاة ، لأنّه سبحانه بيّن أن قوما من العصاة يكون أمرهم إلى الله ، إن شاء عذّبهم وإن شاء قبل توبتهم ، فعفا عنهم. ويدلّ أيضا على أنّ قبول التوبة تفضّل من الله سبحانه ، لأنّه لو كان واجبا لما جاز تعليقه بالمشيئة.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

قال المفسّرون : إنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قبا ، وبعثوا إلى رسول

١٦٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتيهم ، فأتاهم وصلّى فيه. فحسدهم إخوتهم المتخلّفون ، وهم بنو غنم بن عوف ، وكانوا من المنافقين ، فقالوا : نبني مسجدا فيصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم ، وهو الّذي سمّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفاسق.

وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد : لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلمّا انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من قوّة وسلاح ، فإنّي ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ، ومخرج محمّدا وأصحابه من المدينة.

وكانوا اثني عشر رجلا. وقيل : خمسة عشر رجلا ، منهم ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، ونبتل بن الحارث.

فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ، فلمّا فرغوا منه أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتجهّز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه وتدعو لنا بالخير والبركة. فقال : إنّي على جناح سفر ، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه.

فلمّا انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك نزلت : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) عطف على (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ). أو مبتدأ خبره محذوف ، أي : وممّن وصفنا الّذين اتّخذوا. أو منصوب على الاختصاص. وقرأ نافع وابن عامر بغير واو. (ضِراراً) مضارّة للمؤمنين (وَكُفْراً) وتقوية للكفر الّذي يضمرونه (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) يريد الّذين كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قبا (وَإِرْصاداً) ترقّبا (لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني : الراهب (مِنْ قَبْلُ) متعلّق بـ «حارب» أي : لأجل من حارب الله ورسوله من قبل أن يتّخذوا المسجد ، أو بـ «اتّخذوا» أي : اتّخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلّف.

قيل : أبو عامر كان قد ترهّب في الجاهليّة ولبس المسوح (١) ، فلمّا قدم

__________________

(١) المسوح جمع المسح ، وهو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن زهدا وتقشّفا.

١٦٦

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة حسده ، وجمع الجيوش عليه يوم الأحزاب ، فلمّا انهزموا خرج إلى الشام ولحق إلى الروم فتنصّر ، ومات بقنّسرين وحيدا.

(وَلَيَحْلِفُنَ) يعني : هؤلاء المنافقين (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) ما أردنا ببنائه إلّا الخصلة الحسنى ، أو لإرادة الحسنى ، وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المصلّين (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في حلفهم.

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) للصّلاة (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) يعني : مسجد قبا أسّسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّى فيه أيّام مقامه بقبا من الاثنين إلى الجمعة. وقبا اسم قرية من قرى المدينة. وهذا أوفق للقصّة. وقيل : إنّه مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لقول أبي سعيد : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه فقال : هو مسجدكم هذا مسجد المدينة.

(مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من أيّام وجوده. و «من» يعمّ الزمان والمكان. (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) أولى بأن تصلّي فيه (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله. وقيل : من الجنابة ، فلا ينامون عليها. (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه إدناء المحبّ حبيبه.

وبعد نزول الآية عند قدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك دعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ، ففعل واتّخذ مكانه كناسة.

قيل : لمّا نزلت مشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه المهاجرون حتّى وقف على باب مسجد قبا ، فإذا الأنصار جلوس ، فقال : أمؤمنون أنتم؟ فسكتوا ، فأعادها.

فقال عمر : إنّهم مؤمنون وأنا معهم.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أترضون بالقضاء؟

قالوا : نعم.

قال : أتصبرون على البلاء؟

١٦٧

قالوا : نعم.

قال : أتشكرون في الرخاء؟

قالوا : نعم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مؤمنون وربّ الكعبة. فجلس ثمّ قال : يا معشر الأنصار إنّ الله عزوجل قد أثنى عليكم فما الّذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟

فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاث ، ثم نتبع الأحجار الماء.

فتلا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) بنيان دينه (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) على قاعدة محكمة ، هي التقوى من الله تعالى وطلب مرضاته بالطاعة (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلّها بقاء ، وهو الباطل. والشفا : الشفير. وجرف الوادي : جانبه الّذي يتحفّر أصله بالماء وتجرفه السيول ، فيبقى واهيا. والهار : الهائر الّذي أشفى على السقوط والتهدّم. ووزنه فعل ، قصر عن هائر ، كخلف من خالف. ونظيره : شاك وصات في شائك وصائت. وألفه ليس بألف فاعل. وأصله : هور وشوك وصوت.

ولمّا جعل الجرف مجازا عن الباطل قال : (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) يوقعه ذلك البناء ويؤدّي به ـ لخوره (١) وقلّة استمساكه ـ إلى السقوط في النار. وإنّما وضع شفا الجرف ـ وهو ما جرفه الوادي الهائر ـ في مقابلة التقوى ، تمثيلا لما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان وسرعة الانطماس ، ثمّ رشّحه بانهياره به في النار ، فكأنّ المبطل أسّس بنيانا على شفير جهنّم فطاح به في قعرها. ووضعه في مقابلة الرضوان ، تنبيها على أنّ تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار ، ويوصله إلى رضوانه تعالى ومقتضياته الّتي الجنّة أدناها ، وتأسيس هذا على ما هم بسببه على

__________________

(١) خار خورا : فتر وضعف وانكسر.

١٦٨

صدد الوقوع في النار ساعة فساعة ، ثمّ إنّ مصيرهم إلى النار لا محالة.

وقرأ نافع وابن عامر : اسّس على البناء للمفعول. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر : جرف بالتخفيف.

وملخّص معنى الآية : أنّ الله تعالى شبّه بنيانهم على نار جهنّم بالبناء على جانب نهر هذا صفته ، فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فإنّه ينهار بناؤه في الماء ولا يثبت ، فكذلك بناء هؤلاء ينهار ويسقط في نار جهنّم. يعني : أنّه لا يستوي عمل المتّقي وعمل المنافق ، فإنّ عمل المؤمن المتّقي ثابت مستقيم مبنيّ على أصل صحيح ثابت ، وعمل المنافق ليس بثابت ، بل واه ساقط.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى ما فيه صلاح ونجاة. روي عن جابر بن عبد الله أنّه قال : رأيت المسجد الّذي بنى ضرارا يخرج منه الدخان.

(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) أي : بناؤهم الّذي بنوه. مصدر أريد به المفعول.

وليس بجمع ، ولذلك قد تدخله التاء ، ووصف بالمفرد ، وأخبر عنه بقوله : (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي : شكّا ونفاقا. والمعنى : أنّ بناءهم هذا لا يزال سبب شكّهم وتزايد نفاقهم ، فإنّه حملهم على ذلك ، ثمّ لمّا هدمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد ، بحيث لا يزول وسمه (١) عن قلوبهم. (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قطعا ، وتفرّق أجزاء بحيث لا يبقى لها قابليّة الإدراك والإضمار ، وحينئذ يسلون عنه. وهذا في غاية المبالغة. والاستثناء من أعمّ الأزمنة.

وقيل : المراد بالتقطّع ما هو كائن بالقتل ، أو في القبر ، أو في النار. وقيل : التقطّع بالتوبة ندما وأسفا.

وقرأ يعقوب : إلى ، بحرف الانتهاء ـ وروي ذلك عن الصادق عليه‌السلام ـ و «تقطّع» بمعنى : تتقطّع. وهو قراءة ابن عامر وحمزة وحفص.

__________________

(١) أى : علامته.

١٦٩

(وَاللهُ عَلِيمٌ) بنيّاتهم (حَكِيمٌ) فيما أمر بهدم بنيانهم.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))

ولمّا تقدّم ذكر المؤمنين والمنافقين عقّب سبحانه بالترغيب في الجهاد ، فقال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) عبّر سبحانه عن إثابتهم بالجنّة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالاشتراء ، وجعل الثواب ثمنا ، وأعمالهم الحسنة مثمنا ، تمثيلا لإثابته إيّاهم الجنّة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله. عن الصادق عليه‌السلام : «ليس لأبدانكم ثمن إلّا الجنّة ، فلا تبيعوها إلّا بها».

(يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) استئناف ببيان ما لأجله الشراء.

وقيل : «يقاتلون» في معنى الأمر. وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المبنيّ للمفعول.

وقد عرفت أنّ الواو لا توجب الترتيب ، وأنّ فعل البعض قد يسند إلى الكلّ.

(وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) مصدر مؤكّد لما دلّ عليه الشراء ، فإنّه في معنى الوعد ، يعني : أنّ الوعد الّذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ

١٧٠

وَالْقُرْآنِ) أي : وعدا مذكورا فيهما كما أثبت في القرآن (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) مبالغة في الإنجاز ، وتقرير لكونه حقّا ، أي : لا أحد أوفى بعهده من الله ، لأنّ الخلف قبيح لا يقدم عليه كريم ، فكيف بالكريم الغنيّ الّذي لا يجوز عليه فعل القبيح؟! (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) فافرحوا به غاية الفرح ، فإنّه أوجب لكم عظائم المطالب ، كما قال : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ولا ترغيب في الجهاد أحسن وأبلغ منه.

ثمّ وصف الله تعالى المؤمنين الّذين اشترى منهم الأنفس والأموال بأوصاف جليلة ونعوت جميلة ، فقال : (التَّائِبُونَ) رفع على المدح ، أي : هم التائبون الراجعون إلى طاعة الله ، والمنقطعون إليه ، النادمون على ما فعلوه من القبائح.

والمراد بهم المؤمنون المذكورون. ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : التائبون من أهل الجنّة وإن لم يجاهدوا ، لقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) (١). أو خبره «العابدون» أي : التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال.

(الْعابِدُونَ) الّذين عبدوا الله مخلصين له الدين (الْحامِدُونَ) لنعمائه ، أو لكلّ ما أصابهم من السرّاء والضرّاء (السَّائِحُونَ) الصائمون ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سياحة أمّتي الصوم».

شبّهوا بذوي السياحة في الأرض من حيث إنّ الصوم يعوق عن الشهوات كالسياحة ، أو لأنّه رياضة نفسانيّة يتوصّل بها إلى الاطّلاع على خفايا الملك والملكوت ، أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم ، أو الّذين يسيحون في الأرض فيعتبرون بعجائب الله. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) في الصلاة.

(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالإيمان والطاعة (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الشرك والمعاصي. والعاطف فيه للدلالة على أنّه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة ، كأنّه قال : الجامعون بين الوصفين. وأمّا العاطف في قوله تعالى :

__________________

(١) الحديد : ١٠.

١٧١

(وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي : فيما بيّنه وعيّنه من الحقائق والشرائع ، فللتنبيه على أنّ ما قبله مفصّل الفضائل وهذا مجملها. وقيل : للإيذان بأنّ التعداد قد تمّ بالسابع ، من حيث إنّ السبعة هو العدد التامّ عندهم ، والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ، ولذلك سمّي واو الثامنة.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل. ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أنّ إيمانهم دعاهم إلى ذلك ، وأنّ المؤمن الكامل من كان كذلك. وحذف المبشّر به للتعظيم ، كأنّه قيل : وبشّرهم بما يجلّ عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام.

روى أصحابنا أنّ هذه صفات الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، لأنّه لا يكاد يجمع هذه الأوصاف على تمامها وكمالها غيرهم.

ولقي الزهري عليّ بن الحسين عليهما‌السلام في طريق الحجّ فقال له : تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحجّ ، والله سبحانه يقول : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية. فقال عليه‌السلام : «أتمّ الآية الاخرى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ...) إلى آخرها ، ثمّ قال : إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ».

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))

روي أنّ المسلمين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تستغفر لآبائنا الّذين ماتوا في

١٧٢

الجاهليّة؟ فأنزل الله سبحانه : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) أي : لا ينبغي لنبيّ ولا لمؤمن أن يطلب المغفرة ويدعو للكافر ، ولا يصحّ ذلك في حكم الله سبحانه. وهذا القول أبلغ من أن يقال : لا ينبغي للنبيّ ، لأنّه يدلّ على قبحه وأنّ الحكمة تمنع منه ، فلو قال : لا ينبغي ، لم يدلّ على أنّ الحكمة تمنع منه ، وإنّما كان يدلّ على أنّه لا ينبغي أن يختاره. فمعناه : لم يجعل الله في دينه ولا في حكمه أن يستغفروا للمشركين.

(وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أقرب الناس إليهم في النسب ، ودعتهم رقّة القرابة وشفقة الرحم إلى الاستغفار لهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي : من بعد أن يعلموا أنّهم ماتوا على الشرك ، فهم مستحقّون للخلود في النار ، ويظهر أنّ لهم عذابا عظيما.

ثمّ بيّن سبحانه الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا ، سواء كان أباه الّذي ولده كما قالت العامّة ، أو جدّه لأمّه أو عمّه على ما رواه أصحابنا ، فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها) أي : لم يكن استغفاره له إلّا صادرا عن موعدة وعدها إبراهيم (إِيَّاهُ) وهو قوله : لأستغفرنّ لك. ومعناه : لأطلبنّ لك التوفيق للإيمان الّذي هو سبب الإيمان الّذي يجبّ ما قبله. ويدلّ عليه قراءة الحسن : وعدها أباه. وقيل : صاحب الموعدة أبوه ، فإنّه وعد إبراهيم أنّه يؤمن إن استغفر له ، فاستغفر له لذلك.

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) أي : أنّه مات مشركا ، أو أوحي إليه بأنّه لا يفي بما وعد ولن يؤمن (تَبَرَّأَ مِنْهُ) وترك الدعاء له. والقول الأوّل مرويّ عن ابن عبّاس ، ومنقول عن أبي جعفر عليه‌السلام.

والثاني مرويّ عن مجاهد وقتادة. (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) يكثر التأوّه. وهو كناية عن فرط ترحّمه ورقّة قلبه. (حَلِيمٌ) صبور على الأذى. والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع سوء خلقه معه ، واستماع قوله :

١٧٣

«لأرجمنّك» منه.

وعن ابن عبّاس : الأوّاه بمعنى الدّعاء الكثير الدعاء والبكاء. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وعن كعب : أنّ الأوّاه هو الّذي إذا ذكر النار قال : أوّه. وروى عبد الله بن شدّاد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : الأوّاه هو الخاشع المتضرّع.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)) روي : أنّ قوما من المسلمين ماتوا على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ، فقال المسلمون : يا رسول الله إخواننا الّذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟ فنزلت : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أي : ليسمّيهم ضلّالا ، ويؤاخذهم مؤاخذة الكفّار (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) للإسلام (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) حتّى يبيّن لهم حظر ما يجب اتّقاؤه ، فقبل بيان ذلك لا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا دليل على أنّ الغافل غير مكلّف. ولا يخفى أنّ المراد بما يتّقون ما يجب اتّقاؤه للنهي ، فأمّا ما يعلم بالعقل ، كالصدق في الخبر وردّ الوديعة ، فغير موقوف على النقل. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم أمرهم في الحالين.

(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))

ولمّا منعهم عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى ، وتضمّن ذلك وجوب التبرّؤ عنهم رأسا ، قال بعد ذلك : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي

١٧٤

وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) ليبيّن لهم أنّ الله مالك كلّ موجود ، ومتولّي أمره والغالب عليه ، ولا يتأتّى لهم ولاية ولا نصرة إلّا منه ، ليتوجّهوا بشراشرهم إليه ، ويتبرّءوا عمّا عداه ، حتّى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨))

ولمّا ذكر سبحانه أنّ له ملك السموات والأرض وما بينهما ، ولا متولّي ومعطي نعمة ولا ناصر لأحد دونه ، بيّن عقيبه رحمته بالمؤمنين ورأفته بهم في قبول توبتهم ، فقال : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) في ترك الأولى من إذن المنافقين في التخلّف قبل النهي عنه ، كقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (١) (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) وتاب عليهما في المأثم.

وقيل : هو بعث على التوبة. والمعنى : ما من أحد إلّا وهو محتاج إلى التوبة ، حتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار ، لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) (٢)

__________________

(١) التوبة : ٤٣.

(٢) النور : ٣١.

١٧٥

إذ ما من أحد إلّا وله مقام يستنقص دونه ما هو فيه ، والترقّي إليه توبة من تلك النقيصة ، وإظهار لفضلها بأنّها مقام الأنبياء والصالحين من عباده.

وقال في المجمع (١) والجامع (٢) : «إنّما ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استفتاحا باسمه ، ولأنّه سبب توبتهم ، وإلّا فمن المعلوم أنّه لم يكن منه ما يوجب التوبة. ويؤيّده أنّ الرضا عليه‌السلام قرأ : لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار.

(الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) في وقتها. وقد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق ، كما تستعمل الغداة والعشيّة في اليوم. والمراد بالعسرة حالهم في غزوة تبوك ، فإنّهم كانوا في عسرة المركب ، حتّى يعتقب العشرة على بعير واحد.

وفي عسرة الزاد ، فإنّ زادهم الشعير المسوّس (٣) والتمر المدوّد. وبلغت الشدّة بهم حتّى قيل : إنّ الرجلين كانا يقتسمان التمرة ، ربّما مصّها جماعة ليشربوا عليها الماء.

وفي عسرة من الماء في حمارّة (٤) القيظ والضيق الشديد من القحط ، حتّى شربوا الفظّ ، وهو ماء الكرش (٥).

(مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) عن الثبات على الجهاد واتّباع الرسول في تلك الغزوة. ولم يرد بالزيغ هاهنا الزيغ عن الإيمان. وفي «كاد» ضمير الشأن أو ضمير القوم. والعائد إليه الضمير في «منهم». وقرأ حمزة وحفص : يزيغ بالياء ، لأنّ تأنيث القلوب غير حقيقيّ. قيل : إنّ قوما منهم همّوا بالانصراف عن غزاتهم بغير استئذان ، فعصمهم الله تعالى حتّى مضوا.

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٨٠.

(٢) جوامع الجامع ١ : ٦٣٥.

(٣) المسوّس أي : الذي وقع فيه السوس. وهو دود يقع في الثياب والشعير والخشب ونحوها.

(٤) الحمارّة : شدّة الحرّ.

(٥) الكرش : هي لذي الخفّ وكلّ حيوان مجترّ بمنزلة المعدة للإنسان.

١٧٦

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتأكيد ، وتنبيه على أنّه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تداركهم برأفته ورحمته.

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ) وتاب الله على الثلاثة. وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أميّة ، ومرارة بن الربيع. (الَّذِينَ خُلِّفُوا) تخلّفوا عن الغزو ، أو خلّف أمرهم ، فإنّهم المرجون (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي : برحبها ، لإعراض الناس عنهم بالكلّيّة. وهو مثل لشدّة الحيرة ، كأنّهم لا يجدون في الأرض موضع قرار (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) قلوبهم من فرط الوحشة والغمّ بحيث لا يسعها أنس وسرور (وَظَنُّوا) وعلموا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ) من سخطه (إِلَّا إِلَيْهِ) إلّا إلى استغفاره.

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد اخرى (لِيَتُوبُوا) ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا ، أو ليتوبوا أيضا في المستقبل إن فرطت منهم خطيئة.

أو المعنى : رجع عليهم بالتوفيق للتوبة ليتوبوا ، أو أنزل قبول توبتهم ، أو سهّل الله عليهم التوبة ليتوبوا. (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرّة (الرَّحِيمُ) المتفضّل عليهم بالنعم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩))

ثمّ خاطب سبحانه المؤمنين المصدّقين بالله المقرّين بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) فيما لا يرضاه (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في إيمانهم وعهودهم ، أو في دين الله نيّة وقولا وعملا ، أي : في توبتهم وإنابتهم ، فيكون المراد به هؤلاء الثلاثة وأضرابهم.

١٧٧

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

ولمّا قصّ الله سبحانه قصّة الّذين تأخّروا عن الخروج مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك ، ثمّ اعتذارهم عن ذلك وتوبتهم منه ، وأنّه قبل توبة من ندم على ما كان منه ، لرأفته بهم ورحمته عليهم ، ذكر عقيب ذلك على وجه التوبيخ لهم والإزراء على ما كانوا فعلوه ، فقال : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) عن حكمه. نهي عبّر عنه بصيغة النفي للمبالغة. (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) لا يصونوا أنفسهم عمّا لم يصن رسول الله نفسه عنه ، ويكابدوا ما يكابده من الأهوال.

روي أنّه كان أبو خيثمة عبد الله بن خيثمة تخلّف إلى أن مضى من مسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرة أيّام ، ثمّ دخل يوما على امرأتين له في يوم حارّ في عريشين لهما ، قد رشّتاهما وبرّدتا الماء ، وهيّأتا له الطعام. فقام على العريشين ، وقد بلغ بستانه ، فيأكل منه الرطب ويشرب الماء البارد ، فنظر فقال : ظلّ ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع أنّه قد غفر الله له ما

١٧٨

تقدّم من ذنبه وما تأخّر ـ في الضحّ (١) والريح والحرّ والغزو ، يحمل سلاحه على عاتقه ، وأبو خيثمة في ظلال بارد وطعام مهيّأ وامرأتين حسناوين ، ما هذا بالنصف. ثمّ قال : والله لا أكلّم واحدة منكما كلمة ، ولا أدخل عريشا حتّى ألحق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فأناخ ناضحه واشتدّ عليه وتزوّد وارتحل ، وامرأتاه تكلّمانه ولا يكلّمهما. ثم سار حتّى إذا دنا من تبوك ، قال الناس : هذا راكب على الطريق.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كن أبا خيثمة. فلمّا دنا قال الناس : هذا أبو خيثمة يا رسول الله.

فأناخ راحلته وسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أولى لك. فحدّثه الحديث ، فقال له خيرا واستغفر له.

(ذلِكَ) إشارة إلى ما دلّ عليه قوله : «ما كان» من النهي عن التخلّف أو وجوب المشايعة (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنّهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش (وَلا نَصَبٌ) تعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) مجاعة (فِي سَبِيلِ اللهِ) في الجهاد تقرّبا إلى الله (وَلا يَطَؤُنَ) ولا يدوسون بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم (مَوْطِئاً) وطأ ، أو مكان وطء (يَغِيظُ الْكُفَّارَ) يغضبهم وطؤهم ، ولا يتصرّفون في أرضهم تصرّفا يضيق صدورهم (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) كالقتل والأسر والنهب (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) إلّا استوجبوا به الثواب ، وذلك ممّا يوجب المشايعة (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم. وهو تعليل لـ «كتب» ، وتنبيه على أنّ الجهاد إحسان. أمّا في حقّ الكفّار ، فلأنّه سعي في تكميلهم بأقصى ما يمكن ، كضرب المداوي للمجنون. وأمّا في حقّ المؤمنين ، فلأنّه صيانة لهم عن سطوة الكفّار واستيلائهم.

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) ولو تمرة (وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) في

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «الضحّ : ضوء الشمس إذا استمكن في الأرض. منه».

١٧٩

مسيرهم. وهو كلّ منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل. وهو في الأصل اسم فاعل من : ودى إذا سال ، فشاع بمعنى الأرض ، أي : ولا يسيرون أرضا في ذهابهم ومجيئهم (إِلَّا كُتِبَ) أثبت ذلك (لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) متعلّق بـ «كتب» أي : أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء بذلك (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أحسن جزاء أعمالهم.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢))

ولمّا تقدّم الترغيب في الجهاد بأبلغ أسباب الترغيب ، وتأنيب من تخلّف عنه بأبلغ أسباب التأنيب ، بيّن موضع الرخصة في تأخّر من تأخّر عنه ، فقال : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) اللام لتأكيد النفي ، أي : وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم ، كما لا يستقيم أن يتثبّطوا جميعا ، فإنّه يخلّ بأمر المعاش وانتظام العالم غالبا. ولو صحّ وأمكن خروج الجميع ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب على الكافّة ، لأنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم.

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) فهلّا نفر من كلّ جماعة كثيرة ـ كقبيلة أو أهل بلدة ـ جماعة قليلة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ليتكلّفوا الفقاهة فيه ، ويتحمّلوا مشاقّ تحصيلها (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم وإنذارهم. وتخصيصه بالذكر لأنّه أهمّ. وفيه دليل على أنّ التفقّه والتذكير من فروض الكفاية ، وأنّه ينبغي أن يكون غرض المتعلّم فيه أن يستقيم ويقيم ، لا الترفّع على الناس ، والتبسّط في البلاد ، والترأّس فيهم ، والتشبّه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم. (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إرادة أن يحذروا عمّا ينذرون منه.

واستدلّ به على أنّ أخبار الآحاد حجّة ، لأنّ عموم كلّ فرقة يقتضي أن ينفر

١٨٠