رسائل آل طوق القطيفي - ج ١

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

لكلّ منهما ومظهراً له عن الآخر ، وما يحكم عليه شي‌ء أو يظهره ويبيّنه غيره ليس بصانع غير مصنوع ، ولا غنيّ بذاته ، ولا واحد من كلّ وجه ، بل له جهة يشبهه بها غيرُه ، وجهة يمتاز بها عن المثل ، فيكون مركّباً لا واحداً ، وبمعنى أنه ليس له جزء يغاير جزءاً ، فليس ذو الأجزاء بواحدٍ.

وأيضاً يفتقر كلّ من الأجزاء إلى ما يميّزه عن الآخر. وهكذا ، فيكون مميّزات لا تحصى ، فلا يُعرف الخالق من غيره.

وأيضاً يفتقر حينئذٍ إلى ما يلائم ويركّب كلّاً من الجزأين مع الآخر ، والفقير محكوم عليه ، فليس هو صانعاً غير مصنوع ، ولا واحداً حقيقيّا.

ولا تتوهّم أن وحدة الواجب تعالى عدديّة ، بمعنى أنه واحد ، أي واحد بالعدد ، فإن جميع الأعداد ملك له ، فلا يكون هو أحدها.

وأيضاً لو كان وحدته بمعنى العدد لكان له شبهٌ ؛ إذ الواحد بالعدد كثير فيه استخدام (١) ، فتفطّن. وقد عرفت بالدليل أنه منزّه عن الشبه ، فإذا عرفت هذا علمت أنه تعالى ليس له شريك ؛ إذ المشاركة تقتضي المشابهة والمماثلة.

وأيضاً لو كان له شريك ؛ فإمّا أن يكون كلّ منهما قادراً على العلم والإحاطة بحقيقة الآخر وعلى قهره ومنعه عمّا يريد ، [ أو (٢) ] لا. فعلى كلا الوجهين يكون كلّ منهما مقهوراً عاجزاً عن دفع النقص والغلبة له والعجز عن نفسه ، فليس بواجب الوجود ولا قاهرٍ غير مقهور. وإن كان أحدهما قادراً على ذلك دون الآخر فهو واجب الوجود بلا شريك ولا مثل ، دون الآخر ، لعجزه.

وأيضاً لو كان له شريك لكان له مثل ، وقد عرفت استحالته.

وأيضاً المشاركة تقتضي مشتركاً فيه وإلّا فلا شريك. والمشترك فيه ؛ إمّا أن يكون حقيقة الذات [ أو (٣) ] صفاتها الذاتيّة ، وهذا يرجع إلى المشابهة المنفيّة بالدليل ، أو إلى

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) في المخطوط : ( أم ).

(٣) في المخطوط : ( و ).

٤١

كون ما فرض اثنين واحداً من كلّ وجه ، وهو بخلاف المفروض.

وإمّا في الخلق ، وهذا يقتضي أيضاً المشابهة في الذات ؛ لأن كلّاً منهما حينئذٍ خالق ، فتتماثل حقيقتهما ، وهو محال. وفي الصفة كما هو ظاهر ؛ لأن كلّاً منهما متّصف بالخالقيّة ، وتقتضي أن يمتاز خلق كلّ منهما عن الآخر ورسله وآياته ، فإن العاجز عن تمييز خلقه لا يكون واجب الوجود ولا واحداً في كلّ وجه ، بل يكون مركّباً من جهة عجز وجهة قدرة ، وقد عرفت أنه محال ، بل فيه جزء عدميّ حينئذٍ ، ومحال أن يكون في الواجب تعالى عدم ؛ لأنه نقص وتركيب وتشبيه ، والكلّ محال.

وأيضاً نظرنا في هذا الخلق فوجدناه مرتبطاً بعضه على بعض ، فهو كالشي‌ء الواحد الذي له أجزاء ، فعلمنا أنه صنع واحد ، ولم نجد صنعاً آخر ولا خلقاً يباين هذا ، فعلمنا أنه سبحانه ليس له شريك ولا شبه.

وأيضاً لمّا علمنا أن النواة تكون شجرة وتُنتَج من الشجرة ، والنطفة تكون إنساناً والإنسان يُنتج (١) النطفة ، والنبات يكون تراباً ، وبالعكس ، علمنا (٢) أنها مدبّرة لعليم حكيم قاهر حيّ واحد ، وأن ليس لطبائع الأشياء في تدبيرها وتكوينها مدخل ، بل هي مدبّرة على وجه لا أتقن ولا أضبط منه ، وأنه ليس له مثل في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله ، ولا شريك ، فهو الواحد وحده.

في كونه تعالى حيّاً

إذا عرفت هذا عرفت أن الصانع لما سواه لا بدّ أن يكون حيّاً ، لأنه خالق الحياة ومحيي الموتى ، كما هو مشاهد في الحيوان والنبات وغيرهما ، ولا يمكن أن تصدر الحياة عن الميّت ؛ لأنه عدم والحياة وجود ، ولا يصدر الوجود من العدم ، ولأن الحياة والوجود ضد الموت والعدم ، ولا يمكن صدور الضدّ من الضدّ ؛ إذ لا يصدر الظلمة من محض النور ولا العكس. فثبت أيضاً أنه ليس لله تعالى ضدّ ، لأنه لو كان له ضدّ

__________________

(١) في المخطوط بعدها : ( من ).

(٢) في المخطوط : ( وعلمنا ).

٤٢

لكان من خلقه ؛ لما ثبت من نفي الشريك والشبه عنه تعالى ، ومحال أن يضادّ المخلوق خالقه ، وإلّا لما كان خالقه.

وأيضاً المضادّة ممانعة ومغالبة ومقاومة ، ومحال أن يكون لواجب الوجود تعالى ممانع أو مغالب أو مقاوم ؛ لأن ذلك يقتضي عجزه وعدم عموم قدرته ، وهذا ينافي وحدته الحقيقية ، لأنه يقتضي أن يكون فيه جهة قدرة وجهة عجز ، وكلّ متجزّئ مركّب مخلوق ، وأنه تعالى عالم بكلّ شي‌ء ، لأن ما سواه خلقه ، ومن المحال أن يخلق ما لا يعلم ؛ إذ كلّ صانع يعلم صنعته قبل أن يصنعها ، وإلّا لما صنعها ؛ إذ محال أن يصنع ما لا يعلمه ، فهو عالم بصنعه قبل أن يصنعه وحال صنعه وبعد صنعه.

وأنه تعالى قادر على ما يريد ؛ إذ من المحال أن يخلق ما لا يقدر عليه ، فمن عجز عن صنعة لم تصدر عنه بالضرورة ، فكلّ ما سواه في قبضته وتحت قهره.

وأنه تعالى غنيّ عمّا سواه ، وكلّ ما سواه مفتقر إليه. أمّا الأوّل فلأنه لو افتقر إلى غيره لكان ناقصاً ، وكان الغير أكمل وأغنى منه ولو في جهة ، وكان له تعالى شبه ، لأن المفتقر إلى غيره كثير ، وكان مفتقراً إلى خلقه ، ومحال أن يفتقر الخالق إلى المخلوق ، لأن ما سواه خلقه ، وكان مركّباً من جهة فقر وجهة غنى ، وكلّ مركّب مفتقر إلى من يركّبه ، فكلّ مركّب مخلوق.

وأمّا أن كلّ ما سواه مفتقر إليه فلأنّ كلّ ما سواه خلقه وكلّ مخلوق مفتقر إلى خالقه ؛ إذ لو استغنى المخلوق عن الخالق لأشبهه في الغنى والله لا يشبهه شي‌ء ، والخلق محال أن يشبه الخالق ، وإلّا لما كان فعلاً له وخلقاً ، ولا كان الخالق خالقاً وفاعلاً. وعرفت أنه تعالى حكيم لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم ، لأنه تعالى عالم بالأصلح وقادر عليه وغنيّ عن الظلم.

ولأنا لو فكّرنا في أنفسنا وفي جميع المخلوقات لوجدنا تدبير الصنع والخلق من ابتدائه إلى انتهائه متّسقاً ، منتظماً ، محكماً ، متقناً ، مرتبطاً بعضه ببعض. وبيان بعض حكم خلق الإنسان أو غيره يطلب من كلام أهل العصمة عليهم‌السلام ، فإن هذه الرسالة لا تسعة.

٤٣

إذا عرفت أنه تعالى واحد لا شريك له ولا شبه ، وأنه تعالى غنيّ بذاته عمّن سواه ، عالم بكلّ شي‌ء قادر على كلّ مقدور حكيم ، عرفت أنه تعالى خلق الخلق باختياره ، فليس هو تعالى بمضطرّ إلى فعله وخلقه ولا مجبور ، ولا أن فعله بالطبع ، بل طبق حكمته ، لأنه موصوف بكلّ كمالٍ ، لأنه مفيض كلّ خير وواهبه ، فهو أولى به ؛ لأن من لا يعرف الكتابة لا يقدر أن يعلّمها غيره.

ونحن علمنا من أنفسنا أنا نفعل أفعالنا باختيارٍ منّا ، ونعلم أن ليس صدور أفعالنا منّا ، كفعل القدوم في يد النجار يجبره على القطع والنجر ، ولا كفعل النار في إحراقها ، والماء في ترطيبه ما يلاقيه ، فإن ذلك فعل بالقسر والطبع. ونعلم أن الفعل الاختياري أفضل وأشرف من القسري والطبيعي ، فوجب أن نعلم أن فعل العالِم بكلّ شي‌ء القادر على كلّ شي‌ء ليس كقطع المنشار ، ولا كإحراق النار ، فإن كلّاً منهما يفعل فعله بغير علم به ولا شعور ، ولا إرادة له ولا مشيئة ، فإنه نقص يجب أن ينزّه عنه البارئ تعالى.

وأيضاً ذلك يقتضي أن يكون في خلقه من يجبره على فعله أو يركّب فيه طبيعةً تقتضي الفعل ؛ إذ ليس في الوجود إلّا الله وخلقه ؛ إذ لا يمكن أن يكون شي‌ء ليس بخالق ولا مخلوق ، لأنه إذا كان واجب الوجود لا بدّ أن يكون خالقاً ، وإلّا كان مخلوقاً.

وأيضاً فعل القدوم والنار لا يوصف بأنه كرمٌ وجُودٌ ، وفعل الله لا بدّ وأن يكون كرماً وجُوداً ، وإلّا لم يكن جواداً فيتّصف بالنقص ، تعالى.

وأيضاً خلق الاختيار للإنسان فلا بدّ أن يوصف به ، وإلّا لم يكن خالقه ؛ إذ لا يجود الشي‌ء إلّا بما يقدر عليه.

٤٤

الفصل الثاني

في العدل

اعلم أنك إذا عرفت هذا كلّه عرفت أنه يجب تنزيهه تعالى عن كلّ نقصٍ ، فإن الواحد بالمعنى الذي عرفت ، العليم بكلّ شي‌ء ، القادر على كلّ شي‌ء ، الحكيم الذي لا يشبهه شي‌ء ، لا يمكن أن يلحقه نقص بوجهٍ أصلاً ، خصوصاً الظلم ، فإن الناقص عاجز عن تكميل نفسه ، وإلّا لما رضي لنفسه بالنقص.

وأيضاً الظلم لا يفعله إلّا مَن إذا أراد شيئاً عجز عنه إلّا بطريق الظلم ؛ إذ من البيّن أن القادر على تحصيل مطلوبه بغير الظلم لا يرتكبه ؛ لدناءته وخسّته فلا يرضاه لنفسه مع قدرته على غيره ، فالعليم الحكيم القادر لا يفعل الظلم.

وأيضاً الظلم والنقص [ يقتضيان (١) ] أن المتّصف [ بهما (٢) ] مركّب من جهة شرّ ومن جهة خير ، ويقتضي أن يكون له مثل لوجود الناقص الظالم ، ومن أقبح الظلم وأشدّه أن يجبر عبده على فعل شي‌ء ثمّ يعذّبه على فعله ؛ لأن ذلك ينافي حكمته وعلمه وقدرته وعدله. فلو أن أحداً قطع بسكّين شيئاً ثمّ كسرها لأجل أنها قطعته بغير شعورها ورضاها ، بل بفعله هو بها ، عدّه العقلاء جاهلاً أحمقَ عاجزاً ظالماً ؛ فثبت أنه تعالى لا يجبر العبد على فعل المعصية ولا يخلقها فيه ثمّ يعذّبه عليها ؛ لأنه

__________________

(١) في المخطوط : ( يقتضي ).

(٢) في المخطوط : ( به ).

٤٥

ظلم وجهل ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

ولكنّه تعالى لمّا كان جواداً حكيماً غنيّاً بذاته ، منّ على خلقه بأن أوجدهم من العدم وأخرجهم إلى الوجود من غير حاجةٍ منه لهم ، ولكن ليعرفوه ويوحّدوه ويعبدوه لينالوا منه ، وليتفضّل عليهم بالبقاء الدائم والوجود الذي لا يفنى ، والخير الذي لا ينقطع ، وهذا لا يمكن إدراكه إلّا بمعرفته تعالى وعبادته ، لأنه لا يمكن أن يكون في الدنيا ، لأنها ذائبة مضمحلّةٌ أبداً ، ومرجعها إلى الفناء والانقطاع ، كما هو مشاهد من حالها.

فخلقَ سبحانه وتعالى بني آدم مختارين ، بمعنى أن لهم القدرة على الفعل والترك والطاعة والمعصية ، كما يشاهده الإنسان في غيره ويحسّ به ويدركه من نفسه. ولو لم يكونوا كذلك لما تحقّقت منهم الطاعة والمعصية ، وتميّزت كلّ منهما عن الأُخرى ؛ فإنك تعلم بالضرورة أن السكّين والمنشار إذا قطع بهما شي‌ء لا يصحّ نسبة الطاعة لهما ولا المعصية ، فإنهما مجبوران على القطع.

وكذلك لو وقف إنسان على آخر بسيف وهو جبّار متسلّط وألزمه بأكل شي‌ء أو يقتله ، فإن المضطرّ المجبور لا تصحّ نسبة الطاعة إليه ، وكذا لو ألقيت شيئاً في النار فأحرقته [ فإنها ] لم تعدّ طائعة ، ولو لم تحرقه لم ينسب لها أحد من العقلاء المعصية ؛ لأن إحراقها بالطبع لا بالشعور والقصد ، والطاعة والمعصية إنما تتحقّق ممّن له شعور وقصد إلى ما يفعله من غير جبر ولا إلجاء إذا كان قادراً على فعله وتركه واختار هو أحد الأمرين بنفسه وإرادته.

٤٦

الفصل الثالث

في النبوّة

الغرض من بعثة الأنبياء

اعلم [ أنه ] لمّا خلق الله تعالى البشر كذلك ، وقد أخرجهم من بطون أُمّهاتهم لا يعلمون شيئاً ولا يدرون ماذا يريد منهم خالقهم ، ولا ما يقرّبهم لرضاه أو يبعدهم منه ، ولم يخلقهم لهذه الدنيا ، لأنها فانية منقطعة ، ولا يناسب جناب القدّوس والرحمة ، الحكيم القادر العليم أن يخلق خلقه ليبقوا مدّة يسيرة ثمّ يفنوا ، خصوصاً (١) هذه الدار ، أعني : دار النكد والبليّات والمحن والآفات.

فإذن إنما خلقهم للبقاء الدائم والراحة الأبديّة وليدوم جوده (٢) وفضله ونعمه عليهم. وهذا لا يمكن كونه في الدنيا لفنائها وانقطاعها.

فثبت أن لله داراً غير هذه ، هي التي لا تزول ولا تفنى ، ولكنّها لا تدرك ولا يوصل إليها إلّا بالعلم بالله وصفاته وأفعاله ، وبأعمال مخصوصة ، والناس لا يعلمونها ، فوجب بمقتضى عدله وحكمته ورحمته أن يبعث لهم رسلاً مبشّرين ومُنذِرين يهدونهم لما يقرّبهم من رضوان الله ، يعرّفونهم ما يوجب سخط الله والبعد من رحمته.

__________________

(١) في المخطوط بعدها : ( و ).

(٢) في المخطوط : ( وجوده ).

٤٧

وهذه هداية النجدين ، أي الطريقين ؛ إذ لو لم يفعل بهم ذلك لكانوا يعملون ما يبعّدهم من رحمته تعالى وهم لا يشعرون ، بل لا يتحقّق منهم طاعة ولا معصية قبل التكليف والبيان ؛ إذ لا يصف عاقل مَن فعل فعلاً لم يؤمر بفعله ويبيّن له بأنه مطيع ، ولا مَن تركه بأنه عاصٍ ؛ لأن الطاعة والمعصية إنما هي بفعل المأمور به أو عدم فعله.

فإذن لا بدّ من بعثة رسول هادٍ ومعلّم لما يريد الله من عباده ، ممّا يقرّبهم إلى مرضاته وينالون به السعادة الأبديّة التي خُلِقوا ليمنّ الله عليهم بها ، وما يبعّدهم عن ذلك ويوجب لهم الشقاوة الأبديّة ، وناراً لا ينقطع عذابها أُعدّت للعاصين.

وأيضاً لمّا خلق الله البشر محتاجاً إلى معاون له في تحصيل معاشه الذي به يتمكّن من عبادة ربّه من حين يولد إلى حين يموت ، لأنه لا يعيش إلّا بالأغذية والأدوية والأشربة والملبس والمسكن والمنكح وغير ذلك ، وتحصيل ذلك لا يتمكّن منه واحد وحده ، فالناس مضطرّون إلى معاملة بعضهم بعضاً ومشاركة بعضهم بعضاً في تحصيل ذلك ، ولجهلهم لا يعرف كلّ واحد ما يخصّه وما لا يملكه ، فافتقروا إلى مَن يرشدهم لهداية الله إلى ما يحتاجون من ذلك ، ويحكم لهم وعليهم.

وأيضاً فما خلق الله بحكمته في الأرض من المعادن والنبات والحيوان ممّا فيه ضرر بالعقل أو بالبدن ، وقد [ .. (١) ] ما هو متمّ ومزكّ لهما والناس لا يعرفونه ، فلا بدّ من مرشد هادٍ إلى ذلك ، يحلّل ويحرّم ، حاكم مطاع.

وأيضاً النفوس طُبعت على حبّ الرئاسة والقهر والغلبة ، وعلى حبّ الاختصاص والانفراد بالمال وكلّ ما تهواه وتشتهيه ، فكلّ واحدٍ يجهد في تحصيل ما يمكنه [ الحصول ] عليه من الدنيا ، وهذا يقتضي التشاجر والتحارب والتخاصم. فافتقروا إلى مَن يحكم لهم وعليهم ويقهرهم ويردّ الظالم عن المظلوم ، ويأخذ للمجنيّ عليه بحقّه بهداية الله.

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

٤٨

وبيان حاجة الناس إلى الرسل لا تُحصى وجوهها ، فلو لم يبعث الله الرسل لخربت الدنيا في ساعة ، بل لم تعمّر ولا ساعة ، فلمّا كان الأمر كذلك وجب في حكمة الله تعالى أن يبعث الرسل حكّاماً على اممهم يُعلّمون الناس كلّ خير ورشاد من أُمور الدنيا والآخرة ، ويحذرونهم [ من (١) ] كلّ فساد ومهلك من أُمور الدنيا والآخرة.

اشتراط العصمة في النبيّ

ويجب أن يكون الرسول أكمل أُمّته وأشرفهم عقلاً وحسباً ونسباً ، وفي كلّ صفةٍ في كلّ حالاته ، فلا يجوز أن يكون في أُمّته مَن هو أشرف منه في صفة من الصفات ، أو حالة من الحالات ؛ لأن الله سبحانه وتعالى عليم حكيم قادر عدل ، كما عرفت. وتحكيم الناقص ولو بوجه واختياره للرسالة ولخلافة الله العامّة العظمى لا يكون إلّا لجهل بالأشرف وعدم علم به ، أو لعدم القدرة على اختيار الأشرف وإرساله ، أو لجهل المرسِل والمختار له بوضع الأشياء في غير مواضعها فليس بحكيم ، والله تعالى منزّه عن ذلك.

وأيضاً من المعلوم أن الأشرف أولى من غيره ، فاختيار غيره للرسالة ظلم ، والله سبحانه وتعالى عدل لا يجور.

وأيضاً الله تعالى قادر على أن يجعل رسله كذلك ، فإرساله ناقصاً ولو بوجه ينافي قدرته وحكمته وعلمه وعدله.

صفات النبيّ

ويجب أن يكون الرسول كامل العقل من حين الولادة ، لا يجري عليه ما يجري على سائر الأطفال من أُمور الجهل ونقص العقل ، وإلّا لاحتاج إلى معلّم بشري ،

__________________

(١) في المخطوط : ( عن ).

٤٩

فيكون حاكماً عليه ويكون أشرف منه ، مع أنه هو الحاكم على الكلّ وأشرفهم مطلقاً ؛ لأن حكومته عليهم وشرفه بذاته التي اصطفاها الله كذلك.

ولا بدّ أن يكون له قدرة على تلقّي الوحي ومشاهدة الملائكة ، وعلى إيصال معانيه إلى رعيته في جميع ما يحتاجون إليه ؛ إذ لا يطيق كلّ البشر مشاهدة الملائكة ولا سماع الوحي ؛ إذ لو شاهدوهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم. وكذا إذا تمّ الأجل ظهر ملك الموت ، فتزهق النفس شوقاً في السعيد وجزعاً في الشقي ، فيموت.

فوجب أن يكون الرسول له قوّة على ذلك ، ووجب أن يكون معصوماً من حين يولد إلى أن يموت وينتقل إلى دار الجزاء من جميع الذنوب صغائرها وكبائرها ، وعن جميع الرذائل ومذامّ الأخلاق والصفات القبيحة ، وعن كلّ ما ينافي المروءة وينافي كونه أشرف رعيته ولو بوجهٍ ؛ إذ لو لم يكن كذلك لساوى أُمّته في ذواتهم وفطرهم وطبائعهم وأخلاقهم ، فلا يستحقّ هو دونهم لأن يختاره العليم القادر الحكيم العدل للرسالة ، ويجعله حاكماً على غيره ، لأن ذلك ينافي اتّصاف الرسل بما ذكر.

وأيضاً لو لم تجده الرعية كذلك سقطت هيبته من قلوبهم ، فلم يقبلوا منه الأمر والنهي ولم يثقوا بخبره عن الله تعالى.

وأيضاً هو لا يصدّق حتّى تظهر منه المعاجز ، ولا تظهر المعاجز إلّا ممّن صفا وخلص من كلّ كدر في جميع حالاته ، ومَن لم يكن كذلك من حين الولادة فهو كدر مظلم القلب ، والرسالة نور لا يشرق إلّا في قلب صافٍ كمال الصفاء. انظر إلى نور السراج فإنك إذا وضعته في جسم كدر غليظ لم يظهر نوره ، بل يكتمه ويحجبه كالحجر والصفر والحديد وأشباهها ؛ [ إذ ] لو جعلتها مجوّفةً وأشعلت في باطنها سراجاً لم يظهر نوره وعدّك العقلاء أحمق ، بخلاف الجسم الصافي من الكدر والظلمة كالبلّور فإنه يستنير بالسراج ويضي‌ء لما حوله.

٥٠

وأيضاً لو لم يكن كذلك لاحتمل عليه الكذب ، وتعالى الله أن يوجب على الخلق طاعة مَن يمكن منه الكذب عليه ، و [ من ] يحكم [ بأن من (١) ] أطاعه أطاع الله. وكلّ من أمكن منه الكذب أمكن منه جميع المعاصي.

وأيضاً المعاصي ظلم ورذائل ، وتعالى الله عن أن يصطفي لرسالته مَن يصدر عنه نوع من الظلم في حين من الأحيان ؛ لمنافاة ذلك لكمال عدله وحكمته وعلمه وقدرته.

وأيضاً فالرسول مستودع سرّ الله تعالى وأمينه على وحيه وخليفته في خلقه ونائبه ووليّه على شرائعه وعلى هداية الخلق إليه ، ولهذا كانت طاعة الرسول طاعة الله تعالى حقيقة ، ومعصيته معصية الله حقيقة ، والأخذ منه وطلب الهداية منه أخذ من الله وطلب من الله حقيقة ، فإنه باب الله الذي فتحه برحمته لعباده ، وسبيله الذي لا يصل إليه غيره إلّا منه ، لضعفهم عن أن ينالوا ما عند الله بأنفسهم من غير واسطة ، كما ينال الرسول ما عنده بواسطة نفسه ، وإلّا لكانوا مثله فلم يحتاجوا إليه ، فيكون إرساله عبثاً ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

فإذا عرفت أنه باب الله الذي اختاره برحمته وفتحه لعباده لعلمه بأنه لا أكمل منه فيهم ، وأنه هو أهل ذلك ، فلا ينالون ما عنده إلّا بواسطته ، وأن أمرَه أمرُ الله ، ونهيه نهيه ، وطاعته طاعة الله ، ومعصيته معصيته ، ومحبّته محبّته ، وبغضه بغضه ، وأنه أمين الله وخليفته ومستودع سرّه ومهبط وحيه ، فاعرف من ذلك أن الاستغاثة [ به ] وطلب كشف الضرّ وتفريج الكرب [ منه ] طلب من الله تعالى واستغاثة بالله ، وأن دعوته دعوة الله ؛ لأن طلب حاجة من حاجات الدنيا ليس بأعظم من الهداية إلى سبل رضوان الله ، وقد ائتمنه الله على ذلك ، فكيف بحوائج الدنيا الخسيسة الدنية؟

ولا فرق في ذلك بين كونه حيّاً أو بعد وفاته ، فإن الذي ألبسه ثوب عزّه وقدرته ، وأظهر المعاجز على يده قبل كمال إبلاغ الرسالة لا يجوز عليه أن يسلبه ذلك العزّ

__________________

(١) في المخطوط : ( بمن ).

٥١

والشرف بعد أن يبلّغ رسالاته ويكابد المحن والأذى في تبليغها وهداية الخلق ؛ لأن ذلك ظلم ، بل يستحقّ المزيد من الله تعالى ويضاعِف [ له ] الكرامة. وليس بمستنكرٍ من قدرة الله تعالى الذي ألبسه ثوب قدرته ، وأقدره على ذلك وعلى الإتيان بالمعاجز العظام في حياته الدنيويّة أن يقدره على مثلها وهو عنده حيّ يرزق ، فإن الله ربّ الدنيا والآخرة ، وقد أقدر نبيّه على تناول ثمار الجنّة وهو في الدنيا (١) ، فلا عجب أن يقدره على إصلاح أمر من أُمور الدنيا بعد موته ، فإن الموت يقرّبه إلى كرامة الله لا يبعده ، وليس هو بإعدام له ، بل هو حيّ عند الله يرزق.

وقد كان يطّلع على ما أطلعه الله عليه من المغيّبات من أُمور الدنيا والآخرة ، وجعله مجاب الدعوة ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى بحال أبداً ، وإنما ينطق بأمر الله ، ويمسك بأمر الله ، ولا يشاء إلّا ما يشاء الله ، فهو يدور في جميع حركاته وسكناته على طبق حكمة الله وإرادته ، ولذا تارة يُشجّ رأسُه ويجوع فيصبر ، وتارة يهب الأُلوف وتهابه الأُلوف ، لأنه أشجع أهل زمانه وأكرمهم ، لأن الشجاعة والكرم من المكارم ، وهو أشرفهم في كلّ مكرمة فهو أشجعهم وأكرمهم.

ولا يدلّ صبره على الجراح في الحرب وعلى الجوع على عجزه عن كشف ذلك عن نفسه ومَن يحبّ ؛ إذ لو استلزم ذلك للزم نسبة العجز إلى قدرة الله ؛ لأن الله تعالى يعلم بما ينزل على أوليائه من أعدائه. ولا يقتضي عدم كشفه ودفعه أحياناً عدم قدرته ، بل لأن ذلك على قدر حكمته ومقتضاها ، والعباد لا يفعلون إلّا ما يؤمرون به منه ، فهو دليل على كمال شرفهم. ولو كان صبرهم يقتضي عجزهم لاقتضى أنهم ليسوا مجابي الدعوة على كلّ حال ، والبرهان دلّ على أنهم مجابو الدعوة على كلّ حال ، فصبرهم على الشدائد مع أنهم مجابو الدعوة دليل على أنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

وبالجملة أنه لمّا ثبت أن الله تعالى عليمٌ حكيمٌ قادرٌ ، ثبت أنه لا يختار لرسالته

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ٤٣ : ٤ ـ ٦ / ٢ ـ ٦.

٥٢

ولا يحمّلها إلّا مَن جعله كذلك ، وأنه نائبه وخليفته ونوره ، والحكيم بحكمة الله ، العالم بتعليم الله ، القادر بقدرة الله ، لا يخفى عليه شي‌ء من أُمور رعيّته وممّا استخلفه الله فيه ، وإلّا لم يكن مستخلفاً فيه ، ولا يعجز عن إصلاحهم في الدنيا وبعد الموت ، ولا يهمّ بالمعصية في حال أبداً ؛ لما يَعلم من شدّة خبثها وسوء عاقبتها ، وأنها تباعد من الله.

وأيضاً إذا كان لا تصدر عنه معصية في حال ، فإن الله لا يأمر إلّا بالعدل والإحسان. وأيضاً هو خليفة الله في جميع حالاته ، ولا يمكن أن يكون العاصي حال عصيانه خليفة الله ، ولا يمكن أن تصدر المعصية من خليفة الله في حال من أحواله. وأدلّة عصمة الرسل ممّا لا تحصى.

هذا ، وهم في أنفسهم قادرون على عمل الطاعة وتركها ، وعلى عمل المعصية وتركها ، فإنهم بشر ، وكلّ بشر قادر على ذلك تتحقّق منه الطاعة والمعصية ، فإن الذي لا يقدر على ترك ما يؤمر به لا يعدّ مطيعاً لو صدر منه ، كالحجر المُلقى من أعلى ، فإنه لا يقدر على الامتناع عن النزول ، فلا يعدّ مطيعاً ، والذي لا يقدر على الامتناع عمّا ينهى عنه لا يعدّ عاصياً كما هو ظاهر ، فلا تظنّ أن المعصوم مسلوب القدرة على ترك الطاعة وعلى فعل المعصية ؛ إذ لو كان كذلك لما كان له فخر وشرف يعلو به على سائر البشر ، فإن القدوم لا يوصف بالعصمة ولا يستحقّ جزاءً إذا قطع به النجّار ، ولا يعدّ له شرفاً.

وأيضاً سائر البشر يجد من نفسه القدرة على ذلك ، فكيف يكون رؤساء البشر لا يقدرون على ذلك ، وإلّا لكانوا أنقص من سائر البشر من تلك الجهة ، وهم سادات البشر من كلّ جهة ، فافهم ذلك.

٥٣
٥٤

الفصل الرابع

في الإمامة

إذا عرفت شدّة حاجة الخلق إلى الرسل المتّصفين بالعصمة بجميع محاسن الأخلاق ، والمنزّهين عن النقائص البشريّة وجميع مذامّ الأخلاق والصفات ، وأنهم يجب أن يكونوا بشراً من بني آدم ، لأن سائر البشر لا يستطيع معاينة الملائكة ولا سماع الوحي منهم ، ولأن المعلّم إذا كان من نوع المتعلّم ، والحاكم من نوع الرعية ، كان أمكن لهم في التعلّم منه وفهم مقاصده وقبول أمره ونهيه وأكمل [ للحجّة ] (١) عليهم ؛ حيث لا يستوحشون منه ولا يرهبونه ولا تنفر طبائعهم منه ومن خطابه ورؤيته ، لأنه من جنس خطابهم وهو من نوعهم ، فهم إن قبلوا منه كان قبولهم عن محض الاختيار الذي يدور عليه استحقاق الثواب والعقاب ، وإن أبوا كان محض اختيارهم أيضاً وخالص رضاهم في الأمرين ، فتكمل الحجّة لله.

وإذا كان بشراً جرت عليه أحكام البشريّة العامّة من مثل الصحّة والسقم والحياة والموت ، واستحقّ بأعماله الثواب الذي لا يمكن أن يكون في الدنيا لفنائها وكونها دار الكسب والعمل دون الجزاء ، فلا بدّ أن يموت ، فإذا مات وجب في حكمة الله ومقتضى جوده وقدرته ورحمته أن يقيم لعباده مَن يسدّ مسدّه في كلّ شي‌ء ، لأنه لا

__________________

(١) في المخطوط : ( الحجّة ).

٥٥

يجوز خلوّ زمانٍ من خليفة لله يقوم بحججه ، ويرشد الناس إلى ما يريده الله منهم ممّا يوجب السعادة الأبديّة ، ويحذّرهم عمّا يوجب الشقاوة الأبديّة ، وهو الحاكم الذي يقوم به عمارة الدنيا وتحصيل الآخرة. ولولاه لخربت الدنيا في أقلّ من ساعة ، بل لم تقم أصلاً كما عرفت ؛ إذ هو باب الله الذي لا يؤتى إلّا منه ، فلو عدم لانسدّ باب الجود والهداية ؛ لعدم تمكّن الخلق من قبولها ومعرفتها بدونه كما بيّنا لك.

فإذن يجب بمقتضى جُود الله ورحمته وعدله وحكمته أن يكون شخص معصوم في كلّ زمانٍ ؛ إذ ليس أهل زمانٍ أولى بوجوده في زمانهم من غيرهم ، لأنه المرجع الذي يحكم لهم بالحقّ في أمر الدين والدنيا ، ويُبطل الباطل ويُصَحّح الصحيح ، فلولاه لم يرتفع التشاجر والخلاف ، ولم يُعرف الحقّ من الباطل ؛ فإن كلّ واحد يقول : الحقّ معي ويلزم غيري موافقتي ، والميزان الذي توزن به الأفعال والأقوال هو المعصوم الذي لا ينطق إلّا عن الله وبأمره.

ولمّا وصلت النوبة إلى نبيّنا محمد : صلى‌الله‌عليه‌وآله واقتضت حكمة الله أن يكون خاتم الرسل وأنه لا نبيّ بعده ، وجب في الحكمة أن يختار الله له خليفة بعلمه كما اختاره هو من خلقه وجعله محلّ رسالته ، ولا بدّ أن يكون خليفته صفوة الخلق بعد الرسول : صلى‌الله‌عليه‌وآله وأشرفهم من كلّ وجهٍ ، كما أن الرسول : صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك.

ولمّا لم يجز في الحكمة أن يكون الرسول على قدر ما يختارونه البشر ويرضونه ، بل الله أعلم حيث يجعل رسالته ، كذلك لا يجوز ولا يمكن أن يكون خليفته باختيارهم ؛ لأن خليفة الرسول يجب أن يسدّ مسدّه من كلّ وجهٍ ، ولا يمكن أن يسدّ مسدّه في كلّ وجهٍ إلّا إذا كان معصوماً مثله ، مؤيّداً من الله ، مُسدّداً بإلهام الله ، عالماً بجميع ما يحتاج له الخلق ، ولا يجوز عليه الكذب بوجه ، ولا مذامّ الأخلاق ، لأنه خليفة الله ونائبه وبابه وسبيله الذي لا يؤتى إلّا منه. ومحال أن يعرف البشر مَن هو كذلك حتّى يقيموه إماماً ، وإلّا لأمكنهم أن يعرفوا مَن هو أهل للرسالة فيختاروه رسولاً.

٥٦

وأيضاً الإمام كالرسول واجب الطاعة من الله ، لأن نهيه وأمره أمر الله ونهيه ، فلو رجع تعيينه إلى البشر لكان الأمر محالاً ، حيث إن كلّ قوم ، بل كلّ واحد يختار غير ما يختار الآخر ، فيقع التخاصم ويفسد النظام.

وأيضاً ذلك يقتضي أن يكون حكم الله واستخلافه والنيابة عنه دائرة مدار شهوة الخلق ، وهذا لا يكون إلّا لضعف القدرة ، أو عدم العلم بمن هو أهل لذلك ، أو عدم الحكمة ، تعالى الله عن ذلك.

وأيضاً لو دار أمر الإمامة على اختيار البشر لجاز أن يقع اختيارهم على منافق ؛ إمّا زنديق ، أو يهوديّ في باطنه ، أو غير ذلك ؛ لعدم علمهم ببواطن الخلق ، فيقتضي أن يكون خليفة الله ورسوله كافراً ، وأن الله تعالى يوجب على المؤمنين طاعة ذلك الكافر ، ما هذا يرضى به عاقل ، لأنه تلاعب يقتضي الكفر بنعمة الله ، وأنه ليس كمثله شي‌ء.

أدلّة عصمة الإمام

والأدلّة على وجوب عصمة الإمام لا تحصى ، فكلّ دليل يدلّ على وجوب عصمة الرسول دلّ على وجوب عصمة خليفته ، وإلّا لم يكن خليفته ولا خليفة الله ، بل خليفة الناس ، فيجب أن يكون الإمام باختيار الله وأمره كالرسول. ولا يكفي بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وجود القرآن والسنّة بدون وجود المعصوم الذي يبيّنه عن أمر الله كما أراد الله ؛ إذ لا يعلم ما أراد الله إلّا الله أو مَن يعلّمه الله.

فلا بدّ من وجود معصوم لا يخطئ ولا يسهو ولا يكذب حتّى يبيّن للناس ما أراد الله في كلّ زمان ، فلو استغنى العباد عمّن يبيّن الكتاب كذلك لاستغنوا عن الرسل بالكتاب ، والله تعالى قادر على أن ينزّل كتاباً في قرطاس بدون رسول بشرٍ ، فكلّ شي‌ء يحتاج الناس للرسول فيه فحاجتهم له في كلّ زمانٍ ؛ إذ لا فرق بين أهل الأزمان ؛ فإمّا أن يوجد الرسول ، أو مَن هو مثله وهو خليفته ؛ إذ لولا ذلك لاستغنى الناس عن الخليفة الذي يبيّن لهم الكتاب إذا اختلفوا فيه ، ولو استغنوا عن الخليفة لاستغنوا عن الرسول.

٥٧

فإذا عرفت هذا فاعلم أنا لم نجد بعد الرسول : صلى‌الله‌عليه‌وآله من اتّفقت الأُمّة على عظم شأنه وجلالة قدره وغزارة علمه واتّصافه بجميع مكارم الأخلاق ، ولم ينقل عنه مَثلَبة ولا منقصة ولا ذنب لا في حال طفولته ولا غيرها ، وعلى شدّة حبّ النبيّ : صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أمره باتّباعه ، إلّا عليّاً : وفاطمة : والحسن : والحسين : وعلي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : ومحمّد بن علي الباقر : وجعفر بن محمّد الصادق : وموسى بن جعفر الكاظم : وعلي بن موسى الرضا : ومحمّد بن علي الجواد : وعلي بن محمّد الهادي : والحسن بن علي العسكري : والمهدي بن الحسن ، إمام هذا الزمان عجّل الله فرجه ، وأظهر به دينه.

ولم ينقل عن أحد من هذه الأُمّة غير هؤلاء معجزة ولا مكرمة تشابه معاجز الرسل وتدلّ على عصمتهم ، وإنما نُقلت عنهم وصدرت منهم كما نقله محبّهم ومبغضهم ، وهذه الرسالة لا تسع ذلك ، وقد ملئت بها كتب الخاصّة والعامّة (١) ، ولم يدّعِ أحد العصمة ولا ادّعاها له أحد غيرهم صلوات الله وسلامه عليهم بل كلّ مَن ترأس في هذه الأُمّة وقع منه ما ينافي استحقاقه للرئاسة والإمامة ، التي هي عهد الله الذي لا يناله ظالم ، وخلافة الله الكبرى التي تعالى الله أن يلبسها مَن تصدر عنه معصية فضلاً عمّن صدر عنه الكفر.

__________________

(١) كما في ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي ، وفرائد السمطين للجويني ، وخصائص النسائي ، وتذكرة الخواصّ لسبط ابن الجوزي ، ونور الأبصار في مناقب آل بيت النبيّ المختار للشيخ مؤمن الشبلنجي ، والنور المشتعل لأبي نعيم الأصفهاني ، وذخائر العقبى للمحبّ الطبري ، وغيرها كثير.

٥٨

الفصل الخامس في المعاد

إذا عرفت أن الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثاً ولا لحاجة له فيهم ؛ لأنه الغني وهم الفقراء إليه ، وإنما خلقهم ليوحّدوه ويعرفوه ويعبدوه وليمنّ عليهم ويرحمهم بالسعادة التي لا تفنى ، فبعث الرسل وأنزل معهم الكتب ليعرّفوا عباده كيف يحصّلون ذلك وما ذا أراد منهم سيّدهم ، وما يبعدهم من رضوانه يجتنبونه ، وتفضّل عليهم بأن أوعدهم الجزاء الدائم ، وهذه الدار لا تصلح لذلك ، لأنها غير دائمة ولا مستقرّة ، بل هي دار العمل خاصّة ، وبالوجدان نرى مَن يعمل فيها ولم نرَ له ثواباً ، فإذن لا بدّ من دار غيرها يدوم فيها الثواب والعقاب. وهذا يقتضي أن الله تعالى لا بدّ أن يبعث العباد ويحييهم بعد الموت ليحاسبهم ويريهم أعمالهم التي أحصاها عليهم ، فيثيب المطيعين بالثواب الدائم ، ويعاقب العاصين بالعذاب الدائم. وهذا مقتضى عدله وحكمته.

واعلم أن المعاد هو النفس وهذا الجسد القائم بها بالعينيّة ؛ لأن التكليف واقع عليهما دفعة ، ولكلّ منهما قسطاً منه ، فهما معاً يستحقّان الثواب والعقاب ؛ لأن الطاعة أو المعصية صادرة منهما ، لأن كلا منهما لا يستقلّ بنفسه بعملها بدون الآخر ، لتوقّف عمل كلّ منهما على كونه مصاحباً للآخر ومركّباً معه ، فالمعصية والطاعة إنما

٥٩

[ يتحقّقان (١) ] من أحدهما بالآخر ، فيجب أن يعادا معاً مركّباً أحدهما مع الآخر كما كانا أوّلاً ، لأن هذا مقتضى العدل.

وقد أخبرت الرسل بصفة المحشر وبنشر الكتب وبنصب الميزان ومدّ الصراط على متن جهنم وبالحوض ، وغير ذلك من أحوال القيامة والجنة وصفتها ونعيمها ، وبالنار وعذابها وآفاتها وحميمها وزقّومها ، وبعذاب البرزخ ونعيمه ، وبمساءلة القبر فيجب التصديق بكلّ ما أخبرت به الرسل وجاءوا به عن الله تعالى من أُمور الدنيا والآخرة ، لأنهم معصومون [ من (٢) ] الكذب والسهو والغلط ، ولا ينطقون إلّا عن الله تعالى.

واعلم أن الله تعالى كما أنه قادر على إيصال هدايته ولطفه على أيدي الرسل وخلفائهم في حياتهم الدنيويّة وبعد موتهم ، كذلك هو قادر على أن يوصل ذلك بواسطة الإمام الذي هو خليفته مع غيبته ؛ لأن معنى غيبته أنه موجود في الدنيا إلّا أنه غير معروف بعينه لأمر هو بالغه ، وحكمة هو أعلم بها. فإذا ثبت وجوب وجود حجّة الله على خلقه هادياً معصوماً في كلّ زمانٍ ، وجب الإيمان بأن هذا الزمان فيه من هو كذلك ، فإذا لم نره علمنا أنه موجود قطعاً ، وأنه باب الله وخليفته ، وليس هو بقاصر عن الشمس ، والناسُ ينتفعون ويهتدون بها وقد حجبها السحاب المتراكم ، ولا يستنكر من قدرة الله أن يمدّ له في أجله الوفاً من السنين ، ولا بدّ أن يأذن الله له في الظهور وبسط العدل وإمحاق الجور والظلم ، فترقّب ولا تيأس من روح الله إني وإيّاك لرحمة ربي لمنَ المترقّبين ، والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) في المخطوط : ( يتحقق ).

(٢) في المخطوط : ( عن ).

٦٠