رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

١
٢

٣
٤

٥
٦

الرسالة الثامنة عشرة

نزهة الألباب ونُزُل الأحباب

٧
٨

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم ، وصلّى الله على محمّد : وآله الطيّبين ، والحمد لله ربّ العالمين.

أما بعد :

فهذه فوائد متفرّقة من فنون شتّى ، كتبتها في أوقات متعدّدة ، على تشتّت بال ، وشدّة بلبال ، فأحببت أن أنظمها في عقد ، لعلّ الله ببركة محمّد : وآله صلّى الله عليه وعليهم أن يقبلها وينفع بها طالبها.

٩
١٠

[١]

مسألة

في حقيقة النفس الإنسانيّة

اعلم أن النفوس البشرية خلقت مفطورةً على كمال الاختيار ؛ ولذا كان لها بأصل فطرتها القدرة على الاختراع والابتداع ، والصدق والكذب ، والفعل والانفعال ، والتصوير وإحداث الصور المتخيّلة والمتوهّمة ، وذلك ما سألتْهُ بلسان إنّيتها (١) وافتقارها من بارئها ، فقد أعطى كلّ شي‌ء خلقه ثمّ هدى (٢) ؛ لأنّ أفعاله عزوجل مبنيّة بحكمته على كمال الاختيار إيجاداً وتكليفاً ( وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) (٣) في كلّ مقام.

فالنفس لها ذلك في عالم الغيب والشهادة ، كما يشاهد من فعل النائم والبَرْهَمِ والساحر والعيّان وأهل الصنائع العجيبة ، وحمرة الخجل وصفرة الوجل ، وما يحدث من أبصار بعض الحيوانات ، إلى غير ذلك.

و [ لمّا ] كانت النفس الأمّارة وجه الإنيّة التي هي الماهيّة ، ومادّة آلتها هي المطاعم التي للشيطان فيها نصيب ولامسها (٤). والمعصية من جنس الأمّارة وإلفاً لها ،

__________________

(١) الإنّيّة : الوجود ، شرح المواقف ١ : ٥٥.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ). طه : ٥٠.

(٣) إبراهيم : ٣٤.

(٤) كذا في المخطوط.

١١

فأوّل ما يعرف المكلّف نفسه يقول : أنا ، ويميل إلى الفعل والأمر دون الانفعال والائتمار ، فشأنها تصوير ما لا أصل له في الوجود وابتداعه ، فلم تزل الأمّارة تشتدّ فعليّتها إلى زمن البلوغ أو قريب منه ، فيظهر أثر شعاع العقل ، ولكنّه مقهور بالأمّارة ؛ لقوّتها حينئذٍ وضعفه. وهي لا تميل إلّا إلى المعصية ؛ لأنّها فعل ، ولأنّها مناسبة لها ومشاكلة.

وأوامر الشرع حينئذٍ فعل وقهر لها ، واستعباد وحبس لها عن مقتضى ذاتها ، ومادّة آلتها بل مادّتها ، فمن أجل ذلك تجد أكثر النفوس حتّى الأطفال مائلة لفعل المعصية والبدعة والشبهة ؛ لما بينهما من المناسبة والمشاكلة. ممتنعةً عن قبول الأوامر الشرعيّة ؛ لما بينهما من المباينة ، ولضعف العقل وانقهاره حينئذٍ ، ولما فيها عليها من لزوم ذلّ العبوديّة بعد رسوخ حبّ القاهريّة والاستقلال والأمر والنهي.

فالطاعة صعود ، والمعصية هبوط. والطاعة انفعال وقبول لأنها من الله ، والمعصية فعل لأنّها من الشيطان. فالخمر والميسر رجس من عمل الشيطان (١). ( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) (٢).

فما منها [ من ] (٣) ] الهبوط والفعل أخفّ وأشهى لها وعليها من أضدادها ، [ فبهذا ] (٤) ظهر سرّ تسارع النفوس أكثرها إلى قبول المعصية والباطل والميل إليه ، ونفرة أكثر النفوس من قبول أوامر الشرع ومناهيه ، والله العالم.

__________________

(١) إشارة إلى ما في سورة المائدة : ٩٠.

(٢) النساء : ٧٩.

(٣) في المخطوط : ( و ).

(٤) في المخطوط : ( فبهلا ).

١٢

[٢]

كشف حال

وبيان إجمال ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ .. )

قوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ ) (١).

الذي يقتضيه النظر في الروايات (٢) الواردة في تفسيرها عن أهل العصمة عليهم‌السلام أن المراد بالعباد فيها هم آل محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : خاصّة ، لكن بالمعنى الأعمّ ، وهم أهل الإيمان من ذرّيّة عليّ : وفاطمة : سلام الله عليهما وأَضافهم لنفسه تعالى إظهاراً لشرف أبَوَيْهِم ، وأن الضمائر الثلاثة في الأقسام الثلاثة [ راجعة (٣) ] للعباد المذكورين لا للمصطفَين خاصّة ، فقد نطقت الأخبار أنّها ليست عامّة بل خاصّة بهم. فالسابق : الإمام ، والمقتصد : العارف بحقّ الإمام منهم ، والظالم لنفسه : الجالس في بيته لا يعرف حقّ الإمام. وأن من قام بالسيف ودعا الناس إلى الضلال خارج من مدلول الآية الكريمة.

__________________

(١) فاطر : ٣٢.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢١٠ ، الكافي ١ : ٢١٤ ـ ٢١٥ / باب أنّ من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة عليهم‌السلام ، مجمع البيان ٨ : ٥٢٦ ، البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٥٤٦ ، كنز الدقائق ٨ : ٣٤٨ ـ ٣٥٥.

(٣) في المخطوط : ( راجع ).

١٣
١٤

[٣]

جمع وتنبيه

( ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ )

قوله تعالى : ( وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ) (١) ، لا ينافي ما تضاعف على ثبوته البرهان عقلاً ونقلاً (٢) من علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع كلّيّات العالَم وجزئيّاته ممّا كان أو يكون ؛ [ فإنّه (٣) ] في الآية الكريمة نفى الدراية والعلم عن نفسه من تلقاء نفسه استقلالاً وبالذات ، فأشار بذلك أن ليس لنفسه عند نفسه اعتبار ، بل إنه مستغرق في عبوديّة الله والتلقّي منه على كلّ حال. فعلمه ودرايته أعلى مراتب اليقين ، لا يشوبه ظنّ ولا وهم ولا تخمين ، ولا ينطق عن الهوى (٤) بحال ، وليس بينه وبين عالم السرّ وأخفى (٥) واسطة سوى نفسه المقدّسة عن جميع نقائص الخلق طرّاً.

وبهذا يعلم أنه عالم بجميع الخلق بدئهِ ومعاده ، وهو الواسطة لكلّ عالم في علمه ، ومفيدُهُ العلمَ عن الله تعالى ، فلا إشكال ، والله العالم.

__________________

(١) الأحقاف : ٩.

(٢) الكافي ١ : ٢٦٠ ـ ٢٦١ / ١.

(٣) في المخطوط : ( بأنه ).

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ). النجم : ٣.

(٥) إشارة إلى قوله تعالى : « فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ». طه : ٧.

١٥
١٦

[٤]

إنارة وهم وإفادة فهم : وحدانيّة العدد

اعلم أن وحدانيّة العدد التي هي روح واحديته ملك لله وحده لا شريك له ، كما قال سيّد العابدين : لَكَ يَا إلهِي وَحْدَانِيّةُ العَدَدِ (١).

فكلّ ما دخل تحت العدد فهو ملك لله عزّ اسمه وحده ، وظاهرها الواحد المعبّر عنه في عالم الأَحرف بالألف القائم ، فإنّه كالروح والمادّة لما سواه منها ، وكلّها في الحقيقة صور له وجزئيّات ، وهو لها كالمادّة ، فلا يوجد في شي‌ء منها صرفاً ولا تفقد حقيقته. وكذلك الواحد العدديّ.

ومن هنا توهّم أن الواحد ليس من العدد بل هو أوّل الأعداد ومادّتها وهي مظاهرة ومراتبه ، لكنّه متجرّد عمّا فيها من معنى التعدّد. فالوحدانيّة التي لجميعها أعني : روحها لله ملك ، وروح جميع الوحدات أعني : الوحدانية الحقيقية هي واحدة الأمر.

فجميع الوحدانيّات والواحديّات منها برزت ، وإليها تعود في باب كلّ جود ، فوحدة الكثرات ومنتهى الوحدات وأوّل المخترعات لله وحده خالصة له في ذاتها وصفاتها ، وأفعالها وأطوارها وأوطارها ، سرّها وعلانيتها ، لا تلتفت إلى سواه ، حتّى نفسها ، منقادة مستغرقة في عبوديّته بحقيقتها وكلّيّتها وشراسيفها ، لم تلبسها المدلهمّات أثوابها ، خالصة لله في إقبالها وإدبارها. فهي أبداً في الإقبال على الله

__________________

(١) الصحيفة السجّاديّة الكاملة : ١٣٥.

١٧

وإليه ، لم تخرج ولن تخرج عن حقيقة عبوديّتها له ، فهي بجميع شؤونها ملك لله وحده ، لم يسبقها إليه سابق ، ولا يلحقها لاحق ، ليس بينها وبين الله سبب وحجاب سواها ، فهي سبب الأسباب لربّ الأرباب.

فمعنى قول زين العابدين عليه‌السلام : « لَكَ يَا إلهِي وَحْدَانِيّةُ العَدَدِ » أن وحدانيّة العدد التي هي أصل الكثرات ، وعنصر المعدودات والوحدات ، وبها قوامها بل هي أرقاها ملك لك وخلق ، وحدك لا شريك لك. ووقع بذكرها الاهتمام من الإمام لأنّ بها القوام ، وهي رابطة عقد النظام في كلّ مقام. وفيه إشارة إلى إبطال قول بعض الملحدين في أسمائه : ( إن أُصول الأعداد الحقيقية هي الصانع ) ، تعالى الله عمّا يقول المشبّهون علوّاً كبيراً. فبطل ما توهّم بعضهم من أن وحدانيّة العدد صفة لله تعالى وتقدّست أسماؤه.

وهذا يردّه العقل والنقل ؛ لما يستلزمه من التشبيه والتركيب تعالى الله عنهما. وممّا يصرّح بإبطاله قول أمير المؤمنين : عليه سلام الله في وقعة الجمل للأعرابي كما رواه في ( معاني الأخبار ) (١) وغيره (٢) ، حيث قال : أتقول أن الله واحد؟ فقال سلام الله عليه ـ يا أعرابي ، إنّ القول في أنّ الله تعالى واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على الله عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه :

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الأعداد. فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، ألا ترى أنّه كفر من قال : ثالث ثلاثة؟ وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد النوع من الجنس. فهذا ما لا يجوز ؛ لأنه تشبيه ، وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى.

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه. كذلك ربّنا.

وقول القائل : إنّه عزوجل أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزوجل.

فافهم ولا تتوهّم ، والله العالم.

__________________

(١) معاني الأخبار : ٥ ـ ٦ / ٢.

(٢) التوحيد : ٨٣ / ٣.

١٨

[٥]

فوائد نحويّة وثمار محويّة

أهل يشترط في الكلام النحوي إفادة المخاطب؟

اشترط بعضهم في الكلام النحويّ إفادة المخاطب شيئاً يجهله. والحقّ عدمه ، بل شرطه أن الكلام مفيد في نفسه. ويرد على ذلك المشترط أنه أخذ حال المخاطب في تعريف الكلام.

واشترط بعضهم فيه قصد المتكلّم. ويرد عليه أيضاً أنه أخذ حال المتكلّم في تعريف الكلام ، وهما خارجان عن حقيقته ، وفسادهما ظاهر.

ويلزم الأوّل أن يكون ( قام زيد ) كلاماً وغير كلام في حالة واحدة ومقام واحد إذا تكلّم به من يخاطب من علمه ومن لا يعلمه دفعةً واحدةً. ويلزم الثاني خروج مثل هذا مع إفادته إذا تكلّم به الساهي والغالط وشبههما ، والله العالم.

[ ب ] فائدة : هل دلالة الكلام وضعيّة أم عقليّة؟

اختلف النحويّون : هل دلالة الكلام وضعيّة ، أم عقليّة؟ والذي عليه المحقّقون أن دلالته المطابقيّة والتضمّنيّة وضعيّة ، والالتزاميّة عقليّة ، وهو الحقّ.

وممّا يؤيّد ذلك أنه ليس دلالته على معناه إلّا دلالة أجزائه على معانيها ؛ إذ لا ريب في بقاء معانيها الوضعيّة بعد التركيب ، وإنّما زاد بالتركيب نسبة بعضها لبعض على جهة تخصيص أحدهما بالآخر ، ولم يضع الواضع المفردات إلّا لتستعمل

١٩

مركّبة ، فقد وضعها للتركيب ، والله العالم.

[ ج ] فائدة : هل في الممنوع من الصرف تنوين مقدّر؟

صرّح جماعة من النحويّين في باب الإضافة بأنّ ما لا ينصرف فيه تنوين مقدّر (١). والظاهر أنّهم أرادوا أنه إذا أُريد إضافته نُويَ تنوينه ثمّ حُذِفَ. وخالف في ذلك أبو حيّان : ، وتبعه الدمامينيّ :

ووجه قوله بما حاصله أنه لا يمكن أن يكون هذا التنوين تنوين التمكين ؛ للمنافاة الظاهرة بينهما ؛ إذ هو يدلّ على أمكنيّة الاسم بحيث لا يشبه الحرف فيبنى ، ولا الفعل فيمنع [ من ] الصرف. ولا تنوين تنكير ؛ لأنه وضع في بعض المبنيّات للفرق بين معرفتها ونكرتها ، فلا يدخل في الممنوع من الصرف ؛ لأنه معرب. ولا شيئاً من بقيّة أقسام التنوين ، والعلّة واضحة. انتهى.

قلت : لهم أن يختاروا أنه للتمكين ؛ حيث إنّهم إذا أرادوا إضافته سلبوا عنه ما يوجب منعه تقديراً ، فيدخله تنوين التمكين تقديراً. لكن حصول التخفيف المعلّل به حذفُ التنوين للإضافة بشي‌ء فرضيّ متوهّم بعيدٌ عن التحقيق ، ويأباه الذوق السليم ، والله العالم.

[ د ] فائدة : في اسمي الفعل والصوت

الظاهر أن معنى قول النحاة : اسم الفعل مركّب واسم الصوت مفرد أن اسم الفعل يدلّ وضعاً على الحدث والزمان ، بخلاف اسم الصوت. ولكنّي لم أقفْ على مَنْ صرّح بذلك ، والله العالم.

__________________

(١) حاشة الصبّان على شرح الأشموني ٣ : ٢٣٧.

٢٠