رسائل آل طوق القطيفي - ج ١

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

ومنها : أن الله أودع في قوى نفوس الأفلاك والكواكب تأثيرات وإمدادات لأجسام هذا العالم ، بإبراز جميع القوى من المعدن والنبات والحيوان ، وكمالها بالفعل من كلّ وجه ، حتّى إن الشجرة لتقصف بما عليها من الثمرة من عظم فعليّة البركات ، وذلك لا يتمّ إلّا بالرجعة ، وإلّا لزم أن ينزل على غير محمّد : وآله الماضين صلوات الله عليهم أجمعين من البركات ما لم ينزل عليهم ، وهذا محال.

ومنها : أن محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله : وخلفاءه الاثني عشر والزهراء : سلام الله عليهم أجمعين مجتمعون في كلّ نشأة ، وفي كلّ بدء الخلق ، وفي الآخرة ، وفي كلّ طبقة من الوجود لا على سبيل الاتّفاق ، بل لحكمة إلهيّة وسرّ ربّانيّ لا يخفى على العارف أشعّة نوره ، فلا بدّ أن يحصل لهم ذلك الكمال والجمال والجلال في النشأة الدنيويّة ، ولا يكون ذلك إلّا بالرجعة.

ومنها : أنه لا ريب أن زمن امتلاء الأرض قسطاً وعدلاً فيه من اللذّة والبهجة والسرور في قلوب المؤمنين ، ومن الغَناء والنور والعلم ما لا يستقصى ، فكيف يحرم إدراك هذا الكمال والنعمة أنبياء الله ورسله وخلفاؤهم وأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، خصوصاً محمّداً : وخلفاءه ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟ ومحال أن يدركها من مات إلّا بالرجعة.

ومنها : أن الله عزوجل يحبّ أن يعبد بتأويل القرآن وباطنه ، كما أحبّ أن يعبد بتنزيله ، فقد عبد بالتنزيل ، ولا يمكن أن يعبد بالتأويل والباطن إلّا بالرجعة. ولا بدّ من ذلك ، كما يظهر على متدبّر أخبار التأويل والباطن العارف بلحنها. ومحال أن يختصّ واحد من أهل البيت بالتعبّد والعمل بالتأويل والباطن دون غيره منهم ، بل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : و. عليّ : سلام الله عليه أولى بالعمل والتعبّد بذلك في كلّ نشأة ومقام ، وكذا الحسنان : من القائم سلام الله عليه وإلّا لزم أنه أفضل من الكلّ ، بل من أفضل الكلّ في الكلّ مطلقاً ، وهذا خُلف محال.

وبالجملة ، فالأخبار وطرق الاعتبار في إثبات الرجعة كثيرة جدّاً هي أكثر من أن أُحصيها ، وفيما حصل كفاية لطالب الحقّ.

١٦١

وبالجملة ، فإجماع أهل البيت : صلّى الله عليهم وسلم وأتباعهم قائم متحقّق على ذلك في كلّ مكان ، بل من الأمر المشهور بين الأُمّة بأجمعها أن ذلك مذهب أهل البيت عليهم‌السلام : وأتباعهم ، حتّى إن العامّة بأجمعهم يعتقدون أن هذا مذهب أهل البيت عليهم‌السلام : وأتباعهم. فكم أعاب علماء العامّة على الشيعة القول بالرجعة! فالمعروف بين فرق الأُمّة أن القول بالرجعة مذهب الإماميّة.

ولا يمكن أن يقال : إن قيام القائم عليه‌السلام : يسمّى رجعة.

فإن الرجعة إلى الدنيا أو إلى الشي‌ء لا يكون إلّا بعد الخروج منه والانصراف عنه ؛ إذ لا يقال لمن هو في مكان إنه رجع إليه قبل أن يخرج منه ويعود إليه. فإن تحصيل الحاصل محال ، والقائم : عجّل الله فرجه ، وأزال عنا الحيرة به لم يخرج من الدنيا حتّى يقال : إن قيامه يسمّى رجعة.

يؤيّد هذا ، بل يدلّ عليه أن الأُمّة مطبقة على القول بقيام القائم : ومنكرة للرجعة ، إلّا أهلَ البيت عليهم‌السلام : وأتباعهم ، فالقول بها من خواصّهم التي انفردوا بها وامتازوا عن جميع فرق الأُمّة ، والله العالم ، وهو الهادي والعاصم.

وهذا آخر ما أردت إملاءه في هذه العجالة ، وقد جعلتها هديّة إلى حضرة صاحب الزمان : صلّى الله عليه ، وعجّل فرجه فإن قبلها فشأنه العفو والرحمة والكرم والجود ، وإن ردّها فبجرائم مؤلّفها الأقلّ المقصّر القاصر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق. وأنا أسأله العفو ، ونظرة رحيمة كما عوّد ، والحمد لله أوّلاً وآخراً ، كما هو أهله وصلّى الله على محمّد : وآله الأطهار وسلم.

اللهم أرجعني ومن نسخها أو استكتبها ووالديّ وإخواني ومن عمل لي إحساناً من المؤمنين في كرّتهم يا أرحم الراحمين.

تمَّت بقلم المذنب المخطئ العاصي زرع بن محمّد علي بن حسين بن زرع ، عفا الله عنهم أجمعين.

١٦٢

الرسالة الرابعة

معنى صحيح زرارة المروي في الكافي

« إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريّته

من همَّ بحسنَةٍ ولم يعملها كتبت له حسنة .. »

١٦٣
١٦٤

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله العليِّ العظيم ، وصلّى الله على محمَّد : وآله الطيِّبين ، والحمد لله ربِّ العالمين.

أمّا بعد :

فيقول الأقلّ الأحقر أحمد بن صالح بن طوق : قد سألني سلالة العلماء الصالحين ، وخلاصة الأخلّاء الناصحين ، العامل العالم ، الكامل الزكيّ ، الشيخ محمّد (١) ابن العلّامة المقدّس شيخنا الشيخ مبارك ابن الشيخ عليّ : أيّده الله بألطافه ، وأنار فكره بأنوار الهداة له عن معنى صحيح زُرارة : المرويّ في ( الكافي ) عن أحدهما عليهما‌السلام أنه قال إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم : في ذرِّيَّته : مَنْ هَمَّ بحسنةٍ ولمْ يعملْها كُتِبَتْ له حَسنةٌ ، ومَنْ هَمَّ بحسنة وعَملَها كُتِبَتْ له عشراً ، ومَنْ هَمَّ بسيِّئةٍ لم تُكتَبْ عليه ، ومَنْ هَمَّ بها وعملها كُتِبَتْ عليه سيِّئة (٢) ، انتهى.

__________________

(١) العالم العامل التقي الزاهد الشيخ محمد كان سكناه في قرية ( صفوى ) إحدى قرى القطيف. وكان مضرب الأمثال في الورع والزهد والتقوى ، وله كرامات مشهورة ، ومن ورعه أنه رحمه‌الله كان يباشر غسل ثيابه بيده ، ويدفع كل شهر اجرة لأهله لمباشرة خدمة بيته. توفّيَ سنة ( ١٢٦٦ ه‍ / ١٨٤٩ ) في القطيف ، ودفن في الحبّاكة. انظر : أنوار البدرين : ٢٧ ، مجلَّة الموسم / من أعلام القطيف عبر العصور / العدد ( ٩ ـ ١٠ ) / ١٩٩١ م.

(٢) الكافي ٢ : ٤٢٨ / ١.

١٦٥

ولعمري ، إنني لستُ مِن خدم أرباب هذه الصناعة ، ولا من تجّار هذه البضاعة ، فقد استسمن ذا ورم (١) لحسن ظنّه ، ولكنّ أمره واجب الامتثال ، ولا يسقط الميسور بالمعسور ، والحكمة ضالّة المؤمن (٢) حيث ما وجدها التقطها.

ولنقدّم مقدّمة يُستعان بها على معنى الحديث ، فنقول وبالله المستعان : اعلم أيّدك الله بنوره ـ [ أن ] الذي يظهر لي من الأخبار وقواعد العدل والحكمة إن الحسنة والسيّئة إذا [ خطرتا (٣) ] ببال المكلّف المختار مجرّد خطور وتذكّر ، وتصوّرٍ لحقيقتها ومعناها ، ولفعلها وحُسنه أو قُبحه ، أو لذّته ؛ فإن كان إحضارها بالبال لأجل الترغيب في فعل الطاعة أو ترك المعصية ، أو التحذير من ترك الطاعة أو فعل المعصية ، أُثيب ، كما يدلّ عليه الكتاب والسنّة والأخبار والاعتبار.

وإلّا يكن كذلك ، بل مجرّد تصوّر بلا عزم على فعلٍ أصلاً بل مجرّد تصوّر وتذكّر لهما أو لأحدهما فلا ثوابَ ولا عقابَ ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق ؛ إذ ربّما تخطُر أحدهما بالبال قهراً ، وربّما ألقى المَلَكُ أو الشيطانُ [ ذكرهما وتصوّرهما (٤) ] هكذا ، وللزم تحريم تعلّم معنى المعصية وتعليمها ، وذكرها لأجل التحذير ، أو الترغيب به أنه لا ثوابَ ولا عقابَ بمجرّد خطور أحدهما بالبال ما لم يكن نيّةٌ على فعلٍ لما خَطَرَ أو ذَكَر ، يُثابُ ، أو يُعاقَبُ عليه.

وإن خطرت أحدهما بالبال وهَمّ [ بفعلها (٥) ] ، وعَزَمَ عليه أي نوى فعله فلا يخلو ؛ إمّا أن يكون المنويّ فِعلَ الطاعة الواجبة أو المندوبة ، أو ترك الواجبة أو المندوبة.

أقسام نيّة الطاعة

فأقسام النيّة بالنسبة إلى الطاعة أربعة ، ففي الأوّلين يُثابُ إن فَعَلَ ما نواه ويُكتب

__________________

(١) انظر صبح الأعشى ١ : ٥٣٠ ، وفيه : ( استسمنتْ ).

(٢) إشارة إلى ما ورد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في بحار الأنوار ١ : ١٤٨ / ٣٠ ، وغيرها.

(٣) في المخطوط : ( خطرت ).

(٤) في المخطوط : ( ذكرها وتصوُّرها ).

(٥) في المخطوط ( بفعله ).

١٦٦

له عشر حسنات وإن تفاضلت قوّة وضعفاً بحسب فضل الواجب على النفل ( وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) (١) وإنما كانت الحسنة بعشر ؛ لأنها من نور الوجود الفائض من فعل المعبود ، فهي إذا صدرت من العابد صدرت من جميع مراتب وجوده العشر الكلّيّة ( وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) بحسب قوّة مراتبه وضعفها ، وقوّة درجاته الإيمانيّة العشر وضعفها ، وقوّة علمه وإخلاصه وضعفهما. ولأجل أن طاعات الموحّدين من فاضل شعاع نور إمامهم ، كانت ثابتة غير مجتثّة ؛ لثبات أصلها وعلّتها.

وإن لم يفعل ما نواه :

فإن كان واجباً ؛ فإن كان تركه لحائل قهريّ لم يُعاقب على تركه ، لكنّ هذا لا يتحقّق معه نيّة الترك ؛ لأنه لم تنفكّ عنه النيّة الكلّية للفعل الكلّي ، أو الجزئيّ وهو يُثاب على همّه وعزمه ونيّته أبداً ، بل هو سبب الخلود إذا كان المنويّ يوجب الخلود ؛ وذلك ؛ لأن النيّة من أعمال القلوب التي هي مقرّ الإيمان ، وتلك الألواح المقدّسة لا تفنى ولا ينقطع عملها ؛ ولذلك دام ثوابهم بلا انقطاع وخلّدوا بنيّاتهم.

وإن كان تركه للطاعة الواجبة لا لمانع قهريّ بل اختياراً منه ، عُوقبَ على نيّتهِ ترك الطاعة. وهل يُثاب لو نوى الواجبة ثمّ نوى تركها ولم يفعلها؟

الظاهر أنه لا يُثاب ؛ لأنه محا مادّة وجودها ، و [ أطفأ (٢) ] نوره بتركه لها ؛ فهو كمن راءى ، أو دخله العُجب آخر صلاته. بل لا يمكن أن توجد النيّة الجزئيّة للفعل الجزئيّ إلّا بوجوده ، ولا الكلّيّة إلّا بوجود منويّها الكلّيّ ، وهو الصورة القائمة بالنفس. فإن أعرضَ عن النيّة عُدِمَ المنويّ ؛ لأنه لا تكون الإرادة إلّا والمراد معها ، ولا وجود للمعلول بعد فناء علّته.

ويُحتمل أنه يثاب عليه في الدنيا ، لكنّه ضعيف جدّاً.

وإن نوى فعلها ، ثمّ نوى تركها ، ثمّ ندم ورجع وفعلها ، أُثيب على نيّته السابقة واللاحقة والله غفور رحيم ذو فضل عظيم ؛ فإن تحقّق معه الترك عُوقِب أيضاً على

__________________

(١) البقرة : ٢٦١.

(٢) في المخطوط : ( طفي ).

١٦٧

ترك الطاعة ، وإن رجع وندم عن نيّته لترك الطاعة الواجبة وتداركها مع الإمكان لم يُعاقب على تلك النيّة بفضل سعة رحمة الله.

وإن كان ما هَمّ به ونواه فتركه مندوباً أُثيب على نيّته الفعلَ وإن لم يفعله ، بل لو نوى [ في ] فعل الخير أن يفعله إن تمكّن منه ، أُثيب ما بقيت نيّته. ولو مات قبل أن يتمكّن مع بقاء نيّته أن يفعله ما تمكّن منه أبداً ، أُثيب أبداً ؛ فإن نيّته حينئذٍ كلّيّة ومنويّها كلّيّ لا يفارقها ، وهو الصورة الكلّيّة القائمة بالنفس أعني : المشيئة ولم يُعاقب على تركه ؛ للإذن الشرعيّ في تركه.

أقسام نيّة المعصية

وإمّا أن يكون المنويّ الذي هَمّ به وعزم عليه فعلَ المعصية أو تركها ، فالأقسام بالنسبة إلى المعصية اثنان ، وكلّ منهما إما كلّيّ أو جزئيّ. فإذا هَمّ بالمعصية أي عزم على فعلها ونواه فإن صمّم عَزمه ونيّته وفعَلَ ما نواه كُتِبت عليه سيّئة ، ولكن لا تستقرّ الكتابة ، وتكون بالفعل في جميع مراتب مصادرها إلّا بعد سبع ساعات.

أمّا إنها إنما تُكتب سيّئة واحدة فبفضل رحمة الله التي سبقت غضبه ، ووسعت كلّ شي‌ء ، ولأن المعصية في الحقيقة عدمُ كمالٍ ، ونقصُ وجودٍ ، وظلمة ، والعدمُ نقطة لا فاضل لها ، ولا رتب في نفسها وحقيقتها. وإنما المعصيةُ نقصُ الوجود وظلمة ، والظلمةُ إنما هي عدمُ النورِ ، والنقصُ إنما هو عدم الكمال ، والعدم نقطة.

وأيضاً المعصية صفة الجهل ، وممدّها الجهل ، فهو مبدؤها وإليه تعود ، وهو عدم ؛ لأنه عدم العلم والعقل ، فإذا كان الأصلُ والعلّةُ عدماً مجتثّاً غير ثابت لأنه ليس من الله ، وإنما هو من سِجّين ويعود إليها فهي عدم مجتثّة لا قرار لها كأصلها ، والفاعل لها هو الجاهل العاصي ، فعلها بما أنعَم الله به عليه من القوى والآلة التي وهبها له المعبود بالحقّ ؛ ليعبده بها ، فاختار صرفها في المعصية.

انظر إلى الظلّ الفائض من الجدار بسبب إشراق نور شعاع الشمس على وجهه ، فإنه شي‌ء في مرتبته وليس بشي‌ءٍ في الحقيقة وإنما هو عدمُ نور شعاع الشمس

١٦٨

المشرق على وجه الجدار ، ظَهرَ بسبب حيلولة كثافة إنّيّة الجدار وماهيّته بين نور شعاع الشمس وبين محلّه. فهو في الحقيقة نقطة لا فاضل له ؛ لاستحالة أن يكون للعدم فضل يُفيضه على مجاورة ؛ لأنّه لو فُرِضَ له فاضل لكان ؛ إمّا أقوى منه وأشدّ عدميّة وظلمة فيثبت له من معنى حقيقة أصله وعلّته ما هو أشد فعليّة منه ، أو أضعف ظلمة وعدميّة ، وهذا لا يكون إلّا بممازجته وخلطه بشي‌ءٍ من النور والوجود. وكلاهما محال ؛ لما يلزمهما من أشرفيّة الفرع على الأصل في تحقّق الحقيقة ، أو إلباس الفرعِ كمالاً ليس هو لأصله ، فلا يكون منه ، فليس هو فرعه ، وقد فُرِض أنه فرعه ، بل يلزم انقلاب الأصل فرعاً في الوجهين.

وإن أسف على نيّته وهمّهِ بالمعصية لم يُكتب عليه إثم ، ومحا من نفسه أثرَ تلك النيّة ؛ لأن ندمه توبة ، وبها يُمحى أثر فعل المعصية فضلاً عن نيّتها. وكذا لو أعرض عن فعلها ونيّتها ؛ لانصراف شهوته ، أو ذهوله ونسيانه ولم يفعل ، لم يُكتب عليه شي‌ء بفضل رحمة الله وجوده ، ومحا إثمَ ذلك الهمّ والنيّة من نفسه ؛ لأنّه محا تلك النيّة من لوح نفسه ، فإن الحقّ أنه يأثم على نيّة المعصية كما يُثاب على نيّة الطاعة ، ويزداد نور نيّة الطاعة وظلمة نيّة المعصية في نفسه ، ويدوم بقدر اشتداد نيّته وتأكّد عزمه. ودوام ذلك منه حتّى لو مات على نيّة أن يعصي أبداً ، ولو خلد أبداً عُذّبَ دائماً أبداً بتلك النيّة ، إلا أن يكون مؤمناً فتتداركه شفاعة محمّد : وأهل بيته ، صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين. ويدلّ على ذلك الأخبار والاعتبار وقواعد العدل.

الدليل من الأخبار على الإثابة على نيّة الطاعة

فأمّا الدليل على أنه يُثاب على نيّة الطاعة كلّيّة وجزئيّة مع الفعل ، وكلّيّة ولو لم يعملها إن كان المنويّ مندوباً ، فكثير من الأخبار (١) واجباً كان أو مندوباً ، أو تركه لمانع قهريّ مع بقائه على نيّة العمل ما تمكّن منه إلَّا أن يكون ما نواه ولم يعمله

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ١ : ٤٩ ، أبواب مقدِّمة العبادات ، ب ٦.

١٦٩

واجباً تركه اختياراً. فإن الظاهر أنه لا يُثاب على تلك النيّة حينئذٍ ؛ لعدم ثباتها ، ولأنها عملٌ باطل ؛ فإن شرط صحّة هذه النيّة أن يفعل المنويّ ، ولأنه إذا نوى واجباً ثمّ عزم على تركه وصمّم ، [ أطفأ (١) ] ظلامُ عزمه واستيلائه على نفسه نورَ نيّته السابقة ، بل تكون نفسه أشدّ ظلاماً ممّا كانت عليه قبل تلك النيّة فإنه حينئذٍ قد أثم ، واستحقّ العقاب ، إلَّا أن يتوب ويرجع إلى الله ؛ فإنَّ الله توّاب رحيم.

وإمّا نيّة المعصية فيُعاقب عليها بمقتضى قواعد العدل ، وبالأخبار الكثيرة ، وخصوصاً إذا عمل ما نوى ، أو حال بينه وبين العمل مانع قهريّ مع بقائه على نيّة الفعل ما أمكنه ، بل عقاب هذه النيّة لا ينقطع ؛ لأنها عمل القلب ما لم يندم على نيّته ويرجع عنها فإنه يُثاب عليه ، والله توّاب رحيم.

وإذا كانت التوبة تمحو أثر فعل المعصية فمحوها لنيّتها أولى ، وكذا لو زالت نيّة المعصية عنه بذهول أو نسيان أو تغيير شهوته وانصرافها عن فعل ما نوى ، فإن مقتضى سبق الرحمة التي وسعت كلّ شي‌ء إلّا يؤاخَذ بمجرّد تلك النيّة ، ولعموم الخبر المبحوث عنه وأمثاله كذلك.

الدليل من الأخبار على العقوبة على نيّة المعصية

ومن الأخبار الدالّة على حصول الإثم والعقاب على نيّة المعصية مثل ما جاء عنهم عليهم سلام الله أنهم قالوا نيَّة المؤمن خيرٌ من عمله ، ونيّة الكافر شرٌّ من عمله (٢).

والظاهر أن المراد منها : النيّة التي قد استدام عزمه على أن يفعل منويّها ما أمكنه. فهذه من أعمال القلب التي لا تنقطع ولو حال دون عمل منويّها الموت ؛ لأنهما كلّيّان كما أخبر الله عن أهل النار بقوله ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (٣)

__________________

(١) في المخطوط : ( طفي ).

(٢) المحاسن ١ : ٤٠٥ / ٩١٩ ، وفيه : « ونيَّة الفاجر » ، الكافي ٢ : ٨٤ / ٢ ، وسائل الشيعة ١ : ٥٠ ، أبواب مقدِّمة العبادات ، ب ٦ ، ح ٣.

(٣) الأنعام : ٢٨.

١٧٠

يعني في قولهم ( أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ ) (١). فدلّ ظاهر الآية على أن أهل النار مُؤاخذون بنيّاتهم التي ما أقلعوا عنها ، وظاهرها يعمّ نيّات الكفر والمعاصي.

ويدلّ عليه أيضاً ظاهر قوله تعالى : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) (٢) حيث علّق التعذيب على الإرادة.

ومن الأخبار الّتي تؤيّد هذا الظاهر ما في ( الكافي ) عن جعفر بن محمَّد عليهما‌السلام : في هذه الآية أنه قال : إنها نزلت فيهم من حيث دخلوا الكعبة ، فتعاهدوا وتعاقدوا على كفرهم وجحودهم بما نزل في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول ووليَّه ، فبعداً للقوم الظالمين (٣).

فإن الظاهر أن منويّهم إنما أرادوا أن يفعلوه ظاهراً بعد موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : فإنهم على ذلك منذ كلّفوا باطناً في عقائدهم ونيّاتهم ، فأخبر الله تعالى أنهم ذائقو العذاب الأليم بمجرّد تلك النيّة والعزم الذي تعاهدوا عليه في الكعبة.

ومن الأخبار أيضاً عموم ما جاء عنهم عليهم‌السلام إن مَنْ أسرَّ سريرة ردّاه الله رداءها (٤).

ومنها ما جاء عنهم عليهم‌السلام أن الإنسان إذا هَمّ بكذبة تباعد عنه الملكان ميلاً لنتن ما يخرج من فيه ؛ إذ ذلك النتن إنما هو لَمِن ظلمة المعصية وبعض صفاتها الذميمة.

ومنها ما في ( الكافي ) بسنده عن عبد الله بن موسى بن جعفر : عن أبيه عليهم‌السلام قال : سألته عن الملكين : هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله ، أو الحسنة؟ فقال ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟

قلت : لا. قال إن العبد إذا هَمَّ بالحسنة خرج نَفَسُه طيّب الريح ، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنَّه قد هَمَّ بالحسنة ، فإذا فَعَلَها كان لسانه

__________________

(١) فاطر : ٣٧.

(٢) الحجّ : ٢٥.

(٣) الكافي ١ : ٤٢١ / ٤٤ ، ولم يرد فيه : « إنها ».

(٤) الكافي ٢ : ٢٩٤ / ٦ ، وسائل الشيعة ١ : ٥٧ ، أبواب مقدِّمة العبادات ، ب ٧ ، ح ١ : ٦٥ ، أبواب مقدِّمة العبادات ، ب ١١ ، ح ٥.

١٧١

قلمه وريقه مداده ، فأثبَتَها له. [ وإذا (١) ] هَمَّ بالسيّئة خرج نَفَسُه منتن الريح فيقولُ صاحب الشمال لصاحب اليمين : قم فإنه قد هَمَّ بالسيّئة ، فإذا فعلها هو كان لسانه قلمه ، وريقه مداده ، وأثبَتَها عليه (٢).

فدلّ على ترتّب طيب نَفَسِه الدالّ على طيب نَفسِه واستنارتها ونتن نَفَسِه الدالّ على إظلام نَفسِه وخبثها على الهمّ والنيّة. والمراد بها : العزم المتأكّد ، والنيّة المستقرّة. ونتنُ النَّفَسِ دليل على تحقّق الإثم ، والبعد عن ساحة الرضوان ، والتحقّق بصفات أهل النار ، فما زال العبد عازماً ناوياً لفعل المعصية فَنَفَسُه منتنٌ ونفسُه مظلمة وإن حال بينه وبين فعل منويّة حائل قهريّ ، ما دام عازماً على فعل المعصية ما تمكّن منه ؛ وذلك لوجود المقتضي وهو الهمّ الثابت المستقرّ من أجل غلبة النفس الأمّارة المظلمة المنتنة. وهذا النَّفَسُ خارج منها ، والمراد به : ما به مادّة حياتها وبقائها الذي يمدّها به الجهل المنتن المظلم بمقتضى الطبع الذي اقتضاه كفره.

نعم ، إن كان تركه للمعصية بعد الهمّ بها والعزم على فعلها عن رجوع وندمٍ زال ذلك الأثر زوالاً تامّاً بقدر قوّة ندمه ، وخلوص توبته ؛ فإن التوبة تمحو أثر فعل المعصية ، فلأن تمحو أثر نيّتها أولى بمقتضى وعد الله لمن تاب بالمغفرة والرحمة. وكذا لو كان تركه لها عن إعراض ، وانصراف شهوة ضَعُفَ أثر النيّة بقدر قوّة نيّة الإعراض وسببه ، وربّما زال أثره رأساً بعمل طاعةٍ وشبهها وإن لم يسبقه ندم ؛ بمقتضى سبق الرحمة الواسعة. ومن أجل سبق الرحمة واللطف يؤجّل فاعل المعصية سبع ساعات ، فإن تاب واستغفر الله لم يثبت في صحيفته ، وإلّا أُثبتت عليه ، كما في خبر فُضَيل بن عثمان المراديّ : المرويّ في ( الكافي ) قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام : يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أربع مَنْ كن فيه لم يهلك على الله بعدهنّ إلّا هالك : يهمّ العبد بالحسنة [ فيعملها ، فإن (٣) ] هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيَّته ، وإن هو عملها كتب

__________________

(١) من المصدر ، وفي المخطوط : « فإذا ».

(٢) الكافي ٢ : ٤٢٩ / ٣.

(٣) من المصدر ، وفي المخطوط : « ليعملها ، فإذا ».

١٧٢

الله له عشراً ، ويهمّ بالسيِّئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يُكتب عليه شي‌ء ، وإن هو عملها أُجِّلَ سبع ساعات ، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيِّئات وهو صاحب الشمال ـ : لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها ؛ فإنَّ الله عزوجل يقول ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (١) ، أو الاستغفار ، فإن هو قال : أستغفر الله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور ، الرحيم ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه ، لم يُكتب عليه شي‌ء ، وإن مضت سبع ساعات ولم يُتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيِّئات : اكتب على الشقيِّ المحروم (٢).

والمراد بلسانه الذي هو قلم الملك هو القوّة الناطقة المدركة للكلّيّات فإن بها ترتسم صور المعلومات في لوح النَّفس التي هي مقرّ الصور العلميّة ، وفي لوحي الخيال والوهم ، وهي أعالي وجه النفس الكلّيّة التي بها تتوجّه إلى ممدّها من العقل إن كانت مطمئنّة ، أو الجهل إن كانت أمارة ؛ ولذا ورد إن صحيفة المَلكَ جبينه.

والمراد بريقه الذي هو مداد الكاتبين هو رطوبات فكره وخياله ووهمه ، المتولّدة من هضم غذاء نفسه الذي منه تنمو صورتها ، وهو أعماله وعقائده ؛ فإنها غذاء النفس ، وهي عذبة طيّبه إن كانت النفس مطمئنّة والعقائد والأعمال حقّة ، [ و ] ملح اجاج منتن إن كانت أمارة والعقائد والأعمال باطلة ؛ فإن غذاء المطمئنّة من فضل شجرة المُزنِ (٣) وغذاء الأمّارة من فضل شجرة الزقّوم.

ولكن لمّا كتب عزوجل على نفسه الرحمة اقتضى أن تُرسم الطاعة وتُثبت لفاعلها عند فعلها ، وأن يُمهَل فاعل المعصية سبع ساعات بعدد دركات جهنّم وأبوابها السبعة ؛ لِما علمت من أن المعصية مبدؤها شجرة الزقوم ، ففي كلّ ساعة يصعد دخان المعصية الثائر من تلك الشجرة إلى مرتبة من مراتب نفسه الأمّارة

__________________

(١) هود : ١١٤.

(٢) الكافي ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ / ٤.

(٣) ورد في الحديث الشريف عن الصادق عليه‌السلام : « إن في الجنّة لشجرة تسمّى المزن ، فإذا أراد الله أن يخلق مؤمناً أقطر منها قطرة ، فلا تصيبُ بقلة ولا ثمرة أكل منها مؤمن أو كافر إلّا أخرج الله عزوجل من صلبه مؤمناً ». الكافي ٢ : ١٤ / ١.

١٧٣

السبع ، فإنها سبع طبقات فإذا بلغت الساعة السابعة ولم تُتبع بتوبة تمحوها استقرّ فعليّتها في جميع قوى الأمّارة وطبقاتها ، وتتمّ فعليّة ظهور صورة الجهل في مرآة نفسه.

فمعنى كتابتها حينئذٍ هو تمام فعليّة ثبوتها ، واستقرارها ، وتصوّر النفس بصورتها ، وبروزها بها ، فإن العقائد والأعمال مادّة تصوّر النفس وتطوّرها ، فهي متكوّنة متصوّرة بصورة أعمالها وعقائدها ، كما دلّت عليه الأخبار المستفيضة من ظهور مَن خالف الحقّ في النشأة الآخرة بصور الكلاب (١) والقردة والخنازير وغير ذلك ؛ فإن صور العقائد والأعمال الباطلة وحقائقها الغيبيّة من نوع تلك الحقائق ، فإن جميع تلك الحقائق شؤون الجهل وتطوّراته ، فهو أصل الجميع الجامع لها ، والكلّ منها بمنزلة الجزئيّات من ذلك الكلّيّ. فهذا معنى كتابة الأعمال والعقائد ، ونيّة كلّ فعل من سنخ حقيقته.

حقيقة الطاعة والمعصية

وإذا عرفت أن أصل الطاعة ومحتدها ومبدأها هو العقل وإليه تعود فإنها صفة فطرة الوجود التي فطر الله الناس عليها ، وعليها يولد كلّ مولود ، فهي متحقّقة في جميع مراتب العقل والوجود الفائض بالذات من المعبود وأن المعصية مبدؤها ومحتدها وأصلها الجهل ، وإليه تعود فلا تعود إلى الله ؛ لأن كلّ شي‌ء إنما يعود إلى ما منه بدأ ، كما دلّ عليه الأخبار والاعتبار ، ولا ينافي هذا أنها بقضاء من الله وقدر وإنما هذا لعدم خروجها وفاعلها عن ملك الله وقبضته عرفت أن المعصية مجتثّة لا قرار لها ، وإنما هي في الحقيقة عدمٌ كمبدئها وعلّتها ، وهو الجهل ، فإن حقيقته إنما هي عدم الوجود ، ولذا جنود الجهل إنما حقيقتها عدم ضدّها من جنود العقل ، فتأمّل

__________________

(١) انظر الأمالي ( الطوسيّ ) ٤٨٧ / ١٠٦٨.

١٧٤

في أفراد الجندين (١) تجد الأمر كما قلناه.

فكذا حقيقة المعصية إنما هي عدم الطاعة التي هي صفة الوجود ونور العقل ، فهي عدم كأصلها وإن كانت كأصلها في مرتبتها شيئاً موجوداً ، ولكنّه في الحقيقة إنما هو عدمُ شي‌ء هو الكمال ، فهي كظلّ الجدار الحادث من إشراق نور شعاع الشمس على وجه الجدار ؛ فإنه في مرتبته ، وبحسب الظاهر شي‌ء ، وفي الحقيقة ليس بشي‌ء وإنما حقيقته عدم نور شعاع الشمس ؛ ولذا لم يكن له فضل ولا إفضال ولا فيض ، فهي مجتثّة من فوق أرض النفوس أي لا قرار لها ؛ لاجتثاث أصلها فلا ممعاد (٢) لها من الوجود ، والعقل القارّ الثابت. والفاعل لها بما أنعم الله عليه به من الآلة التي وهبها له ليطيعه بها فعصاه بها دائماً يهوي بها وبنيّتها في دركات الجحيم ؛ لأنه بذلك لا يزال مُدبِراً عن الحقّ.

ومن ذلك يُعلم حال الكافر ونيّته ، فهم يسحبون على وجوههم ؛ لأنهم مدبرون عن الحقّ أبداً ، وقلوبهم منكوسة فليس لها ما تنتهي إليه من الحقّ. فهذا معنى سحبهم على وجوههم ، أي مدبرون عن الحقّ.

ومن هنا يُعلم أن الطاعة بعشر والمعصية بواحدة ؛ لأنها نقطة لا تقبل التكثّر ، وأن ذلك مقتضى العدل.

__________________

(١) انظر : الخصال ٢ : ٥٨٨ ـ ٥٩١ ، أبواب السبعين وما فوقه / ١٣ ، بحار الأنوار ١ : ١٠٩ ـ ١١١ / ٧.

(٢) كذا في المخطوط.

١٧٥
١٧٦

شرح الرواية

إذا عرفت هذا ، فلنرجع إلى الكلام على الخبر المبحوث عنه ، فنقول : قوله عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى جعل أي منّ بفضل رحمته التي وسعت كلّ شي‌ء ، وأنعم ، ووهب لآدم : ؛ لأنه كتب على نفسه الرحمة. والمراد بآدم : هو أبو البشر ، أو آدم الأوّل : الذي هو أب لألف ألف آدم : وما نسلوا. كلّ منهما معنى مراد ، وعلى كلّ منهما فهذا التفصيل والمنّ عامّ لجميع البشر.

ويدلّ على إرادة الثاني (١) ما رواه القمّيّ : في تفسيره من خبر المعراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام : وفيه إن الله أوحى لحبيبه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن مَن هَمّ من أُمّتك بحسنة يعملها فعملها كتبتُ له عشراً ، وإن لم يعملها كتبتُ له واحدة ، ومَن هَمّ مِن أُمّتك بسيّئة فعملها كتبتُ له واحدة وإن لم يعملها لم أكتب عليه شيئاً (٢). والخبر طويل أخذنا منه موضع الحاجة بمعناه وأكثر ألفاظه.

وليس بين الخبرين منافاة ؛ فإن امّة محمّد : من ذرّيّة آدم : البشريّ ، ومحمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : باب كلّ جود يفيض من المعبود ، فقد منّ على الأبوين بأن جعل لكلّ منهما في ذرِّيَّته أي ما ولد وتناسل منه بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط ، حسّا أو عقلاً ، فكلّ منهما ذرّيّته بحسبه ، مَنْ هَمَّ بحسنة أي عزم على فعلها عزماً مستقرّاً ونواه ؛ فإن كانت واجبة وعملها أُثيب على نيّته وعمله ، وإن لم يعملها ؛ فإن كان تركه لحائل قهريّ

__________________

(١) أي آدم أبي البشر ؛ فهو الثاني زمناً.

(٢) انظر تفسير القميّ ٢ : ١٢.

١٧٧

أُثيب على نيّته ما بقيت ، وإن كان الحائل حينئذٍ الموت بأن مات ناوياً لفعلها ما أمكنه أُثيب على نيّته أبداً. بل إن كان المنويّ هو الإيمان وما يتحقّق به من الأعمال ، خلّد بنيّته في ثواب عمله ؛ لأن النيّة من أعمال القلوب التي هي مقرّ العقائد وهياكل التوحيد التي لا تفنى ؛ لأن التوحيد الذي هي صفته لا يفنى ، فهي حينئذٍ كلّيّة ومنويّها كلّيّ متحقّق معها.

ويدلّ على ثبوت استمرار الثواب والعقاب على استمرار ثبوت النيّات خبر أبي هاشم : قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنما خلِّد أهل النار في النار ؛ لأن نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خُلِّدوا (١) فيها أن يعصوا الله أبداً ، وإنما خُلِّد أهل الجنَّة في الجنَّة ؛ لأن نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلِّدوا فيها أن يطيعوا الله أبداً ، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء ثم تلا قوله تعالى ـ : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (٢) (٣).

والوجه أن تلك النيّات عمل القلب ، فهي كلّيّات ومنويّها كلّيّ لا يفارقها ، فهما دائمان ، وما استمر العمل استمر الجزاء.

وغيره من الأخبار (٤).

وإن كان تركه لما نواه من الواجب ، لا لمانع قهريّ بل عصياناً ، عُوقبَ على ذلك ، ولم يكتب له أجر النيّة وخصوصاً إذا كان عن استخفافٍ بأوامر الله ؛ لأنه [ أطفأ ] (٥) نور نيّته بتركه ما نوى من الواجب وعصيانه.

وإن كان ما هَمّ به ونواه من الحسنة مندوباً ؛ فإن فعلها أُثيب على نيّته وعمله بفضل رحمة الله ، وإن لم يعملها ، ولم يكن تركه لها عن استخفاف وتهاون بأوامر الله ورغبة عن ثوابهِ أُثيب على نيّته للحسنة ، واستمرّ ثوابه على نيّته إذا مات ناوياً أنه يعملها ما بقي.

__________________

(١) في المصدر : « بقوا » بدل : « خلِّدوا ».

(٢) الإسراء : ٨٤.

(٣) الكافي ٢ ؛ ٨٥ / ٥ ، وسائل الشيعة ١ : ٥٠ ، أبواب مقدِّمة العبادات ، ب ٦ ، ح ٤.

(٤) عطف على قوله : ( خبر أبي هاشم ) المارّ ذكره.

(٥) في المخطوط : ( أطفى ).

١٧٨

وعلى هذا إجماع أهل العدل والتوحيد ، والأخبار الدالّة عليه كثيرة مستفيضة وقد سلف بعضها ، ومنها صحيح أبي بصير : عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال إن العبد المؤمن الفقير ليقول : يا ربّ ارزقني حتّى أفعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير ، فإذا علم الله ذلك منه بصدق نيَّة ، كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله (١).

فدلّ هذا الخبر على أنه إذا استقرّ صدق العزم والنيّة على عمل الخير ، وحيل بين الناوي وإبراز العمل بحائل قهريّ ، أُثيب ثواب العمل ؛ لأن هذا وسعه من عمل ذلك العمل و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (٢).

وإن كان تركه لعمل ما نواه من ذلك استخفافاً ورغبةً عن ثواب الله ، عُوقب على تركه ، ولم يُثَب على نيّته ؛ لأنه [ أطفأ (٣) ] نورها ، ومحا أثرها.

ومَنْ هَمَّ بحسنة وعملها سواء كانت واجبة أو مندوبة كُتبت له عشراً ؛ بفضل سعة رحمة الله وحكمته وعدله ، فالله عزّ اسمه يثيبه بقدر كلّ رتبة تحقّق فيها ذلك العمل من مراتب وجوده. وعند الله مزيد لاستقرار نيّته وثباتها ودوامها ؛ وبشفاعة محمّد : وآله ، صلّى الله على محمّد : وآله.

ومَنْ هَمَّ بسيِّئة ولم يعملها فإن كان تركه لها عن حائل ومانع قهريّ ، مع بقاء همّه وعزمه ونيّته أنه يفعلها ما تمكّن ، عُوقب على نيّته تلك ، بل ربّما استمرّ عقابه وخلّد فيه كما مرّ بيانه.

وإن كان تركه لما نواه من السيّئة لتذكّرٍ وندم وخوف من الله ، لم تُكتب عليه أي تلك السيّئة لأن التوبة تمحو أثر فعل المعصية فضلاً عن نيّتها ، فتمحو عنهم وزر الهم ، والعزم على فعل المعصية. وكذلك لو كان تركه لفعل ما نواه من المعصية عن إعراض لانصراف شهوةٍ وإن لم يكن عن ندم وتوبة ، والله غفور رحيم ، فلا تكتب عليه سيّئة ، بل لعلّ الله حينئذٍ يمحو ما تلوّثت به نفسه وتكدّر به صفاؤها من تلك

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٥ / ٣ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٩ ، أبواب مقدِّمة العبادات ، ب ٦ ، ح ١.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) في المخطوط : ( أطفى ).

١٧٩

النيّة السابقة بما يفعله من الطاعات بعدها. وعلى مثله تحمل الأخبار الكثيرة التي ظاهرها أن فعل الطاعة يمحو الذنب ، مثل مَن صلّى بالليل غفر له ما أجرم بالنهار (١) نقلتُهُ بالمعنى وقس عليه أمثاله.

فيكون المراد من الذنوب التي تمحوها الطاعات : مثل نيّة فعل الذنب الذي لا يعمله لا لمانع قهريّ مع بقاء نيّة فعله.

ويحتمل قويّاً دخول الصغائر التي لا يتكرّر فعلها من فاعلها ، ولم يصرّ على نيّة فعلها ، بل التي يفعلها مرّة واحدة ثمّ يُعرض عنها عن توبةٍ وندم ، أو عن إعراضٍ ؛ لانصراف شهوته أو حاجته إليها.

وعلى كلّ حالٍ ليس في الخبر المبحوث عنه دلالة على عدم الإثم بنيّة المعصية ، فإنه إنما قال سلام الله عليه ـ مَنْ هَمَّ بسيِّئة ولم يعملها لم تكتب عليه أي تلك السيئة. فظاهره إرادة النيّة الجزئيّة للعمل الجزئيّ ؛ لأنه في الحقيقة لا نيّة حينئذٍ ؛ إذ لا نيّة إلّا والمنويّ معها ، فإذا لم يعمل حينئذٍ ما نواه لم يكتب عليه وزر ، ولم يُنفَ وزر نيّتها والهمّ بها إذا كان كلّيّاً مستقرّاً. وهذا لا شكّ فيه ؛ فإنه مقتضى العدل ، فإن العدل الرحيم لا يؤاخِذ مَن نوى سيّئةً بعذاب مَن هَمّ بالسيّئة وعملها ، فلا يكتب عليه تلك السيّئة المنويّة ما لم يعملها ، وإنما يكتب عليه وزر نيّته التي منويّها معها ، فلا تُكتب عليه بمجرّد نيّته السيّئةُ سيّئةً حتّى يعمل السيّئة ، فتكتب عليه السيّئة ونيّتها ، فتفطّن.

ومن همّ بها أي السيّئة وعملها كُتِبتْ عليه سيِّئة بالإجماع الضروريّ ، والكتاب (٢) ، والسنة المتواترة المضمون ، والعقل الذي يعرف العدل ؛ فإن هذا مقتضاه. ولا يخلّص المكلّف من إثم المعصية ونيّتها المستقرّة إلّا التوبة المعتبرة شرعاً ، أو التصفية بالعذاب في الدنيا أو الآخرة ، أو هما بعد شفاعة الشافعين ، صلوات الله وسلامه على محمّدٍ : وآله.

__________________

(١) الأمالي ( الطوسي ) ٢٩٤ / ٥٧٢ ، بحار الأنوار ٨٤ : ١٤٣ / ١٦ ، وفيهما : «.

(٢) في قوله تعالى : ( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلّا مِثْلَها ) الأنعام : ١٦٠.

١٨٠