رسائل آل طوق القطيفي - ج ١

الشيخ أحمد آل طوق

رسائل آل طوق القطيفي - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طوق


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

وما ذكرناه كلّه مقتضى العدل والرحمة الواسعة ، فتدبر أدلّة العدل تجدها دالّة على جميع ما فصّلناه.

مناقشة المازندراني في شرحه للخبر

وقال الفاضل المازندرانيّ : في شرح هذا الخبر : ( تفصيل المقام أن ما في النفس ثلاثة أقسام :

الأوّل : الخطرات التي لا تُقصد ولا تستقرّ ، وقد مرّ أنه لا مؤاخذة بها ولا خلاف فيه بين الأُمّة ) (١).

أقول : إن أراد كما هو الظاهر وبمعونة تقييده الثاني بالاختيار ـ : مجرّد تصوّر الطاعة أو المعصية عموماً أو خصوصاً ، أو معناهما ، أو كيفيّة فعلهما ، أو الخطرات التي تخطر على النفس قهراً من غير همّ بهما وعزمٍ على فعلهما ، فلا شكّ أنه لا يُؤاخذ بتصوّر المعصية كذلك ، ولا يُثاب بتصوّر الطاعة حينئذٍ كذلك ؛ إذ ليس هذا من عمل القلب ولا البدن ، والنصّ والإجماع وقواعد العدل تدلّ على ذلك.

أما لو خطر بباله فعل الطاعة وحسنها ليأمر بها ، أو لينوي فعلها ، أُثيب. وكذا لو خطر بباله فعل المعصية وخبثها لينهى عنها وينتهي ، أُثيب بتلك الأدلّة القاطعة. ولو خطر بباله فعل المعصية ليأمر بها أو يأتمر ، أو طلب معرفتها لذلك ، أثم ، وعوقب ؛ لما مرّ.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( الثاني : الهمّ ، وهو حديث النفس اختياراً أن تفعل ما يوافقها أو يخالفها ، أو إلّا تفعل ، فإن كان ذلك حسنة كُتبت له حسنة واحدة ، فإن فعلها كُتبت له عشر حسنات ، وإن كانت سيّئة لم تُكتَب عليه ، فإن فعلها كُتِبَت عليه سيّئة واحدة.

كلّ ذلك مقتضى أحاديث هذا الباب ، ولا خلاف فيه أيضاً بين الأُمّة ، إلّا إن بعض العامّة صرّح بأن هذه الكرامة مختصّة بهذه الأُمّة ، وظاهر هذا الحديث أنها

__________________

(١) شرح أُصول الكافي ١٠ : ١٤٤.

١٨١

في الأُمم السابقة أيضاً ) (١).

أقول : هذه العبارة من المتشابه لفظاً ومعنًى :

أمّا اللفظ ، فإنه لم يفصح عن الموافق لها : هل هو الطاعة أو المعصية؟ وكلّ منهما قابل للأمرين ، فإن النفس إن كانت مطمئنّة فالذي يوافقها ذاتاً وصفة وهيئة ، ولوناً ورائحة وطعماً ، وطبعاً ونوعاً وصنفاً هو الطاعة ، والمعصية تخالفها في ذلك كلّه. وإن كانت أمارة فعلى العكس في ذلك كلّه. وهو رحمه‌الله قد أجمل ذكر النفس.

وأيضاً فقوله : ( أو إلّا تفعل ) على العكس من ذلك في كلّ منهما ، فالترك لما يوافق المطمئنّة معصية ، ولما يوافق الأمّارة طاعة. وكلامه كلّه مجمل متشابه غير مبيّن.

وأيضاً فقوله : ( فإن كان ذلك ) ، الإشارة محتملة للموافق فعلاً وتركاً وللمخالف كذلك ، فالعبارة متشابهة مجملة.

وأمّا المعنى ، فإنه إن كان هذا الهمّ المفسّر بحديث النفس ( أن تفعل ) أو ( لا تفعل ) اختياراً ليس معه نيّة ، فلا نعقل الفرق بينه وبين الأوّل ، والأوّل لا ثواب فيه ولا عقاب ، وإلّا لزم التكليف بالمحال ؛ لأنه لا عن اختيار كما هو الظاهر من عبارته. وإن كانت النيّة متحقّقة معه ، فلا نعقل الفرق بينه وبين الثالث ، مع أنه ادّعى الإجماع بظاهر عبارته على أنه يُثاب حينئذٍ على الهمّ كذلك بالطاعة ، وعدم العقاب على الهمّ كذلك بالمعصية ما لم يفعلها ، بل ظاهر عبارته أنه لا يُعاقب على ذلك الهمّ أصلاً.

نعم ، إن عمل ما همّ به كذلك من المعصية كتبت عليه تلك المعصية دون الهمّ بها ، وهذا كلّه بإطلاقه ممنوع لما عرفت. ثم إنه بظاهره حمل أخبار الباب على هذا. وحَملُ الخبر المذكور على هذا من غير أن يتحقّق معه نيّة ممنوع ؛ لما عرفت ، ولظهور منافاة العدل في إثابته على ما لم يعمل ولم ينوِ. ومع تحقّق النيّة معه نمنع إطلاق القول بعدم العقاب على ما نوى ، بل فيه ما مرّ من التفصيل.

وإن أراد بهذا القسم مبادئ النيّة وأوّل ظهورها في النفس ، بأن تكون حينئذٍ

__________________

(١) شرح أُصول الكافي ١٠ : ١٤٤.

١٨٢

مشيئة مطلقة من غير إرادة ، فهذه مرتبة معدّة لحصول النيّة وليست بنيّة ، فلا نسلّم ترتّب الثواب والعقاب عليها ، ولا يمكن حمل الخبر عليها ؛ لغموض معناها ، وغموض الفرق بينها وبين النيّة التي يترتّب عليها الثواب أو العقاب. ولا يخاطب الشارع عامّة المكلّفين بمعرفة مثلها ، ولا يترتّب عليها تكليفهم.

وبالجملة ، فهذا القسم إن تحقّقت معه النيّة اتّحد بالثالث ، وجرى فيه ما مرّ من التفصيل ، وإلّا منعنا حمل الخبر عليه. ولا نعقل قسماً ثالثاً بين الأوّل والثالث إلّا ما ذكرناه من إحضار أحدهما بالبال للأمر به والائتمار ، أو النهي عنه والانتهاء ، وهذا قد مرّ تفصيل حكمه.

وأما نفيه الخلاف بين الأُمّة في هذا على الإطلاق ، ففيه ما لا يخفى على من تدبّر ما أسلفناه من التفصيل ، والاتّفاق على هذا الإطلاق ممنوع ، والسند ما ذكر من الأدلّة القاطعة. وأمّا ما نقله عن بعض العامّة من اختصاص هذه الأُمّة بهذه الكرامة ، فباطل ؛ لما مرّ ، ولأن هذه الكرامة من مقتضى رحمة الله وعدله الذي عمّ جميع مخلوقاته.

ثم قال رحمه‌الله : ( الثالث : العزم ، وهو : التصميم وتوطين النفس على الفعل أو الترك. وقد اختلفوا فيه ، فقال كثير من الأصحاب : إنه لا يُؤاخذ به ؛ لظاهر هذه الأحاديث. وقال أكثر العامّة والمتكلّمين والمحدّثين ، ومنهم القاضي : أنه يُؤاخذ به ، لكن بسيّئة العزم لا بسيّئة المعزوم عليه ؛ لأنها لم تُفعل ، فإن فعلت كتبت سيّئة ثانية ؛ لقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (١).

وقوله ( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ) (٢).

ولكثرة الأخبار الدالّة على حرمة الحسد (٣) ، واحتقار الناس (٤) ، وإرادة المكروه

__________________

(١) النور : ١٩.

(٢) الحجرات : ١٢.

(٣) الكافي ٢ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / باب الحسد.

(٤) الكافي ٢ : ٣٥٠ ـ ٣٥٤ / باب من آذى المسلمين واحتقرهم.

١٨٣

بهم ، وحملوا الأحاديث الدالّة على عدم المؤاخذة على الهمّ ) (١).

أقول : الظاهر أن هذا هو مقصود الخبر المقصود وأمثاله ، ومراده رحمه‌الله : توطين النفس على فعل الطاعة وترك المعصية ، وهما من أقسام الطاعة ، أو على فعل المعصية وترك الطاعة وهما من أقسام المعصية. ولكنّ توطين النفس على ترك المعصية ليس من باب النيّة في شي‌ء ، وإنما هو من الأخلاق المَرضيّة ، والصفات الحميدة الناشئة من ارتياض النفس بالعقائد الحقّة المقرونة بالعلم والعمل. وكذلك توطين النفس على ترك الطاعة ليس من باب النيّة في شي‌ء ، وإنما هو من باب الأخلاق الذميمة والصفات القبيحة الناشئة من الجهل وعبادة الهوى وإن تفاوتا شدّةً وضعفاً.

فيكون مقصود الخبر وأمثاله إنما هو توطين النفس على فعل الطاعة ، أو فعل المعصية ؛ لأنه الذي يتحقّق معه نيّةُ ومنويّ ( يفعل ) أو ( لا يفعل ). ولا يظهر في توطين النفس على الترك نيّةُ ومنويّ يغايرها كذلك ؛ لأنه عدمٌ وسكون ، والنيّة أمر وجوديّ وحركة نفسانيّة وعمل غيبيّ محدث بنفسه ، فلا يحتاج في وجوده إلى نيّة أُخرى وإلّا لم يوجد عمل ؛ لما يلزمه من الدور أو التسلسل. وإنما هي مشيئة مستقرّة متأكّدة ، وهي المعبّر عنها بالإرادة. وتوطين النفس على الترك إنما هو إقبال على الحقّ ، أو إدبار عنه.

وما عزاه لكثير من الأصحاب لظاهر هذه الأخبار يدلّ على أنهم إنما فهموا من الأخبار إرادة النيّة التي فسّروها بتوطين النفس ، يعنون بها : المشيئة المتأكّدة المسمّاة بالإرادة ، ولكنّه ليس على إطلاقه بل الحقّ ما فصّلناه. وكذلك ما عزاه لأكثر العامّة والمتكلّمين والمحدّثين ليس على إطلاقه ، وإنما الحقّ ما فصّلناه. فإطلاق القولين ممنوع ؛ لما عرفت.

وأمّا إنه حينئذٍ إنما يُؤاخذ بسيّئةِ العزم لا بسيّئة المعزوم عليه ؛ لأنها لم تُفعل ، فحقّ ؛ لأن الله لا يُؤاخذ العبد بما لم يعمل ؛ لعدله وسعة رحمته ، لكن إذا استقرّ العزم

__________________

(١) شرح أُصول الكافي ١٠ : ١٤٤.

١٨٤

على الفعل ، ولم يحصل عنه إقلاع وإعراض عن توبة وندم أو غيرها ، بل إذا تعقّبه الفعل أو حال بينه وبين الفعل حائل قهريّ مع بقاء العزم واستقراره على الفعل ما أمكن ، فكما مرّ تفصيله. وذلك ما قام عندي عليه الدليل عقلاً ونقلاً.

وأمّا الاستدلال على هذه الدعوى بثبوت العذاب على ( الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ ) ، والأمر باجتناب كثير من الظنّ ، وتحريم الحسد ، فليس فيه من الدلالة على المدّعى شي‌ء بوجه ؛ إذ ليس شي‌ء ممّا ذُكِر من باب نيّة الطاعة والمعصية ، وإنما هو من باب الأخلاق الذميمة والصفات الخبيثة والطبائع المؤوفة (١) المنحرفة عن الفطرة. والفرق بين النيّات والطبائع الناشئة عنها الأخلاقُ والصفات النفسانيّة الذميمة المعوجة ، ظاهر لا يخفى.

وأما إرادة المكروه بالناس ؛ فإن كان بمعنى أنه يحب أن تقع المكاره بالناس والبلايا والضرر ، فهو من باب الأخلاق والطبائع الخبيثة الذميمة المحرّمة ، وإن كان بمعنى أنه يُريد أن يفعل الضرر بالناس هو ، فهو من باب النيّات. ولا ريب أن نيّة المعصية حرام ، فيجري فيها التفصيل السابق.

وأمّا حمل الأخبار الدالّة على عدم المؤاخذة على الهمّ فكلامٌ مجمل ، فإن الهمّ إن تحقق معه نيّة جرى فيه الكلام والتفصيل ، وإلّا فلا ينبغي التوقّف في أنه لا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب ، فإنه لا يخرج حينئذٍ عن مجرّد التصوّر أو التردّد في أنه يعزم أو لا يعزم ، وكلاهما خارج عن البحث ، وحكمه يُعلم ممّا تقدّم.

ثمّ قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( والمنكرون أجابوا عن الآيتين بأنهما مخصّصتان بإظهار الفاحشة والمظنون كما هو الظاهر من سياقهما ) (٢).

أقول : إظهار الفاحشة لا يخرج عن الغيبة أو البهت ، وكلاهما خارج عن منطوق الآية ، فإن الفرق بينهما وبين المحبّة ظاهر لا يخفى ، فلا تخصّص به. وأمّا إظهار

__________________

(١) المؤوف : الذي أصابته آفة. لسان العرب ١ : ٢٦٣ أوف.

(٢) شرح أُصول الكافي ١٠ : ١٤٤ ـ ١٤٥.

١٨٥

الظنون فهو لا يكون إلّا بالذكر اللسانيّ ، وهو خارج عن معنى الظنّ بلا شبهة ، فلا يخصّص به منطوق الآية ؛ لمباينته لمعناه. على أنا قد بيّنّا عدم دلالة الآيتين على المدّعى.

ثمّ قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( وعن الثالث : بأن العزم المختلف فيه ما له صورة في الخارج كالزنا وشرب الخمر ، وأمّا ما لا صورة له في الخارج كالاعتقادات وخبائث النفس ، مثل الحسد وغيره ، فليس من صور محلّ الخلاف ، فلا حجّة فيه على ما نحن فيه ) (١).

أقول : هذا حقّ ، يُعلم وجه حقيقته ممّا مرّ.

ثمّ قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( وأمّا احتقار الناس وإرادة المكروه بهم فإظهاره حرام يؤاخذ به ، ولا نزاع فيه ، وبدونه أوّل المسألة ) (٢).

أقول : أمّا أن إظهاره حرام يؤاخذ به فحقّ لا شكّ فيه ، والعقل والنقل والإجماع عليه متطابقة بلا معارض ؛ لظهور أنه ليس من باب النيّات ، وإنما هو من الأفعال المنويّة.

وأمّا أنه ( بدونه أوّل المسألة ) فممنوع ، بل هو أيضاً خارج عن محلّ البحث كما عرفت.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( والحقّ أنها محلّ إشكال ) (٣).

أقول : لا إشكال يكاد يتحقّق بعد التأمّل فيما قرّرناه وأوضحناه.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( ثمّ الظاهر أنه لا فرق في قوله عليه‌السلام ومَنْ هَمَّ بسيّئة ولم يعملها لم تكتب عليه بين من لم يعملها خوفاً من الله ، أو خوفاً من الناس ، أو صوناً لعرضه ) (٤).

أقول : أمّا أنه لا فرق بين من ترك ما نواه من المعصية خوفاً من الله أو خوفاً من الناس ، فإطلاقه ممنوع ؛ فإنّا قد أقمنا الدليل على أنه لو نوى المعصية ، وحال بينه

__________________

(١) شرح أُصول الكافي ١٠ : ١٤٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

١٨٦

وبين فعلها حائل ومانع قهري مع بقاء عزمه ونيّته أنه يفعلها إذا زال المانع ، فإنه حينئذٍ معاقب على نيّته ، ولا شكّ أن خوف الناس مانعٌ قهريّ يمكن مجامعته لبقاء النيّة المستقرّة.

نعم ، لا يبعد أن يلحق تركه لها صوناً لعرضه بتركه لها خوفاً من الله في عدم العقاب ؛ بفضل رحمة الله ، ولأنها حينئذٍ لاحقة بباب الشهوات ، فإن المانع حينئذٍ من الفعل نفسانيّ ، فلا تتحقّق معه إرادة مستقرّة ، وأعني النيّة.

ثمّ قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( ويدلّ على التعميم أيضاً روايات أُخر ) (١).

أقول : لم نظفر بما يدلّ على ذلك ، بل ظفرنا من العقل والنقل والعدل على ما يدلّ على المؤاخذة بالنيّات المستقرّة كما عرفت.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( فقول مَن قالَ : التعميم لا وجه له ، لا وجه له ) (٢).

أقول : قد عرفت الوجه في أن التعميم لا وجه له بالدليل ، فراجع.

ثم قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( وإن عشرة أمثال الحسنة مضمونة البتّة لدلالة نصّ القرآن عليه (٣) ، وإن الله تعالى قد يضاعف لمن يشاء إلى سبعمائة ضعف ، كما جاء في بعض الأخبار (٤) ، وإلى ما لا [ يأخذه (٥) ] حساب ، كما قال تعالى ( إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (٦) ) (٧).

أقول : هذا كلّه حقّ ثابت بالإجماع والنصوص من كتاب وسنّة ، وكرم الله ونعمته لا يحيط بها العادّون ، أدخلنا الله وإيّاكم في رحمته برحمته.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( بقي هنا شي‌ء ، وهو : أنه سألني بعض الأفاضل عن وجه الجمع بين

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) هو قوله تعالى : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) الأنعام : ١٦٠.

(٤) الكافي ٢ : ٩٣ / ٢١ ، وسائل الشيعة ١ : ٥٥ ، أبواب مقدِّمة العبادات ، ب ٦ ، ح ٢٠. بل وفي نصّ الكتاب ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) البقرة : ٢٦١.

(٥) من المصدر ، وفي المخطوط : ( يؤاخذه ).

(٦) الزمر : ١٠.

(٧) شرح أُصول الكافي ١٠ : ١٤٥ ـ ١٤٦.

١٨٧

أحاديث هذا الباب ، وبين ما مرّ في باب النيّة عن الصادق عليه‌السلام قال إنما خُلِّد أهل النار في النار لأن نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خُلِّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً ، وإنما خلِّد أهل الجنّة في الجنّة لأن نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً ، فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء.

ثمّ تلا قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (١). قال على نيَّته (٢).

فإنه دلّ أحدهما على المؤاخذة بالنيّة ، ودلّ الآخر على عدم المؤاخذة بها ) (٣).

أقول : وجه الجمع لا يخفى على مَن أحاط علماً بما أسلفناه ، وهو أن الحديث الدالّ على المؤاخذة بالنيّة والخلود بها محمول على النيّة المستقرّة الدائمة ، بحيث إنه ناوٍ أبداً أنه متى تمكّن من فعل المنويّ وزال المانع القهريّ من فعلها ، فعلها أبداً. وهي من النيّات الكلّيّة التي هي من أعمال القلب ولوازمه ، ومنويّها كلّيّ لا يفارقها ، وهو الصورة القائمة بالنفس التي تظهر النفس بصورتها.

وهذا الخبر وشبهه ممّا دلّ على عدم المؤاخذة بالنيّة إذا لم يفعل المنويّ محمول على الترك الاختياريّ وإن لم يكن عن ندم ، وهو النيّة الجزئيّة للمنويّ الجزئيّ ، فإنه حينئذٍ لا يتحقّق معه بقاء النيّة ولا يحكم عليه حينئذ أنه ناوٍ إلّا مجازاً كما هو الحقّ ، فلا اختلاف بين الأخبار.

والدليل على هذا الجمع أنه مقتضى العدل والرحمة ، فأدلّة العدل تقتضيه.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( فقلت له : لا منافاة بينهما ؛ إذ دَلّ أحدهما على عدم المؤاخذة بنيّة المعصية إذا لم يفعلها ، ودلّ الآخر على المؤاخذة بنيّة المعصية إذا فعلها ، فإن المنويّ كالكفر واستقراره مثلاً موجود في الخارج ، فهذه النيّة ليست داخلة في النيّة بالسيّئة التي لم يعملها ) (٤).

أقول : أمّا أنه لا يُؤاخذ بنيّة المعصية إلّا إذا فعلها ، فهو بإطلاقه ممنوع ؛ لما مرّ وخصوصاً خبر التخليد بالنيّات ، فإنه نصّ في أنهم مؤاخذون بنيّاتهم ، بل مخلّدون

__________________

(١) الإسراء : ٨٤.

(٢) راجع ١٧٤ هامش ٣.

(٣) شرح أُصول الكافي ١٠ : ١٤٦.

(٤) المصدر نفسه.

١٨٨

بها إذا كان المنويّ ممّا يوجب الخلود ، مع أنهم بعد الموت يستحيل منهم عمل المنويّ الجزئيّ الذي عناه بحسب الظاهر ؛ فإنه جزئيّ من كلّيّ هو النيّة الكلّيّة لعمل نوع المنويّ ؛ لأنه لا يمكن تحقّق عمل المنويّ إلّا في الخارج ، والخارج لا يقع فيه الكلّيّ من حيث هو كلّيّ ، وإنما يقع فيه جزئيّ من كلّيّه ، بل يختصّ وقوع العمل الجزئيّ وهو المنويّ بنيّة جزئيّة من النيّة الكلّيّة لكلّيّةٍ بالزمان. وفي الآخرة التي هي مقام ظهور الثواب والعقاب لا زمان ، فلا يمكن أن يقع ذلك الجزئيّ المنويّ فيها ، مع أنه في الحقيقة إنما نوى عمل المعصية الدنيويّة الزمانيّة في الدنيا والزمان ، وقد انطمست الدنيا وفنيت ، فلا يمكن أن يقع ما نوي أن يُعمل فيها في غيرها ، وكلّ عمل جزئيّ له نيّة جزئيّة.

فإذن ما همّ عليه من تلك النيّات وإن بقي اتّصاف النفس وتلبّسها بها في الآخرة ليس منويّها بمعمول في خارج الزمان ، وهو قد أناط الحكم به.

وقد دلّ هذا الخبر على أنهم مؤاخذون بها ، فليس إطلاق الشارح على ما ينبغي ، بل الحقّ التفصيلُ. فتخصيص ما دلّ على عدم المؤاخذة على النيّة بما إذا لم يفعلها بإطلاقه لا دليل عليه ، وليس فيه ما يدلّ على هذا الإطلاق.

وأمّا أنه دلّ الآخر على المؤاخذة بنيّة المعصية إذا عملها ، فنحن أيضاً نمنع دلالته على حصر المؤاخذة بالنيّة فيما إذا عملها في الزمان وإن كانت مؤاخذته بها حينئذٍ مسلّمة إجماعيّة ، فإنّا دلّلنا على أنه يُؤاخذ بها إذا أصرّ عليها وإن لم يفعل المنويّ ، وصريح خبر التخليد بالنيّات يدلّ عليه. فليس فيما قرّره الشارح جمعٌ للأخبار ؛ لعدم الدليل عليه ، بل الدليل قام على غيره ، وهو ما فصّلناه.

وأمّا أن الكفر مستقرّ في الخارج ، فإطلاقه ممنوع ؛ لأن الكفر قسمان : اعتقاديّ وفعليّ.

والأوّل ليس بموجود في الخارج ، فضلاً عن أن يكون مستقرّاً فيه.

وأما الفعليّ كقتل المعصوم ، أو سبّه ، وما أشبه ذلك فموجود في الخارج.

١٨٩

وكلا القسمين ليس من باب نيّات الأعمال في شي‌ء ؛ لأن الأوّل اعتقادٌ لا عمل ، ولا نيّة عمل في الخارج ، والبحث في الأعمال الخارجيّة ونيّاتها. والثاني إنما هو عمل يفتقر إلى نيّة ، فليس هو بنيّة.

فلا يظهر لقوله ( فهذه النيّة ليست داخلة ) إلى آخره ، معنًى يظهر لي ولا وجه للتفريع.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( ثمّ قال يعني بعض الأفاضل ـ : كما أن المعصية ليست سبباً للخلود على ما يُفهم من الحديث المذكور يعني : حديث التخليد بالنيّات لكونها في زمان محصور منقطع هو مدّة العمر ، كذلك نيّتها ؛ لأنها تنقطع أيضاً عند انقطاع العمر ، لدلالة الآيات والروايات على ندامة العاصي عند الموت ، ومشاهدة أحوال الآخرة ، فينبغي أن يكون ناويها في النار بقدر كونه في الدنيا لا مخلّداً ) (١).

أقول : تقرير السؤال على ما يظهر أنه كما أن العمل محدود بمدّة العمر وبعده ينقطع ، كذلك نيّته محدودة بمدّة العمر وبعده تنقطع. أمّا الأوّل ، فظاهر ، والخبر يدلّ عليه. وأمّا الثاني ، فلأن الآيات والروايات دلّت على ندامة العاصي عند الموت والمعاينة وانكشاف الغطاء. فكما أن مقتضى العدل أنه لا يخلّد بعمله المنقطع الواقع في زمن يسير حقير قصير منقطع ، كذلك مقتضى العدل ألّا يخلد بنيّة منقطعة واقعة في أيّام قليلة.

والجواب ما أشرنا له من أن البدنيّة مختصّة بالدنيا ، منقطعة بانقطاع العمر ؛ ولذلك صرّح الخبر أن خلودهم ليس بمقتضى أعمالهم ؛ لانقطاعها ، والمنقطع لا يقتضي المؤبّد ، لمنافاته للعدل ، ولأن جميع الأعمال البدنيّة الزمانيّة جزئيّات ، والجزئيّ محدود معدود منقطع ، وكذلك نيّاتها الجزئيّة منقطعة بانقطاع المنويّ ، فإن كلّ عمل جزئيّ له نيّة جزئيّة تختصّ به وتنطبق عليه وتساويه ، لا تزيدُ عليه ، ولا تنقص عنه ، فهي منتهية بانتهاء المنويّ ، منقطعة بانقطاعه ، بخلاف كلّيّ ذلك الجزئيّ ، فإنه غير

__________________

(١) شرح أُصول الكافي ١٠ : ١٤٦.

١٩٠

محدود ولا معدود ، وإلّا لم يكن كلّيّاً ، وذلك مثل أن تنوي أن تزني أو تصلّي أو تقتل أبداً ما بقيت ، فالنيّة الجزئيّة منتهية بانتهاء عمل منويّها.

وأمّا العقائد والنيّات المستقرّة على الدوام في العمل ما أمكن وبقي محلّه من الدنيا والأخلاق والطبائع اللازمة المستقرّة ولو بالتطبّع ، وهي الكلّيّات ، فإنها كلّها لازمة للنفس الأمّارة ، والقلب المنكوس المختوم عليه ، المظلم بسبب تلك الأحوال اللازمة ، فإنها مادّة صورة الأمّارة ، بل هي مادّة وجودها وحقيقتها المتكوّنة الممتدّة من تلك الأحوال التي هي من إمدادات الجهل المركّب الشقيّ المدبر أبداً.

فالنيّات إذن هي أعمال النفس الباقية ببقائها ، فإنها من لوازم ذاتها ، فهم يحشرون على صنو عقائدهم ونيّاتهم المستقرّة ، فما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج ، فقلوبهم المظلمة المنتكسة لا تنفكّ عن تلك الأعمال ولا تزايلها ، فلا فناء لتلك النفوس ولا لصورها ومواد وجودها ، ولا لأعمالها ؛ إذ لا تتوقّف أعمال النفوس على وجود الزمان والمكان. ولأجل ذلك قلنا : إن النيّات حتّى في الأعمال الزمانيّة خارجة عن المكان والزمان ، ولا طائل في الخلاف في أنها شرط أو شطر في الصلاة ، فإنها إنما هي رتبة من رتب وجود العمل الخارجيّ غيبيّة ، وإن قلّ من تنبّه لذلك من الفقهاء.

وأظنّ أن عبارة فاضل ( المناهج ) تشير إلى هذا.

وبالجملة ، فالمراد بالنيّات التي يخلّد بها صاحبها هي الكلّيّات اللازمة للنفس المتصوّرة بصورها المتطبّعة بطبائعها ومنويّاتها كلّيّات لا يحدّها ولا يعدّها الزمان ولا المكان ، وهي لازمة لنيّاتها ، دون الجزئيّات المختصّ كلّ جزئيّ منها بجزئيّ من المنويّات ، فإنها منقطعة بانقطاع منويّها ، ومنويّها زمانيّ منقطع وإن كانت هي خارجة عن الزمان غير داخلة تحت دور معدّل النهار ، بل لا تتحقّق إلا بتحقّق منويّها فإنه لا تكون الإرادة إلّا والمراد معها. وكلام السائل إنما يرد على النيّات الجزئيّة المنطبقة على الأعمال الجزئيّة المقدّرة بقدرها ، فإن العمل الجزئيّ إنما هو تفصيل نيّة الجزئيّة ، فهي منقطعة بانقطاعه ، فلا إشكال في الأخبار ، ولا منافاة بينها.

١٩١

ومن الأدلّة على بقاء تلك النيّات الكلّيّة وعدم انقطاعها بالموت ما أخبر الله عزّ اسمه عن الكفّار بقوله ( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (١).

فهم أظهروا الندم نفاقاً ؛ لما انطوت عليه حقائقهم من لوازمها التي هي من دخان الجهل ، مع بقاء نيّاتهم الكلّيّة التي لزمتها نفوسهم ، وتغذّت بها وظهرت بصفاتها ؛ ولذا كذّبهم الله تعالى فأخبر بأنهم كاذبون في إظهار الندم ، وأن الذي حملهم على إظهار الندم نفاقاً هو ظهور حقّيّة ما كذّبوا به وظهور كفرهم وضلالهم ، فأظهروا الندم تمنّياً لزوال العذاب عنهم بذلك ، وهو دليل على أنهم لم يقلعوا عن نيّة التكذيب بآيات الله.

ويؤيّد أن تمنّيَهم ذلك إنما هو نفاق ، ما رواه العياشيّ (٢) : في تفسير هذه الآية عن الصادق عليه‌السلام أنها نزلت في بني أُميّة ؛ فإن المنافق في الدنيا منافق في الآخرة ، بل ومنافق في الذرّ ، فنفاقه في الذرّ لا يزايله في الدنيا والآخرة.

وأنت إذا تأمّلت الكتاب والسنّة لم يعسر عليك الدلالة على هذا.

وبالجملة ، فخبر التخليد بالنيّات يراد به النيّات الكلّيّة للمنويّ الكلّيّ ، وخبر الباب الدالّ على أنه لا يُؤاخَذ بالنيّة المجرّدة عن العمل ، مخصوص بما فصّلناه ، وندامة الكافر والعاصي إذا لم يكن مؤمناً نفاق ، فسقط السؤال وانكشف الحال.

ثمّ قال رحمه‌الله في الجواب عن الإشكال : ( فقلت له :

أوّلاً : إن هذه النيّة موجبة للخلود لدلالة الحديث عليه بلا معارض ، فوجب التسليم والقبول ) (٣).

أقول : ليس الإشكال إلّا في دلالته على ذلك ووجوب تسليمه ، وقبوله على ما

__________________

(١) الأنعام : ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) تفسير العيّاشي ١ : ٣٨٨ ـ ٣٩٠ ، ورواه في تفسير القمّي ١ : ٢٢٤.

(٣) شرح أُصول الكافي ١٠ : ١٤٦.

١٩٢

فيه من الإشكال ليس بجواب عن الإشكال.

وأيضاً نفي المعارض ممنوع ؛ فإنه موجود وهو الحديث المبحوث عنه ؛ فإن السؤال تضمّن طلب وجه الجمع بينهما ، فليس هذا بجواب عن الإشكال العقليّ المذكور ، ولا بجامع بين الخبرين ، وطلب وجه الجمع ودفع الإشكال ليس ردّاً للخبر.

ثمّ قال رحمه‌الله : ( وثانياً : إن صاحبها في هذه الدنيا التي هي دار التكليف لم يفعل شيئاً يُوجب نجاته من النار ، وندامته بعد الموت لا تنفع لانقطاع زمان التكليف ) (١).

أقول : إن صاحبها وإن لم يفعل في الدنيا التي هي دار التكليف شيئاً يُوجب نجاته من النار ، فهو أيضاً لم يفعل في دار التكليف ما يوجب الخلود في العذاب ؛ لأن أيّام عمله منقطعة محصورة قليلة ، فالعدل أن يتساوى قدرا عمله وعقابه ، فالإشكال بحاله ، وعدم نفع ندامته بعد الموت ، يُوجب زيادة قدر عذابه على قدر عمله ، بل ندمه بعد الموت وإن لم ينفع في إسقاط عذابه بقدر ما عمل ، لكنّ الأوفق في بادئ النظر بالعقل أنه يسقط زيادة قدر عذابه على قدر عمله ، فليس في هذا الجواب كالذي قبله جمع بين الأخبار ، ولا دفع للإشكال بحال.

ثمّ قال رحمه‌الله تعالى ـ : ( وثالثاً : إن سبب الخلود ليس ذات المعصية ونيّتها من حيث هي ، بل هو المعصية ونيّتها على فرض البقاء أبداً ، ولا ريب أنها معصية أبديّة موجبة للخلود أبداً ، فتأمّل تعرف ) (٢) ، انتهى كلام الشارح ، شكر الله سعيه.

وأقول : إذا لم يكن ذات المعصية ولا نيّتها سبباً للخلود فلا خلود بالعزم على فرض أن يبقى بطريق أولى ، بل لمانع أن يمنع كون فرض البقاء المنويّ فيه المعصية ذنباً ؛ لأن مظروف المفروض مفروض. ولو سلّم أنه نيّة معصية فهي نيّة معصية لم يعملها ؛ لأنها كنيّتها مفروضة ، فلا تكتب عليه كما هو ظاهر النصّ ، فهذا كسابقيه غير جامع للأخبار ولا رافع للإشكال ، بل لا يظهر عليه دليل.

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) المصدر نفسه.

١٩٣

نعم ، إن أراد ما قرّرناه من أن النّيّة الكلّيّة المتعلّقة بالمنويّ الكلّيّ الذي لا يفارقها نيّة وذنباً معمولاً ، يخلد به صاحبه إن كان يُوجب الخلود ، وأنه المراد بخبر : أنهم بنياتهم خلّدوا فحقّ ، ولعلّه أراد هذا ، لكنّه لم يبيّن حينئذٍ ما المراد بالخبر المبحوث عنه ، فلم يظهر به وجه الجمع وإن رفع الإشكال ، والله العالم بحقيقة الحال.

والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد : وآله الطيّبين الطاهرين ، وسلم عليهم أجمعين كما هم أهله.

تمَّت بقلم مؤلِّفها الأقلِّ الأحقر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : عصر يوم الحادي والعشرين من شهر شوال سنة (١٢٤٣) الثالثة والأربعين بعد المائتين والألف.

١٩٤

الرسالة الخامسة

أحكام التيمّم

في بعض صور عدم وجدان الماء

١٩٥
١٩٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليِّ العظيم ، وصلّى الله على محمَّد : وآله الطيِّبين.

اعلم أن الكتاب والسنّة والإجماع قد دلّوا على أنه لا تشرع الطهارة الترابيّة إلّا حال عدم وجدان الماء وإن وقع الخلاف في بعض صور عدم الوجدان ، هل هي داخلة في عدم الوجدان ، أم لا؟ كما لو لم يسع الوقت للطهارة المائيّة مع ركعة بأقلّ الواجب مع وجود الماء ، فهل فرضه التيمّم حينئذٍ ، ويأتي بالعبادة أداءً ، أو يستعمل الماء ويقضي؟

فالأكثر وهو المشهور المنصور ـ [ على ] الأوّل ؛ لصدق عدم الوجدان ، وعدم جواز ترك العبادة في وقتها اختياراً مع التمكّن من استعمال أحد الطهورين ، فإن ربّ الماء ربّ الصعيد ، ولأنه لو سقط الأداء سقط القضاء ؛ لأن حقيقة القضاء تدارك ما فات وما سقط التكليف به لم يفت.

وقد دلّ الإجماع والنصّ على أن سبق الطلب للماء شرط في مشروعيّة التيمّم وإن اختلفوا في كيفيّة الطلب ، وكمّيّة زمانه ومكانه. فالمشهور بل كاد أن يكون بين المتأخرين إجماعاً أنه يجب الطلب حتّى يتضيّق الوقت ، ولا يشرع التيمّم إلّا في

١٩٧

آخر الوقت ، وبه جملة من الأخبار المعتبرة (١). وادّعى عليه المحقّق (٢) : والعلّامة (٣) وغيرهما الإجماع وإن اختلفوا هل هو آخر وقت الفضيلة أو الأجزاء؟ فالأكثر على الثاني (٤) ، وجماعة على الأوّل جمعاً بين الأخبار. ولعلّه الأظهر.

وقيل يشرع في أوّل الوقت اختياراً وإن استحبّ التأخير (٥) ، وله إطلاق الأخبار (٦) المفضّلة لأوّل الوقت لكنها مقيّدة بأدلّة المشهور.

نعم ، لو حصل اليقين بفقد الماء في أوّل الوقت ، واليقين بعدم حصوله إلى آخر الوقت شرعت المبادرة للعبادة في أوّله كما عليه جماعة ، خلافاً للأكثر فأطلقوا عدم المشروعيّة إلّا في آخر الوقت. والمشهور بل كاد أن يكون إجماعاً أن من شرع له التيمّم فتيمّم وصلّى به لا تجب عليه الإعادة لا أداءً ولا قضاءً مطلقاً في سفر كان أو حضر ، لفقد عين الماء ، أو لتعذّر الوصول إليه ، أو لخوف الضرر باستعماله ، أو لضيق الوقت عنه ، أو لغير ذلك.

وقد جاء في خبر السكوني : عن جعفر : عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليه‌السلام : أنه سُئل عن رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة لا يستطيع الخروج من كثرة الزحام قال يتيمّم ويصلّي ، ويعيد إذا انصرف (٧).

وموثّقة سماعة عنه أيضاً عن آبائه عن عليّ عليه‌السلام : أنه سُئِلَ عن رجل يكون في الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة ، فأحدث أو ذكر أنه على غير وضوء ، ولا يستطيع الخروج من كثرة الزحام قال يتيمَّم ويصلِّي معهم ، ويعيد إذا هو انصرف (٨).

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٣ / ١ ، تهذيب الأحكام ١ : ٢٠٣ / ٥٩٠ ، وسائل الشيعة ٣ : ٣٨٤ ، أبواب التيمّم ، ب ٢٢.

(٢) المعتبر ١ : ٣٩٢.

(٣) النهاية ١ : ٢١٦.

(٤) المهذّب ١ : ٤٧ ، الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : ٩٢ ( حجريّ ).

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٤٠.

(٦) تهذيب الأحكام ١ : ١٩٤ / ٥٦٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٣٦٨ ، أبواب التيمّم ، ب ١٤ ، ح ٩.

(٧) تهذيب الأحكام ١ : ١٨٥ / ٥٣٤ ، وفيه : « ويصلّي معهم ».

(٨) تهذيب الأحكام ٣ : ٢٤٨ / ٦٧٨.

١٩٨

وخبر الجعفريّات على ما نقله الشيخ حسين : في ( شرح المفاتيح ) عن موسى بن جعفر : عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهم‌السلام : أنه سُئِلَ عن رجل يكون في الزحام في صلاة جمعة أحدث ولا يقدر على الخروج ، فقال يتيمَّم ويصلِّي معهم ، ويعيد (١).

ومثله ما نقله رحمه‌الله أيضاً من نوادر الراونديّ : بالإسناد المنتهى إلى عليّ عليه‌السلام.

وما نقله أيضاً من ( الدعائم ) مرسلاً عنهم عليهم‌السلام ، أنهم قالوا ولا يتيمَّم في الحضر إلّا في عذر أو يكون في زحام ، ولا يخلص منه ، وحضرت الصلاة فإنه يتيمَّم ويصلِّي (٢).

وقد نقل عن الشيخ (٣) وابن الجنيد (٤) : وظاهر الصدوق (٥) : العمل بظواهر هذه الأخبار من مشروعيّة التيمّم حينئذٍ والصلاة به ووجوب الإعادة.

وتبعهم على ذلك ابن سعيد : في ( الجامع ) (٦) ، وتبعهم جماعة من المتأخرين (٧) في العمل بظواهرها في مشروعيّة التيمّم ، والصلاة دون وجوب الإعادة ، وقالوا باستحباب الإعادة حينئذٍ.

وأقول : الظاهر ومن الله الهداية أن التيمّم حينئذٍ غير مشروع ، وفاقاً لظاهر كلّ من لم يذكر أن هذا من أسباب مشروعيّة التيمّم ، ولم يعرّج على ذكر شي‌ء من هذه الأخبار ، بل حصر أسباب مشروعيّته في فقد عين الماء ، أو عدم التمكّن من استعماله لخوف الضرر على اختلاف ضروب الضرر التي ذكروها ، ولم يذكروا فيها هذا الوجه ، أو عدم الوُصلة إليه على اختلاف ضروب عدم الوُصلة له ، ولم يذكروا فيها هذا الوجه.

ولظاهر كلّ من أطلق وجوب التربّص بالعبادة إلى آخر الوقت ، وعدم مشروعيّة

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٢٥ ، أبواب التيمُّم ب ٢ ، ح ١ ، وفيه : « وليعد .. ».

(٢) دعائم الإسلام ١ : ١٦٥ ، وفيه : « إلّا من علَّة ، أو يكون رجل أخذه زحام .. ».

(٣) المبسوط ١ : ٣١ ، النهاية : ٤٧ ، مختلف الشيعة ١ : ٢٧٩ / المسألة : ٢٠٧.

(٤) عنه في مختلف الشيعة ١ : ٢٧٩ / المسألة : ٢٠٧.

(٥) المقنع : ٢٧ ، وفيه نصٌّ وتصريح بذلك ، أمّا في ( الفقيه ) ١ : ٦٠ ، فقد صرَّح بالتيمُّم وذهب إلى عدم الإعادة.

(٦) الجامع للشرائع : ٤٥.

(٧) مدارك الأحكام ٢ : ٢٤١ ، التنقيح الرائع ١ : ١٣٧.

١٩٩

التيمّم إلّا في آخر الوقت.

ولظاهر كلّ من قال بأن الجمعة ليست واجباً عينيّاً.

ولعدم الدليل على أن ذلك من أسباب مشروعيّة التيمّم.

وللإجماع في الجملة على أنه لا يشرع إلّا بعد الطلب.

ولإطلاق الأخبار الدالّة على وجوب الطلب للماء قبل التيمّم (١) ، والأخبار الدالّة على أنه لا يشرع إلّا في آخر الوقت (٢) ، وكلاهما كثير.

وهذه الأخبار (٣) فيها :

أوّلاً : أنها ضعيفة لا تقاوِم تلك الإطلاقات الكثيرة المتلقّاة بين العصابة بالقبول.

وثانيا : القائل (٤) بمضمونها نادر عند التأمّل ؛ إذ ليس إلّا من أوجب حينئذٍ التيمّم والصلاة.

ثمّ الطهارة والإعادة في عرف المتشرّعة لا يطلق إلّا على فعل العبادة ثانياً قبل خروج وقتها ، وليس في هذه الأخبار ما يدلّ على وجوب القضاء لو خرج الوقت ولمّا تُعَد ، وهو لا يثبت إلّا بدليل ، ولا دليل. فالقائل بوجوب الإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه إن لم يعد فيه ، غير عامل في الحقيقة بهذه الأخبار ، ولا دليل على فتواه ، ولم نقف على مصرّح بالعمل بمضمونها من وجوب الإعادة حينئذٍ دون القضاء. فالقول بمضمونها نادر.

وثالثاً : [ أنها (٥) ] بظواهرها تدلّ على وجوب جمعة وظهر في يوم ، أو ظهرين في يوم ، وهو إيجاب لستّ فرائض يوميّة في يوم أداءً ، وهو خلاف ما عليه الأُمّة.

ورابعاً : أن الظاهر أنها إنما عني بها : حال الصلاة مع المخالفين تقيّة ، والقرينة من خارجٍ ما ذكرناه ، ومنها : أنها كلّها أُسندت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولم يفتِ فيها أحد

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٣٤١ ، أبواب التيمُّم ، ب ١.

(٢) وسائل الشيعة ٣ : ٣٨٤ ، أبواب التيمُّم ، ب ٢٢.

(٣) أي الدالّة على مشروعيّة التيمّم ، ثم إعادة الصلاة بالطهارة المائيّة بعد زوال العذر.

(٤) في المخطوط : ( فالقائل ).

(٥) في المخطوط : ( فإنها ).

٢٠٠