المغزى ، وإنما يفعل ذلك طلبا للمبالغة لأن له تأثيرا شديدا في القلب ، وموقعا عظيما في النفس وفائدته أنه أول ما يطرق سمع المخاطب ذكر العقد في العدد فيكبر موقع ذلك عنده ، وهو شبيه بما ذكرنا من الإبهام ، ثم التفسير بعدهما يسوّي بينهما .. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً ) فانه انما قال ـ ألف سنة إلا خمسين عاما ـ ولم يقل تسعمائة وخمسين عاما لفائدة حسنة وهي ذكر ما ابتلى به نوح عليه الصلاة والسلام من أمّته ، وما كابده من طول المقام ليكون ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنبيها له ، فإن ذكر رأس العدد الذي هو منتهى العقود وأعظمها أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع قوّة صبره ، وما لاقاه من قومه .. ومن بديع التفسير بعد الابهام قوله تعالى : ( إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ) ولو حذف ـ واحدة ـ كان الأمر كما ذكرنا وذهبت تلك الفخامة التي في الابهام وزال ما فيه من الغموض وانقطع شوق النفس إلى التفسير وفسر ـ الواحدة ـ بقوله أن تقوموا لله مثنى وفرادى .. ومنه قوله تعالى : ( وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى ). ومنه قوله تعالى : ( فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ ). ومنه ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ). ومنه في الاستعمال قولهم فؤاد فيه ما فيه .. ومنه قول الشاعر في وصف الخمر :
فقد مضى ما مضى من عقل شاربها |
|
وفي الزجاجة باق يطلب الباقي |
ـ ومنه قول الآخر :
مضى ما مضى حتى علا الشيب رأسه |
|
فلمّا علاه قال للباطل ابعد |
ـ وقال آخر :
سأغسل عني العار بالسّيف جالبا |
|
عليّ قضاء الله ما كان جالبا |
فاعرف ذلك وقس عليه.