القسم الخامس والخمسون
النفي والإثبات
وهو أعلى ضرب من البلاغة كثير الفوائد عذب الموارد. وقد تكلم فيه أرباب علم الكلام ، وأرباب علم البيان ، وقالوا إن نفي الخاص يدل على ثبوت العام ، ولا يدل نفيه على نفيه. وقد بينا أن زيادة المفهوم في اللفظ توجب زيادة الالتذاذ به لحصول جملة من الملاذ دفعة واحدة ، ولذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص وإثبات الخاص أحسن من اثبات العام. أما الأول فكقوله تعالى : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ) ولم يقل بضوئهم لأن النور أعمّ من الضوء إذ يطلق على الكثير والقليل ، وإنما يقال الضوء على القدر الكثير.
ولذلك قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ) وهاهنا دقيقة وهو أنه قال ـ ذهب بنورهم ـ ولم يقل أذهب نورهم لأن الإذهاب بالشيء لا يمنع من عود ذلك الشيء بخلاف الذهاب إذ يفهم من ذلك استصحابه في الذهاب ، ومقتضى ذلك منعه من الرجوع. وكذلك قوله تعالى : ( قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ) معناه لا ضلالة واحدة بي ويلزم من ذلك أن لا يثبت له فرد من الضلال البتة ولا كذلك لو قال ليس بي ضلال ، لأن اسم الجنس يقال على الكثير والقليل فيجوز أن يكون المنفي هو الكثير. ومما يشبه ذلك قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) فإن هذا يدل على النهي عن الضرب أيضا ، لا على أن