وتصغير شأنها لأن الإخلاد اليها أصل الشر كله ، ثم ثنى ذلك بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها وأنها هي الوطن المستقر ، ثم ثلث بذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منها ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف ، فكأنه قال : سبيل الرشاد هو الإعراض عن الدنيا والرغبة في الآخرة ، والامتناع عن الأعمال السيئة خوف المقابلة عليها ، والمسارعة إلى الاعمال الصالحة رجاء المجازاة عليها .. وكذلك قوله تعالى : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ) ولم يقل قواعد البيت لما في ابهام القواعد ، ولما في تبيينها بعد ذلك من الإيضاح وتفخيم حال المبهم بما ليس في الاضافة .. ومن هذا الباب قوله تعالى : ( وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً ) إلى قوله : ( فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى ) الآية لما أراد تفخيم ما التمس من بلوغه اسباب السموات أبهمها أولا ، ثم فسرها ثانيا ، ولأنه لما كان بلوغهما أمرا عجيبا أراد أن يورده على صورة مشوقة إليه ليعطيه السامع حقه من التعجب ، فأبهمه لتتشوف اليه نفس هامان ، ثم أوضحه بعد ذلك ..
ومما يدخل في هذا الباب الابتداء بذكر الضمير ، ثم الافصاح بذكر صاحبه وحده كقوله تعالى : ( وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ) فإنه لما أتى بالضمير الذي هو منه قبل صاحبه الذي هو في القرآن كان ذلك تفخيما له وتعظيما من أمره ولو قال ـ وما تكون في شأن وما تتلو من قرآن ـ ولم يذكر الضمير لما كان للكلام تلك الفخامة التي كانت له مع ذكر الضمير .. ومثل هذا قولهم الكريم العالم الفاضل ـ ثم يقال ـ فلان ـ وقد سبق الكلام عليه ..
وأما الابهام من غير تفسير فكثير شائع في القرآن العزيز كقوله تعالى : ( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) أي الطريقة أو الحالة أو الملة التي هي أقومها وأشدها ، وأيّ ذلك قدرت لم تجد له مع الافصاح ذوق البلاغة الذي تجده مع الإبهام ، وذلك لذهاب الوهم فيه كل مذهب وايقاعه على محتملات كثيرة ، وهذا لا يخفى على العالم برموز صناعة التأليف فاعرفه .. ومما يدخل في هذا الباب الاستثناء العددي ، وهو ضرب من التأليف لطيف المأخذ عجيب