وجوه (٤٠) قد عنى العلماء بإفاضة القول فيها.
مع أن هذا القول الصادر عن العرب كانوا يعدونه أبلغ ما قيل فى معناه.
على أن كثيرا من الشعراء قد أوجزوا فأخلوا ، وسر بلاغة الإيجاز وضوح المعنى ..
من ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود :
أعاذل عاجل ما أشتهى |
|
أحب من الأكثر الرائث |
(إ) ٤١ لأنه أراد : عاجل ما أشتهى مع القلة أحب إلى من الأكثر البطىء ، فترك «مع القلة» وبه تمام المعنى.
ومنه قول عروة بن الورد :
عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم |
|
ومقتلهم عند الوغى كان أعذر |
كأنه أراد أن يقول : عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم فى السلم وقتلهم فى الحرب أعذر ، فترك «فى السلم» وبه تمام المعنى كذلك.
وكذلك قول الحارث بن حلزة :
والعيش خير فى ظلال النوك |
|
ممن عاش كدا |
أراد : العيش الناعم فى ظلال الجهل خير من العيش الشاق فى ظلال العقل.
والوجه الذى يقرب هذه الأمثلة الثلاثة إلى الصواب أنه يمكن أن يقال : إن دليل الحذف فيها ما قابل المحذوف. فقوله : «ومقتلهم عند الوغى» دليل «فى السلم» المحذوف ، وإلا لخرج الكلام مخرج الأحاجى والألغاز ، ولما استحق أن يدخل فى باب الأدب.
ولو أننا تتبعنا سائر فنون البديع بمعناها العام لوجدنا أمثلتها فى القرآن لا تخرج عن البلاغة الأصلية مع الوفاء بحق المعنى ، وحق اللفظ.
فليس فيه إحسان فى موضع ، وإساءة فى آخر ، بل هو على وتيرة واحدة فى جميع فنونه وطرق تعبيره ، وهذا هو الفرق الذى رمناه بين بديع القرآن وبديع الناس.
فالناس ـ شعراؤهم وناثروهم ـ إذا أكثروا من استعمال البديع لم يسلم لهم منه إلا القليل ، وإذا لم يكثروا منه ـ وهذا شرط قبوله ـ فإنهم ليسوا فى مأمن من السقوط والكلفة ، كما وقع لبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبى تمام ، وكما وقع للمتأخرين منهم حينما أسرفوا وغالوا فى السعى وراء البديع فضعف معه المعنى أو زال من أساسه كبديع الزمان الهمذانى وصفى الدين الحلى ، وغيرهم من عشاق البديع.
والبديع فى القرآن فطرى جرى مع طبيعة