«فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لفهم أن ذلتهم لضعف ، فلما قال :
(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) علم أنها تواضع منهم لهم. ومن أمثلته فى القرآن الكريم ، ولم يذكرها الخطيب قوله تعالى :
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٧).
وهذا عكس الأول. لأن فيه استدراكا من ضعف أما هذا ففيه استدراك من قسوة ، لأنه لو لم يذكر (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) لوقع فى بعض النفوس وهم أنهم قساة فى التعامل. ولكن لما قال : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) علم أن مبعث شدتهم هو عدم موالاتهم لأهل الكفر وبخاصة أن الكفار فى عصر نزول القرآن كانوا شديدى القسوة على المؤمنين ، فعاملهم المؤمنون بالمثل.
ويجوز أن يكون التكميل هو الأول ، فيكون من الاستدراك من الضعف ، يعنى أنهم يستعملون الشدة فى مواضع الشدة ، ويستعملون اللين فى مواضع اللين.
وقال ابن أبى الأصبع : «ومن أحسن ما جاء فى هذا الباب وأنصعه قوله تعالى :
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (٨).
قال : «فإن المعنى قد تم عند قوله :
(ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) لكن يبقى على ظاهر الآية إشكال من جهة أن الضعيف إذا سمع قوله بعد حكاية التكذيب لنبيه أمر نبيه أن يقول : إن ربهم ذو رحمة واسعة ، مقتصرا على ذلك ، يتوهم أن رحمته لسعتها ربما شملت من كذب نبيه ، فاحترس من هذا الاحتمال ، بما جاء به مكملا للمدح بالانتقام من الأعداء ، كما يمدح ـ يعنى الله ـ بالرحمة للأولياء فقال :
(وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فجعل الوعيد للمكذبين ، بعد تقديم الوعد للمصدقين ، فإن البلاغة توجب أن تكون الرحمة الموصوفة بالسعة للمحسنين ليقابل ذلك قوله :
(وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (٩)
وهذا توجيه سديد ، وفهم ثاقب لدقائق كتاب الله العزيز ، وروائع أسراره.
وبمثل هذا التوجيه السديد وجّه المؤلف قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) (١٠) قال :
فإن التكميل أتى فى هذه الآية بعد صحة التقسيم لأن الكذب .. على قسمين :
قسم مطلق ، وقسم مقيد ، فالمطلق قوله