فتشعر هذه القراءة بأن القوم فى بعض أوقاتهم استعظموا الكسب الذى يحصل عليه موسى وأخوه ـ وهو الكبرياء فى الأرض على ما توهموا أنه غرضهما ـ لو نجحا فى صرفهم عما وجدوا عليه آباءهم. فأفادت القراءتان معنيين ، واستوفتا حالتى القوم اللتين اعتبرت كل حالة منهما القوم فى بعض الأوقات. ويجوز وجه آخر ، وهو أن تكون قراءة التأنيث مفيدة لحالة فريق من القوم استصغر ثمرة الدعوة ، وقراءة التذكير مفيدة لحالة فريق آخر منهم استعظمها ـ على الوجه المذكور فى الاستصغار والاستعظام.
وهذه المعانى ، وهذا الاستيفاء للأحوال ، والأوقات ، والجماعات من البلاغة بمكان.
ـ وقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) الأنعام :١١٥) (قرئ كلمة ربك) بالإفراد ، و (كلمات ربك) بالجمع (١٥٤). (فالانفراد على إرادة الجنس) (١٥٥) ، وهو معنى يقصده المتكلم.
(والجمع لتنوع الكلمات الربانية أمرا ، ونهيا ، ووعدا ، ووعيدا) (١٥٦). وهو معنى آخر من مقاصد الكلام. وكل هذا يعدّ من التوسعات البيانية ، ومن التخفيف النفسى حيث لا حبس على وجه واحد. وليس ممّا تختلف فيه لهجات العرب. وقوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) بالجمع وجها واحدا فاتفق معه الجمع فى القراءة الثانية ، إذ الجمعان بمعنى واحد.
والإفراد فى القراءة الأولى ينوب عن الجمع ؛ لأنه اسم جنس. وكل قراءة على انفرادها جاءت على أسلوب فصيح ، واجتماعهما على موضع واحد أمر يمتاز به القرآن الكريم فى إيجازه وبلاغته الفائقة (١٥٧).
ـ وقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (النساء : ٩٤) قرئ (السلم) بدون ألف بعد اللام ، وقرئ (السلام) بالألف (١٥٨). (وفسّر من ألقى السلم بأنه من استسلم فأظهر الانقياد لما دعى إليه من الإسلام. وفسر من ألقى السلام بأنه من أظهر تحية الإسلام ، وقد كان ذلك علما لمن أظهر به الدخول فى الإسلام) (١٥٩).
إلى غير ذلك من قراءات كثيرة ذات معان شريفة وفيرة.
وبهذا قدمنا صورة ـ وإن كانت مصغرة جدا ـ لأثر القراءات فى بلاغة القرآن ، وإعجازه. ولم يظهر أثرها فى علم البلاغة لوجهين : أحدهما : الاكتفاء بعلم إعجاز القرآن (١٦٠) ، والآخر : أن علم البلاغة يقدم قواعد يستثمرها من يستطيع فيأتى بالكلام