فأورد في قلبه محبّة لمعبوده وتوجّها لخالقه ، ولم يصل الخليل إلى هذا المقام إلّا بعد اجتياز مراحل وطي منازل كثيرة ، وهي مرحلة الفتنة والافتنان ثمّ الامتحان ثمّ التسليم ، ثمّ العبوديّة ، ثمّ النبوّة ، ثمّ الرسالة ، ثمّ الخلّة ، ثمّ الإمامة ، وقد اجتازها إبراهيم عليهالسلام كلّها بأمان ، فخصّه الله تعالى بالخلّة والإمامة ، كما يظهر ذلك من الآيات الشريفة الّتي نزلت في حقّ إبراهيم عليهالسلام ، وفي الحديث عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام : «انّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا ، وإنّ الله تعالى اتّخذه خليلا قبل أن يجعله إماما» ، ولعلّ ذكره في صدر الآية المباركة وتوصيفه بكونه حنيفا لأجل بيان استعداده لنيل مقام الخلّة. وأنّ ترك ما سوى الله تعالى وتسليم الأمر إليه عزوجل ممّا يوجب استعداد الفرد للوصول إلى هذه المنزلة.
ثمّ إنّ الخلّة الإلهيّة كالخلّة الّتي هي بين الناس تبتني على فرط الحبّ بين الحبيبين وتخلّلها في القلب وتمازجها مع النفس ، إلّا أنّ الخلّة الإلهيّة تخالف الخلّة الدائرة بين الناس المبتنية على الأمور المادّية الّتي تكون الأواصر الدنيويّة فيها أشدّ من الأواصر المعنويّة الروحانيّة. وأمّا الخلّة الإلهيّة ، فهي ليس فيها خلل ، فقد أحبّه الله تعالى محبّة تامّة واصطفاه عند ما أظهر صدقه وإخلاصه لله تعالى ومحبّته له محبّة كاملة ملأت جميع مشاعره ، فلم يتوجّه إلّا إليه عزوجل ولم يتخلّلها وهن ولا ضعف ولا فترة ولا شائبة من شوائب المادّة ، وبذلك صار إبراهيم عليهالسلام خليلا لله تعالى وبها أصبح قدوة لكلّ خليل إلهي وإماما لجميع الأنبياء والمرسلين.
ومادّة (خلل) تدلّ على الحاجة والفقر ، ومنه سمّي الخليل خليلا ؛ لأنّ كلّ واحد من الخليلين محتاج إلى وصال الآخر وغير مستغن عنه ، وإلى هذا المعنى يمكن إرجاع بقية المعاني الّتي ذكرت لهذه المادّة ، فإنّ منها : الخلال (بكسر الخاء) ، أي : المودّة الّتي تتخلّل النفس وتخالطها ، بحيث تسلب منها الإرادة إلّا ما كانت في جهة إرادة الحبيب ، كما قال الشاعر :
قد تخلّلت مسلك الروح مني |
|
ولذا سمّي الخليل خليلا |
فإذا ما نطقت كنت حديثي |
|
وإذا ما سكتّ كنت الغليلا |