وهيبته وعظمته وكبريائه من الألوهية القدسية ، والأبدية الباقية لقلب عارف من عرفانه ، ويستولى على قلبه سطوات عظمته ، يتقي العارف من صدمات القدوسية ، وطوارقات العزة ضعفا وخوفا من ألا يحترق فيها فيقرّ منه ؛ لأنه علم أن الحادث يتلاشى في القدم ، ولا يطيق أن يستقيم بإزاء الوحدانية ، وتطلب الفرار منه مع ما في قلبه من محبة جماله ، والشوق إلى لقائه ، فإذا رأى الحق سبحانه ذلك منه يتجلى لقلبه من عين الجمال جمالا ، فيجر قلبه بحسنه وجماله إليه ، ويعصمه من نفسه بنفسه ، وذلك هو المخرج الذي قال : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ، يخرج من رؤية العظمة إلى رؤية الجمال ، ويستقيم لرؤية الجلال ، فيحتمل الحق بالحق ، ثم همته همة العجز عن البلوغ إلى دنوه ، يتبيّن في نفسه من نفسه أنوار النعوت الأزلية ، فتتّصف صفاته بصفاته ، فلا يرى هناك إلا عينا واحدة ، وذلك قوله : (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ، هو أن يكون منعوتا بنعت الحق في رؤية الحق ، لكن يرزقه من حيث لا يحتسب أنه يصل إليه بنعت البقاء يبقى ببقاء ، ويخرج من فنائه ، فبان بعد ذلك في سر سره نور وعرفان خاصّ يبينّه بأنه مخدوع بما وجد ، محجوب منه به ، فيسقط عنه قيمته ، وأيس أيضا من الوصول إلى الكل ، فيعرّفه الحق نعتا من نعوته ، ويعلمه أنه لا يصل إلى الكنه ، فيرضيه بنعت من جميع النعوت ، وباسم من جميع الأسماء ، وبصفة من جميع صفاته ، ويكشف من ذاته من جميع صفاته حتى لا يبقى له طلب ولا قصد ، بل يسكن بالحق من الحق في الحق ، وذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (١) ، أي : من يتوكل عليه حين يبقى من الفناء فيه فهو حسبه ، بأن يبقيه ببقائه ، فيبقى الحق له ، وإن هو فني فيه فبقاء الحق له من بقائه ، وعلى لسان المعاملة يبقى الله بأن يشغله شيء من دونه عنه من الأسباب ، والنظر إلى غيره من الرسومات ، يجعل الله له مخرجا مما يخاف منه ، ويرزقه الرضا من نفسه ، ويرزقه رزق المقدر في الأزل من حيث لا مشقّة عليه في وصوله إليه ، ويأكل ويلبس بغير انتظار ولا استشراف نفس ولا تعب ، فيخرج له من الغيب بالبديهة ما يكفيه من السؤال والكسب ، من عرف الله عرّفه بكمال قدرته وإحاطة علمه بكل ذرة ، فيلقي زمام الاختيار إليه ، فهو تعالى يكفي له كل مؤنة في الدنيا والآخرة وهو ساكن راض ، وهذا معنى قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) إلخ.
قال سهل في قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ، أي : يتبرأ من الحول والقوة
__________________
(١) هذه الآية الشريفة جامعة لأنواع التوكّل ، وأضاف الحاجات ؛ فإن اسم الله تعالى جامع لمراتب الأسماء التي لا يتجاوزها حاجات الناس مع اختلاف مراتبهم ، وتفاوت طبقاتهم ، فمن ذكر كان أو أنثى ، عبدا كان أو سيدا يتوكّل على الله الرزّاق في أمر الرزق ؛ فهو حسبه فيه.