وإذا كنا قد قدّمنا بعض النماذج المتنوعة التي استطاعت تأملات العلم واكتشافاته أن تقدّم لنا فيها أسرار الإبداع ودقة التدبير وروعة الهداية في خلق الله ، فإن هناك الكثير الكثير في كل ما خلق الله من الأسرار الكبيرة التي توحي بالعمق التدبيريّ للتقدير الإلهيّ الذي جعل في كل موجود نظامه الداخلي ، وأودع في داخل ذلك النظام أسرار الهداية التي تقوده إلى غايته ، من دون أيّ تكلّف أو جهد كبير ، مما يدلّ على أن الكون كله ـ حتى في ما لم يكتشف الإنسان سرّه العميق وقانونه التفصيليّ ـ خاضع للخطة الإلهية الحكيمة التي تعطي كل شيء هداه ، وتضع كل شيء في موضعه ، بحيث إنّ الملاحظة البسيطة لكل الظواهر الكونية الصغيرة والكبيرة ولكل الظواهر الاجتماعية ، تؤدي بالإنسان إلى القناعة بأن الكون لم ينطلق من الصدفة الطائرة ، ومن الفوضى الهائجة ، بل هو منطلق من تقدير العزيز الحكيم وهدايته ، حتى أن الباحثين يفرضون ذلك مسبقا قبل الدخول في البحث ، ليكون المدخل لهم فيه الانطباع الذاتي والقناعة العميقة بوجود سرّ خفيّ لا بد للإنسان من اكتشافه.
* * *
إحياء الأرض من قدرة الله تعالى
(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) المتمثل في الخضرة الممتدة في الأرض في سهلها وجبلها ، في ما يرعاه الحيوان والإنسان ، في العشب الأخضر الذي يبعث المتعة في العين وفي النفس ، وفي كل ألوان الخضرة التي تتنوع في خصائصها الغذائية وألوانها المختلفة. وهكذا تتجلى قدرة الله في حركة الأرض الميتة الجرداء التي لا تنبض بأية حركة وأيّ اهتزاز ، فإذا بالمطر يمنحها حيويّة الاهتزاز عند ما يتفاعل مع تربتها ومع البذور المتناثرة على سطحها وعمقها ، فإذا بالحياة تدب فيها ، وتثير فيها كل خير وجمال وروعة وإبداع. ويأخذ النمو مداه التصاعدي في امتداد الأغصان ، وفي نضارة الأوراق وحيويتها ، حتى تنتهي كل طاقته في ذلك ، ويبدأ رحلة الموت من جديد ، وتأتي قدرة الله الذي