ولأجل أن يسمح نظم الآية بهذه المعاني ، حذف متعلّق الاختلاف في قوله : (اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ليشمل كلّ اختلاف منهم : من مخالفة بعضهم بعضا في الدين الواحد ، ومخالفة أهل كلّ دين لأهل الدين الآخر ، ومخالفة جميعهم للمسلمين في صحّة الدين.
وحذف متعلّق العلم في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) لذلك.
وجعل «بغيا» عقب قوله : «من بعد ما جاءهم العلم» ليتنازعه كلّ من فعل (اختلف) ومن لفظ (العلم).
وأخّر بينهم عن جميع ما يصلح للتعليق به : ليتنازعه كلّ من فعل (اختلف) وفعل (جاءهم) ولفظ (العلم) ولفظ (بغيا).
وبذلك تعلم أنّ معنى هذه الآية أوسع معاني من معاني قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) في سورة البقرة [٢١٣] وقوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) في سورة البيّنة [٤] كما ذكرناه في ذينك الموضعين لاختلاف المقامين.
فاختلاف الذين أوتوا الكتاب يشمل اختلافهم فيما بينهم : أي اختلاف أهل كل ملّة في أمور دينها ، وهذا هو الذي تشعر بها صيغة اختلف كاختلاف اليهود بعد موسى غير مرة ، واختلافهم بعد سليمان إلى مملكتين : مملكة إسرائيل ، ومملكة يهوذا ، وكيف صار لكلّ مملكة من المملكتين تديّن يخالف تديّن الأخرى ، وكذلك اختلاف النصارى في شأن المسيح ، وفي رسوم الدين ، ويكون قوله : «بينهم» حالا لبغيا : أي بغيا متفشّيا بينهم ، بأن بغى كلّ فريق على الآخر.
ويشمل أيضا الاختلاف بينهم في أمر الإسلام ؛ إذ قال قائل منهم : هو حق ، وقال فريق : هو مرسل إلى الأميّين ، وكفر فريق ، ونافق فريق. وهذا الوجه أوفى مناسبة بقوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، ويكون قوله : (بَيْنَهُمْ) على هذا وصفا لبغيا : أي بغيا واقعا بينهم.
ومجيء العلم هو الوحي الذي جاءت به رسلهم وأنبياؤهم ، لأنّ كلمة جاء مؤذنه بعلم متلقّى من الله تعالى ، يعني أنّ العلم الذي جاءهم كان من شأنه أن يصدّهم عن الاختلاف في المراد ، إلّا أنّهم أساءوا فكانوا على خلاف مراد الله من إرسال الهدى.