والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدّة ، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة ، وجيء بقوله (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) غير معطوف على ما قبله لأنّه كالبيان لقوله (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ).
وقوله (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الضمائر فيه عائدة على الذين كفروا. والمعنى أنّ الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسبّبوا في ذلك ، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطا في قبول الأعمال ، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلما لهم ، وفيه إيذان بأنّ الله لا يخالف وعده من نفي الظلم عن نفسه.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨))
الآن إذ كشف الله دخائل من حول المسلمين من أهل الكتاب ، أتمّ كشف ، جاء موقع التحذير من فريق منهم ، والتحذير من الاغترار بهم ، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة ، وهؤلاء هم المنافقون ، للإخبار عنهم بقوله : (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) [آل عمران : ١١٩] إلخ ... وأكثرهم من اليهود ، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج. وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والإقناعات. وحقّه الاستئناف الابتدائي كما هنا.
والبطانة ـ بكسر الباء ـ في الأصل داخل الثّوب ، وجمعها بطائن ، وفي القرآن (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤] وظاهر الثوب يسمّى الظهارة ـ بكسر الظاء ـ. والبطانة أيضا الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر ، ويسمّى الشعار ، وما فوقه الدثار ، وفي الحديث : «الأنصار شعار والنّاس دثار» ثمّ أطلقت الثّياب في شدة القرب من صاحبها.
ومعنى اتخاذهم بطانة أنهم كانوا يحالفونهم ويؤدّونهم من قبل الإسلام فلمّا أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود ، ثمّ كان من اليهود من أظهروا الإسلام ، ومنهم من بقي على دينه.
وقوله : (مِنْ دُونِكُمْ) يجوز أن تكون (من) فيه زائدة و (دون) اسم مكان بمعنى حولكم ، وهو الاحتمال الأظهر كقوله تعالى في نظيره (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا