التّوراة فيصلا بيننا ، إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدّعوه شبهة لهم في الاختلاق ، وجعل الافتراء على الله لتعلّقه بدين الله. والفاء للتفريع على الأمر.
والافتراء : الكذب ، وهو مرادف الاختلاق. والافتراء مأخوذ من الفري ، وهو قطع الجلد قطعا ليصلح به مثل أن يحذى النعل ويصنع النطع أو القربة. وافترى افتعال من فرى لعلّه لإفادة المبالغة في الفري ، يقال : افترى الجلد كأنّه اشتدّ في تقطيعه أو قطعه تقطيع إفساد ، وهو أكثر إطلاق افترى. فأطلقوا على الإخبار عن شيء بأنّه وقع ولم يقع اسم الافتراء بمعنى الكذب ، كأنّ أصله كناية عن الكذب وتلميح ، وشاع ذلك حتّى صار مرادفا للكذب ، ونظيره إطلاق اسم الاختلاق على الكذب ، فالافتراء مرادف للكذب ، وإردافه بقوله هنا : «الكذب» تأكيد للافتراء ، وتكرّرت نظائر هذا الإرداف في آيات كثيرة.
فانتصب «الكذب» على المفعول المطلق الموكّد لفعله. واللام في الكذب لتعريف الجنس فهو كقوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٨].
والكذب : الخبر المخالف لما هو حاصل في نفس الأمر من غير نظر إلى كون الخبر موافقا لاعتقاد المخبر أو هو على خلاف ما يعتقده ، ولكنّه إذا اجتمع في الخبر المخالفة للواقع والمخالفة لاعتقاد المخبر كان ذلك مذموما ومسبّة ؛ وإن كان معتقدا وقوعه لشبهة أو سوء تأمّل فهو مذموم ولكنّه لا يحقّر المخبر به ، والأكثر في كلام العرب أن يعنى بالكذب ما هو مذموم.
ثمّ أعلن أن المتعيّن في جانبه الصّدق هو خبر الله تعالى للجزم بأنهم لا يأتون بالتوراة ، وهذا كقوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة : ٩٥] وبعد أن فرغ من إعلان كذبهم بالحجّة القاطعة قال : (قُلْ صَدَقَ اللهُ) وهو تعريض بكذبهم لأنّ صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر ، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي.
والتّفريع في قوله : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) تفريع على (صَدَقَ اللهُ) لأنّ اتّباع الصادق فيما أمر به منجاة من الخطر.
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))