الدين بالضرورة فهو استدلال صحيح لأن المعروف والمنكر في هذا النوع بديهي ضروري ، وإن كان استدلالا على حجية الإجماعات المنعقدة عن اجتهاد ، وهو الذي يقصده المستدلون بالآية ، فاستدلالهم بها عليه سفسطائي لأنّ المنكر لا يعتبر منكرا إلّا بعد إثبات حكمه شرعا ، وطريق إثبات حكمه الإجماع ، فلو أجمعوا على منكر عند الله خطأ منهم لما كان منكرا حتّى ينهي عنه طائفة منهم لأنّ اجتهادهم هو غاية وسعهم.
(وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ).
عطف على قوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) لأن ذلك التفضيل قد غمر أهل الكتاب من اليهود وغيرهم فنبّههم هذا العطف إلى إمكان تحصيلهم على هذا الفضل ، مع ما فيه من التعريض بهم بأنّهم متردّدون في اتباع الإسلام ، فقد كان مخيريق متردّدا زمانا ثمّ أسلم ، وكذلك وفد نجران تردّدوا في أمر الإسلام.
وأهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى ، لكن المقصود الأول هنا هم اليهود ، لأنّهم كانوا مختلطين بالمسلمين في المدينة ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم دعاهم إلى الإسلام ، وقصد بيت مدراسهم ، ولأنهم قد أسلم منهم نفر قليل وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم».
ولم يذكر متعلق (آمن) هنا لأنّ المراد لو اتّصفوا بالإيمان الذي هو لقب لدين الإسلام وهو الذي منه أطلقت صلة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة ، وهذا كقولهم أسلم ، وصبأ ، وأشرك ، وألحد ، دون ذكر متعلّقات لهاته الأفعال لأن المراد أنّه اتّصف بهذه الصّفات التي صارت أعلاما على أديان معروفة ، فالفعل نزّل منزلة اللازم ، وأظهر منه : تهوّد ، وتنصّر ، وتزندق ، وتحنّف ، والقرينة على هذا المعنى ظاهرة وهي جعل إيمان أهل الكتاب في شرط الامتناع ، مع أنّ إيمانهم بالله معروف لا ينكره أحد. ووقع في «الكشاف» أنّ المراد : لو آمنوا الإيمان الكامل ، وهو تكلّف ظاهر ، وليس المقام مقامه. وأجمل وجه كون الإيمان خيرا لهم لتذهب نفوسهم كلّ مذهب في الرجاء والإشفاق. ولمّا أخبر عن أهل الكتاب بامتناع الإيمان منهم بمقتضى جعل إيمانهم في حيز شرط (لو) الامتناعية ، تعيّن أن المراد من بقي بوصف أهل الكتاب ، وهو وصف لا يبقى وصفهم به بعد أن يتديّنوا بالإسلام ، وكان قد يتوهّم أن وصف أهل الكتاب يشمل من كان قبل ذلك منهم ولو دخل في الإسلام ، وجيء بالاحتراس بقوله : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي منهم من آمن بالنبيء محمد صلىاللهعليهوسلم فصدق عليه لقب المؤمن ، مثل عبد الله بن