وإنّما كانت الأوّلية موجبة التّفضيل لأنّ مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة ، إذ هي في ذلك سواء ، ولكنّها تتفاضل بما يحفّ بذلك من طول أزمان التعبّد فيها ، وبنسبتها إلى بانيها ، وبحسن المقصد في ذلك ، وقد قال تعالى في مسجد قباء : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨].
وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحقّ ، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون. فإنّ إبراهيم بنى الكعبة في حدود سنة ١٩٠٠ قبل المسيح وسليمان بنى بيت المقدس سنة ١٠٠٠ قبل المسيح ، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول. وأمّا بيت المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره. وروى في «صحيح مسلم» ، عن أبي ذرّ ـ رضياللهعنه ـ أنّه قال : سألت رسول الله : أيّ مسجد وضع أول؟ قال : المسجد الحرام ، قلت : ثمّ أيّ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم كان بينهما؟ قال : أربعون سنة. فاستشكله العلماء بأنّ بين إبراهيم وسليمان قرونا فكيف تكون أربعين سنة ، وأجاب بعضهم بإمكان أن يكون إبراهيم بنى مسجدا في موضع بيت المقدس ثمّ درس فجدّده سليمان.
وأقول : لا شكّ أنّ بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود ، وأشار إليه القرآن في قوله : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) [سبأ : ١٣] الآية ، فالظاهر أنّ إبراهيم لمّا مرّ ببلاد الشّام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسله عيّن الله له الوضع الّذي سيكون به أكبر مسجد تبنيه ذرّيّته ، فأقام هنالك مسجدا صغيرا شكرا لله تعالى ، وجعله على الصّخرة المجعولة مذبحا للقربان. وهي الصّخرة الّتي بنى سليمان عليها المسجد ، فلمّا كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتّى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه ، وهذا من العلم الّذي أهملته كتب اليهود ، وقد ثبت في سفر التّكوين أنّ إبراهيم بنى مذابح في جهات مرّ عليها من أرض الكنعانيين لأنّ الله أخبره أنّه يعطي تلك الأرض لنسله ، فالظاهر أنّه بنى أيضا بموضع مسجد أرشليم مذبحا.
و (مُبارَكاً) اسم مفعول من بارك الشيء إذا جعل له بركة وهي زيادة في الخير. أي جعلت البركة فيه بجعل الله تعالى ، إذ قدّر أن يكون داخله مثابا ومحصّلا على خير يبلغه على مبلغ نيته ، وقدّر لمجاوريه وسكّان بلده أن يكونوا ببركة زيادة الثّواب ورفاهية الحال ، وأمر بجعل داخله آمنا ، وقدّر ذلك بين النّاس فكان ذلك كلّه بركة. وسيأتي معنى البركة عند قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) في سورة