ولعله لا يوجد من ذلك عدا ما في القرآن المجيد إلّا ما ندر مما روي بصحيح السند ، وهكذا ما يروى عن الصحابة رضياللهعنهم في ذلك الصدد لأنهم إذا صحت الرواية عنهم لا يقولون إلّا ما له ثبوت بإحدى الوجوه الموصلة وحاشاهم أن يذكروا خرافات القصاص ، ولذلك كانت الأخبار عن تلك الطبقة من العرب في غاية الإبهام.
وإنما المحقق منها هو أنهم كانوا أمة عظيمة ذات نخوة وشهرة وعمّروا الأرض عمرانا عظيما وحادوا عن جادة الصواب في عبادة الخالق ، فأرسل إليهم الرسل في أزمان مختلفة يدعونهم إلى الرشاد فعاندوا إلى أن أحاط بهم العقاب ، وطول الزمن الواقع ما بين أولئك الرسل الدال عليه سياق القرآن المجيد والدال عليه أيضا نسيان القوم لما كان أصاب سابقيهم يدل على طول الزمن بين سيدنا نوح وبين سيدنا إبراهيم عليهم جميعا الصلاة والسلام زيادة على ما يزعم أنه مذكور في التوراة بأضعاف مضاعفة ، فإن تكوّن الأمة وكثرتها بعد الطوفان إلى أن تبلغ إلى ذلك المقدار من الكثرة والشدة وغير ذلك من الصفات لا بدّ له من زمن طويل كاف لتكوّن ذلك العدد الوافر من رجل واحد ، ثم أن نسيانهم لمعجزة الطوفان وسبب نجاة جدهم يستدعي أيضا ذلك الطول ، ثم أن تعدّد الرسل مع التعاقب أي أن كل واحد منهم في زمن بعد الآخر وكل واحد منهم يحل العقاب بمن خالفوه فبعضهم أهلك بالريح وبعضهم أهلك بالصيحة إلى غير ذلك يدل أيضا على شدة طول الزمن فيما بينهم حتى تنوسي خبر السابق وكل ذلك قبل سيدنا إبراهيم عليهالسلام ، فلا بدّ أن تكون المدة بينه وبين سيدنا نوح طويلة جدّا لا يعلم مقدارها إلّا الله تعالى ، ومجموع ذلك يدل على طول عمر الدنيا وإنما غايتها إنها حادثة وأنها مآلها إلى الفناء وهذا كله يبين لنا معنى قوله عليه الصلاة والسلام. «بعثت أنا والساعة كهاتين» (١) وقرن بين إصبعيه الكريمتين الوسطى والسبابة ، وكذلك ما دلّ من الآيات والأحاديث على قرب الساعة ، فربّ قائل يقول أين هذا القرب وهذا الإقتراب وقد مضى من زمن البعثة إلى الآن أزيد من ألف وثلاثمائة سنة ومع ذلك لم تظهر العلامات الكبرى كنزول سيدنا عيسى عليهالسلام وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك؟ فنقول له : إن الأمور نسبيّة فمن علم المقدار الكثير من مدة الدنيا التي مضت وعلم ما بقي منها رأى أن الساعة قربت وأنها مقترنة بالبعثة ، ولا يتأتى ذلك إلّا إذا كانت المدة الماضية طويلة طولا كثيرا كما هو الواقع والمشاهد من حالة الآثار الدالة على أن ما مضى يزيد على العشرات من آلاف السنين فنسبة
__________________
(١) أخرجه البخاري برقم (٦٥٠٣ ـ ٦٥٠٤ ـ ٦٥٠٥) ومسلم في الفتن برقم (١٣٥) والنسائي ٣ / ١٨٩ والترمذي برقم (٢٢١٤) وابن ماجه برقم (٤٥ و ٤٠٤٠) والإمام أحمد بن حنبل في مسنده ٣ / ١٢٤ و ٥ / ١٠٣ والبيهقي في السنن ٣ / ٢٠٦ والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ١٤٧ والمنذري في الترغيب والترهيب ١ / ٨٣ والقرطبي في تفسيره ١٠ / ٦٦ والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٢٥٤ والتبريزي في مشكاة المصابيح (١٠٤٧ ـ ٥٥٠٥) والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٨٣٤٨ ـ ٣٨٣٤٩ ـ ٣٩٥٧١).