الباب الرابع
في مملكة فرنسا وما رأيته فيها
الفصل الأول : في سفري إليها
قد تقدم أنا وصلنا إلى بلد مودان التي ينتقل فيها المسافر إلى الرتل الفرنساوي وكان وصولنا إليها الساعة واحدة ونصف بعد نصف الليل ، فوجدنا المحطة منورة والخدمة متدرعين باللباس الثخين للتدثر من الثلج والبرد وبأرجلهم أحذية من الخشب ، فلما أردنا الركوب في الرتل الفرنساوي وجدنا المخدع الذي أوصينا عليه بسلك الإشارة حاضرا في الرتل ، وسألنا المكلفون عن ورقة الجواز ، فلما أخبرناهم أنا من تونس وأردنا إحضار الورقة ورأوا لباسنا رحبوا وقالوا إلا يلزم إخراج الورقة ولا فتح الصناديق لنظر ما بها ، فركبنا حالا في غاية الراحة وقفل الرتل سابحا على الأرض بسرعة أزيد من الرتل الطلياني ، غير أن المخدع كان أقل انتظاما من المخدع السابق فأردنا النوم بقية الليل لكن شدة البرد منعت من استراحة النوم ، ولم يزل الرتل سابحا ولما بدا الفجر ظهر منظر الأرض والحاصل أنه على نوع متشابه مع أعالي إيطاليا غير أن الفرق الذي يرى هو كثرة البلدان والقرى بأرض فرنسا على إيطاليا وكثرة الديار المنفردة في الحقول والأراضي بإيطاليا على فرنسا.
ثم وصلنا إلى باريس في الساعة السادسة قبل نصف الليل فكانت مدة السير من تورين إلى باريس إحدى وعشرين ساعة ، وكانت باريس تظهر من بعد في الليل كأنها سماء زينت بالكواكب ، واستمر الرتل سائرا من مبدأ علائق المحطة إلى أن وقف نحو خمس عشرة دقيقة فإذا هي محطة أضخم وأوسع من جميع ما رأيناه ، فنزلنا ودخلنا إلى الكمرك ولما نظرنا المكلفون قالوا لا لزوم لتفتيش رحلكم وأنتم مصدقون ، هل عندكم من سلعة تؤدي الكمرك؟ فقلنا ليس إلا نشوق وماء زهر وورد ، فقالوا : هو بمقدار حاجتكم أم للتجارة؟ قلنا : بقدر حاجتنا ، فأذنوا بسراح الرحل بدون تفتيش ، ولا أداء ، فركبنا كروسة كبيرة لمنزل المسافرين المسمى أوتيل «دي كابوسين» الذي هو من المنازل الحسنة الواقعة بأعز طرق باريس وأكثر التونسيين نزولا به ، فاستمر السير خببا من الخيل نحوا من ساعة من المحطة إلى المنزل وكانت الطرق كلها منيرة بالفوانيس نورا زائدا على غيرها وهي طويلة وسيعة أزيد من غيرها بحيث ينتهي النظر في طول الطريق ، فأقمنا بذلك المنزل تلك الليلة وتعشينا وفي الصباح أفطرنا فطورا خفيفا وطلبت الحساب حيث لم أساوم قبل النزول فإذا أجرة البيوت ليلة وثمن العشاء والفطور الصباحي لثلاثة أنفس نيف وسبعون فرنكا ، فخرجنا من