فالجواب : إن كثيرا من عقلاء الفرنسيس قد نددوا على دولتهم ولا زالوا في الإعتراض عليها لكنها بعد الوقوع في الأمر المتسبب عن تهور ممن بيدهم مقاليد السياسة حتى اتهمهم مضادوهم من نفس الفرنسيس بأن لهم في ذلك أرباح ذاتية من التجارة في الرقاع الدولية ، وموهوا على العامة بالانتصار لحفظ ناموس فرنسا فبعد ذلك صعب على الدولة إهمال سعيها مع ما خسرته من الأموال المتجاوزة مائة مليون ، ومن الرجال الذين ماتوا بالحرب مع الأعراب وبالأمراض المتجاوزين خمسة وثلاثين ألفا فرأت فرنسا التحفظ على ما وقع مع السعي في حسن السلوك الذي يخفف أو يدفع عنها الغوائل المنتظرة ، ثم وراء ذلك أمر مهم جدا لفرنسا وهو طمعها في إحداث مملكة عظيمة في أفريقية مثل ما للإنكليز في الهند ، فتريد أن تمتد من الجزائر إلى ما جاورها شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى دواخل أفريقية والسودان وتصل بين شاطىء أفريقية الغربي في سانيفال والشرقي في الجزائر وتونس ، حتى رسمت جمعية فرنساوية رسما لخط الحديد في ذلك ولو يتم هذا يكون لفرنسا شأن عظيم ، غير أن القياس على الهند الإنكليزي هو قياس مع الفارق لا من جهة سياسة الفرنساويين في مستعمراتهم من حيث قلبها إلى عوائد الفرنسيس وإناطتها الإدارة في الكليات والجزئيات بباريس ولا من حيث أخلاق الأمم المستوطنين بأفريقية والمستوطنين بالهند ، وإن شئت الوقوف على برهان ذلك فانظر ما حررناه في أحوال الجزائر وفي أحوال الهند وسياسة كل من الدولتين يتبين لك حقيقة الحال.
وبما ذكرناه هنا يندفع الإعتراض على ما ذكرناه في سياسة تونس الخارجية من كون فرنسا لا تريد الإستيلاء عليها مع كون أعمالها ناقضت ذلك ، وشرح الدافع يؤل إلى أن الحامل لدولة فرنسا على مخالفة ما سبق من مقاصدها في تونس شيآن أحدهما : سياسي ظاهري ، والآخر : خصوصي باطني ، فالباطني : هو المشار إليه بما وقع من التهمة في نفع الأفراد الذي يأتي له مزيد شرح في مبحث الأحكام ، والظاهري : هو أن الدول قد تغيرت أفكارهم بالنسبة لمحافظة الدولة العثمانية منذ عقد معاهدة برلين ، فدلت أعمالهم على أن من ناسبه شيء منها وكانت له قدرة على حوزه بادر إليه وغض عنه النظر بقيتهم إذا كان المحوز أكثر مناسبة بالحائز ، وقد علمت مقاصد فرنسا في تونس ورأت أن إيطاليا لها من المقاصد والمناسبات ما يزاحمها ، ثم رأت سيرة ابن إسماعيل وأنه غير أمين فلا يبعد أن يفعل مع إيطاليا أو غيرها من الدول ما فعل معها لخوف أو طمع مع تيسر إجراء الأمور بواسطته ، فانتهزت الفرصة خوفا على درجة نفوذها فبادرت قبل أن تبادر ومن المعلوم أن السياسة تدور مع الأحوال الحاضرة ولله عاقبة الأمور.
الفصل السادس : في عوائد أهالي فرنسا وصفاتهم
إعلم أن الأهالي أصلهم القديم مجهول ، غير أنهم لما هجمت القبائل الشمالية الشرقية من آسيا على أوروبا تسلطت منهم قبيلة الإفرنج على فرنسا بعد أن أناخت في