وأنا أحفر القبور منذ خمسين سنة.
قال : قلت : وما الذي حملك على حفر القبور؟ قال : لحديث حدّثني مولاي هذا عن أنس بن مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من حفر قبرا لأخيه المسلم ولم يأخذ عليه جزاء بنى الله تعالى له بيتا في الفردوس الأعلى ، فيه قبة خضراء ، يرى باطنها من ظاهرها ، وظاهرها من باطنها» [٨٣١٩].
وسمعته يقول : من غسّل أخاه المسلم ولم يأخذ عليه أجرا وكتم ما يرى منه ، غفر الله عزوجل له ذنوبه في ظلمة قبره ووحشته ، إذا خلا فردا وحيدا مرتهنا بعمله (١) ، ووكل به ملك بيده مصباح من نور ، فهو يؤنسه في قبره إلى أن ينفخ الله في الصور.
فهو الذي حملني على حفر القبور ، وغسل الموتى ، وحرسي القبور.
قال : قلت : ما اسمك؟ قال : صالح.
قال : قلت : بالله يا صالح حدثني بأعجب شيء رأيت في ظلمات الليل وأنت تحفر القبور منذ خمسين سنة ، قال : إنّي لست أحدّثك أو تعطيني عهد الله وميثاقه ، أنك لا تجلس إلى قوم من أهل لا إله إلّا الله إلّا حدثتهم به ، قال : قلت : نفعل إن شاء الله.
قال : ماتت بنت القاضي ـ قاضي البصرة ـ ولم يكن بالبصرة امرأة هي أجمل منها ، ولا أكمل (٢) جمالا ، فجزع عليها أبوها جزعا شديدا ، فدخلت عليه وهو يبكي من أحرّ البكاء ، ودموعه تجري على وجنتيه ، فسلّمت ، فردّ عليّ السّلام ، قال : قلت : رحمك الله ، إنّ الموت حتم على الخلق ، وإن الله تبارك وتعالى قال لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)(٣).
فقال لي : يا صالح ، قد علمت أنه لم يكن بالبصرة امرأة هي أجمل من ابنتي ولا أكثر مالا ، مات عنها زوجها ولم ترزق منه ولدا ، وقد ورثت منه مالا عظيما ، وقد كنت رجوت أن ترثني أنا إذا متّ ، فلما أن ماتت دخل عليّ أمر عظيم ، وقد أوصت إليّ أن أخرج من ثلثها ثلاثة آلاف دينار أكفنها بألف دينار ، وأتصدّق عنها بألف دينار ، ويعطى لحرس قبرها ألف دينار ، يحرس سنة ، اثني عشر شهرا.
قال : قلت : أما أنا فقد أعطيت عهد الله وميثاقه يسألني عنه أني لا آخذ لحرس قبر ، ولا
__________________
(١) بياض في م.
(٢) عن م ، وبالأصل : أجمل ، وقوله : «ولا أجمل جمالا» ليس في المختصر.
(٣) سورة الزمر ، الآية : ٣٠.