نفوسهم من رحيق خطابه في عالم الذرّ ، وسكنت هيبة عزّة جلاله شغاف قلوبهم حين أقرّ من أقرّ ، وأنكر من أنكر ، لم تزل العناية الأزليّة تنقلهم من الأصلاب الفاخرة إلى الأرحام الطاهرة ، والألطاف الإلهيّة تمنحهم شرف الدنيا والآخرة.
جعلهم سبحانه السفراء بينه وبين عباده ، والاُمناء على وحيه في سائر أنامه وبلاده ، بشّرت الأنبياء الماضية بظهورهم ، وأشرقت السماوات العالية بساطع نورهم ، كتب أسماءهم على سرادقات عرشه المجيد ، وأوجب فرض ولايتهم على عباده من قريب وبعيد ، كلّفهم بحمل أعباء رسالته ، وجعلهم أهلاً لأداء أمانته ، يتلقّون بوجه باطنهم أنوار سبحات جمال عزّته ، ويقابلون بظاهر ضياء محاسن بهجاتهم عباده فيهتدون بنورهم إلى نعيم جنّته ، ( عِبَادٌ مُكرَمُونَ لَا يَسبِقُونَهُ بالقَولِ وَهُم بِأَمرِهِ يَعمَلُونَ يَعلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِم وَمَا خَلفَهُم وَلَا يَشفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارتَضَى وَهُم مِن خَشيَتِهِ مُشفِقُونَ ) (١).
أصلهم نبيّ تمّمت به النبوّة ، وكملت به الفتوّة ، وانتهت إليه الرئاسة العامّة ، وخصّ من الله بالكلمة التامّة ، وأيّده سبحانه بنصره في المواطن المشهورة ، وأظهره بقهره على أعدائه في حروبه المذكورة ، وشدّ أزره بوصيّه المرتضى ، وشيّد ملّته بصفيّه المجتبى ، صارم نقمته ، وحامي حوزته ، الّذي لم يخلق الله خلقاً أكمل منه من بعده ولا قبله ، ولم يدرك مدرك شأوه (٢) ولا فضله ، ولا أخلص مخلص لله إخلاصه ، ولا جاهد مجاهد في الله جهاده من العامّة والخاصّة.
إن دارت حرب فهو قطب رحاها ، أو توجّهت آمال فهو غاية رجاها ، أو ذكر علم فهو مطلع شمسه ، أو اشتهر فضل فهو قالب نفسه ، باب علم مدينة
__________________
١ ـ سورة الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٨.
٢ ـ الشَأوُ : الغاية ، الأمد ، السَبق.