لِيَعبُدُونِ مَا اُرِيدُ مِنهُم مِن رِزقٍ وَمَا اُرِيدُ أَن يُطعِمونِ ) (١) ، والعبث لا يليق بحكمته ، والإغراء بالقبيح لا يحسن بصفته.
وجب في لطفه إعلامهم بما فيه صلاحهم في دنياهم واُخراهم ، وفي عدله تعريفهم مبدأهم ومنتهاهم ، وجعل لهم قدرة واختياراً ، ولم يجبرهم على فعل الطاعة وترك المعصية اضطراراً ، بل هداهم النجدين ، وأوضح لهم السبيلين.
ولمّا كانت كدورات الطبيعة غالبة على نفوسهم ، وظلمة الجهالة مانعة من تطهيرهم وتقديسهم ، والنفس الأمّارة تقودهم إلى مداحض البوار ، والشهوة الحيوانيّة تحثّهم على ارتكاب موبقات الأوزار ، والوسواس الخنّاس قد استولى بوساوسه على صدورهم ، وزيّن لهم بزخارفه مزالق غرورهم ، فوجب في عدله وحكمته إقامة من يسوقهم بسوط لفظه إلى ما يقرّبهم نم حضيرة جلاله ، ويزجرهم بصوت وعظه عمّا يوبق أحدهم في معاشه وماله ، إذ أنفسهم منحطّة عن مراتب الكمال ، غاوية في مسالك الوبال ، منخرطة في سلك أنّ النفس لأمّارة بالسوء الا من رحم (٢) ، غارقة في لجّة الجهل الا من عصم ، تقصر قواها عن تلقّي نفحات رحمته ، وتضعف مراياها لعدم جلاها عن مقابلة أشعّة معرفته.
فأقام سبحانه لهم حججاً من أبناء نوعهم ، ظاهرين في عالم الانسانيّة ، باطنين في عالم الروحانيّة ، فظواهرهم أشخاص بشريّة ، وبواطنهم أملاك عوليّة ، قد توّجهم سبحانه بتيجان الحكمة ، وأفرغ عليهم حلل العصمة ، وطهّرهم من الأدناس ، ونزّههم عن الأرجاس ، فشربوا من شراب حبّه (٣) أشغلهم به عمّن سواه ، واطّلعوا على أسرار ملكوته فما في قلوبهم إلا إيّاه ، لما انتشت نشاءة
__________________
١ ـ سورة الذاريات : ٥٦ و ٥٧.
٢ ـ إقتباس من الآية : ٥٣ من سورة يوسف.
٣ ـ كذا الصحيح ، وفي الأصل : حبّهما.