ثمة ميزة هامة تجلّت في شعر الملحمة بوضوح وساعدت على إطالتها وازدياد أبياتها ، وهي تصوير الشاعر الدقيق الحاصل من تعميق الفكرة وتوسيع المحتوى والمضمون للأحداث والوقائع التاريخية. وقد وفّق الشاعر في هذا الشأن أيّما توفيق ، فقد استطاع أن يتغلّب على الإطالة المملة الحاصلة من التلاعب اللفظي الذي يكثر غالباً في مثل هذه المواضع ، باختياره الألفاظ الرشيقة والعبارات الرقيقة التي تنم عن ذوق رفيع وحس مرهف ودقيق امتاز به الشاعر وأجاد استخدامه.
ولتبيين هذه الفكرة نضرب مثلاً قول الشاعر في « دخول النبي صلىاللهعليهوآله إلى مدينة يثرب ». فقد استرسل في نقل هذا الحدث مصوراً الفرح الذي غمر الناس ، والبهجة التي عمّت الطيور والمروج والروابي احتفاءً بمقدم النبي الكريم صلىاللهعليهوآله :
هـذه يثرب وهذا ثـراهـا |
|
وهو مهـد الشريعـة الغـرّاء |
والمروج الخضراء تزهو ابتهاجاً |
|
والروابـي تضوع بالأشـذاء |
وعـذارى النخيل تهتـزّ بشراً |
|
مـن رفيف الجدائل الزرقـاء |
والصبايا وهـي الأقاحي ثغوراً |
|
تتهـادى بفـرحة وازدهـاء |
والأغاريد بالمسّـرات تشـدو |
|
فتعـجّ الأجـواء بالأصـداء |
وبطاح الثرى تسيـل احتشاداً |
|
وجمـوع الأنصار كـالأنواء |
كلّ هذا بشـراً بمقـدم طـه |
|
وابتهـاجـاً بخـاتـم الأنبيـاء |
والنبـيّ الأُميّ خيـر سـراج |
|
مستنيــر لـلأُمـة العميـاء |
منبع العلم ، والحضـارة علماً |
|
ورشـاداً مـن منبـع العلمـاء |
مشـرق النور والهداية أُفـقٌ |
|
شقّ بالنـور ظلمـة الصحـراء |