تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

والأوفق بمذاق المصنف (قدس سره) ـ في جعل المخصص المنفصل موجبا لإجمال العام ـ أن يعلّل عدم رجوع النسبة على تقدير التخصيص بالمنفصل إلى العموم من وجه بأن المنفصل يوجب رفع الظهور الأول للعام ولا يحدث معه ظهور آخر في تمام الباقي الّذي تكون النسبة بينه وبين دليل الضمان في الذهب والفضة هي العموم من وجه ، بل يكون مجملا ، والقدر المتيقن منه حينئذ إنما هو غير الذهب والفضة المصوغتين ـ أيضا ـ فلا يكون له حينئذ عموم من وجه حتى تتحقق النسبة المذكورة ، لانحصار مؤداه ـ حينئذ ـ وهو المتيقن في مورد واحد ، وهو غير الذهب والفضة مطلقا ، والنسبة بينه باعتبار ذلك المتيقن وبين الدليل المذكور إنما هي التباين الكلي ، لعدم صدق غير الذهب والفضة على الإطلاق على شيء منهما في شيء من أقسامه حتى المصوغ.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( قلنا : هذا ـ أيضا ـ لا يمنع قصور كل واحد من الدلالة ) (١).

حاصله بتوضيح منا : أن المفروض وقوع التخصيص بالدراهم والدنانير في روايتين مستقلّتين فيلغى الحصر المستفاد بمقتضى التخصيص بالاستثناء في كل منهما ، لمعارضته بالحصر المستفاد من الأخرى بمقتضى الاستثناء ، وحصر المستثنى في ما عدا الدراهم والدنانير مبنيّ على وقوع استثنائهما في كلام واحد ، والمفروض عدمه ، فحينئذ فالقدر المتيقن من مجموع الروايتين خروج الدراهم والدنانير عن مطلق العارية من غير دلالة لهما على انحصار المستثنى فيهما ، فتكونان قاصرتين عن إفادة الانحصار المطلق.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( فانّ قيل إخراج الدراهم والدنانير خاصة ) (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٧.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٨.

٣٤١

أقول لا وقع لهذا السؤال بعد منع ظهور الروايتين المستثنى منهما الدراهم والدنانير في إرادة تمام الباقي ، فان المنافاة إنما تتحقق على تقدير هذا الظهور وبملاحظته ، وأما بدونه فإخراج الدراهم والدنانير ليس لظهور الكلام في خروج خصوصهما ، بل من باب القدر المتيقن ، فلا منافاة.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( إلا أن يقال إن الحصر في كل من روايتي الدرهم والدينار موهون من حيث اختصاصهما بأحدهما ) (١).

أقول : بعد فرض الروايتين كرواية واحدة لا وقع لهذا الدفع أصلا ، إذ لازم جعلهما كرواية واحدة الالتزام بمقتضى الرواية الواحدة المستثنى منها الدراهم والدنانير ، وهو الحصر ، فلا وجه لدفعه بتوهين الحصر نظرا إلى وقوع استثنائهما في روايتين.

نعم يتّجه توهينه بما أشار إليه بقوله : ويؤيد ذلك أن تقييد الذهب والفضة بالنّقدين مع غلبة استعارة المصوغ بعيد جدا ، هذا.

ثم إن خلاصة المقال ، في تحقيق الحال ، في رواية الدرهم والدينار مع رواية الذهب والفضة ، أن في العارية خمس روايات :

ثنتان منها وهما صحيحتا الحلبي ومحمد بن مسلم دالتان على نفي الضمان في العارية عموما.

وإحداها دالة عليه ، مع تضمّنها لاستثناء الدراهم.

وأخرى دالة عليه مع تضمّنها لاستثناء الدنانير.

وثالثة دالة عليه مع تضمّنها لاستثناء الذهب والفضة.

أما الأوليان : فلا بدّ من تخصيصهما بغير الدراهم والدنانير ، المستثنيين من الثانيتين لا محالة ، فإنه قد خصّص عموم نفي الضمان في الثانيتين بغيرهما ،

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٩.

٣٤٢

فيكون المراد بهما غير الدراهم والدنانير لا محالة ، فإذا كان مؤدى هاتين خاصا بالنسبة إلى مؤدى الأولتين ، فلا بدّ من حمل الأولتين ـ أيضا ـ على ذلك الخاصّ ، إذ حمل العام على الخاصّ من القواعد المتقررة في العرف ، فحينئذ تبقى المعارضة بين العقد السلبي من الروايتين الثانيتين ، وهو قوله « ليس في العارية ضمان » وبين العقد الإيجابي من الأخيرة ، وهي المتضمنة لاستثناء الذهب والفضة ، وهو قوله « إلاّ الذهب والفضة » الّذي في قوة قوله يضمن عارية الذهب والفضة.

فإن العقد الأول بعمومه يقتضي نفي الضمان عن عارية المصوغ من الذهب والفضة ، لأن القدر الثابت من تخصيصه إنما هو تخصيصه بالدرهم والدينار.

والعقد الثاني يقتضي بإطلاقه ثبوت الضمان في عارية المصوغ منهما ، ومرجع التعارض بينهما إلى العموم من وجه إن جعلنا تينك الروايتين بمنزلة رواية واحدة متضمنة لاستثناء الدراهم والدنانير معا ، بمعنى إفادتهما ما يفيده من كون موضوع حكم نفي الضمان فيهما هو تمام ما بقي بعد استثناء الدرهم والدينار. فيكونان ـ حينئذ ـ بمنزلة قوله ليس في غير الدرهم والدينار من العارية ضمان ، ومن المعلوم أن غير الدرهم والدينار أعم من وجه من الذهب والفضة ، وكذلك الذهب والفضة أعم منه كذلك ، فيتصادقان في المصوغ من الذهب والفضة ، ويفترق الأول في عارية غير الذهب والفضة والثاني في الدرهم والدينار.

فعلى هذا لا بدّ من العلاج بينهما بالقواعد المتقرّرة لتعارض العامين من وجه ، من ملاحظة قوة دلالة أحدهما والترجيح بها ، ومع عدمها ملاحظة قوة السند والترجيح بها ، ومع عدمها فالتخيير.

وإن لم نجعلهما بمنزلة رواية واحدة ، بواسطة ما مرّت الإشارة إليها من موهنات ظاهر الحصر المستفاد من الاستثناء ـ التي يأتي تفصيلها أيضا ـ فتكونان مجملتين بالنسبة إلى إفادة نفي الضمان عن عارية المصوغ من الذهب

٣٤٣

والفضة ، لأن ظهورهما في تمام ما بقي بعد استثناء الدرهم والدينار إنما هو من جهة ظهور الاستثناء في الحصر ، فمع فرض عدمه ينتفي هذا الظهور ، ولا تكونان ـ حينئذ ـ كالعام المخصص بمنفصل ، من حيث بقاء الظهور الوضعي ، وهو ظهورهما في جميع أفراد العارية لترجع النسبة إلى العموم والخصوص المطلقين ، بل ذلك الظهور منتف بسبب اقترانهما بالاستثناء لا محالة ، فإذا صارتا مجملتين مهملتين ، فتكونان في قوة القضية الجزئية في القدر المتيقن منهما ، وهو عارية غير الذهب والفضة مطلقا حتى المصوغ منهما ، فحينئذ لا يعارض العقد السلبي منهما للإيجابي من الرواية الأخيرة ، فإن العقد الإيجابي منها لا يعارض السلبي منهما في ذلك القدر المتيقن ، لاختلاف موضوعهما ، والسلبي منهما لا يعارض الإيجابي منها في المصوغ من الذهب والفضة ، لفرض عدم دلالته على نفي الضمان عنه ، مع دلالة الإيجابي على ثبوت الضمان فيه ، فمقتضى القاعدة حينئذ الحكم بثبوت الضمان في استعارة مطلق الذهب والفضة ، لمكان العقد الإيجابي المذكور مع سلامته عما يعارضه ، كما أن مقتضى القاعدة على التقدير الأول ـ أعني تقدير كون الروايتين بمنزلة رواية واحدة ـ ترجيح العقد السلبي منهما على ذلك الإيجابي نظرا إلى كون العام أقوى دلالة من المطلق ، فيكون التصرف في المطلق عند التعارض والدوران أقرب.

اللهم إلا أن يمنع ذلك ، بأن العام وإن كان نوعا أقوى من المطلق إلا أن المطلق قد يكون أقوى منه في بعض الموارد بواسطة بعض الخصوصيات اللاحقة له ، كما في محل الكلام ، فإن عارية الدرهم والدينار في غاية الندرة والشذوذ ، بل لم نقف على وقوعها في الخارج.

بخلاف المصوغ من الذهب والفضة ، كالحليّ ، فإن استعارته شائع جدا ، فلو قيد الذهب والفضة بالدرهم والدينار يلزم تقييدهما بالفرد النادر في مقام العارية ، وهو في نفسه بعيد جدا وأبعد من تخصيص العام بغير المصوغ منهما ،

٣٤٤

فيتّجه ـ حينئذ ـ تقديم المطلق وتخصيص العام ، والإنصاف أنه جيّد ينبغي الاعتماد عليه.

فالأقرب ثبوت الضمان في عارية مطلق الفضة والذهب على كل من التقديرين.

هذا مضافا إلى عدم استقامة التقدير الأول في نفسه ـ أيضا ـ لأن روايتي الدرهم والدينار كل منهما دافع (١) للآخر ، بمقتضى اختصاص كل منهما باستثناء واحد منهما المفيد لحصر المخرج من العقد السلبي منها (٢) فيما استثنى منها (٣) ، فلا يمكن العمل بظاهر كليهما معا ، ولا بواحدة منهما فقط ـ أيضا ـ لكونه مخالفا للإجماع ، فلا بد من التأويل في ظاهر كل منهما وحمل المستثنى فيهما على كونه من باب أحد الأفراد.

اللهم إلا أن يقال إن المتعذر من جهة التنافي بينهما إنما هو حمل كل منهما على الحصر الحقيقي.

وأما حمله على الإضافي (٤) بالنسبة إلى ما عدا المستثنى في الأخرى فلا مانع منه ، فيحمل عليه ، إما لكونه أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة ، وإما باعتبار جعل مفهوم الحصر من مقولة المطلق المتعذر حمله على العموم ، إذ ـ حينئذ ـ لا يجوز طرحه رأسا ، بل يعمل به في بعض مصاديقه ، والأول أجود ، فافهم.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وإن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة ... ـ إلى قوله ـ : قدم ما حقه التقديم ثم لوحظ النسبة مع باقي المتعارضات ) (٥).

أقول : في ملاحظته (قدس سره) النسبة بين خطاب ـ بعد علاج

__________________

(١) كذا والصحيح ( دافعة ).

(٢ و ٣) كذا والصحيح ( منهما فيما استثنى منهما ).

(٤) كذا ولكن سياق المطلب يقتضي أن يكون بدل الإضافي ( الحقيقي ).

(٥) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٩.

٣٤٥

التعارض بينه وبين خطاب آخر ـ وبين سائر الخطابات المتعارضة له ما لا يخفى على المتأمل ، من منافاته لما مر منه (قدس سره) سابقا في مقام الرد على الفاضل النراقي من أن التعارض بين دليلين إنما يلاحظ بالنظر إلى ظاهريهما قبل علاج التعارض بين أحدهما وبين معارض آخر له ، فإنّ العلاج إنما هو من قبيل دفع المانع ، لا إحراز المقتضي ، فحمل خطاب على معنى لمرجّح في معارضه لا يجعله ظاهرا في ذلك المعنى حتى تلاحظ النسبة بينه وبين خطاب آخر معارض له ، فلم يبق الفرق من حيث ملاحظة النسبة قبل العلاج بين تساوي نسب المتعارضات وبين اختلافها.

والحاصل : أن مقتضى ما يبنى عليه ثمة ـ من كون المخصص مانعا من ظهور العام وغير موجب لظهوره فيما بقي إذا كان منفصلا كما هو المفروض هنا ـ إجمال العام المخصص بالخاص المنفصل في المقام ، ومعه لا ظهور له حتى تلاحظ النسبة بينه وبين معارض آخر له.

والّذي يقتضيه التأمل ، أنه على تقدير انقلاب النسبة بين متعارضين من المتعارضات بعد تقديم ما حقّه التقديم على أحدهما ـ بأن تكون النسبة بين ما بقي منه بعد تخصيصه بما قدّم عليه وبين المعارض الآخر مخالفة ومغايرة لما كانت بينهما قبله ، كأن تكون النسبة بينهما قبله هي العموم مطلقا ، يكون المخصّص بما حقّه التقديم عليه أعم من الآخر مطلقا ، ثم انقلبت بعده إلى العموم من وجه ، أو كانت قبله هي العموم من وجه ثم صار ذلك المخصّص بعد التخصيص أخص مطلقا من الآخر ـ أن يقال بعدم الفرق من حيث ملاحظة النسبة بينهما بالنظر إلى ظاهريهما قبل تخصيص أحدهما بين الحالتين ، بل يجب بعد التخصيص أيضا ملاحظة النسبة بينهما بالنسبة إلى ظهوريهما قبله مطلقا ، من غير فرق بين ما إذا انقلبت بعده إلى العموم من وجه أو إلى العموم مطلقا ، على النحو الّذي عرفت ، لما مرت الإشارة إليه ، من أن الكلام في المخصّص المنفصل ، وليس من شأنه إزالة

٣٤٦

ظهور ما قدّم عليه وإحداث ظهور آخر فيه في تمام ما بقي منه بعد التخصيص ، بل هو معه ـ أيضا ـ ظاهر فيما كان ظاهرا فيه بدونه ، وإنما أوجب ذلك رفع اليد عن العمل بذلك الظهور في مورده ، لكون العمل به في أي جزء من مؤداه معلقا على عدم المخصّص.

وقد عرفت الكلام مشبعا في انقلاب النسبة بين متعارضين إلى العموم من وجه بعد ما كانت هي العموم مطلقا بعد تخصيص أحدهما في طيّ الكلام في المتعارضات بنسبة واحدة.

نعم ، إذا انقلبت النسبة بينهما إلى العموم مطلقا بعد ما كانت هي العموم من وجه ـ بأن يصير المخصّص بما حقّه التقديم عليه أخصّ من الآخر بعد التخصيص مع كونه أعم منه من وجه قبله ـ يعامل بينه وبين العام الآخر الغير المخصّص معاملة العام والخاصّ ، ويقدّم على ذلك العام ، لكن لا لأجل ملاحظة النسبة بين ما بقي منه وبين العام الآخر وإدخاله في قاعدة العام والخاصّ ، بل لأجل نظير ما مرّ في المتعارضات بنسبة واحدة فيما إذا كان عام مطلقا وخاصان كذلك مع كونهما على تقدير تقديمهما عليه مستوعبين لجميع مدلول العام أو لأكثره.

وتوضيحه ، أن كل عام نصّ في منتهى التخصيص من مؤداه لا محالة ، فإذا فرض في مورد عامان من وجه متعارضان وخاص مطلقا بالنسبة إلى أحدهما ، فلا ريب أن ذلك الخاصّ حقه التقديم على ما هو أخص منه ، ولا مانع من تقديمه عليه ـ أيضا ـ من جهة الأمور الخارجية إذ هو بنفسه لا يناقض الأعم منه مطلقا في ذلك المقدار الّذي هو نصّ فيه ، والعام الآخر ليس في مرتبة ذلك الخاصّ ، فإنه ليس من شأنه التصرف والتأويل في صاحبه ، فلا يمكن أن يقال بما قيل في العام المطلق مع خاصتين كذلك مستوعبين لجميع مؤداه من ملاحظة التعارض بين مجموع المستوعبين وبين العام ، فإنّ كل واحد منهما هناك كان صالحا للتصرف في

٣٤٧

العام ، وكان من حقه التقديم عليه ، وإنما منع من الأخذ بكليهما لزوم محذور الاستيعاب بخلاف المقام ، فإن أحدهما وهو العام الآخر ليس كذلك ـ كما عرفت ـ فيقدم الأخص من ذلك العام عليه كائنا ما كان ، فإذا قدم عليه ينحصر مورده في مورد اجتماعه مع العام الآخر ، فلا بدّ من تقديمه على العام الآخر فيه ، إذ لو أخرج مورد الاجتماع عنه يلزم طرح النص ، حيث أنه نصّ في المقدار المذكور المنحصر مورده في محل الاجتماع ، بخلاف إخراجه عن العام الآخر ، لفرض عدم انحصاره مورده فيه ، فيكون طرحه طرحا للظاهر وتأويلا فيه ، فيتعيّن.

وتظهر الثمرة بين ما اخترنا وبين ما اختاره المصنف (قدس سره) من ملاحظة النسبة بين عام وبين معارض آخر له ، بعد تخصيصه بما حقه التخصيص به في المتعارضات المختلفة النسب فيما إذا كان عامان من وجه متعارضان مع خاصان مطلقا بالنسبة إلى أحدهما وكان أحدهما على وجه إذا قدم على الأعم منه تنقلب نسبته مع الخاصّ الآخر إلى العموم من وجه.

فعلى ما اخترنا من ملاحظة النسبة السابقة والعمل على طبقها يقدم الخاصّ الآخر عليه ـ أيضا ـ وعلى ما اختاره يكون حكمه مع العام حكم العامين من وجه.

فربما يقدّم العام عليه لاشتماله على بعض المرجّحات من حيث الدلالة ، أو السند.

لكن الظاهر من قوله ( قدم ما حقه التقديم ثم لوحظ النسبة مع باقي المتعارضات ) التزامه بتقديم الخاصّ الآخر عليه في المثال المذكور ـ أيضا ـ ، لأنه ـ أيضا ـ ممّا حقه التقديم ومعه لا يكاد يوجد مورد تظهر الثمرة بينهما فتأمل.

ثم إنه بقي شيء لم ينبه المصنف (قدس سره) عليه وهو حكم صورة عدم انقلاب النسبة بعد تقديم ما حقه التقديم من المتعارضات.

٣٤٨

فاعلم أنه بعد تقديم ما حقّه التقديم من المتعارضات مع عدم انقلاب النسبة بين ما بقي من العام المخصص وبين معارض آخر له ، فإما أن يقلّ أفراد ذلك العام بعد تخصيصه بما يجب تقديمه عليه إلى حيث ينتهي إلى منتهى مراتب التخصيص الّذي لا يجوز التخصيص إلى ما دونه أو إلى ما يقرب منه مما يستبعد التخصيص إليه وإن جاز ، أو لا يقلّ كذلك.

فإن كان المورد من قبيل الفرض الثاني ، فلا ينبغي الإشكال في تقديم العام الآخر الغير المخصّص على ذلك العام في مورد التعارض ، وهو مورد اجتماعهما ، فإن العام الآخر لعدم تطرق تخصيص إليه أقوى منه ، فإن دلالته بواسطة تطرقه إليه موهونة ، فاحتمال التخصيص فيه أقرب منه في العام الآخر ، فيتعين ، وهنا إنما هو مورد القضية المعروفة بينهم ، من أن تطرق التخصيص أو كثرته يوجب وهو دلالة العام.

وإن كان من قبيل الفرض الأول ، فالعمل فيه على عكس ما في الفرض الثاني ، أما على التقدير الأول منه وهو لزوم قلة الأفراد إلى حيث ينتهي إلى منتهى مراتب التخصيص ، فلعين ما مر في وجه تقديم العام المخصّص المنحصر مورده في مورد اجتماعه مع العام الآخر ، واما على التقدير الثاني منه فلفرض بعد التخصيص في العام المذكور زائدا على القدر المتيقّن مع قربه من العام الآخر ، وهنا إنما هو مورد القضية المعروفة من أن إذا كثر التخصيص في عام مع عدم كثرته في عام آخر معارض له كان احتماله في الأول أبعد فإن مرادهم من كثرة التخصيص الموجب لبعد احتمال التخصيص إنما هو ما بلغ هذا المقدار من الكثرة ، لا مطلقا فافهم.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( والسر في ذلك واضح ... ـ إلى قوله ـ : أو طرح الظاهر المنافي له رأسا ) (١).

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٩.

٣٤٩

فيه إجمال ، إذ يحتمل أن يكون مراده من النص الّذي يلزم طرحه على تقدير عدم طرح الظاهر المنافي له هو العام المعارض بأخص منه مطلقا ومن الظاهر العام الآخر المعارض له في غير مورد ذلك الخاصّ ، وهو مورد اجتماعهما.

ووجه التعبير ـ حينئذ ـ عن طرح الأول بطرح النص ، وعن طرح الثاني طرح الظاهر ـ مع كون كل منهما نصا في مؤداه في الجملة ، وهي منتهى التخصيص وظاهرا فيه كذلك وهو بالنسبة إلى أزيد من تلك المرتبة ـ أنه إذا يبنى على طرح الأول لمرجّح للثاني من حيث الدلالة أو السند قبل علاجه مع ما هو أخص منه والأخذ بما يحدث له من الترجيح بعده ، يلزم طرحه في جميع مؤداه الآئل إلى طرحه فيما هو نصّ فيه ، إذ ـ حينئذ ـ يطرح في مورد اجتماعه مع ذلك العام بالفرض ويجب طرحه ـ أيضا ـ في مورد افتراقه عنه ، الّذي هو مورد التنافي بينه وبين ما هو أخص منه ، إذ لا بد من تقديمه عليه ، كائنا ما كان ، فلا يبقى له مورد بعده أصلا.

هذا بخلاف ما إذا يبنى على طرح العام الآخر ، فإنه إنما يطرح في مورد المعارضة بينه وبين ذلك العام لا مطلقا ، لفرض عدم معارض له في مورد الافتراق عنه ، فلا يلزم من طرحه خلوه عن المورد الآئل إلى طرح النص ، بل يكون طرحا لظهوره فحسب.

لكن هذا لا يناسب تأكيده طرح الظاهر بقوله رأسا ، فإنه ظاهر في طرح المنافي في جميع مؤداه ، فيئول إلى طرح النص ، مع أنه لو كان المراد طرح المنافي فيما هو ظاهر فيه فقط ، بمعنى طرحه في مؤداه في الجملة وهو مورد التنافي بينه وبين ذلك العام ، فلا يخفى أنه ليس محذورا ، بل لا بدّ منه على تقدير الترتيب في العلاج وعدمه.

ويحتمل أن يكون مراده (قدس سره) بالنص هو الأخص المنافي لأحد العامين في مورد افتراقه عن صاحبه ، وبالظاهر المنافي له ذلك العام.

٣٥٠

والوجه في لزوم أحد المحذورين على هذا لو لا مراعاة الترتيب في العلاج ، أنه إذا عولج أولا بين العامين من وجه وقدم العام الغير المنافي للنص في مورد الاجتماع بينهما ، لمرجّح ، أو تخييرا فينحصر مورد العام المنافي له في مورد افتراقه عنه ، الّذي هو محل التعارض بينه وبين ذلك النص ، وحينئذ إما يقدم ذلك العام على ذلك النص أو يقدم النص.

وعلى الأول يلزم طرح النص.

وعلى الثاني طرح الظاهر المنافي له في جميع مؤداه ، وهو محذور مثله ، بل عينه ، لرجوعه بالأخرة إليه ، إذ العام نصّ في مؤداه في الجملة.

والثاني من الاحتمالين أظهر ، كما استظهره ( دام ظلّه ) أيضا.

ولا يخفى على المتأمل عدم لزوم الدوران بين ذينك المحذورين على تقدير مخالفة الترتيب في العلاج إلا في بعض صورها ، وهو ما إذا قدم العام الآخر الغير المنافي للنص على المنافي له في مورد الاجتماع بينهما ، مع منافاة النص له في جميع مصاديق مورد افتراقه عن ذلك العام ، وأما في غيره ـ كما إذا قدم العام المنافي (١) في مورد الاجتماع بينهما أو لا ينافيه في جميع مصاديق مورد افتراقه عن العام الآخر على تقديم الآخر عليه ـ فلا.

هذا مضافا إلى أنه لا يتوقف ترجيح الترتيب في العلاج على لزوم الدوران المذكور في جميع موارد مخالفته ، بل يكفي فيه لزومه في بعضها مع عدم لزومه على تقدير الترتيب أصلا ، فالحري تعليله بلزومه في بعض مواردها.

ويتأكد ترجيحه بلزوم الدوران بين طرح النص وبين قلة المورد للعام المنافي له في بعض صور المخالفة ، وهو ما إذا قدم عليه العام الغير المنافي له في مورد الاجتماع بينهما مع لزوم قلة مورده على تقدير تقديم النص عليه ـ أيضا ـ

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٤٦١.

٣٥١

بأن يكون النص منافيا له في كثير من مصاديق مورد الافتراق ، أو في أكثرها ، فيدور الأمر بين طرح النص وبين طرحه المؤدي في مورد التنافي بينه وبين النص إلى قلة مورده ، فإنها ـ أيضا ـ محذور كطرح النص ، هذا.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وقد ينقلب النسبة ويحدث الترجيح في المتعارضات بنسبة واحدة ) (١).

توضيحه : أن المتعارضات بنسبة واحدة إما أن تكون النسبة بينها هي التساوي ، أو العموم من وجه ، وأما التباين والعموم مطلق فلا يعقلان هنا.

أما الأول : فلما مر ـ في أول المسألة ـ من أن شرط التعارض اتحاد متعلقي الدليلين المتعارضين في الجملة مع اختلاف حكمهما ، ومع التباين كلية لا اتحاد أصلا.

وأما الثاني : فلامتناعه في نفسه ، إذ لا يعقل كون كل واحد من أمرين أو أمور أخص مطلقا من الآخر.

ثم إنه إذا كانت النسبة بينهما هي التساوي ، فلازم تقديم أحدهما على ما يعارضه رفع الحكم المدلول عليه به عن جميع موارده ، كما لا يخفى ، لعدم مورد له ـ حينئذ ـ سليم عن المعارض ، فتكون النسبة معه بحالها بعد علاج التعارض.

وإذا كانت هي العموم من وجه ، فلازم ترجيح بعضها على بعض انقلاب نسبة ذلك البعض المرجوح المخصص مع باقي المتعارضات إلى العموم مطلقا ، إذا لم يكن له مورد (٢) يفترق فيه عن البواقي ، وإن كان له مورد كذلك فنسبته معها بحالها بعد التخصيص.

فظهر أن انقلاب النسبة وحدوث الترجيح إنما هو في بعض موارد محل

__________________

(١) فإنّ ذلك يوافق في النتيجة في مورد العلاج. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٩.

٣٥٢

الفرض ، لا مطلقا ، كما أشار إليه المصنف (قدس سره) بقوله : وقد ينقلب النسبة ويحدث الترجيح المشعر بالتقليل.

ثم إن ظاهر كلامه (قدس سره) أن حدوث الترجيح إنما هو يدور مدار انقلاب النسبة ، وأنه مع انقلابه إلى العموم مطلقا يجب الترجيح.

ويتجه على الأول منع الدوران ، إذ قد تكون النسبة بعد التخصيص بحالها ، ومعه يجب تقديم ذلك المخصص على غيره ، وذلك فيما إذا قل أفراده بعد التخصيص بضميمة مورد افتراقه عن باقي المتعارضات إلى مورد التعارض بينه وبينها ـ أيضا ـ على وجه يبعد فيه التخصيص عرفا ، أو يمنع كذلك ، كما إذا انحصرت في منتهى التخصيص.

نعم استلزام انقلاب النسبة إلى العموم مطلقا للزوم التقديم والترجيح متجه ، إذ لو لا الترجيح لزم بقائه بلا مورد.

ثم إنه يتجه عليه (قدس سره) هنا ـ أيضا ـ ما مر سابقا من أن ملاحظة النسبة بين بعض المتعارضات مع بعض بعد العلاج بينه وبين بعض آخر لا معنى له ، وأنه خلاف ما اختاره سابقا ـ أيضا ـ.

والتحقيق ما مر سابقا من أن اللازم إنما هو ملاحظة النسبة بين المتعارضين بعد تصرف في أحدهما بدليل بما كان بينهما قبله ، فمع تقديم أحد المتعارضات بنسبة العموم من وجه على واحد ، فالملحوظ بين ذلك الواحد وبين البواقي من النسبة بعد التخصيص إنما هو ما كان بينهما قبله.

لكن ترجيحه على باقي المتعارضات ـ إذا كانت النسبة بين ما بقي منه وبينها هي العموم مطلقا ـ ليس لملاحظة هذه النسبة الحادثة ، بل إنما هو لأجل أنه لولاه لزم خلوه عن المورد رأسا.

وبالجملة ، مدار الترجيح إنما هو على قلة الأفراد إلى حيث يبعد معها التخصيص بالإضافة إلى باقي المتعارضات عرفا ، أو إلى حيث يمتنع

٣٥٣

كذلك ، كما إذا انحصرت في منتهى التخصيص أو على لزوم خلوه عن المورد رأسا.

إذ مع الأول يرجع التعارض بينه وبين باقي المتعارضات إلى تعارض الأظهر والظاهر ، فإنه لبعد احتمال تخصيصه بالنسبة إلى مورد تعارضه بينه وبينها بالإضافة إليها [ يكون ] أظهر في الدلالة على دخول مورد التعارض فيه.

ومع كل واحد من الأخيرين يرجع التعارض بينه وبين سائر المتعارضات إلى تعارض النص والظاهر لما قد مر غير مرة من نصوصية العام في منتهى التخصيص.

ثم إن ما ذكر من لزوم قلة المورد أو الخلو عنه على تقدير عدم الترجيح إنما يكونان مرجحين ـ بعد ثبوت مرجح من المرجحات الداخلية أو الخارجية ـ لبعض تلك المتعارضات بنسبة العموم من وجه على ذلك البعض الّذي يراد ترجيحه على باقي المتعارضات أو بعضها لأنهما إنما يحدثان على هذا التقدير ، لا مطلقا.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( واما تقسيم الأصوليين المرجحات إلى السندية والمتنية ) (١).

حاصله ان ما ذكره من التقسيم إنما هو بملاحظة مورد المرجح ، يعنى محل وجوده ، وما ذكره (قدس سره) إنما هو باعتبار مورد الرجحان ، وهو ما يوصف بكونه راجحا ، والمغايرة بين الاعتبارين من حيث المفهوم واضحة ، واما من حيث المصداق فالمغايرة ثابتة بينهما أيضا ، إذ ليس كل ما يكون موردا للمرجّح يكون موردا للرجحان أيضا ، فإنّ الفصاحة والأفصحية وما يشبههما كالعموم والخصوص والمفهوم والمنطوق إنّما موردها هو المتن فإنّ ظرف وجودها

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٠١.

٣٥٤

إنما هو المتن مع أنّ الراجح بسببها إنما هو الصدور ، فإنه يقال بملاحظة ثبوت بعضها أو كلها في أحد الخبرين أن صدوره راجح على صدور الخبر الآخر لا أنّ متنه راجح.

ووجه عدوله (قدس سره) ـ عن تقسيمهم المذكور إلى ما ذكره ـ أن ما ذكروه غير حاصر لجميع الأقسام ، فإن المضمون أيضا من موارد المرجح ، فإن المزية قد تكون موجودة فيه فإذا كان التقسيم باعتبار مورد المرجح فلا بد من التقسيم على وجه يحصره فلا يستقيم ما ذكروه ، لعدم شموله وحصره له ، فإنه مقابل وقسيم للمرجحات السندية والمتنية بالاعتبار المذكور ، غير داخل في أحدهما.

ثم إن في عدهم المنطوق والخصوص من المرجحات ما مرت الإشارة إليه غير مرة من أن الكلام مع اشتماله على شيء منهما يخرج عن صورة التعارض ويدخل في الجمع العرفي ، فإن الخاصّ والمنطوق أقوى دلالة من العموم والمفهوم فيكونان متصرفين فيهما وقرينتين عليهما ، فلا يبقى معهما تحير في فهم المراد عرفا حتى يدخل موردهما في الأخبار العلاجية.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( منها كون أحد الراويين عدلا ) (١).

أقول : الترجيح بالعدالة ـ فيما إذا كان غير العادل متحرزا عن الكذب كتحرز العادل عنه بناء على كون المناط فيه هو الأقربية إلى الحق ـ لا يستقيم كما لا يخفى ، وإنما يناسب الترجيح بها في تلك الصورة القول بإناطته بها من باب التعبد ، فالأوفق بما ذكر تخصيص الترجيح بها بغير تلك الصورة.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وفي حكم الترجيح بهذه الأمور أن يكون

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٠١.

٣٥٥

طريق ثبوت مناط القبول في أحدهما أوضح من الآخر ) (١).

توضيحه : أنه لو كان مناط حجية الخبر هو عدالة الراوي فيقدم رواية من كان عدالته ثابتة بطريق أقوى من طريق عدالة الآخر ، وإن كان هو الوثوق والاطمئنان لا صفة العدالة من حيث هي ، فيقدم رواية من كان طريق ثبوت توثيقه أقوى من طريق توثيق الآخر.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ويلحق بذلك التباس اسم المزكى ) (٢).

الظاهر أنه بصيغة المفعول لكن في حكمه التباس اسم المزكي بصيغة الفاعل بين من يجوز الاعتماد عليه وبين غيره.

ثم إنه لا حاجة إلى تطويل الكلام بذكر ما ذكروه من أسباب قوة الظن المنوط بها الترجيح ، إذ بعد ما كان المدار عليها يكون تشخيصها موكولا إلى نظر المجتهد في خصوص المورد.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ان ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامة يمكن أن يكون بوجوه ) (٣).

اعلم أن الفرق بين الوجه الثاني والرابع اختصاص الرابع بمورد خبرين متعارضين ، أحدهما موافق للعامة والآخر مخالف لهم ، بخلاف الثاني ، فإنه يعم موارد انتفاء الخبر في المسألة أصلا ، فعلى تقدير ثبوته تكون مخالفة العامة أمارة على أن الواقع هو الاحتمال المخالف لهم إن كان الاحتمال في المسألة منحصرا في اثنين ، أو على كونه فيما بين الاحتمالات المخالفة لهم إن كان غير منحصر فيهما ، فيعمل مع الاحتمال الموافق لهم معاملة العدم ، وفي غيره بمقتضى الأصول العملية المقررة لصورة انحصار الاحتمال في غيره.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٠٢.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٨٠٢.

(٣) فرائد الأصول ٢ : ٨٠٥.

٣٥٦

والحاصل : أنه يكشف عن أن الحق في خلافهم ، ولازمه فيما إذا انحصر الاحتمال في اثنين كون الحق هو الاحتمال الواحد المخالف لهم ، وفيما لم ينحصر كونه في جملة الاحتمالات المخالفة لهم ، وأيضا الوجه الرابع على تقدير ثبوته إنما يكشف عن صدور الموافق لهم من الخبرين تقية ، لا عن كون مضمونه باطلا ، بخلاف الوجه الثاني ، فإنه إنما يكشف عن كون مضمون الموافق لهم باطلا ولا يكشف عن صدوره تقية فتأمل.

ثم إن الوجه الأول والثالث يشتركان في كون الأمر بالأخذ بمخالف العامة مع كل منهما من باب التعبد ، بمعنى أنه لا يكون الأمر لأجل كاشفية المخالف لهم عن شيء إلا أن الفرق بينهما أن الأول يختص بموارد خبرين متعارضين ، أحدهما موافق لهم ، والثالث يعم موارد فقد الخبر رأسا كالوجه الثاني ، فإنه بعد البناء على كون مخالفة العامة من العناوين المحبوبة في أنفسهما ، فتكون محبوبة ومطلوبة أينما تحقق موضوعها ، وهو لا يتوقف على وجود خبر أصلا ، بل إنما يتوقف على موافقة أحد الاحتمالين ، أو الاحتمالات الموجودة في المسألة لمذهبهم.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( أما الوجه الأول فمع بعده عن مقام ترجيح أحد الخبرين المبنيّ اعتبارهما على الكشف النوعيّ ... إلى آخره ) (١).

وجه الاستبعاد أن المناسب للترجيح بين متعارضين. يكون اعتبار كل منهما في نفسه من باب الطريقية المحضة والكشف ـ إنما هو جعل المرجح لأحدهما ما يتقوى به مورده من حيث الكشف ، بمعنى كونه مما يقوي جهة كشفه ، بحيث يكون مورده معه أقرب إلى الواقع أو أبعد عن الباطل من غيره المعارض له ، فلا يناسب جعل المرجح من الأمور الغير المفيدة لذلك أصلا ، أو

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٠٦.

٣٥٧

جعله من الأمور المفيدة له مع عدم ملاحظة جهة تقويته لطريقية مورده ، بل يكون الأمر بالأخذ به من باب التعبد الصرف ، كما هو الحال في الأمر بأخذ المخالف العامة على الوجه الأول من تلك الوجوه الأربعة.

والحاصل : أن المناسب حينئذ إنما هو جعل المرجّح لأحدهما ما يكون مقويا لجهة الكشف في مورده مع كون النّظر ـ في اعتباره مرجّحا ـ إلى هذه الحيثية وهي المناسبة بمثابة تبعة وقوع خلاف ما يقتضيه وإن لم تكن منافية لإمكانه.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( إلا أنّه يشكل الوجه الثاني ... ـ إلى قوله ـ : لأن خلافهم ليس حكما واحدا ) (١).

أقول : التعليل الواقع في الأخبار إنما هو كون الرشد في خلافهم بذكر لفظة ( في ) المفيدة للظرفية ، لا كون الرشد هو خلافهم ، والإشكال الّذي ذكره (قدس سره) إنما يتجه على تقدير كون العلة فيها هو الثاني ، لا الأول ، لعدم استلزامه لكون المخالف لمذهبهم حكما واحدا ، إذ غاية ما يفيده أن الرشد متحقق في خلافهم ، ولازم في صورة انحصار الاحتمال المخالف لهم في واحد كون الرشد هو ذلك الاحتمال ، وفي صورة تعدده كونه في جملة تلك الاحتمالات المخالفة لهم ، بمعنى عدم كونه هو الاحتمال الموافق لهم.

ولا ينبغي أن يتوهم أنه ما الفائدة في كون الرشد في جملة الاحتمالات المخالفة لهم ، وأي فائدة في التعبد بالأخذ بتلك الاحتمالات ، فإن الأخذ بها لا يترتب عليه أزيد مما يترتب على صورة عدم الأخذ بها ، إذ على تقدير الأخذ بها لا يمتاز الرشد من الغي حتى يتبع ، كعدم امتيازه منه على تقدير عدمه.

لاندفاعه بأن الفائدة لا تنحصر في ذلك حتى يلغى التعبد بالأخذ بها

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٨٠٦.

٣٥٨

لفرض انتفاء تلك الفائدة ، فإن المعاملة مع الاحتمال الموافق للعامة معاملة العدم من الفوائد المهمة ، لاختلاف حكم عدم إلقائه مع حكم إلقائه بالنظر إلى الرجوع في الأصول والقواعد بالنسبة إلى غيره من الاحتمالات كما لا يخفى.

والحاصل : أن مقتضى التعليل المذكور في الروايات المستفيضة كون مخالفتهم أمارة على كون الرشد في خلافهم ، غاية الأمر أنه مع تعدد الاحتمالات المخالفة لهم يكشف عن كون الحق والرشد فيما بينهم ـ بمعنى عدم خروجه منها ـ فقوله (قدس سره) ( وكون الحق والرشد فيه بمعنى وجوده في محتملاته لا ينفع في الكشف عن الحق ) إن أريد به عدم نفعه في الكشف عن وجوده فيما بين تلك المحتملات فهو يناقض فرضه كون الرشد في خلافهم على معنى كونه في محتملاته ، وإن أريد به عدم نفعه في تشخيص الحق من بين تلك المحتملات كما هو الظاهر منه ، فهو مسلم لكن اعتبار الكشف على هذا الوجه غير لازم في مقام الترجيح ، لكفاية الكشف على الوجه الأول فيه ، بل يكفي ما دونه وهو كون المرجح موجبا لأبعدية مورده عن الباطل على تقدير الدوران بينه وبين فاقده مع احتمال بطلان كليهما كما اعترف به (قدس سره) في غير موضوع من كلامه ، والتعليل المذكور في الاخبار لا يقضى به ـ أيضا ـ كما عرفت.

نعم لا يمكن حمل التعليل المذكور على الدوام للعلم بأن جميع أحكام العامة ليست مخالفة للحق ، فلا بد من حمله على الغلبة ، فإنها غير منكرة ، بل الظاهر من ملاحظة جملة من الأخبار ذلك ، ومعها لا يكشف مخالفتهم عن كون الرشد في خلافهم على سبيل القطع ، لأن غاية ما يفيده غلبة الباطل على أحكامهم (١) هو الظن في خصوص الموارد الشخصية بكون الرشد في خلافهم ، ومن المعلوم أنه محتمل للخلاف وإلا لخرج عن كونه ظنا ، وإنما يكشف مخالفتهم

__________________

(١) والصحيح ما أثبتناه في المتن وفي الأصل ( أحكام ).

٣٥٩

حينئذ عن أبعدية خلافهم عن الباطل ، لكن على هذا التقدير ـ أيضا ـ لا يفرق بين ما إذا كان خلافهم حكما واحدا وبين ما إذا كان أحكاما متعددة ، إذ على الأول ـ أيضا ـ لا يعلم من غلبة الباطل على أحكامهم كون الحق هو ذلك الحكم المخالف لهم ، بل غاية ما توجيه هي حينئذ ـ أيضا ـ إنما هو كونه أبعد عن الباطل ، فلا تغفل.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( لكنه خلاف الوجدان ) (١).

أقول : لا يخفى إن الّذي يقضي ببطلانه الوجدان إنما هو غلبة الباطل على جميع أحكامهم حتى أحكامهم المتفق عليها من الخاصة ـ أيضا ـ وأما خصوص أحكامهم التي لم يوافقهم الشيعة فيها أصلا أو لم توافقهم فيها جلهم فمنع غلبة الباطل عليها في حيّز المنع ، إذ المتأمل فيها يجد غلبة الباطل عليها.

وكيف كان فلم يعلم عدم غلبة الباطل عليها ، ومورد أخبار الترجيح إنما هو هذه الطائفة من أحكامهم ، فمع عدم معلوميّة انتفاء تلك الغلبة لا يرد الإشكال بالتعبد بالعلة ، لأنا حينئذ نستكشف واقعية العلة وثبوتها بنفس تلك الأخبار لصدورها من أهل البيت عليهم السلام الذين هم أدرى بما في البيت.

ألا ترى أنه لو أخبرك أحدهم عليهم السلام بغلبة الباطل على الأحكام المذكورة فهل يبقى لك معه الشك في ثبوت تلك الغلبة ، والمحكي عنهم بمنزلة المسموع منهم ، فان الحكاية مبينة لما صدر منهم عليهم السلام.

نعم الإنصاف أن تلك الاخبار الحاكية عنهم ذلك ليست قطعية ، لكن الإنصاف حصول الظن ، بل الاطمئنان بصدقها ولو بملاحظة المجموع من حيث المجموع من أخبار الترجيح ومن غيرها ، مضافا إلى ما حكي عن أبي حنيفة ، ومن المعلوم أن الظن بصدقها ظن بثبوت تلك الغلبة ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٨٠٦.

٣٦٠