تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

معذور في أن يتزوجها » ، فإنه صريح في ذلك.

وثانيهما : إطلاق الجهالة في قوله عليه السلام : « أما إذا كان بجهالة » بالنسبة إلى الصور الأربعة المذكورة في وجه تأييد إرادة العموم منها مطلقا ، حتى إذا كانت الجهالة فيها بالشك ، فإن الجهالة لها فردان : أحدهما ذلك ، والآخر الغفلة ، حيث إنها بمعنى عدم العلم المعبر عنه بالفارسية : بـ ( ناداني ) فيشملها عند الإطلاق.

وبالجملة : لما كان كل من الوجوه الأربعة ـ المذكورة في كيفية الواقعة المسئول عنها ـ محتملا ، مع احتمال كون الجهل في كل منها ـ على تقديره ـ بالشك أو بالغفلة ، فالجهالة بإطلاقها شاملة لجميعها بأي الاحتمالين في مصداقي الجهالة ، بل بعمومها ، لما مر من وجه ترك الاستفصال ، فإن حملها على إطلاقها أو على العموم لا يمكن إلا بحمل المعذورية في موردها على المعذورية في التزويج بعد انقضاء العدة ، فإن الجاهل في تلك الصور إذا كان شاكا ملتفتا فليس معذورا في التزويج على (١) المرأة في العدة مطلقا :

أما إذا كانت شبهة موضوعية ـ كما في الصورة الأولى ، وهي الشك في أصل العدة ، والثانية ، وهي الشك في انقضائها مع العلم بها ـ فلوجوب الفحص عليه في الأولى ، مضافا إلى أصالة عدم تأثير العقد ، ولاقتضاء الاستصحاب عدم انقضاء العدة في الثانية ، فلا يجوز العقد فيها اتفاقا.

وأما إذا كانت شبهة حكمية ـ كما في الصورة الثالثة ، وهي كون الشك في مقدار العدة شرعا مع العلم بها في الجملة ، والصورة الرابعة ، وهي الشك في حرمة التزويج على (٢) المرأة في العدة ـ فلوجوب الفحص فيها عليه اتفاقا ، مضافا إلى أصالة عدم تأثير العقد ، مع أن الجهالة في الرابعة بمعنى الشك لا

__________________

(١ و ٢) مر الوجه في تعدية التزويج بـ ( على ) ، وسيتكرر نظيرها.

٤١

يكون إلا عن تقصير ، لوضوح الحكم فيها بين المسلمين بحيث يعرفه كل أحد الكاشف عن تقصير الجاهل ، فالجاهل فيها ليس معذورا بالضرورة.

ولو سلمنا المعذورية في الصورة الأولى ، نظرا إلى اقتضاء الاستصحاب عدم العدة وعدم وجوب الفحص فيها ، فتكون الشبهة موضوعية لا يجب الفحص فيها إجماعا ، كما ادعاه المصنف ـ قدس سره ـ في بعض كلماته أيضا ، وإلى (١) حكومة هذا الاستصحاب على استصحاب عدم تأثير العقد كما هو كذلك ، نظرا إلى كون الشك في التأثير مسببا عن الشك في أن عليها عدة.

فيكفي في منافاة الإطلاق ، بل العموم ـ كما مر ـ عدم استقامة الكلام في سائر الصور.

فحينئذ يدور الأمر في الرواية بين : تخصيص الجهالة فيها وتقييدها بالغفلة في جميع تلك الصور ، أو تخصيص الجهالة بالصورة الأولى وإخراج سائر الصور عنها على تقدير الشك فيها مع إطلاق الجهالة في الصورة الأولى بالنسبة إلى الشك.

وبين حمل المعذورية على المعذورية في التزويج بعد العدة ، حيث إنها لم يقم دليل على نفيها عن واحدة من تلك الصور بأي قسم من قسمي الجهالة من الشك أو الغفلة ، فلا يلزم تخصيص أو تقييد في الجهالة ، مضافا إلى قيام الإجماع على ثبوتها في أكثرها ـ وهي غير الأخيرة ـ ، فتكون الرواية حجة على ثبوتها فيها أيضا للتنصيص بها (٢) فيها بالخصوص ، مضافا إلى إطلاقها بالنسبة إليها.

لا سبيل إلى الأول ، لوجوب الأخذ بأصالة الإطلاق والعموم ما لم يثبت الصارف عنهما ، وليس في الرواية ما يوهم الصرف ، فكيف بما يدل عليه؟! فتعين الثاني ، وهو المطلوب.

لا يقال : إنه لو كان المراد بالمعذورية المعذورية في التزويج بعد العدة لما

__________________

(١) المعطوف على ( نظرا إلى اقتضاء ... ) ، أي ونظرا إلى حكومة.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح ، للتنصيص عليها ..

٤٢

استقام تعليله عليه السلام إياها في الصورة الأخيرة ـ المنصوصة في الرواية ـ بكون الجاهل فيها غير قادر على الاحتياط ، فإنه إنما يستقيم كون عدم القدرة على الاحتياط علة على نفي المؤاخذة على التزويج.

لأنا نقول : إن تجويز العقد بعد انقضاء العدة إنما هو من باب التخفيف وتسهيل الأمر على العباد مع قيام المقتضي لتحريمه ، كما ينادي به قوله ـ عليه السلام ـ : « فهو معذور » ، ولا ريب أن الغافل أولى بالتسهيل عليه من الشاك الملتفت ، فاستقام التعليل.

ثم إنه ربما يتخيل : أن إطلاق الجهالة ـ في قوله عليه السلام : « الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه » ـ أيضا شاهد على حمل المعذورية على المعذورية في التزويج بعد العدة بتقريب :

أنها بإطلاقها شاملة لصورة التزويج على المرأة المعتدة قبل الفحص عن حكم المسألة ، فلو كان المراد المعذورية في ذلك ورفع المؤاخذة عنه عليه دون المعذورية في التزويج بعد العدة ، لكان مفاد تلك الفقرة مخالفا للإجماع بل الضرورة ، فإن الجاهل بالأحكام الشرعية لا يصح ولا يجوز له الرجوع إلى أصالة البراءة قبل الفحص ضرورة ، فلا يكون معذورا بالبديهة.

هذا بخلاف ما لو حملناها على المعذورية في التزويج بعد انقضاء العدة ، لعدم قيام الإجماع ـ حينئذ ـ على خلافه ، فتكون الفقرة المذكورة دليلا على جواز العقد بعد العدة في تلك الصورة كما مرت الإشارة إليه ، فحينئذ لو بنينا على الثاني عملنا بإطلاقها ، وإلا يلزم طرحه من غير صارف له ، وهو باطل فتعين الأول.

هذا ، لكن لا يخفى فساده على من له أدنى تأمل ، فإن تعليله ـ عليه السلام ـ الأهونية في تلك الصورة بعدم القدرة فيها على الاحتياط قرينة على أن مورد تلك الفقرة هو الغافل لا غير ، ولا ريب أنه يتعقل في حقه المعذورية في

٤٣

التزويج على المرأة المعتدة ، بمعنى رفع المؤاخذة عنه عليه ، بل لا بد أن يكون كذلك ، فإذا أمكن في حقه ذلك تحمل (١) المعذورية في تلك الفقرة على الأعم من المعذورية في التزويج بعد العدة لإطلاقها ، فإذا فرض كون المراد منها هنا الأعم يكون (٢) المراد منها ذلك أيضا ، وإلا لزم التفكيك في المعذورية في الموارد في سائر الصور (٣) ، فيتم مطلوب المستدل.

اللهم إلا أن يلتجأ حينئذ ـ في حمل المعذورية على المعذورية في التزويج بعد العدة ـ إلى ما ذكرنا من الوجهين ، فيرجع الأمر بالأخرة إليهما ، فلم يبد [ هنا ](٤) وجه ثالث للدلالة على المطلوب.

قوله ـ قدس سره ـ : ( لوجوب الفحص وأصالة عدم تأثير العقد ... ) (٥).

قد مرت الإشارة إلى ضعف كل من هذين.

أما الأول : فلكون الشبهة ـ حينئذ ـ موضوعية لا يجب الفحص فيها إجماعا.

وأما الثاني : فلأن استصحاب عدم العدة حاكم على هذا الأصل جدا ، كما مر.

هذا ، لكن لا يبعد أن يكون مراده ـ قدس سره ـ من الجهالة بأصل العدة الجهالة بلزوم التربص ، فتكون الشبهة حكمية قصر في السؤال عنها ، ولا يجوز

__________________

(١) في الأصل : فتحمل.

(٢) في الأصل : فيكون.

(٣) كذا في الأصل ، والصحيح : .. المراد منها ذلك أيضا في سائر الصور ، وإلا لزم التفكيك في المعذورية في الموارد ، فيتم مطلوب المستدل.

(٤) في الأصل الكلمة غير مقروءة أثبتناها استظهارا.

(٥) فرائد الأصول ١ : ٣٢٨.

٤٤

له الرجوع إلى أصالة البراءة ، لتوقفه في الشبهة الحكمية على الفحص ، فيكون ما ذكره ـ قدس سره ـ من عدم معذوريته ـ حينئذ ـ معللا بوجوب الفحص وأصالة عدم تأثير العقد في محله ، إذ لا أصل يعارض ـ حينئذ ـ أصالة عدم تأثير العقد ، فضلا عن حكومته عليها ، فتكون هي محكمة ، والقرينة على إرادته ـ قدس سره ـ تلك الصورة تعليله بوجوب الفحص وأصالة عدم تأثير العقد ، إذ لو كان المراد هو صورة الشبهة الموضوعية ـ وهي الجهالة بأن عليها عدة ، أم لا ، مع العلم بوجوب العدة ـ لم يستقم هذا التعليل ، كما عرفت ، ولا يقول هو بلزوم الفحص ـ حينئذ ـ ولا باعتبار هذا الأصل.

قوله ـ قدس سره ـ : ( إلا أنه إشكال وارد على الرواية على كل تقدير ... ) (١).

يعني أن تخصيص الجاهل بالحكم بالتعليل المذكور إشكال وارد عليها مطلقا :

أما على تقدير كون المراد بالجهالة في جميع الفقرات متحدا ـ بأن يكون المراد منها في الجميع الغفلة ـ فلأنه مستلزم لكون تعليل أولوية الجاهل بالحكم بالعلة المذكورة تعليلا بالعلة المشتركة ، وهو قبيح ، كما لا يخفى ، أو بأن يكون المراد منها في الجميع الشك ، فإنه لا وجه للتعليل ـ حينئذ ـ أصلا ، لكونه كذبا.

وأما على تقدير كون المراد منها في هذه الفقرة الغفلة ، وفي سابقها الشك. فيلزم التفكيك بين الجهالتين ، وهو خلاف الظاهر ، إلا أنه بعد دوران الأمر بينه وبين التقدير الأول بأحد احتماليه يجب الالتزام به ، لبطلان الأول وفساده عند العقل مطلقا ، بخلاف الثاني ، فإن غايته كونه مخالفا للظاهر ، لا قبيحا. والظاهر يخرج عن مقتضاه بعد قيام القرينة عليه بالضرورة ، ولذا قال ـ قدس سره ـ

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٢٨ ، والعبارة فيه هكذا : ( إشكال يرد ) ..

٤٥

( ومحصله لزوم التفكيك بين الجهالتين ) (١) بغير موجه (٢) ـ بالفتح ـ.

قوله ـ قدس سره ـ : ( فتدبر فيه وفي دفعه ... ) (٣).

أما التدبر في أصل الإشكال فقد حصل.

وأما التدبر في دفعه : فبأن الجهالة معناها إنما هو عدم العلم المعبر عنه بالفارسية : بـ ( ناداني ) المتحقق تارة في ضمن الشك ، وأخرى في ضمن الغفلة ، كما مرت الإشارة إليه ، وهي مستعملة في كلا الموضعين من الرواية في هذا المعنى العام ، إلا أنه لما لم يكن لها مصداق في الثاني منهما ـ وهو الجهل بأن الله حرم عليه التزويج في العدة ـ إلا في ضمن الغفلة ، لوضوح هذا الحكم بين المسلمين كالشمس في رابعة النهار ، بحيث يعرفه كل أحد ممن قرعت سمعه كلمة الإسلام أو كان لها مصداق آخر أيضا ، لكنه في غاية الندرة ، بحيث كاد أن يلحق بالمعدوم ، فعلل عليه السلام أولوية العذر ـ هنا ـ بعدم القدرة على الاحتياط ، لانحصار مورد الجهالة هنا في الغفلة ، لا لاستعماله إياها ـ هنا ـ في الغفلة ، حتى يلزم التفكيك ، مع أنه لا يعقل ـ مع إطلاق الجهالة في السؤال بكلا شقيه ـ وقوع الجواب بكونها أهون في الشق الثاني معللا بأني فرضت الجاهل فيه الغافل ، وهو لا يقدر على الاحتياط ، لكون ذلك بمكان لا يمكن نسبته إلى أحد منا ، فكيف بالإمام عليه السلام؟!

قوله ـ قدس سره ـ : ( إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في ( منه ) إليهما ... إلى آخر ) (٤).

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٢٨.

(٢) العبارة في الأصل غير واضحة ، والأقرب فيها : ( يعني موجبه ـ بالفتح ـ ) ، فهو ـ رحمه الله ـ يفسر عبارة الفرائد أعلاه بما يلي : .. لزوم المحذور المترتب على التفكيك بين الجهالتين.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٢٨.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٣٢٩.

٤٦

نظرا إلى أن كلمة ( من ) ظاهرة في التبعيض ، فمقتضاها هنا كون الحرام قسما من ذلك الشيء وفردا منه ، وعلى تقدير جعل الشيء خصوص المشتبه لم يكن الحرام قسما منه ، بل عينه ، فإن الشيء الكلي المشتبه الحكم كشرب التتن ـ مثلا ـ عند الاطلاع بحرمته (١) يكون الحرام نفسه ، لا فردا منه ، إذ المفروض عدم وجود القسمين فيه : أحدهما حلال ، والآخر حرام.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وكون الشيء مقسما لحكمين ـ كما ذكره المستدل ـ لم يعلم له معنى محصل ) (٢).

إذ المعتبر في المقسم صدقه على كل واحد من الأقسام ، ولا يعقل كون الشيء المشتبه الحكم ـ الّذي هو الموضوع ـ صادقا على شيء من الحكمين ، فإنهما من عوارضه ، لا من أفراده ومصاديقه.

هذا ، لكن لا خفاء فيما أراده المستدل من تلك العبارة ، فإنه أراد بها كون الشيء محتملا للحلية والحرمة ، وإنما أدى مراده بما لا دخل له في إفادته ، مع ظهورها فيما ينكره كل صبي.

قوله ـ قدس سره ـ : ( لازم قهري لا جائز لنا ... ) (٣).

فيه : أنه معلوم أن مراد المستدل بالجواز هو العقلي ، وهو الإمكان ، لا الشرعي ، وهو الإباحة ، حتى ينكر بما ذكره ـ قدس سره ـ.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وعلى الاستخدام ... ـ إلى قوله ـ : فذلك الجزئي لك حلال ... ) (٤).

إنما جعل المشار إليه على تقدير الاستخدام هو الجزئي المراد بلفظ

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصحيح : الاطلاع على حرمته.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٢٩.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٢٩.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٣٣٠.

٤٧

الشيء ، دون الكلي الّذي يعود إليه الضمير في « فيه » و « منه » ، لأنه لولاه لخلت الجملة الواقعة خبرا عن المبتدأ ـ الّذي هو الشيء ـ عن الربط لها إلى ذلك المبتدأ ، كما لا يخفى.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ولضمير « منه » ولو على الاستخدام ... ) (١).

إذ معنى الرواية على تقديره : أن كل جزئي مشتبه الحكم محتمل للحلية والحرمة ، فذلك الجزئي لك حلال حتى تعرف الحرام من نوعه ، فتدع ذلك الحرام ، وظاهر كلمة ( من ) كما مر هو التبعيض ، فمقتضاها كون ذلك الجزئي مما في نوعه قسمان فعلا ـ أحدهما حلال والآخر حرام ـ وهذا لا ينطبق على الشبهات الحكمية التي أراد المستدل الاحتجاج عليها ، فإن الجزئي فيها ليس مما في نوعه قسمان فعلا ، بل حال نوعها مردد بين الحلية والحرمة ، لا أنه منقسم إليهما ، فإن الشك في حرمة الجزئي فيها أو حلية ينشأ من الشك في حال نوعها.

قوله ـ قدس سره ـ : ( الاشتباه الّذي يعلم من قوله : « حتى تعرف ... » ) (٢).

فإن الحكم على شيء بالحلية أو الحرمة ـ أو غيرهما من الأحكام التكليفية أو الوضعيّة ـ مغيا بغاية العلم والمعرفة يفيد أن المراد بالشيء ـ الّذي جعل موضوعا لذلك الحكم المغيا بتلك الغاية ـ هو المشتبه المتردد حكمه في الواقع بين كونه هذا الحكم أو نقيضه.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ليس منشأ لاشتباه لحم الحمير ... ) (٣).

فإن منشأ الاشتباه فيه إنما هو فقد النص ، كما في شرب التتن.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٣٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٣٠.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٣٠ ، وفيه : ( الحمار ) بلفظ المفرد.

٤٨

قوله ـ قدس سره ـ : ( معرفة ذلك الحرام الّذي فرض وجوده ... ) (١).

فإن إعادة النكرة بالمعرفة يفيد أن المراد بها هي النكرة بخصوصها. وقوله : ( فرض وجوده ) يعني فرض وجوده في الشيء الّذي جعل موضوعا للحكم بالحلية ، كما هو ظاهر قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام ».

أقول : لا يخفى أن اتحاد الحرام ـ الّذي جعل معرفته غاية للحكم بالحلية ـ مع الشيء المفروض الوجود الّذي لا يقضي بخروج مثل مطلق اللحم عن موضوع الرواية ، إذ ليس معنى « شيء فيه حلال وحرام » أزيد من كونه شيئا وجد فيه القسمان فعلا ، وهو صادق على مطلق اللحم جدا ، لوجودهما فيه كذلك ، فيقال : إن حلية مطلق اللحم مغياة بمعرفة ذلك القسم الحرام منه ، لا أن حلية قسم آخر منه مغياة بمعرفة ذلك القسم الحرام ، حتى ينكر ، فمعرفة لحم الخنزير ليست غاية لحلية لحم الحمار من حيث خصوصيته ، بل إنما هي غاية لها بعنوان كونه من مطلق اللحم.

فظهر أن مجرد اتحاد الحرام ـ الّذي جعلت معرفته غاية للحلية ـ مع الحرام الموجود في نوعه لا يقضي بما ذكر إلا بضميمة ما مر من أن الظاهر من قوله عليه السلام : « فيه حلال وحرام » بيان منشأ الاشتباه في الحلية والحرمة ، فيكون المراد بالحرام هو الّذي صار وجوده منشأ لاحتمال الحرمة ، فيكون المراد بالحرام ـ الّذي جعلت معرفته غاية لحلية ذلك النوع ـ هو هذا الحرام ، وهذا لا ينطبق على المثال المذكور ، فإن وجود القسم الحرام فيه ـ وهو لحم الخنزير ـ لم يكن منشأ لاحتمال الحرمة في لحم الحمار ، حتى يكون معرفته غاية للحلية ، بل المنشأ له إنما هو فقد النص ، كما مرت الإشارة إليه ، ومع الحاجة إلى تلك الضميمة لم يحسن قوله ـ قدس سره ـ ( هذا كله مضافا ) إلى آخر ما ذكره ، فإن الظاهر

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

٤٩

منه جعل ذلك وجها آخر مستقلا لإثبات المرام ، وقد عرفت ما فيه.

اللهم إلا أن يكون المراد جعل ذلك من القرائن المفيدة بمجموعها لما هو في صدده ، ولا يبعد ، وإن كانت العبارة قاصرة عنه.

ثم إن الرواية الشريفة شاملة لجميع الشبهات الموضوعية البدوية منها والثانوية التي علم بوجود حرام فيها ، كالشبهة الغير المحصورة والمحصورة أيضا ، ولقسم من الشبهات الحكمية ، ـ وهو أن علم بحرمة صنف من نوع وبحلية صنف آخر منه إجمالا مع عدم العلم بأن الحرام أي الصنفين منه ـ فإنه يصدق على ذلك النوع أنه شيء فيه حلال وحرام فعلا ، ويكون منشأ الاشتباه فيه هو وجود القسمين ، لكن لا بد من تخصيصها بالشبهات البدوية وبالقسم الأول من الثانوية ولإخراج الأخيرين منها ، كما سيأتي التنبيه عليه في محله إن شاء الله تعالى.

قوله ـ قدس سره ـ : ( والإنصاف ظهور بعضها ... ) (١).

وهو قوله عليه السلام : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (٢).

قوله ـ قدس سره ـ : ( والظاهر من التعبير عن الدليل المخالف ( للأصل ) بالناقل إرادة الأصل ) (٣) ، فإن ذلك هو المعهود من الدليل المخالف للأصل العملي ، بل المصطلح عليه بينهم ، كما أن المعهود ـ بل المصطلح بينهم ـ في الدليل المخالف للأصل اللفظي ـ كأصالة الحقيقة وأصالة الإطلاق والعموم ـ هو لفظ الصارف.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٣١.

(٢) الفقيه ١ : ٢٠٨ ـ ٢٢ باب ٤٥ ، وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٧ ـ ١٢٨ ـ ٦٠ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٣٤. الموجود في الفرائد عبارة المحقق في المسائل المصرية التي وجه بها نسبة السيد إلى مذهبنا جواز إزالة النجاسة بالمضاف مع عدم النص.

٥٠

وهذا الّذي ذكره ـ قدس سره ـ دفع لما ربما يتوهم من أنه لعل مراد المحقق ـ قدس سره ـ من الأصل الّذي ادعي الاتفاق على العمل به إذا لم يكن دليل مخالف له هو اللفظي ، بمعنى أنه ـ قدس سره ـ فهم أن السيد ـ قدس سره ـ حكم بجواز إزالة النجاسات بالمائعات المضافة متمسكا بإطلاق لفظ الغسل في الأوامر الشرعية الواردة في الغسل عن النجاسات ، مع عدم ثبوت دليل على خلافه عنده ، فنسب حكم المسألة إلى مذهبنا ، لأن المذهب على جواز العمل بأصالة الإطلاق ، وسائر الأصول اللفظية ما لم يثبت دليل على الخلاف.

فوجه كلامه بما فهمه منه.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وان طريقة الشارع كان تبليغ المحرمات ... ) (١).

قد بتوهم : أنه ـ قدس سره ـ جعل ذلك من كواشف الإجماع العملي المذكور ، وأن قوله : ( وأن طريقة الشارع ) عطف على قوله : ( فإن سيرة المسلمين ).

لكن لا يخفى ما فيه من الضعف ، فإن ذلك على تقدير ثبوته لا يصلح لكونه كاشفا عن الإجماع المذكور ، بل إنما هو دليل آخر مستقل على إثبات أصالة البراءة ، ويمكن أن يكون معطوفا على قوله : ( الإجماع العملي ) ، بأن يكون الوجه الثالث من وجوه الكواشف عن الوجه الثاني من وجهي الإجماع مركبا من الإجماع العملي ومنه ، لكن على هذا أيضا لا يسلم من الإشكال المذكور ، مع أنه يبعده ـ أيضا ـ أنه ـ قدس سره ـ جعل كل واحد من وجوه الكشف عن الوجه الثاني من وجهي الإجماع بسيطا ، لا مركبا من وجهين ، فتدبر.

لكن الظاهر أنه عطف على الفحص في قوله : ( بعد الفحص ) يعني أن سيرة المسلمين على عدم الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٣٤.

٥١

الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان ، وبعد ملاحظة أن طريقة الشارع كانت تبليغ المحرمات دون المباحات. هذا.

أقول : يتجه على ذلك ـ مضافا إلى ما ذكره (قدس سره) ـ بأن ملاحظة هاتين المقدمتين توجب القطع بانتفاء الحرمة في المشكوك ، ويصير الشك في حرمته بدويا يزول بملاحظتهما ، فيخرج عن الشهادة لما نحن فيه ، فافهم.

قوله ـ قدس سره ـ : ( الرابع : حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف ... إلى آخره ) (١).

المراد بالبيان ليس خصوص العلم ، وإلا لقبح العقاب على مخالفة التكاليف القائمة عليها الطرق الظنية المعتبرة ، ضرورة أن قيام الأمارة الظنية على تكليف لا يوجب العلم به ، فلا يعقل كونها بيانا علميا له ، مع أنه لا شبهة في جواز العتاب وحسن العقاب عليها حكم العقل وشهادة العقلاء كافة ، بل المراد به الحجة القاطعة للعذر بين الموالي والعبيد ، وهي ما لو عمل به العبد واتفق مخالفته للواقع ـ بأن كان مؤديا إلى مبغوض المولى ـ لقبح على المولى عقاب العبد على ذلك ، ولو لم يعمل به واتفق كون مؤداه مطلوبا للمولى لحسن له عقابه عليه (٢) ، فيعم الطرق الظنية المعتبرة ، فإنها وإن لم تكن حججا في أنفسها كالعلم ، إلا أنها منزلة منزلة العلم بجعل الشارع وأمره بالعمل بمؤداها وجعله [ إياها ] مرآة للواقع كالعلم.

لا يتوهم : أنه إذا لم يكن الطرق الظنية بأنفسها حججا ـ بل بجعل

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٣٥.

(٢) قبح العقاب في صورة مخالفة الطريق للواقع إنما هو لعدم بيان ذلك التكليف الّذي اتفق مخالفته جهلا.

فإن مجرد نصب طريق من دون قيامه على تكليف لا يكون بيانا لذلك التكليف ، وإنما يكون بيانا له إذا قام عليه ، بأن يكون موصولا إليه ، وحسنه في صورة مصادفته للواقع إنما هو لبيانه بقيام ذلك الطريق عليه بالفرض. لمحرره عفا الله عنه.

٥٢

الشارع ـ فيكون مدار الحجية فيما لم يكن حجة بنفسه على جعل الشارع ، فيكون الطرق الظنية والأمور الغير المفيدة للظن أصلا (١) سواء من حيث عدم حجيتهما في أنفسهما وحجيتهما بجعل الشارع ، فما الوجه في جعل الشارع الأولى حججا دون الثانية؟

لأنّ اعتبار الشارع ما لم يكن حجّة بنفسه وجعله حجّة معناه ـ كما أشير إليه ـ إنّما هو أمره بالعمل بمؤدّاه وجعله مرآة لتكليفه الواقعي ، وذلك لا يعقل في الثانية ، ضرورة أنه ليس لها مؤدّى ليأمر الشارع بالعمل به ، لعدم الكشف فيها أصلا ، فيرجع جعلها طرقا إلى جعل الشكّ طريقا ، وهو غير معقول.

وبالجملة : الطرق الظنية صفة الطريقية ثابتة لها في أنفسها كالعلم إلا أن الخاصية المترتبة على العلم ـ وهي السببية لقطع العذر ـ ليست لازمة لها كما في العلم ، بل إنما هي بجعل الشارع ، فجعل الشارع مكمل لطريقيتها لا محدث لصفة الطريقية فيها.

ومما ذكر إلى هنا ظهر : أنه لا يعقل أن يأمر الشارع بالاحتياط في مورد الشك في التكليف الواقعي لأجل دفع ضرر ذلك التكليف الأخروي ، سواء كان أمره ذلك إرشاديا ، أو شرعيا يكون الحكمة فيه التحرز عن ذلك الضرر الأخروي ، إذ بعد قبح العقاب على ذلك التكليف المشكوك لا ضرر حتى يجعل التحرز عنه منشأ للأمر بأحد الوجهين المذكورين ، وأنه يقبح للشارع (٢) إلزام المكلف ـ بخطاب آخر سوى الخطاب الواقعي المشكوك فيه ـ على امتثال (٣) ذلك التكليف المشكوك فيه ، بأن يقول له ـ مثلا ـ : يجب عليك امتثال التكاليف

__________________

(١) ككون طلوع الشمس أو غروبها ـ مثلا ـ حجة وطريقا مجعولا على وجوب امتثال التكاليف الواقعية المجهولة. لمحرره عفا الله عنه.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : يقبح على الشارع.

(٣) كذا في الأصل ، والصحيح : بامتثال.

٥٣

الواقعية المشكوك فيها عندك ضرورة أن هذا الخطاب لا يعقل كونه بيانا لذلك التكليف الواقعي المشكوك فيه وطريقا إليه ، بل هو على جهالته بعده أيضا ، فيكون هذا إلزاما بامتثال تكليف لا بيان له أصلا ، وهو قبيح.

نعم يجوز له الأمر ـ في الصورة المفروضة ـ بالاحتياط ، مع جعل موضوعه هو احتمال الخطاب الواقعي ، لا الضرر الأخروي ، بأن يأمر : بأنك إذا احتملت في مورد احتمال (١) كونه منهيا عنه في الواقع يجب عليك التحرز عنه ، فإن المفروض احتمال الخطاب ، وليس كالضرر الأخروي الّذي يقطع بعدمه ، فيصح جعل موضوع ذلك الأمر هو محتمل الخطاب ، إلا أن هذا الأمر ـ أيضا ـ لا يعقل كونه بيانا للتكليف والخطاب المشكوك فيه ، وإنما هو بيان لحكم هذا الموضوع الخاصّ ، وهو المحتمل كونه منهيا عنه مثلا ، فهو مصحح للعقاب على مخالفة نفسه ولو لم يكن في مورده تكليف واقعي أصلا ، لا على الواقع.

هذا بناء على كون ذلك الأمر شرعيا.

وأما لو كان إرشاديا لأجل التحرز عن الضرر الدنيوي المترتب على الحرام الواقعي الغير المرتفع بالجهل ، فحينئذ لا عقاب على نفسه أيضا.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ودعوى أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي ... إلى آخره ) (٢).

طريق الإيراد بتلك القاعدة (٣) أن يقال علي نحو الإجمال (٤) : إنه إذا بني على قبح العقاب عقلا على التكليف المجهول فهنا قاعدة عقلية أخرى ـ وهي وجوب دفع الضرر المحتمل ـ فما يصنع بتلك؟ وكيف التوفيق بينها وبين هذه ،

__________________

(١) لا يخفى عليك زيادة كلمة ( احتمال ) هنا.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٣٥.

(٣) وهي قاعدة دفع الضرر المحتمل.

(٤) يعني بطور سربستگي. لمحرره عفا الله عنه.

٥٤

وهي قبح العقاب من غير بيان؟

وطريق الجواب عنها : أن منافاة تلك القاعدة على تقدير ثبوتها لهذه إنما تتصور على وجهين :

أحدهما : أن تكون تلك رافعة لموضوع هذه ، بكونها بيانا للتكليف المجهول.

وثانيهما : أن يكون ما نحن فيه ـ أعني الشبهة التحريمية ـ مصداقا لكليهما بحيث يشمله تلك وهذه.

وهي ـ بكلا وجهيها ـ مدفوعة :

أما على الأول : فبما ذكره ـ قدس سره ـ من أن الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول ، بمعنى أنه لا يصلح لذلك ، نظير عدم صلاحية الأمر بوجوب الإتيان بمشكوك الوجوب ـ مثلا ـ لكونه بيانا للتكليف الوجوبيّ الواقعي ، بل هي قاعدة ظاهرية موضوعها محتمل الضرر ، فلو تمت ـ بمعنى أنه ثبت كونها حكما شرعيا ، لا إرشاديا ـ فالعقاب على مخالفة نفسها ، لأنها ـ حينئذ ـ بيان لحكم موردها ولو لم يكن تكليف واقعي في موردها أصلا ، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده ، فإذا كان المأخوذ في موضوعها احتمال الضرر فلا تصلح لورودها على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإن جريانها في مورد فرع احتمال الضرر ، والقاعدة المذكورة تنفيه ، فتكون هي واردة على تلك ، لا العكس.

وأما على الثاني : فظهر وجهه ـ أيضا ـ مما ذكرنا ، فإن ما نحن [ فيه ] ليس من أفراد تلك القاعدة أصلا ، بل هو [ فرد ] لهذه القاعدة فقط ، وهي مخرجة له عن كونه من أفراد تلك.

وشيخنا الأستاذ ـ قدس سره ـ إنما اقتصر على بيان الإشكال على الوجه

٥٥

الأول ودفعه ، ولعل وجه عدم تعرضه له [ على ](١) الوجه الثاني : أنه بعد الجواب المذكور عن الأول لا يبقى مجال للثاني أصلا ، فافهم (٢).

قوله ـ قدس سره ـ : ( ذكر السيد أبو المكارم ابن زهرة (٣) ـ قدس سره ـ : أن التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق ... ) (٤).

المراد بالتكليف ليس مجرد الخطاب المتوجه إلى المكلف الموقوف تنجزه عليه على علمه به ، فان ذلك مما لا شبهة في جوازه ، فإنه لا يلزم منه محذور أصلا ، فلا يجوز حمل كلام السيد عليه ، مع أنه خلاف الظاهر من لفظ التكليف أيضا ، بل مراده ـ كما هو الظاهر من لفظ التكليف أيضا ، مضافا إلى شهادة قوله : ( تكليف بما لا يطاق ) ـ هو الخطاب المتوجه إلى المكلف على سبيل التنجيز بحيث يؤاخذ الأمر على ترك العمل به.

ومراده بما لا طريق إلى العلم به ما لا طريق إلى العلم به من حيث كونه مكلفا به من قبل الآمر ، ويكون عدم العلم حقيقة راجعا إلى التكليف.

ومراده بما لا يطاق بقرينة ما ذكره شيخنا الأستاذ ـ قدس سره ـ هو ما لا يطاق الامتثال به ، فيكون حاصل كلامه : أن التكليف بالمعنى المذكور

__________________

(١) في الأصل : من.

(٢) والتعليق على التمام : إشارة إلى عدم كونها حكما شرعيا ، بل إنما هي إرشادي محض ، لا يترتب عليها عدا ما يترتب على نفس الواقع ، فإن كان في موردها ضرر فيترتب على الفعل ، وإلا فلا. لمحرره عفا الله عنه.

(٣) غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع ، قسم أصول الدين : مخطوط.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٣٣٥.

٥٦

ـ بأمر لا طريق للمكلف إلى العلم بتعلق التكليف به ـ تكليف بما لا يطاق الامتثال به ، وهو قبيح ، فيكون التكليف المذكور قبيحا ، وإنما لم يحتج على بطلان ذلك (١) اتكالا على وضوحه.

ووجه استدلاله بذلك على مسألة البراءة : أنه لو كان التكليف المشكوك فيه في الواقع منجزا على المكلف ـ وموجبا للزوم الإتيان به بطريق الاحتياط ـ لكان ذلك التكليف تكليفا بما لا طريق إلى العلم به ، وهو قبيح ، لكونه. تكليفا بما لا يطاق الإتيان به ، فيكون باطلا ، فيكون المقدم مثله ، فحينئذ لا شيء يقتضي وجوب الاحتياط في موارد الشك في التكليف.

لكن لا يخفى أن قبح التكليف بما لا طريق إلى العلم به من جهة كونه تكليفا بما لا يطاق الإتيان به ، على ما ذكره المستدل لا يتم بمجرد صدق كونه تكليفا بما لا يطاق الإتيان به ، فإن القبيح هو التكليف بما لا يطاق ، وأما قبح التكليف بما لا يطاق الإتيان به ، فهو مطلقا ممنوع ، بل المسلم منه ما إذا كان الغرض من التكليف هو الامتثال الحقيقي ، بمعنى الإتيان بخصوص المأمور به أو ترك خصوص المنهي عنه ، لكونه مأمورا به أو منهيا عنه ، والسر فيه رجوعه إلى التكليف بما لا يطاق. وأما لو كان الغرض منه الإتيان به على أي وجه كان فقبح ذلك التكليف ـ من جهة صدق التكليف بما لا يطاق الإتيان به ـ ممنوع.

والحاصل : أنا وإن كنا نقول بقبح التكليف بما [ لا ] طريق إلى العلم [ به ] ، لكن [ لا ] لأجل ما ذكره المستدل ، بل لأجل قبح ذلك في نفسه عند العقل من غير إرجاعه إلى أمر آخر وإدخاله فيه ، والمستدل أراد إثبات قبحه من جهة

__________________

(١) أي بطلان التكليف بما لا يطاق الإتيان به. [ منه قدس سره ].

٥٧

قبح التكليف بما لا يطاق امتثاله (١) ، ولأجل إرجاعه إليه وإدخاله فيه ، فحينئذ يتجه عليه :

أن قبح التكليف بما لا طريق إلى امتثاله (٢) مطلقا ممنوع ، بل إنما يكون قبيحا إذا لزم منه التكليف بما لا يطاق ، وهو فيما إذا كان الغرض من التكليف الامتثال الحقيقي ، فلا يستقيم ـ حينئذ ـ جعله دليلا على أصل البراءة ، إذ للخصم أن يمنع كون الغرض من التكليف المشكوك فيه ذلك ، بل لا بد له من منعه ، فإنه لو سلم ذلك فلا ريب في عدم إمكان حصوله بالاحتياط أيضا ، فلا وجه له (٣) لإيجابه.

وبالجملة : لأحد أن يقول للمستدل : الغرض من التكليف الواقعي المشكوك لا ينحصر في الامتثال حتى يحكم ببطلانه ، لكونه تكليفا بما لا يطاق ، بل يمكن أن يكون الغرض منه مطلق صدور الفعل أو إتيانه لداعي حصول الانقياد ، فعلى المستدل نفي هذين الاحتمالين أيضا ، حتى يثبت خلو التكليف المذكور عن الغرض بالكلية ، فيكون قبيحا وباطلا حينئذ.

وشيخنا الأستاذ ـ قدس سره ـ لما رأى عدم تمامية هذا المقدار الّذي ذكره السيد ـ قدس سره ـ على إثبات أصالة البراءة ، فأكمله بقوله : ( واحتمال كون الغرض من التكليف. ) (٤). إلى آخر ما ذكره ـ قدس سره ـ فقوله ذلك إلى آخره تتميم لذلك الدليل.

وحاصل ما ذكره ـ قدس سره ـ من الدفع بتوضيح منا : أنه إن قام دليل على وجوب إتيان الشاك في التكليف بالفعل مطلقا أو لاحتمال المطلوبية فذلك

__________________

(١ و ٢) في الأصل : الامتثال به ..

(٣) ( له ) الظاهر زيادتها.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٣٣٦.

٥٨

مغن عن التكليف بنفس الفعل ، وإلا فلا يصلح التكليف المجهول ، لكون الغرض منه أحد هذين الأمرين ، فإنه على تقدير كون الغرض منه أحدهما ، فهو إما غرض على سبيل الإطلاق ، بمعنى أن المقصود به تحريك المكلف إلى تحصيله على أي تقدير ، وإما غرض في الجملة ، بمعنى أن المقصود به تحريكه إلى إيجاده أحيانا ، ولا يعقل كون التكليف المجهول محركا أصلا لعدم قابليته لذلك ، مع أن الغرض لو كان هو الثاني ـ أي إتيان المكلف بالفعل لداعي الانقياد ـ فهو حاصل بدون تكليف في الواقع أصلا ، فإن مجرد احتماله يكفي في ذلك ، ولا حاجة إلى وجوده الواقعي.

اللهم إلا أن يبدى وجه آخر : وهو أن الغرض لعله حصول الفعل من المكلف على سبيل الامتثال إذا صادق الواقع ، إذ بدونه مجرد انقياد.

وبعبارة أخرى : أنه يكلف الله تعالى العبد في حال جهله به لغرض أنه إذا أتى بالمحتمل كونه مكلفا به بداعي احتمال التكليف يقع ذلك امتثالا ، ويثيبه ثواب الامتثال إذا اتفق كونه هو المكلف به واقعا ، إذ لو لم يكلف في الواقع ، وأتى هو بالمحتمل كونه مكلفا بداعي احتمال التكليف به ، فلا يقع ذلك امتثالا ، إذ مجرد الإتيان به على هذا الوجه مع عدم تكليف في الواقع لا يجعله امتثالا ، بل هو مجرد انقياد ، ولو أعطي شيئا فهو لأجل الانقياد لا الامتثال ، نظير ما إذا ارتكب أحد شيئا باعتقاد كونه محرما ـ أو بداعي احتمال كونه كذلك ـ لا يكون مخالفة إذا لم يصادف الواقع ، بل إنما هو مجرد تجر ، ولو عوقب لكان عقابه ذلك لأجل التجري لا غير.

لكنه مدفوع : بأن هذا الغرض ليس من الأغراض المتعارفة في التكاليف عند العقلاء ، فلا يجوز احتماله في تكاليف الشارع.

وأيضا يتجه عليه : ما مر من أن التكليف لا بد أن يكون محركا للمكلف إلى ما هو المطلوب منه ، ولا يعقل كون التكليف المجهول محركا أصلا.

٥٩

هذا ، مع أن حقيقة التكليف هو ما حمل المكلف على الفعل وبعثه إليه ، والتكليف المجهول حال كونه كذلك لا يعقل كونه محركا كما عرفت ، فلا يكون تكليفا حقيقة.

قوله ـ قدس سره ـ : ( واعلم أن هذا الدليل العقلي ) إلى قوله : ( معلق على عدم تمامية أدلة الاحتياط ) (١).

لا يخفى أنه قد توهم العبارة خلاف المقصود ، وهو أن موضوع قاعدة ـ قبح العقاب على تكليف من دون بيان ـ مقيد بعدم وجوب الاحتياط ، حتى بالنسبة إلى التكاليف الواقعية المجهولة ، بحيث لو فرض وجوبه بفرض تمامية أدلته فلا يبقى لهذه القاعدة مطلقا موضوع ، فيكون الاحتياط واردا على هذه القاعدة مطلقا ، والموهم لذلك هو قوله ـ قدس سره ـ : ( إنما هو إطلاق القول بكون تلك القاعدة معلقة على [ عدم ](٢) وجوب الاحتياط ) فإنه ظاهر فيما ذكر ، مع أنه خلاف المقصود ، مضافا إلى فساده في نفسه ، حيث إن وجوب الاحتياط كيف يعقل كونه بيانا للتكاليف الواقعية المجهولة؟! بل إنما هو بيان لحكم موضوع نفسه ، وهو مشكوك الحكم ـ مثلا ـ فلا يعقل ارتفاع موضوع تلك القاعدة بالنسبة إلى التكاليف الواقعية المجهولة مع وجوبه ، ولا يقول به الأخباريون أيضا ، بل المقصود كونها معلقة بالنسبة إلى هذا التكليف الظاهري الخاصّ ، وهو الاحتياط على عدم تمامية أدلة وجوبه ، بحيث لو ثبت منها وجوبه لم يبق لتلك القاعدة موضوع بالنسبة إلى هذا الحكم الظاهري المشكوك فيه قبل ، فإن القاعدة المذكورة جارية في مطلق التكليف المجهول ـ سواء كان واقعيا أو ظاهريا ـ وارتفاع موضوعها عن واحد منهما إنما هو ببيان نفس ذلك الواحد.

وبالجملة : لما كان النزاع في المقام ـ أعني الشبهة التحريمية ـ في وجوب

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٣٦.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

٦٠