تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

وثانيا أن وجه عدّه الوجوه ثلاثة بملاحظة جعله وجوب الأخذ بأحد الاحتمالين بكلا قسميه قسما واحدا فلذا عطف أولا بعينه بكلمة أو دون الواو.

قوله (قدس سره) : ( والتوقف بمعنى عدم الحكم لشيء لا ظاهرا ولا واقعا ) (١).

بمعنى عدم الحكم بأن الله قد أباح كلا من الفعل والترك ظاهرا أو واقعا ، بل نقول إنه تعالى لم يبح شيئا في الظاهر وحكمه الواقعي أحد الأمرين من الوجوب أو الحرمة لكن العقل لما لاحظ أنه لا بد للمكلف من أخذ الفعل أو الترك وأنه لا يمكنه الجمع بينهما وتركهما جميعا فلا يتمكن من الاحتياط فحكم بأنه لا حرج عليه لا في الفعل ولا في الترك وإلا لزم الترجيح بلا مرجح.

وبالجملة فالعقل مستقل هنا بقبح المؤاخذة على شيء من الفعل والترك فيستكشف منه الغاؤه بكلا الاحتمالين بمعنى عدم تنجيزه شيئا منهما على المكلف لو كان هو الحكم المعلوم بالإجمال ، ومناط حكم العقل على هذا إنما هو عجز المكلف من الاحتياط وعدم تمكنه منه مع بطلان الترجيح بلا مرجح ، كما أن مناط حكمه بالبراءة الأصلية في الشبهات البدوية إنما هو صرف الجهل بالواقعة من دون النّظر إلى عدم التمكن من الاحتياط ، وكما أن مناط حكمه بالأخذ بأحد الاحتمالين لا بعينه في المقام على القول به إنما هو التحير فهو مخير في أول الأمر بين الأخذ بأيهما شاء إذا لم يكن أحدهما راجحا على الآخر وبعد الأخذ يلزمهم ما أخذه ولا يجوز مخالفته إذ يصير هو حينئذ على تقديره منجزا على المكلف وهذا هو الفرق بين التخيير والإباحة.

وأما إذا كان لأحدهما مرجح كما قد يدعى في المقام فيتعين الأخذ به بالخصوص دون التخيير.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٩٥.

١٤١

ثم إن هذا الّذي ذكرنا في معنى التخيير لا يفرق فيه بين العقلي والشرعي ، إذ على الثاني إذا قال الشارع : أنت مخير بين الأخذ بأي الاحتمالين معناه أنه بعد الأخذ يتعين عليك ما أخذت به بمعنى أنه على تقدير عليك ، وليست معذورا في مخالفته على تقديره فيكون قوله ذلك إنشاء لحكم ظاهري بالنسبة إلى الاحتمال الّذي قد أخذ به ، فإن كان هو الحرمة فيكون الفعل حراما عليه في الظاهر وإن كان الوجوب فيكون واجبا كذلك.

قوله (قدس سره) : ( لأنها مخالفة قطعية عملية ) (١).

لا يخفى أن ذلك غير لازم في بعض صور ما إذا كان أحدهما المعين تعبديا ، فإنه إذا كان أحدهما المعين تعبديا ففيه صورتان :

إحداهما : أن يقع العمل على طبق ذلك الّذي هو على تقديره تعبدي لكن بدون نية القربة.

ثانيتهما : أن يقع العمل على طبق ما يكون على تقديره توصليا ولا ريب أن المخالفة القطعية إنما يلزم في أولى هاتين الصورتين لا غير.

وأما في ثانيتهما فهي احتمالية قطعا كما أن الموافقة معها أيضا احتمالية.

ومن هنا يظهر أنه لو كان أحدهما الغير المعين تعبديا لا يلزم المخالفة القطعية العملية أصلا وقد بينه (قدس سره) لذلك وإلا لم يذكره.

قوله (قدس سره) : ( والتخيير ) (٢).

هو في بعض النسخ مخطوط عليه. قال ( دام ظله ) وعلى تقديره لا بد أن يكون معطوفا بالعطف التفسيري على قوله أو لا بعينه ، فإن معنى الأخذ بأحدهما لا بعينه هو التخيير وليس التخيير وجها مقابلا له.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٩٥.

(٢) ليس بموجود في المطبوع لجماعة المدرسين فراجع ١ : ٣٩٥ و ٣٩٦.

١٤٢

قوله (قدس سره) : ( وليس العلم بجنس التكليف المردد بين نوعي الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف ) (١).

لا يخفى أن العلم بجنس التكليف المردد بين نوعي الوجوب والحرمة ليس كالعلم بنوع التكليف إذا كان طرفا الترديد في ذلك الجنس المعلوم متعلقين بأمر واحد بأن يعلم أن ذلك الفعل واجب أو محرم كما هو مفروض البحث في المقام ، وأما فيما إذا كان طرفاه متعلقين بأمرين متباينين كما إذا علم وجوب هذا الفعل أو حرمة ذلك الفعل الآخر فلا ينبغي الارتياب في كونه كالعلم بنوع التكليف من حيث كونه مقتضيا عقلا لوجوب الاحتياط.

وهذا القسم من الشبهة داخل في الشك في المكلف به كما قاله ( دام ظله ) وحكمه حكمه ، ولعله يجيء منه (قدس سره) ما يشير إلى ما ذكرنا من اتحاد حكم هذا الحكم العلم بنوع التكليف ، وعلى هذا فكان عليه تقييد ما ذكره هنا بصورة اتحاد متعلق طرفيه.

ثم إن مجمل الفرق بين العلم بجنس التكليف إذا كان طرفاه متعلقين بأمر واحد وبينه إذا كان طرفاه متعلقين بأمرين من حيث حكم العقل أن العقل إنما يحكم بكون الجهل عذرا رافعا للتكليف المستتبع للعقاب إلى ما لم يتم الحجة على المكلف من الشارع ومن المعلوم أن العلم بالجنس إذا كان طرفا الترديد فيه متعلقين بأمر واحد لا يصلح لقيامه حجة عليه في تنجز التكليف بالواقع وصحة المؤاخذة عليه لعدم قدرة المكلف على الاحتياط معه فيكون هذا العلم بمنزلة الجهل رأسا فيكون ذلك الجهل الموجود معه عذرا بحكم العقل.

هذا بخلاف ما إذا كان كل من طرفيه متعلقا بأمر غير ما تعلق به الآخر ، فإن ذلك العلم الإجمالي حجة عليه حينئذ ولا يعذر معه في مخالفة المعلوم الإجمالي

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٩٦.

١٤٣

لتمكنه من موافقته بحكم العقل وبناء العقلاء كافة فإنهم لا يفرقون بينه وبين ما إذا كان المعلوم نوع التكليف قطعا.

لا يتوهم إنا نقول أن مجرد التمكن من الاحتياط حجة قاطعة للعذر حتى يرد علينا أن مقتضى ذلك لزوم الاحتياط في الشبهات البدوية ، بل المراد أن ذلك العلم الإجمالي منضما إلى إمكان الاحتياط حجة.

وبعبارة أخرى : إنه حجة بشرط إمكان الاحتياط معه.

وأما الفرق بين المقامين من حيث الأخبار فسيأتي الكلام فيه في الشبهة المحصورة إن شاء الله.

ويمكن الفرق بينهما من تلك الجهة أيضا بما ذكرناه.

وتقريره أن كل واحد من أخبار البراءة مغيا بعدم قيام الحجة فيشمل صورة كون طرفي العلم الإجمالي متعلقين بأمر واحد دون ما إذا كانا متعلقين بأمرين.

قوله (قدس سره) : ( فهو حاصل فيما نحن فيه ) (١).

لا يخفى ما فيه من القصور ، فإن مراده الموافقة العملية بالقدر الميسور وهو الاحتمالية منها فإنها هو القدر الممكن. وظاهر العبارة حصول الموافقة العملية القطعية.

قوله (قدس سره) : ( وليس حكما شرعيا ثابتا في الواقع ) (٢).

يعني ليس هذا النحو من الحكم الشرعي لا أنه ليس حكما شرعيا أصلا كما قد يتوهم.

والحاصل أن الحكم الشرعي قد يكون مما يمكن تطرق الجهل إليه بمعنى

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٩٦.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٩٦.

١٤٤

كونه ثابتا في الواقع في حال الجهل وقد يكون مما لا يمكن فيه ذلك ، بمعنى أن تحققه الواقعي لا يكون إلا بعد العلم الإجمالي بمتعلقه تفصيلا وما نحن فيه من قبيل الثاني.

وبعبارة أخرى : لا يوجد الحكم إلا بعد تحقق موضوعه ولما كان موضوعه فيما نحن فيه مأخوذا فيه العلم التفصيليّ فلا تحقق له واقعا في صورة الجهل أصلا.

قوله (قدس سره) : ( إلا أن مجرد احتماله يصلح فارقا بين المقامين ).

فإن استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض إنما هي من باب تنقيح المناط لا غير ، ومن المعلوم أنه لا بد في تنقيح المناط من العلم بالمناط في الأصل.

فعلى هذا لو احتمل كون المناط فيه أمرا آخر غير مؤد في الفرع ولو بالاحتمال الموهوم لا يصح إجراء حكمه إلى الفرع.

ثم إن وجوب العمل بالخبر وإن لم يكن من باب السببية في غير صورة التعارض إلا أنه محتمل في تلك الصورة كالعلة يستفاد من بعض الأخبار الواردة في حكم تعارض الخبرين من قبيل قوله عليه السلام بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك.

١٤٥
١٤٦

بسم الله الرحمن الرحيم

رب زدني علما وعملا ، وألحقني بالصالحين ، ووفقني لما تحب وترضى بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وآله الطاهرين من ولده صلواتك عليهم أجمعين. يا معين الضعفاء ارحم ضعفي ومسكنتي وذلي وفقري وفاقتي.

في التعادل والترجيح

قوله ـ قدس الله نفسه الزكية ـ : ( خاتمة في التعادل والترجيح ) (١).

التعادل في الأصل : تساوي طرفي العدل ونحوه ، والمراد به في باب الأدلة إنما هو تساوي الدليلين المتعارضين ، وعدم مزية لأحدهما على الآخر.

والترجيح في الأصل : إحداث الرجحان والمزية في أحد شيئين متقابلين ، والمراد به في باب الأدلة تقديم المستنبط أحد الدليلين المتعارضين على الآخر.

ثم إنه قد يعبر عنه في هذه المسألة بصيغة المفرد كما صنع المصنف. قدس سره ـ ، وقد يعبر عنه بصيغة الجمع :

والظاهر أن مراد من أفرده إنما هو إطلاقه الشائع في باب الأدلة ، وهو الّذي عرفته ، ويحتمل بعيدا إرادة جنس المزية القائمة بأحد الدليلين المتعارضين بعلاقة السببية.

وأما الّذي عبر عنه هنا بلفظ الجمع فالظاهر أنه أراد به المزايا الجزئية ، لمنافاة الجمعية لإرادة جنسها ـ كما لا يخفى ـ ولإرادة إطلاقه الشائع أيضا ، إذ

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٤٩. لكن في المصدر : ... والتراجيح.

١٤٧

لا يخفى أنه فعل المستنبط ، وهو في حد ذاته واحد لا تعدد فيه.

نعم يمكن اعتبار تعدده باعتبار تكثر موارده ، فإن كل تقديم وترجيح ـ في مورد لمزية ـ شخص مغاير لتقديم في مورد آخر لمزية أخرى أو بتلك المزية أيضا ، فيرتفع به منافاة الجمعية ، فيكون احتماله أقرب لكونه على تقديره إطلاقا حقيقيا ، بخلافه على جنس المزية أو جزئياتها.

قوله ـ قدس سره ـ : ( وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما ) (١).

وجه التسمية : أن الدليلين المتعارضين كأن كلا منهما يظهر نفسه لصاحبه ، ويبارزه ليدفعه ، فيكون إطلاقه عليه من باب المجاز بعلاقة المشابهة.

قوله ـ قدس سره ـ : ( ولذا ذكروا أن التعارض تنافي مدلولي الدليلين ) (٢).

ما ذكره ـ قدس سره ـ في تعريف التعارض أحسن مما ذكروه ، إذ من المعلوم أن التعارض عنده وصف للدليلين لا لمدلولهما.

نعم منشأ تعارضهما وتنافيهما إنما هو كون مدلولهما على وجه يمتنع الجمع بينهما ، فيلزمه تنافي الدليلين الدالين عليهما وتدافعهما ، فالتدافع وصف قائم بالدليلين ناشئ عن وصف امتناع الاجتماع الحاصل في مدلولهما.

ثم إن النزاع في هذه المسألة : إنما هو بعد الفراغ عن ثبوت التعارض بين الدليلين ، فيكون كبرويا ، إلا أنه قد يقع الاشتباه في بعض الموارد الخاصة من حيث دخوله في تلك الكبرى وعدمه ، مع عدم تعرضهم له أصلا ، كما تعرضوا لخصوص الأمر والنهي ـ في مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ فلم يكن بأس

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٠.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٠.

١٤٨

بالتعرض له من هذه الجهة هنا لوجود المناسبة بين المقام وبينه في الجملة ، فأشار إليه ـ قدس سره ـ بقوله (١) : ( ومنه يعلم أنه لا تعارض (٢) بين الأصول وما يحصله المجتهد من الأدلة الاجتهادية .. إلى آخره ).

ولما انجر الكلام إلى ذلك فالحري توضيح المرام فيه ببسط النقض والإبرام :

فاعلم أنه ربما يتوهم التدافع بين الأصول العملية ومؤدى الأدلة الاجتهادية ، وهي الأحكام الواقعية ، ومورد توهمه إنما هو صورة تخالفهما ، كأن يكون الأصل مقتضيا لوجوب شيء مع كون مقتضى الطريق الاجتهادي ضد الوجوب من سائر الأحكام ، أو العكس.

وتوضيح وجه ذلك التوهم : أنه لا شبهة في تضاد الأحكام الخمسة بأسرها فيلزمها بينا امتناع [ اجتماع ](٣) اثنين منها في مورد واحد ، فإذا كان حكم شيء في الواقع أحدا منها يمتنع (٤) ثبوت غيره ـ أيضا ـ لذلك الشيء حال ثبوته له في الواقع ولو كان غيره حكما ظاهريا ، ضرورة أنه ـ أيضا ـ بالنسبة إلى موضوعه واقعي ، فإنه ثابت للمورد مع صدق موضوعه عليه واقعا ، وتسميته بالظاهري ليس معناه أنه لا واقع له ، بل إنما هو مجرد اصطلاح بملاحظة أنه يحدث في حق المكلف في مرحلة الظاهر مع جهله بالواقع الأولي الغير الملحوظ فيه شيء من وصفي العلم والجهل.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٠.

(٢) لا يخفى أنه كان الأوفق التعبير بعدم المنافاة ، لما عرفت أن التعارض وصف للدليلين ، فلا يوصف به المدلول ، ومن المعلوم أن مؤدى الأدلة الاجتهادية والأصول إنما هما مدلولان للدليل ، لا أن كل واحد دليل. لمحرره عفا الله عنه.

(٣) إضافة يقتضيها السياق.

(٤) في الأصل : فيمتنع.

١٤٩

فالفرق بينه وبين الحكم الواقعي : أنه قد اعتبر في موضوعه وصف الجهل بالحكم الواقعي أو بموضوعه الموجب للجهل به بالأخرة ، بخلاف الحكم الواقعي ، فإنه إنما علق على موضوع غير ملحوظ فيه شيء من وصفي العلم والجهل ، بل يمتنع ذلك فيما إذا لوحظ العلم والجهل بالنسبة إلى نفس الحكم ، لاستلزامه الدور ، كما لا يخفى.

لكن مجرد هذا الفرق لا يصلح فارقا مع فرض اتحاد متعلقي الحكمين المتضادين ، فإن الجهل الّذي هو مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري إذا عرض في مورد فلا يعقل أن يصير ذلك المورد شيئين يكون أحدهما موضوعا للحكم الواقعي ، والآخر موضوعا للظاهري ، بل الشيء الّذي له حكم من الأحكام الواقعية باق على وحدته مع الجهل ، فإن الخمر المشكوك خمريتها أو حرمتها ـ مثلا ـ التي حكمها الإباحة في مرحلة الظاهر هي بعينها الخمر التي قد أخذت موضوعا للنهي الواقعي ، فهي في جميع عوالمها وحالاتها (١) هي بعينها من غير اختلاف فيها بما يوجب خروجها عن موضوع النهي ، والمفروض دوران النهي الواقعي مدارها نفيا وإثباتا ، فإذا كان المفروض كون المائع المشكوك كونه خمرا خمرا في الواقع ، فيكون النهي عنه ثابتا حال الشك ، وهو ينافي ثبوت الرخصة في شربه في تلك الحال ، فكيف بوجوب شربه؟! كما قد يقتضي الأصل ذلك.

فبالجملة : منشأ التنافي إنما هو اتحاد متعلقي الحكمين المتضادين ، فلا فرق بين كون الحكمين واقعيين ، أو ظاهريين ، أو مختلفين ، فالملتزم بجواز الاجتماع في المقام لا بد له أن يلتزم به في مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ أيضا ـ ولو [ كان ]

__________________

(١) بمعنى أن تلك الحالات ليس شيء منها مشخصا لها حتى تكون هي بالنسبة إلى كل واحد منها من قبيل المطلق والمقيد ، بل هي بالنسبة إليها مثل ( زيد ) بالنسبة إلى أحواله من القيام والقعود ونحوهما. لمحرره عفا الله عنه.

١٥٠

السبب هنا تعدّد جهتي الحكمين (١) ، نظرا إلى ان الأحكام الواقعية ثابتة للشيء المشكوك الحكم بالنظر إلى ذاته من غير ملاحظة صفة الجهل أصلا ، والأحكام الظاهرية ثابتة له بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي ، فلا بد أن يلتزم بكفايته في رفع التنافي هناك ـ أيضا ـ إذ المفروض ثمة ـ أيضا ـ تعدد الجهة ، ضرورة أن تعددها لو كان رافعا لاجتماع الضدين وكافيا فيه فلا يعقل اختصاصه بمورد دون آخر.

نعم فرق بين المقامين من حيث إن جهة كل واحد من الحكمين المبحوث عن امتناع اجتماعهما ثمة في عرض جهة الآخر كالصلاة والغصب ، بخلاف المقام ، ضرورة أن جهة الحكم الظاهري ـ كما عرفت ـ إنما هو الجهل بالحكم الواقعي للمورد ، فلذا لا يعقل بقاؤه حال فعلية الحكم الواقعي ، وهي حال العلم به ، فيكون جهة الحكم الواقعي مقدمة على جهة الظاهري طبعا ، ضرورة أن ذات الشيء الّذي هو جهة الحكم الواقعي مقدم كذلك على الجهل بحكمه أو بنفسه ، ضرورة تقدم الموضوع على الحكم كذلك.

لكنه لا يصلح فارقا بينهما : فإن الحكم الظاهري وإن لم يمكن تحققه حال فعلية الواقعي ، لكن الواقعي متحقق مع فعلية الظاهري ، فيلزم اجتماع الحكمين المتضادين في مورد واحد في آن واحد.

وأيضا (٢) يقبح من الحكيم إيراد حكمين متضادين على المكلف في آن واحد بالنسبة إلى شيء واحد ، فإذن يقع التعارض بين الخطاب الواقعي ودليل اعتبار الأصل ، فلا بد إما من تخصيص الخطاب الواقعي بغير مورد الأصل ، أو طرح الأصل رأسا ، إذ لا يعقل تخصيص دليل اعتباره بصورة موافقته للواقع ، ضرورة

__________________

(١) في الأصل : ولو السبب بتعدد جهتي الحكمين.

(٢) قولنا : ( وأيضا ... إلى آخره ) إبداء لمانع آخر غير محذور اجتماع الضدين. لمحرره عفا الله عنه.

١٥١

أن الأصل حكم مجعول في مرحلة الظاهر للمكلف في مقام العمل حال كون المكلف جاهلا بالواقع ، ومتحيرا فيما يصنع ، ومن المعلوم أنه على تقدير تعليقه وتقييده بموافقة الواقع لا يجدي في رفع تحيره في مقام العمل أصلا ، إذ مع جهله بالواقع لا يمكن له العلم بموافقته له ، فلا يعلم حينئذ كونه مأمورا بالعمل بالأصل ، ولو فرض تمكنه من الاطلاع على الموافقة وعدمها فتفحص فاطلع على الموافقة لم يبق مورد للأصل حينئذ أصلا ، إذ لا يعقل له مورد مع انكشاف الواقع.

هذا خلاصة الكلام في توضيح وجه امتناع اجتماع الحكم الواقعي مع الأصل المخالف له.

ولا يخفى أن ما ذكر من الوجه بعينه جار بالنسبة إلى مؤديات الطرق الظنية الاجتهادية المعتبرة ، والأمارات كذلك ، إذ من المعلوم أن مؤدى الطرق ـ أيضا ـ حكم ظاهري ، وكذلك مقتضى الأمارات.

نعم فرق بين مؤديات الطرق والأصول من حيث إن الأولى إنما هي مجعولة بعنوان الطريقية والكشف عن الواقع ، نظرا إلى أن مقتضى أدلة اعتبار الطرق البناء على كون مؤدياتها أحكاما واقعية ، والتدين بها على هذا الوجه ، والعمل عليها على أنها الواقع ، بخلاف الأصول حيث إنها أحكام ظاهرية لا على ذلك الوجه.

لكنه لا يصلح فارقا بينهما ـ كما لا يخفى ـ ففي صورة مخالفة تلك الطرق والأمارات للواقع يجري ما مر في الأصول بعينه ، والمصنف لم يتعرض لذلك ، فالأحسن تعميم الكلام بالنسبة إليها ، وتحرير الإشكال : بأنه يمتنع اجتماع الحكم الواقعي مع الظاهري المخالف له مطلقا ـ سواء كان من الأصول أو من مؤديات الطرق والأمارات ـ لما مر.

وأما دفعه على نحو العموم ـ أيضا ـ : فبأن الحكم الواقعي والظاهري قد يلاحظان في حد أنفسهما مع قطع النّظر عن لوازم شيء منهما ، بمعنى ملاحظة

١٥٢

نفس الإنشاءين ، ومن المعلوم لكل أحد أنه لا تنافي بينهما بهذه الملاحظة بوجه ، ضرورة إمكان اجتماع ذاتي الأمر والنهي في مورد ولو كانا واقعيين ، فلا وجه لإطناب الكلام في دفع التدافع بينهما من هذه الجهة.

وقد يلاحظان بالنسبة إلى المكلف ـ بالفتح ـ وقد يلاحظان بالنسبة إلى المكلف ، وقد يلاحظان بالنسبة إلى الفعل المكلف به ، حيث إن لهما ربطا بكل واحد منهما ، ولكل منهما لوازم بالنسبة إلى كل منها ، ونحن لا نجد مانعا من اجتماعهما في شيء من تلك الاعتبارات.

وتوضيح ذلك يتوقف على التكلم في مقامات ثلاثة :

أحدها : في لوازم اجتماعهما بالنسبة إلى المكلف ـ بالفتح ـ وثانيها : فيها بالنسبة إلى المكلف به.

وثالثها : فيها بالنسبة إلى المكلف ـ بالكسر ـ أما المقام الأول : فخلاصة الكلام فيه : أنه لا شبهة في أنه لايلزم من توجه الحكمين إلى المكلف في آن واحد شيء من محذوري اجتماع الضدين والقبح على الحكيم.

أما الأول : فلبداهة عدم التضاد بالنظر إلى المكلف بين حكمين ، أحدهما شأني ، والآخر فعلي ـ كما هو المفروض في المقام ـ فإن الأحكام الخمسة على تقدير تضادها فإنما هي متضادة مع اتفاقها في الوحدات الثماني المعتبرة في التناقض ، وأما بدونه فلا ، فإن أوضح مضادة من بين الأحكام إنما هو الوجوب والحرمة (١) ، ومن المعلوم أنه لا امتناع في ثبوتهما في حق المكلف بالنسبة إلى شيء واحد في آن واحد مع عدم تنجز أحدهما عليه وفعليته في حقه ، مع أنهما متضادان ،

__________________

(١) كذا في الأصل ، لكن صحيح العبارة هكذا : فإن أوضح مضادة بين الأحكام إنما هي المضادة بين الوجوب والحرمة.

١٥٣

وليس هذا إلا من جهة كفاية اختلافهما من حيث الشأنية والفعلية في رفع التضاد بينهما بالنسبة إليه (١).

وهذا هو الفارق بين المقام وبين مسألة اجتماع الأمر والنهي ، إذ المفروض هناك فعلية كل منهما في حقه فينكر (٢).

وأما الثاني : فلأن منشأه بالنظر إلى المكلف منحصر في التكليف بغير المقدور له ولو من قبل المكلف ـ بالكسر ـ وتفويت المصلحة على المكلف أو إيقاعه في المفسدة.

الأول : لا يلزم في المقام أصلا.

الثاني : وإن كان يلزم في بعض الصور ، لكنه لا يقبح مطلقا.

توضيح عدم لزوم الأول : أنه إذا كان الحكم الواقعي للفعل هو الوجوب (١) وكان الظاهري غير الحرمة ، أو العكس ، أو كان الواقعي هي الحرمة والظاهري غير الوجوب ، أو العكس ، فعدم لزومه بين.

__________________

(١) قال ـ دام ظله ـ : بل لا مانع من اجتماع الحكمين المتضادين مع فعليتهما إذا كان أحدهما مرتبا على الاخر ، لكن النّفس فيه تأمل ، بل منع ، فإنا لو تعقلنا مسألة الترتب فغاية ما يمكن أن يقال من إمكانه إنما هو في الطلبين المتضادين أو المماثلين (أ) مع تعلق كل منهما بضد متعلق الآخر لا بنقيضه ، إذ معنى الطلب المرتب على طلب آخر أنه أريد تحصيل متعلقه على تقدير عصيان ذلك الطلب ، ومن المعلوم أنه على تقدير عصيان الطلب المتعلق بأحد النقيضين يحصل الغرض من الطلب المتعلق بالآخر ، فيكون ذلك الطلب الآخر طلبا للشيء على تقدير حصوله ، وهل هذا الا طلب الحاصل؟! لمحرره عفا الله عنه.

(٢) اعلم أنه كما يمتنع اجتماع الأمر والنهي الفعليين كذلك يمتنع اجتماع الشأنيين منهما أو المختلفين إذا كان زمن فعلية كليهما واحدا ، فإنهما يصيران فعليين في وقت واحد ، وأما إذا كان أحدهما على وجه يمتنع فعليته ـ بل بقاؤه ـ مع فعلية الآخر ـ كما في الحكم الظاهري والواقعي ـ فيجوز اجتماع الشأنيين منهما أو المختلفين. لمحرره عفا الله عنه.

(٣) توجد في هذا الموضع من الأصل كلمة غير مقروءة يحتمل أنها : ( مثلا ).

__________________

(أ) كذا في الأصل ، والأصح ظاهرا : المتماثلين ).

١٥٤

أما في الصورة الأولي : فلأن الوجوب لما كان مشكوكا فهو غير منجز على المكلف فلم يبلغ حد التكليف أصلا ، فضلا عن كونه تكليفا بغير المقدور ، فالمكلف معذور في مخالفته ، وأما غير الحرمة (١) ـ الّذي هو الحكم الظاهري بالفرض ـ فلأنه لا يقتضي امتثالا أصلا إذا كان هي الإباحة ، ولا يقتضي تحتم الامتثال إذا كان هي الكراهة أو الاستحباب مثلا ، فلا يكون شيء منها مقتضيا لحتمية الامتثال ، حتى يكون تكليفا بفرض الاطلاع عليه ، فضلا عن كونه تكليفا بغير المقدور للمكلف مع أن الاستحباب الظاهري إن لم يكن مؤكدا للوجوب الواقعي فهو لا ينافيه جدا.

لا يقال : إنه هب أن النهي عن الواجب الواقعي تنزيها ليس تكليفا بغير المقدور لكنه طلب لغير المقدور ، ومن المعلوم أن طلب غير المقدور ولو مع الرخصة في مخالفة ذلك سفه وعبث ، فيكون قبيحا من هذه الجهة.

لأنا نقول : إن الوجوب الواقعي قبل اطلاع المكلف عليه لا يصلح لجعل الفعل غير مقدور [ الترك ](٢) للمكلف ، فإنه إنما يؤثر في غير (٣) مقدورية ترك الفعل إذا أثر منع المكلف فعلا من الترك ، وذلك لا يكون إلا بعد الاطلاع عليه ، والمفروض عدمه في محل الفرض ، كما أن الحرمة الواقعية لا تصلح لجعل الفعل غير مقدور الإيجاد إلا بعد الاطلاع عليها.

ومن هنا ظهر الحال في الصورة الثالثة أيضا.

وأما في الصورة الثانية : فلأن غير الوجوب والحرمة المفروض كونه حكما واقعيا خارج عن مرحلة التكليف مع الاطلاع عليه وغير قابل للتأثير في نفي مقدورية ترك الفعل أو إيجاده في تلك الحال ، فكيف بما إذا كان مجهولا؟! فلا

__________________

(١) في الأصل : ( غير الوجوب ) ، وهو من سهو القلم ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

(٣) كذا في الأصل ، والصحيح : إنما يؤثر في عدم مقدورية.

١٥٥

يكون طلب الفعل حتما في مرحلة الظاهر تكليفا بغير المقدور.

ومن هنا ظهر حال الصورة الرابعة ـ أيضا ـ فلا نطيل الكلام بذكرها.

وأما إذا كان أحدهما الوجوب والآخر الحرمة فوجه عدم لزومه حينئذ ما مر : من أن الطلب الحتمي الواقعي ما لم يتنجز على المكلف لا يصلح لجعل الفعل ممنوع الترك أو الإيجاد فعلا : حتى يكون نطلبه أو طلب تكره طلبا لغير المقدور للمكلف (١).

وأما توضيح عدم لزوم الثاني على الإطلاق ـ ثم منع قبحه على تقدير لزومه في المقام ـ فبأنه إنما يلزم فيما إذا كان الحكم الواقعي هو الوجوب أو الاستحباب مع كون الظاهري هو الإباحة أو الحرمة أو الكراهة ، أو كان الحكم الواقعي هي الحرمة أو الكراهة مع كون الظاهري هو الإباحة أو الوجوب أو الاستحباب ، أو كان الواقعي هو الاستحباب مع كون الظاهري غير الوجوب ، أو كان هي الكراهة مع كون الظاهري غير الحرمة :

أما في الصورة الأولى : فلأن إباحة الفعل كاشفة عن عدم المصلحة فيه ودالة عليه ، فكيف بتحريمه أو كراهته؟! فيكون كل منهما إخفاء لمصلحة الواقع على المكلف وتفويتا لها عليه.

__________________

(١) لا يتوهم : أن عدم فعلية طلب ـ أمرا كان ، أو نهيا ـ يوجب التجوز في الخطاب الدال عليه ، وهو الأمر أو النهي ، لأن صيغتي الأمر والنهي لم توضعا إلا لمجرد الطلب الحتمي الفعلي المتعلق بالترك أو الإيجاد ، ومن المعلوم أن ذلك موجود حال عدم تنجز الخطاب كوجود الإرادة والكراهة اللازمتين لهما ، والتنجز ليس من مدلول اللفظ ، بل هو أمر عقلي يترتب عليه بعد اطلاع المكلف عليه.

والحاصل : أنهما موضوعتان للطلب الفعلي ، لا للتكليف الفعلي الّذي يتوقف تحققه على اطلاع المكلف على الطلب ، فيما نحن فيه ـ إذا فرض كون الحكم الواقعي هو الوجوب والظاهري هي الحرمة ، أو العكس ـ الإرادة والكراهة وطلب الفعل وطلب الترك ، ـ أعني الإنشائيين ـ كلها فعلية ، والشأنية إنما تلاحظ بالنسبة إلى عنوان التكليف بالنظر إلى الواقع ، وهو ليس من مدلول الصيغة ، بل مسبب منه بعد الاطلاع عليه. لمحرره عفا الله عنه.

١٥٦

ومنه يعلم وجه كون الإباحة أو الوجوب أو الاستحباب إيقاعا له في المفسدة كما في الصورة الثانية.

وأما في الصورة الثالثة : فلأن غير الوجوب ـ كما عرفت ـ مستلزم لإخفاء مصلحة الفعل الداعية إلى الأمر الاستحبابي الواقعي ، فيكون تفويتا لها على المكلف.

ومنه يعلم وجوه كون غير الحرمة في مرحلة الظاهر مستلزما لإخفاء مفسدة الكراهة على المكلف ، وإيقاعا له [ فيها ](١) كما في الصورة الرابعة.

وأما في غير تلك الصور فلا يلزم من الحكم الظاهري تفويت للمصلحة ولا إيقاع [ في ](٢) المفسدة أصلا ، فإن الصور المتصورة وراء تلك الصور ـ أيضا ـ أربع :

إحداهما : ما إذا كان الحكم الواقعي هي الإباحة مع كون الظاهري هي الحرمة أو الكراهة.

وثانيتها : ما إذا كان هي الإباحة مع كون الحكم الظاهري هو الوجوب أو الاستحباب.

وثالثتها : ما إذا كان ذلك الاستحباب مع كون الحكم الظاهري هو الوجوب.

ورابعتها : ما إذا كان ذلك هي الكراهة مع كون الحكم الظاهري هي الحرمة.

ومن المعلوم أنه لا يلزم شيء من ذينك في شيء منها :

أما في الأولى والثانية : فلأنه ليس في الفعل مصلحة حتى يكون الحكم

__________________

(١) في الأصل : وإيقاعا له عليها.

(٢) في الأصل : ولا إيقاع على المفسدة.

١٥٧

بحرمته أو كراهته إخفاء لها وتفويتا لها على المكلف ، ولا مفسدة حتى يكون الحكم بوجوبه أو استحبابه إخفاء لها وإيقاعا للمكلف [ فيها ](١).

وأما في الصورة الثالثة : فلأن الوجوب يؤكد داعي تحصيل مصلحة الاستحباب كما لا يخفى ، فلا يكون إخفاء لها على المكلف ، بل تأكيدا لها.

وأما في الصورة الرابعة : فلأن الحرمة بالنسبة إلى مفسدة الكراهة نظير الوجوب بالنسبة إلى مصلحة الاستحباب من حيث كونها مؤكدة لداعي التحرز عنها.

فظهر أن ما ذكر غير لازم على الإطلاق بالنسبة إلى جميع صور مخالفة الحكم الظاهري للواقعي المبحوث عنها في المقام.

لكن لا يخفى على المتأمل أنه في موارد لزومه لا يقبح مطلقا ، بل إنما يقبح مع عدم تدارك المكلف ( بالكسر ) لمفسدة الواقع ، أو مصلحته وأما معه فكلا ، ونحن قد حققنا ـ في مسألة نصب الطرق في مسألة حجية الظن ـ أن الشارع يتدارك ما يستند إليه من فوت المصلحة ، أو الوقوع في المفسدة.

هذا.

وأما المقام الثاني :

فملخص الكلام فيه : أن اللازم عندنا في مقام إيراد حكم على شيء أن يكون ذلك الحكم تابعا لما في ذلك الفعل من المقتضي إذا كان حقيقيا ، لا ابتلائيا (٢) :

فإذا كان هو الوجوب أو الاستحباب : فلا بد حينئذ من مصلحة فيه ملزمة أو غير ملزمة تقتضي وجوبه أو ندبه.

__________________

(١) في الأصل : وإيقاعا للمكلف عليها.

(٢) لم تكن هذه الكلمة في الأصل واضحة ، فأثبتناها استظهارا.

١٥٨

وإذا كان هي الحرمة أو الكراهة : فلا بد أن يكون فيه مفسدة ملزمة ، أو غير ملزمة تقتضي تحريمه أو كراهته.

وإذا كان هي الإباحة : فلا بد من خلوه مما يقتضي غير الإباحة ـ من الأحكام الأربعة المذكورة ـ سواء كان مشتملا على ما يقتضي الإباحة أو خاليا عن ذلك أيضا.

فغاية ما يلزم من إيراد حكمين متخالفين من الأحكام الخمسة على شيء اجتماع المصلحة والمفسدة ، أو المصلحة وعدم المصلحة ، أو المفسدة وعدمها في ذلك الشيء في آن واحد.

لكنه لا يمتنع مع تعدد الجهة ـ كما هو المفروض في المقام ـ بل واقع في بعض الأمور الخارجية ، كالأدوية والأغذية والأشربة ، فإن المصلحة والمفسدة وإن كانتا متضادتين ، لكنهما إنما يمتنع اجتماعهما في مورد واحد مع اتفاقهما في الوحدات المعتبرة في التناقض ، وكذلك كل منهما مع عدمه (١) وإن كانا نقيضين لكنهما إنما يمتنع اجتماعهما مع اتفاقهما في تلك الوحدات.

وإحدى الجهتين : فيما نحن فيه إنما هي الملحوظة في مقام جعل الحكم الواقعي وإنشائه ، وهي جهة ذات الشيء الغير الملحوظة بشيء من وصفي العلم والجهل.

وأخراهما : إنما هي الجهة الملحوظة في مقام جعل الحكم الظاهري ، وهي عنوان سلوك الطريق (٢) أو الأمارة الظنين إذا كان الحكم الظاهري من مؤدى

__________________

(١) في الأصل : مع عدم نفسها.

(٢) اعلم أنه ربما يتوهم : أنه إذا فرض أن جهة الحكم الظاهري إنما هو عنوان سلوك الطريق ـ مثلا ـ فنقول : إن ذلك العنوان إما أن يكون فيه مصلحة ملزمة ، وإما أن يكون فيه مصلحة غير ملزمة ، وإما أن لا يكون فيه مصلحة أصلا.

لا سبيل إلى شيء من هذه الشقوق :

١٥٩

الطرق والأمارات ، أو البناء على طبق الحالة السابقة إذا كان من مقتضى الاستصحاب.

وأما أصالة البراءة : فهي ليست من الإباحة المصطلحة ـ التي هي أحد الأحكام الخمسة ـ بل إنما هي مجرد معذورية المكلف ورفع العقاب عنه على تقدير مخالفة الواقع في مواردها ـ سواء كانت مأخوذة من العقل أو من النقل ـ فإن الأخبار الدالة عليها لا تفيد أزيد من ذلك.

وأما الاحتياط : فهو من الأحكام العقلية ، ومقتضاه عدم معذورية المكلف في موارد لزومه ـ ضد أصالة البراءة ـ ومن المعلوم أن عدم المعذورية ليس حكما شرعيا.

وأما أصالة التخيير : فهو ـ أيضا ـ نظير أصالة البراءة ليست إلا عذرا في اختيار المكلف في مقام التخيير أيما شاء من الاحتمالين.

__________________

أما الأول : فلأنه على تقديره يلزم أن يكون العمل بالطريق واجبا مطلقا في جميع الموارد ، فينحصر الحكم الظاهري في الوجوب وهو باطل.

وأما الثاني : فلأنه لازمه استحباب العمل بالطريق ، فيلزمه أن يكون الحكم الظاهري منحصرا في الاستحباب ، وهو في البطلان كسابقه.

وأما الثالث : فلأنه على تقديره يستلزم إباحة سلوك الطريق ، فيلزمه انحصار الحكم الظاهري في الإباحة ، وهذا في البطلان كسابقيه.

وهكذا يتوهم : بالنسبة إلى سلوك الأمارة والعمل على طبق الحالة السابقة.

لكنه مدفوع : بأنا نختار الشق الأول ، أعني اشتمال سلوك الطريق على المصلحة الملزمة.

لكن نقول : إن تلك المصلحة لا تقتضي وجوب كل ما قامت الطرق الظاهرية على إفادة حكمه ولو كانت مفيدة لغير الوجوب من سائر الأحكام ، حتى ينحصر الحكم الظاهري في الوجوب ، بل إنما هي مقتضي لزوما حكم الشارع في مرحلة الظاهر على طبق مؤديات تلك الطرق ، فإن كانت مؤدياتها هو الوجوب فتقتضي حكمه بوجوب الفعل وإحداث طلب حتمي بالنسبة إليه في مرحلة الظاهر ، وإن كانت هي الحرمة فمقتضى حكمه بحرمة الفعل كذلك ، وهكذا إلى سائر الأحكام ، فلا ينحصر الحكم الظاهري في واحد من الأحكام الخمسة ، فلا تغفل. لمحرره عفا الله عنه.

١٦٠