تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المولى علي الروزدري

تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي - ج ٤

المؤلف:

المولى علي الروزدري


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-003-X
الصفحات: ٣٧١

( فَانْتَهُوا ) يحتمل وجوها :

أحدها : ـ ولعلّه الظاهر ـ أن يكون الأمر بالانتهاء عما نهى الرسول صلّى الله عليه وآله من باب الإرشاد ، نظرا إلى أنّ نواهي الرسول صلّى الله عليه وآله نواهي الله تعالى ، فيكون مساوقا لقوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ ) ، فعلى هذا لا دلالة للآية على وجوب الخروج عما ذكر.

وثانيها : أن يكون للأمر الطريقي ، بمعنى أنّ غرضه ـ سبحانه [ و ] تعالى ـ من ذلك جعل قول الرسول صلّى الله عليه وآله طريقا إلى نواهيه تعالى حتى يكون نهيه صلّى الله عليه وآله لكونه طريقا إلى نهي الله تعالى منجّزا لنهي الله تعالى وموجبا لاستحقاق العقاب على ارتكابه لصيرورته معلوما بنهي النبيّ صلّى الله عليه وآله ، وعلى هذا أيضا لا تزيد الآية على نفس النواهي الواقعية المعلومة إجمالا ، فإنها بعد العلم بها منجّزة على المكلّف ولو لم تكن هذه الآية.

وثالثها : أن يكون المراد به الوجوب النفسيّ الشرعي بمعنى أنه تعالى جعل بذلك اتباع قول النبي صلّى الله عليه وآله واجبا نفسيّا ، فكلّ ما أخبر بحرمته فالاجتناب عنه لازم من جهة اتباعه ولو لم يحصل لأحد القطع بوجود النهي في الواقع مثلا ، وعلى هذا فالآية تدلّ على وجوب امتثال تلك النواهي من باب العلم بأنّ النبي صلّى الله عليه وآله أخبر بها.

لكن لا يخفى أنه لا حاجة إلى الآية على هذا التقدير أيضا ، فإنّ العلم بوجود المحرّمات من الله سبحانه منجّز لها على المكلف ، ويحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة تركها.

اللهم إلاّ أن يكون ذكر الآية والاعتماد عليها من باب التأييد لحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة تركها بعد العلم الإجمالي بها.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وبعبارة أخرى : العلم الإجمالي قبل الرجوع

٨١

إلى الأدلّة ، وأمّا بعده فليس هنا علم إجمالي ) (١).

لمّا آل الكلام هنا إلى الشبهة المحصورة فلا بأس بالتعرض لها بأقسامها ، مع بيان حكم كلّ منها على نحو الإجمال وإن كان يأتي تحقيقها في محلّه عن قريب ـ إن شاء الله تعالى ـ فنقول :

إنّ العلم الإجمالي بوجود الحرام بين أمرين أو أمور : إما أن يحصل بعد خروج بعض أطرافه عن مورد الابتلاء بتلف ونحوه ، أو بعد العلم التفصيليّ بحرمة بعض أطرافه (٢) أو بعد قيام الطريق الظني الشرعي على حرمة بعضها ، وإمّا أن يحصل قبل تحقّق تلك الأمور الثلاثة :

فعلى الأول : فالظاهر جواز تناول غير الطرف الخارج أو المعلوم حرمته تفصيلا أو القائم على حرمته الطريق الظني المعتبر ، إذ قبل حصوله كان الشكّ في حرمة غير الطرف المذكور بدويا مجرى للأصل السليم عن المعارض ، فهو مخرج لمورده عن موضوع الحرمة المحتملة ، فيكون تناول مورده جائزا بحكم الشارع ، فإذا حصل العلم الإجمالي بعد ذلك فهو لا ينافي ذلك الأصل الجاري في بعض الأطراف (٣) ، وإنّما ينافي إجراء الأصل في جميع الأطراف ، لاستلزام ذلك طرحه ومخالفته القطعية ، ونحن لا نريد إجراءه في جميع الأطراف ، بل لا يجري

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٥٣.

(٢) وهذا كما إذا علم تفصيلا بكون أحد الإناءين خمرا ، ثم وقع قطرة من الخمر من الخارج أو من غيرها من سائر النجاسات أو المحرّمات ، ولم يعلم أنّ تلك القطرة وقعت في هذا الإناء أو في الطاهر الّذي كان قريبا منه ، وهكذا لو علم بكون أحد الإناءين بالخصوص خمرا ، ثم علم إجمالا بحرمة أحدهما مع احتمال كون المعلوم بالإجمال هو هذا المعلوم تفصيلا. لمحرّره عفا الله عنه.

(٣) وذلك لأنّ العلم الإجمالي إنّما يقتضي عدم ارتكاب ذلك المعلوم بالإجمال الواقعي ، والعمل بالأصل في بعض الأطراف لا يستلزم ارتكابه ، حتى ينافيه العلم الإجمالي. نعم ينافي العمل به في جميع الأطراف ، لكون ذلك مستلزما لارتكاب الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال. لمحرّره عفا الله عنه.

٨٢

في الطرف المذكور ، فإنّه إنّما يجري في الطرف المشكوك مع ابتلاء المكلّف به مع عدم قيام طريق معتبر على حرمته ، وأما إذا علم حكم المورد أو خرج عن محلّ الابتلاء ، أو قام عليه طريق معتبر فلا ، لانتفاء موضوعه في الأوّل ، وعدم شمول أدلّة اعتباره للثاني ، وحكومة أدلّة اعتبار الطرق الظنية عليه في الثالث.

نعم لو فرض جريانه في جميع الأطراف لاتجه أن يقال : إنّ إجراءه في جميع الأطراف مناف للعلم الإجمالي ، ومستلزم لمخالفة المعلوم إجمالا ، وإجراؤه في بعض دون بعض ترجيح بلا مرجّح ، فيجب الاجتناب عن جميع الأطراف ، لكن ما نحن فيه ـ كما عرفت ـ ليس من هذا القبيل ، فإنّ جريان الأصل فيه مختصّ ببعض الأطراف فلا يرد أنّ الأخذ به في بعض الأطراف ترجيح بلا مرجّح ، فمع سلامته في غير الطرف المذكور يقتضي جواز تناول مورده بحكم الشارع ، ولا ريب أنه بعد إذن الشارع في تناول مورده لا يقتضي العلم الإجمالي أزيد من عدم جواز مخالفته القطعية (١) ، وهي مرتفعة بالاجتناب عن الطرف المذكور الواجب الاجتناب ، مع عدم هذا العلم الإجمالي أيضا ، فما زاد هذا العلم. الإجمالي على صورة فقده شيئا (٢).

__________________

(١) فإنّ معنى اعتبار الشارع الأصل ـ حينئذ ـ في مورده مع كونه من أطراف الحرام المعلوم إجمالا : أنه لا يريد امتثال ذلك الحرام على سبيل القطع ، وإنما الواجب عدم مخالفته القطعية. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) وإن شئت قلت ـ في وجه عدم لزوم الاجتناب عن غير الطرف المذكور في الشقّ الأوّل في المورد الثاني والثالث ـ : إنّه (أ) قبل حصول العلم الإجمالي كان الطرف المذكور مكلّفا بالاجتناب عنه ، وبعد حصوله لمّا احتمل كون ذلك المعلوم الإجمالي متّحدا مع الطرف المذكور المكلّف بالاجتناب عنه قبله ، فالمكلّف لا يعلم ـ حينئذ ـ بأزيد من المكلّف به الواحد ، وهو هذا الطرف المذكور ، وليس وراء ذلك مكلّف به مردّد بين ذلك الطرف وبين الأطراف الاخر ، حتى يجب الاجتناب عن سائر الأطراف ، لكونها من محتملاته التي يتوقّف امتثال ذلك المكلّف به على تركها ، فيكون الشكّ في سائر الأطراف بدويّا حقيقة

__________________

(أ) في الأصل : إن قبل حصول.

٨٣

والحاصل : أنّه قبل حصول (١) العلم الإجمالي في الصور الثلاث المذكورة لم يكن تكليف بحرام مردّد بين الأطراف ، حتى يكون منجّزا للأطراف على المكلّف لتوقّف امتثاله على الاجتناب عنها ، وبعد حصوله ـ والمفروض جريان الأصل في بعض الأطراف ، مع سلامته عن المعارض الموجب لجواز تناول مورده ـ فلا يقتضي أزيد من عدم جواز المخالفة القطعية ، وهي مرتفعة بالاجتناب عن الطرف المعلوم بالتفصيل ، أو الخارج عن مورد الابتلاء أو القائم على حرمته الطريق الشرعي (٢) ، فلم يزد هو على صورة فقده شيئا.

واما على الثاني فالحقّ فيه : التفصيل بين موارده الثلاثة المتقدمة : بلزوم الاجتناب عن غير التالف من الأطراف في الأول ، وبعدم لزوم الاجتناب عن غير المعلوم بالتفصيل في الثاني ، سواء علم كون المعلوم بالتفصيل عين ذلك المعلوم الإجمالي ، أو لا ، بل يحتمل كونه غيره.

وأما الثالث : فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

والوجه في لزوم الاجتناب عن غير التالف في الأول : أنّ المفروض ابتلاء المكلّف بجميع الأطراف قبل حصول العلم الإجمالي وبعده قبل تلف بعضها ، فيكون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف المعلوم إجمالا على المكلّف ، فيجب عليه

__________________

كما في المورد الثاني ، أو حكميا كما في الثالث.

وأمّا المورد الأوّل فيقال : إنّ المعلوم الإجمالي مردّد فيه بين ما لا تعلّق له بالمكلّف أصلا وهو الطرف التالف ، إذ على تقدير كونه هو فلا يتوجّه التكليف بالاجتناب عنه إلى المكلّف ، وبين ما له تعلّق به ، وما يكون حاله ذلك فلم يعلم فعلا تعلّقه بالمكلّف وتوجّهه إليه ، فلا يكون منجّزا عليه ، حتّى يجب الاجتناب عن سائر أطراف مقدّمة لامتثاله. لمحرّره عفا الله عنه.

(١) في الأصل : أنّ قبل حصول.

(٢) وبالجملة : مدار وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة على وجود معلوم إجماليّ فعلا مردّد بين الأطراف مع تعارض الأصول فيها ، فإذا انتفى أحد الأمرين انتفى وجوب الاجتناب عنها من حيث كونها من أطراف إجمال المحرّم الواقعي. لمحرّره عفا الله عنه.

٨٤

الخروج عن عهدته ، وهو لا يحصل إلاّ بالاجتناب عن جميع الأطراف ، إلاّ أن تلف بعضها يكون ـ حينئذ ـ بمنزلة امتثاله ، وأمّا الأطراف الاخر فلما كان المفروض عدم امتثالها فيجب الاجتناب عنها ، واحتمال ذهاب موضوع التكليف المعلوم بالإجمال بذهاب الطرف التالف ، لاحتمال كونه هو المكلّف به ، غير مجد ، فإن غايته الشك بعد التلف في بقاء التكليف الواقعي على حاله ، وهذا غير كاف ، لأنه بعد القطع يتنجّزه لا بدّ من القطع بسقوطه ، ولا يجوز الاكتفاء باحتمال سقوطه.

وبالجملة : كلّ طرف من أطراف المعلوم بالإجمال مهما لم يخرج عن كونه من أطرافه يجب الاجتناب عنه بحكم العقل ، وخروجه من أطرافه إنّما يكون [ فيما ](١) إذا فرض اجتماع جميع الأطراف [ و ](٢) لم يكن هناك تكليف معلوم إجمالا مردّد بينها. هذا.

وإن شئت قلت : إنّ العلم الإجمالي متى تحقّق بين أمور مع تعارض الأصل في تلك الأمور ـ بأن لم يكن في بعضها أصل سليم عن المعارض ـ فهو منجّز للمعلوم الإجمالي على المكلّف بحيث يوجب الاجتناب عن جميع الأطراف ، ولا ريب أنّ العلم الإجمالي بهذا النحو قد تحقّق فيما نحن فيه قبل تلف بعض الأطراف : أما حصوله فبالفرض ، وأما تعارض الأصول في الأطراف قبل تلف بعضها فواضح ، فيكون منجزا لجميع الأطراف على المكلّف فيجب الخروج عن عهدة الجميع.

لا يقال : إنّه بعد تلف بعض الأطراف يكون الأصل في الباقي سليما عن المعارض ، فيخرج مورده عن تحت الحرام الواقعي.

لأنا نقول : إنّ الأصل في الباقي قد سقط بالتعارض قبل التلف ، والتلف

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

(٢) إضافة يقتضيها السياق.

٨٥

لا يوجب عود ذلك الأصل في الباقي ، فافهم.

وأما وجه لزوم الاجتناب عن غير المعلوم تفصيلا في المورد الثاني : فهو أنه إن علم بحرمة ذلك الطرف تفصيلا ـ مع العلم باتّحاده مع المعلوم الإجمالي ، بأن علم أنه هو ـ فلا إشكال ـ حينئذ ـ في تبدّل ذلك المعلوم بالإجمال إلى المعلوم بالتفصيل ، ويكون الشكّ في الطرف الآخر بدويا ، لا شيء يوجب الاحتياط فيه ، بل يرجع فيه إلى الأصل السليم عن المعارض ، فإنه لا يجري الأصل ـ حينئذ ـ في الطرف المعلوم تفصيلا ، حتى يعارضه في هذا الطرف.

وإن علم بحرمته تفصيلا ـ مع الشكّ في اتحاده مع المعلوم الإجمالي ، بأن احتمل كون غيره ـ فعدم لزوم الاجتناب عن غيره ـ حينئذ ـ وإن لم يكن في الوضوح مثله في الفرض الأول ، لكن لا ينبغي الإشكال فيه هنا أيضا فإنّ العلم هنا وإن كان متعدّدا ، إلاّ أنّ العبرة ـ في مقام لزوم الامتثال ـ على تعدّد (١) المعلوم لا تعدّد العلم ، ولا ريب أنّ المكلّف في تلك الحال لا يعلم بحرمة أزيد من ذلك المعلوم بالتفصيل ، وليس عنده ـ حينئذ ـ معلوم آخر مردّد بينه وبين الأطراف الاخر ، حتى يجب الاجتناب عنها من باب المقدّمة ، فالعلم التفصيليّ ـ أيضا حينئذ ـ موجب لتبدّل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيليّ والشكّ البدوي في سائر الأطراف ، فيرجع فيها إلى الأصل السليم عن المعارض.

لا يقال : إنّ المفروض ـ في هذا الفرض ـ وجود معلوم إجمالي مردّد بين الأطراف قبل حصول العلم التفصيليّ بحرمة بعضها ، وهو بعد وجوده وقبل حصوله صار منجّزا على المكلّف ، فيجب عليه الخروج عن عهدته على سبيل الجزم ، والاجتناب عن المعلوم التفصيليّ لا يوجب الجزم بالخروج عن عهدته بل يتوقّف على الاجتناب عن سائر الأطراف أيضا.

وبالجملة : الحال هنا نظير الحال في الموارد الأول ، وهو تلف بعض

__________________

(١) كذا في الأصل ، والمناسب : بتعدّد المعلوم.

٨٦

الأطراف بعد حصول العلم الإجمالي من جهة أنه بتلف بعضها لا يقطع بذهاب التكليف الواقعي ، بل يحتمل ، ومعه قلتم بلزوم الاجتناب عن سائر الأطراف ، نظرا إلى تنجّز المعلوم الإجمالي على المكلّف ولزوم الخروج عن عهدته على سبيل الجزم ، فما هو المناط في لزوم الاجتناب عن سائر الأطراف ثمة موجود بعينه فيما نحن فيه.

لأنا نقول : حصول العلم التفصيليّ فيما نحن فيه قد يكون موجبا لسريان الشكّ إلى العلم الإجمالي السابق ، بمعنى أنه إذا علم المكلّف بحرمة بعض الأطراف تفصيلا أو بنجاسته كذلك ، فيحتمل حدوث الحرمة أو النجاسة فيه من الآن ، مع احتمال عدم حرام أو نجس دون هذا من قبل ، فيشكّ أنه هل في زمن حصول العلم الإجمالي كان محرّم في الواقع بين الأطراف ، أو لا؟ فحينئذ فلا إشكال في عدم لزوم الاجتناب عن سائر الأطراف ، فإنّ غاية ما هنا أنه اعتقد بوجود محرّم مردّد بين الأطراف ، والآن زال هذا الاعتقاد ، فهو كان معتقدا لتنجّز تكليف عليه في السابق ، لكن الآن زال ذلك الاعتقاد ، فالآن ليس له علم بتكليف منجّز عليه في السابق حتى يجب الخروج من عهدته ، وقياس ذلك بما ذكر واضح الفساد كما لا يخفى.

وقد لا يكون [ موجبا لسريان الشكّ إلى العلم الإجمالي بالمعنى المذكور ، بل الآن ـ أيضا ـ قاطع بوجود محرّم مردّد بين الأطراف في السابق ، لكن يحتمل كونه هو هذا المعلوم بالتفصيل ، فنقول ـ حينئذ ـ : إنّ لزوم الاجتناب عن أطراف المعلوم الإجمالي عند العقل إنّما هو من آثار إجمال ذلك المعلوم ، فإنّ التكليف المتوجّه من الشارع إنما هو بأحد تلك الأطراف في الواقع ، وهو ـ أولا وبالذات ـ لا يقتضي أزيد من ترك ذلك الحرام الواقعي ، إلاّ أنه إذا طرأ عليه الإجمال مع فرض تنجّزه على المكلّف فالعقل يحكم بلزوم الاجتناب عن جميع محتملاته مقدّمة لتحصيل العلم بامتثاله ، فلزوم الاجتناب عن جميع الأطراف

٨٧

يدور مدار وجود معلوم مجمل مردّد بينها على تقدير اجتماع تلك الأطراف بمعنى فرض وجود جميعها وإن لم يكن بعضها موجودا فعلا ، فإذا حصل العلم الإجمالي على هذا النحو ـ مع بقائه على تلك الحال ـ فهو موجب للزوم الاجتناب عن جميع محتملاته إلى الأبد ولو فرض تلف بعضها بعده مع وجوده على الكيفية المذكورة على فرض وجوده الآن وانضمامه إلى سائر الأطراف ، كما هو الحال في المورد الأول الّذي قاس المورد ما نحن فيه عليه.

وأما إذا لم يبق على تلك الحال ـ بمعنى أنه لم يكن للمكلّف فعلا معلوم إجماليّ مردّد بين الأطراف على تقدير اجتماعها ـ فلا شيء يوجب لزوم الاجتناب عن محتملاته ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنه بعد العلم التفصيليّ بحرمة بعض الأطراف مع احتمال كونه هو المعلوم الإجمالي السابق لم يبق له معلوم آخر مجمل مردّد بين هذا المعلوم بالتفصيل وبين سائر الأطراف فلا شيء يوجب لزوم الاجتناب عن غير ذلك المعلوم بالتفصيل ، فانقلب المعلوم الإجمالي ـ حينئذ أيضا ـ إلى المعلوم بالتفصيل والشكّ البدوي بالنسبة إلى سائر الأطراف ، فيكون موردا للأصل ، فظهر الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، فبطل القياس المذكور.

وبالجملة : بعد حصول العلم التفصيليّ ببعض الأطراف مع احتمال كونه هو المعلوم الإجمالي يكون ذلك نظير الشكّ الساري من حيث عدم إحراز معلوم إجمالي مردّد بين الأطراف.

والحاصل : أن المعلوم الإجمالي إنّما يكون منجّزا على المكلّف ، وموجبا للزوم تحصيل القطع بامتثاله إذا بقي على ما كان عليه على تقدير اجتماع أطرافه ، وأما بدونه فلا ، والعلم التفصيليّ ببعض الأطراف ـ أيضا ـ لا يقتضي لزوم الاجتناب عن سائر الأطراف ، فلا شيء حينئذ يوجب لزوم الاجتناب عنها ، وإنما قيّدنا العلم التفصيليّ ببعض الأطراف بكونه بحيث يحتمل كون متعلقه

٨٨

متّحدا مع متعلّق العلم الإجمالي السابق احترازا عن صورة اجتماع السببين للاجتناب في بعض أطراف المعلوم الإجمالي ، بأن يحدث فيه بعد العلم الإجمالي ما يقتضي لزوم الاجتناب ، فيجتمع فيه سببان : أحدهما كونه من أطراف المعلوم الإجمالي اللازم الاجتناب ، وثانيهما ذلك الأمر الحادث ، وهذا كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ، ثم وقع بعد ذلك نجاسة أخرى في أحدهما بالخصوص ، فإنه وإن كان يعلم بذلك نجاسة ذلك الإناء بالخصوص وبالتفصيل ، نظرا إلى أنه إما النجس الواقعي ، أو هو الإناء الآخر ، فإن كان الأول فهو نجس يقينا ، وان كان الثاني فهو وإن لم يكن نجسا قبل وقوع هذه النجاسة عليه ، إلاّ أنه تنجّس بعده يقينا ، فهو نجس على كلّ حال.

ووجه الاحتراز عن تلك الصورة : أنّ العلم التفصيليّ فيه بلزوم الاجتناب عن الطرف المذكور لا يوجب انقلاب العلم الإجمالي السابق إلى العلم التفصيليّ والشك البدوي ، بل يكون حدوث ذلك السبب كعدمه ، إذ معه أيضا يعلم بوجود النجس المعلوم سابقا بين الإناءين ، وإنما الشكّ في إحداث ذلك تكليفا آخر بلزوم الاجتناب وراء التكليف بالواقع المردّد بينهما ، لاحتمال وروده على غير ما يكون نجسا في الواقع.

وبعبارة أخرى : إنا نعلم الآن ـ أيضا ـ بوجود النجس بالنجاسة السابقة بين الإناءين ، والأصل في كلّ منهما ـ بالنسبة إلى تلك النجاسة السابقة ـ معارض بمثله في الآخر الآن ـ أيضا ـ وقد مرّ أنّ العلم الإجمالي مع تعارض الأصول في أطرافه موجب لوجوب الموافقة القطعية المتوقّفة على الاجتناب عن جميع الأطراف.

لا يتوهم : أنّ الأصل بالنسبة إلى تلك النجاسة السابقة معارض لأصالة عدم تأثّر محلّ هذه النجاسة الحادثة منها ، للعلم بنجاسة ذلك المحلّ بإحدى النجاستين ، فإذا وقع التعارض فيسقطان عن الاعتبار ، فيبقى الأصل بالنسبة

٨٩

إلى النجاسة السابقة ـ في غير مورد النجاسة الحادثة ـ سليمان عن المعارض ، فيقتضي جواز ارتكابه ، فلا يقتضي العلم الإجمالي المذكور وجوب الموافقة القطعية.

لأنه مدفوع : بأنّ الأصل بالنسبة إلى النجاسة السابقة في مورد حدوث النجاسة اللاحقة كان معارضا بمثله في الطرف الآخر قبل حدوث تلك النجاسة الحادثة ، ولا ريب أنّ الأصل المبتلى بالمعارض لا يصلح للتعارض بالنسبة إلى السليم منه ، وهو الأصل بالنسبة إلى النجاسة اللاحقة في مورد حدوثها ، وإن كان لا بدّ فليقل بسلامة ذلك الأصل عن المعارض ، إلاّ أنه لا يترتّب عليه فائدة ، فإنّه لا يلزم منه في المقام جواز ارتكاب مورده فإنّ الاجتناب عنه لازم على كلّ حال.

وبالجملة : حدوث سبب آخر في أحد طرفي المعلوم الإجمالي لا يوجب إحياء الأصل الميّت بالتعارض في الطرف الآخر ، بل هو ـ حينئذ أيضا ـ ميّت لبقاء التعارض ، فلا يترتّب عليه شيء.

هذا ، وكيف كان ، فجواز ارتكاب الطرف الآخر بعد حدوث السبب في غيره مما يأباه وجدان كلّ أحد ، فلا يليق صدور القول به من أحد ، وإنما أردنا بما سمعت بيان وجه الامتناع تفصيلا.

هذا تمام الكلام في المورد الأوّل والثاني.

وأما الثالث : ـ وهو ما قام فيه الطريق المعتبر الظنّي على بعض أطراف المعلوم الإجمالي ـ : فربما يتخيّل أنه من قبيل اجتماع السببين للاجتناب في بعض أطراف الشبهة ، لكنه فاسد ، للفرق بين حدوث سبب آخر في بعض أطراف الشبهة وبين قيام طريق عليه ، إذ قد عرفت أنّ الأوّل لا يقتضي سلامة الأصل في الطرف الآخر ، والطريق القائم عليه يقتضيه ، وذلك لأنه إذا قام الطريق الشرعي الظنّي على حرمة بعض الأطراف أو نجاسته فهو حاكم على أصالة عدم

٩٠

الحرمة أو النجاسة الجاريتين في مورده ، فلا مجرى للأصل في مورده ، فحينئذ يبقى الأصل في الطرف الآخر سليمان عن المعارض ، فلا أثر للعلم الإجمالي بالنسبة إلى ذلك الطرف ، لعدم اقتضائه ـ حينئذ ـ وجوب الموافقة القطعية.

فإن قلت : كما أنا لا نعلم فيما نحن فيه بأزيد من التكليف بالاجتناب عما قام عليه الطريق الشرعي المعتبر من الأطراف ، فكذلك لا نعلم في صورة اجتماع السببين بأزيد من التكليف بالاجتناب عما ورد عليه السبب الثاني من الأطراف فلا معلوم إجماليا سوى المعلوم بالتفصيل في الموردين ، فحينئذ إن كان العبرة ـ في وجوب الاجتناب عن سائر الأطراف في الأول ـ بوجود معلوم إجمالي مردّد بينها قبل العلم التفصيليّ ولو لم يبق إلى حينه ، فهذا موجود بعينه في الثاني أيضا ، فلا وجه للتفصيل بينهما بوجه ، وإن [ كان ] العبرة فيه بشيء آخر غير موجود في الثاني فبيّنه.

قلنا : مناط وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف ـ كما عرفت سابقا ـ إنما هو وجود معلوم إجمالي مردّد بينها ـ على تقدير اجتماعها ـ مع عدم الرخصة في ارتكاب بعضها ، وإلاّ سقط الوجوب عن الطرف المأذون في ارتكابه ولا يقتضي ـ حينئذ ـ أزيد من وجوب الموافقة الاحتمالية المتحقّقة بالاجتناب عن سائر الأطراف ، وعرفت أنّ عدم الرخصة في بعضها إنما هو في صورة تعارض الأصول في الأطراف ، وأنه (١) مع سلامة الأصل في بعضها يكون ذلك البعض مرخّصا فيه بمقتضاه ، ويختصّ الوجوب بغيره ، ولا ريب في أنّ المناط المذكور متحقّق في الأول دون الثاني ، إذ قد عرفت أنّ الأصل بالنسبة إلى السبب السابق المعلوم التأثير في أحد الأطراف إجمالا معارض في كلّ منها بمثله في الآخر ، فالمعلوم المردّد بينها من تلك الجهة مع تعارض الأصول في الأطراف متحقّق فعلا

__________________

(١) في الأصل : ( وأنّ مع ... ) والصحيح ما أثبتناه.

٩١

حين ورد السبب الثاني ، وبعده فإنه لا يقتضي وروده سلامة الأصل بالنسبة إلى ذلك المعلوم الإجمالي عن المعارض بالنسبة إلى الأطراف الاخر ، حتى يقتضي جواز ارتكابها ، ويختصّ وجوب الاجتناب بمورده ، فالسبب الأول بعد ورود الثاني أيضا تامّ الاقتضاء للاجتناب عن جميع الأطراف ، هذا بخلاف الثاني ، فإنّ الطريق الشرعي القائم على بعض الأطراف مانع عن جريان الأصل في مورده ، فلا يصلح ـ حينئذ ـ هو لمعارضته للأصول في الأطراف الاخر ، فإنّ الطرق والأمارات الشرعية ليست من قبيل الأسباب (١) ، بأن يحدث ـ بسبب قيامها ـ تكليف واقعي ، وإنّما هو لمجرّد الطريقية ، ولازمها تنجّز التكليف الموجود في محلّها على المكلّف على تقديره (٢) ، فالتكليف الواقعي في محلّها مشكوك فيه بعد قيامها أيضا ، وإنّما المعلوم [ من ] التكليف ـ حينئذ ـ هو التكليف الظاهري.

فمن هنا ظاهر فساد ما قيل في العنوان : من كون الطرف القائم عليه الطريق الشرعي معلوما بالتفصيل. نعم هذا يتمّ في أسباب النجاسة ، فإنّها بعد ورودها على أطراف الشبهة يعلم تفصيلا بنجاسة ذلك الطرف فإنّه ـ حينئذ ـ إمّا أن يكون هو النجس المعلوم إجمالا قبل ورودها ، أو غيره ، وعلى كلّ تقدير فهو نجس بعد ورودها عليه ، لأنه على الثاني ينجس بها البتّة. هذا.

__________________

(١) ومجمل الفرق بين الأمارات والأسباب فيما إذا حصل شيء منهما في بعض أطراف الشبهة : أن الأسباب محدثة ـ بمجرّد ورودها في مورد ـ تكليفا آخر غير المعلوم الإجمالي ، فمع ورودها يتحصّل تكليفان منجّزان فعلا لا بدّ من الخروج عن عهدتهما.

هذا بخلاف الأمارات ، فإنها إذا قامت في بعض الأطراف فلا توجب تكليفا آخر غير المعلوم بالإجمال ، فإنها طريق إلى التكليف الموجود في موردها ، وموجبة لتنجّزه على المكلّف على تقديره. لمحرّره عفا الله عنه.

(٢) وبعبارة أخرى : إنّ وجوب العمل بالطرق الشرعية ليس من باب الموضوعية والسببية ، وإنما هو من باب كونها طرفا إلى ما قامت عليه ، ولازمها تنجّز التكليف المجهول في موردها على المكلّف ، بحيث لا يعذر في مخالفته على تقديره. لمحرّره عفا الله عنه.

٩٢

وبالجملة : فقد ظهر أن ورود الأسباب على بعض أطراف الشبهة ـ مع كونها موجبة للعلم التفصيليّ بذلك الطرف ـ لا تقتضي سلامة الأصل في الأطراف الاخر بالنسبة إلى المعلوم الإجمالي السابق ، وأنّ الطرق الشرعية ـ مع عدم إيجابها لذلك ـ تقتضي سلامته في الأطراف الأخر.

ثمّ إنه يكشف عن فساد ما ربما يتخيّل ـ من أنّ الأصل بالنسبة إلى المعلوم الإجمالي السابق في موارد الأسباب معارض بأصالة عدم تأثير. ذلك السبب في ذلك المحلّ ـ أنّ أصالة عدم التأثير المذكورة غير جارية في موارد أسباب النجاسة والحرمة ، إذ بعد ورودها على مورد يقتضي وجوب الاجتناب عن ذلك المورد ، بحيث يتمّ بها الحجّة على وجوب الاجتناب فيه ، بحيث لو لم يكن في محلّها نجس أو حرام تكون هي محدثة لهما ، وتكون منجّزة للتكليف بالاجتناب عنهما على تقدير كونها محدثة لهما ، فحينئذ لا مجرى للأصل المذكور في موردها.

والحاصل : أنّ التكليف الثاني من جهة ورودها على بعض الأطراف وإن كان مشكوكا فيه ، إلاّ أنه محتمل ، واحتماله كاف في لزوم الاجتناب عن مورده من جهتها ، فإنّ التكليف المحتمل في موردها على تقديره منجّز ، فلا معنى لإجراء الأصل فيه.

وبالجملة : الأسباب الشرعية للنجاسة أو الحرمة أو الوجوب إذا ثبتت في مورد فهي متمّمة للحجّة على مقتضاها في موردها ، فتكون هي بالنسبة إلى مقتضاها كالطرق الشرعية بالنسبة إلى مؤدّاها في كونها حجّة عليه بحيث لا يعذر الجاهل فيها على تقدير وجود تكليف في موردها ، فلذا لا مجال للأصول النافية للتكليف موضوعية كانت أو حكمية فيها.

ثمّ إنه لا ينبغي التحاشي عن أنّ العلم الإجمالي كيف لا يقتضي الموافقة القطعية في بعض الصور؟! وما الفرق بينه وبين العلم التفصيليّ؟! حيث إنه يقتضيها عقلا ، ويكون علّة تامّة لها عنده ، لأنّ العلم الإجمالي ليس كالتفصيلي ،

٩٣

فإنّ التفصيليّ بحيث لو اذن فيه بترك الموافقة القطعية لكان ذلك مستلزما للتناقض ، بخلاف العلم الإجمالي ، فإنّ له جهة علمية وجهة شكّية ، وهو بالنسبة إلى الأولى كالعلم التفصيليّ لا يعقل رفع مقتضاه ، وبالنسبة إلى الثانية قابل لرفعه ، ومقتضاه على الأولى هو عدم جواز المخالفة القطعية ، وعلى الثانية (١) هي الموافقة القطعية.

والحاصل : إنه يمكن التفكيك بين عدم جواز المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية فيه ، لما ذكر ، بخلاف العلم التفصيليّ.

ثمّ إنه لا بأس بإعادة الكلام فيما كنّا بصدده من الجواب عن الدليل العقلي المذكور ، فنقول :

توضيح الكلام فيه : إنه قد يجاب عنه : تارة بأنّ العلم الإجمالي إنّما هو قبل المراجعة إلى الأدلة (٢) ، وأمّا بعده فينقلب هو إلى العلم التفصيليّ والشكّ البدوي ، لحصول العلم التفصيليّ ـ حينئذ ـ بحرمة عدّة أمور تساوي المعلوم الإجمالي ، فيكون الشكّ في غيرها بدويا مرجعا للبراءة الأصلية.

والحقّ : أنّ ذلك على تقدير ثبوته كاف شاف في دفع الدليل المذكور ، فإنه إذا علم إجمالا بوجود محرّم أو نجس بين أمور ـ مثلا ـ ثم علم بنجاسة أحدها أو حرمته تفصيلا فهناك صور ثلاث :

أولاها : أن يعلم أنّ ذلك المعلوم بالتفصيل الآن هو المعلوم بالإجمال من قبل.

وثانيتها : أن لا يعلم الاتّحاد ، لكن يعلم أنّ ذلك المعلوم بالتفصيل كان حراما أو نجسا في زمان العلم الإجمالي.

__________________

(١) في النسخة ( الثاني ) والصحيح ما أثبتناه.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : ( مراجعة الأدلّة ) أو ( الرجوع إلى الأدلة ).

٩٤

وثالثتها : أن لا يعلم سبق حرمته أو نجاسته أيضا ، وإنّما المعلوم تفصيلا الآن إنما هو حرمته أو نجاسته الآن ، مع احتمال عروض الحرمة أو النجاسة عليه بعد زمان العلم الإجمالي ، لا إشكال في جواز الرجوع إلى البراءة الأصلية بالنسبة إلى غير ذلك المعلوم بالتفصيل بعد العلم التفصيليّ في الصورتين الأوليين :

أمّا في أولاهما فواضح.

وأمّا في ثانيتهما فلأنّ المقتضي للاحتياط فيه إنّما هو ثبوت التكليف بأمر مردّد يكون ذلك من أطرافه ، وهو منتف هنا : أما بالنسبة إلى الزمان الثاني فواضح ، ضرورة أنّه لا يعلم بالتكليف الآن بأزيد من ذلك المعلوم بالتفصيل ، ولا يعلم الآن بتكليف آخر مردّد بينه وبين ذلك الغير.

وأمّا بالنسبة إلى الزمان الأول ـ الّذي هو زمان العلم الإجمالي السابق ـ فلأنه لا يعلم الآن بالتكليف فيه بأزيد منه مردّدا بين الأطراف التي ذلك منها ، بل الشكّ فيه ـ بالنسبة إلى ذلك الزمان بعد العلم التفصيليّ بحرمة صاحبه فيه أو نجاسته ـ بدويّ.

وأما الثالثة ففيها إشكال ، نظرا إلى أنه وإن لا يعلم الآن بالتكليف الواقعي بأزيد من ذلك المعلوم بالتفصيل ، إلاّ أنه يعلم بتكليف واقعي منجّز عليه في السابق ، فلا بد من الخروج عن عهدته كما يجب الخروج عن عهدة ذلك المعلوم بالتفصيل ، لكن ما نحن فيه إنّما هو من الصورة الثانية ، فإنه إذا علم بحرمة أمور بعد الفحص فيعلم بثبوت الحرمة لها من قبل ، فلا إشكال في الرجوع إلى البراءة الأصلية في غيرها.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( وحكي عن المحدّث الأسترآبادي في فوائده (١) : أن تحقيق الكلام. ) (٢). إلى آخر ما ذكره المحدّث.

__________________

(١) الفوائد المدنية : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٥٧.

٩٥

وكأنّ المحدّث المذكور نشأ تخيّله التفصيل من كلام المحقّق من قول المحقّق : ( الثانية : أن يتبيّن (١) أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ) (٢) ، فتخيّل أنّ تلك المقدّمة لا تتم إلاّ فيما يعمّ البلوى به ، مع غفلته عن تعليل المحقّق ـ قدّس سرّه ـ ذلك بقوله : ( لأنه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، فإنّ هذا التعليل صريح في أنّ مراده ليس نفي الحكم الواقعي ، بل الفعلي ، وهو المناط للتكليف ، وهو الّذي يتمّ فيه هذا التعليل ، إذ لا تكليف بنفس الواقع من حيث هو ، حتّى يلزم من عدم الدلالة عليه التكليف بما لا يطاق ، وهذا التعليل لا يختصّ جريانه بما يعمّ به البلوى ، بل يعمّ غيره أيضا ، فإنّ كلّ مورد ـ سواء كان مما يعمّ به البلوى أو لم يكن ـ إذا لم يكن على التكليف به دلالة واضحة لزم التكليف بما لا يطاق.

فظهر أنّ المحقّق لم يفصّل في اعتبار أصل البراءة بين ما تعمّ به البلوى وبين غيره ، بل قال بها مطلقا بالنسبة إلى الحكم الفعلي ، وأما الحكم الشأني فلا تجري فيه البراءة مطلقا ، لعدم العقاب عليه على تقدير ثبوته ، فما تخيّله المحدّث المذكور تحقيقا لكلام المحقّق ـ مع فساده في نفسه ، كما لا يخفى على المتأمّل ـ لا ربط له بمقالة المحقّق أصلا.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( كما ذكره جماعة من الأصوليين ) (٣).

لا يذهب عليك : أنّ هذا لا ينافي ما اختاره ـ قدّس سرّه ـ من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية ، فإنّ ما اختاره هناك إنّما هو بالنظر

__________________

(١) في الفرائد وفي الفوائد المدنية ( أن يبيّن ) ، وفي المصدر : ( أن نبيّن ) ، وفي نسخة : ( أن يتبيّن ) ، وهي الصحيحة ظاهرا.

(٢) معارج الأصول : ٢١٢.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٥٩.

٩٦

إلى الاستصحاب الثابت اعتباره بالأخبار ، والاستصحاب الّذي هنا إنّما هو عبارة عن أصالة البراءة العقلية (١).

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( منهم صاحب المعالم ) (٢).

__________________

(١) قال الفاضل التوني ـ قدّس سرّه ـ في عدّ الأدلّة العقلية :

الثالث : استصحاب حال العقل ، أي الحالة السابقة ، وهي عدم شغل الذمّة عند عدم دليل أو أمارة عليه.

أقول : فوجه تسمية ذلك بحال العقل : أنّ حال عدم دليل وأمارة على شغل الذمّة حالة يحكم العقل معها بالبراءة من باب قبح العقاب من غير بيان ، فإذا تحقّقت تلك الحالة في زمان ـ ثمّ جاء زمان آخر شكّ في اشتغال الذمّة بشيء ـ فيستصحب (أ). براءة الذمّة السابقة.

لكن إن أريد استصحاب نفس حكم العقل ... (ب). في السابق ففيه ـ مضافا إلى عدم الحاجة في الزمان الثاني إليه بعد فرض عدم الدليل العقلي (ج). على شغل الذمّة ، نظرا إلى بقاء موضوع القضية العقلية ـ أنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام العقلية إن لوحظ اعتباره من باب التعبّد كما حرّر في محلّه.

نعم إن كان من باب الظنّ فيصحّ إجراؤه ، إلاّ أنه لا فائدة فيه ـ أيضا ـ كما عرفت.

وإن أراد استصحاب نفس عدم اشتغال الذمّة بتكليف (د) فحسن مطلقا مع الإغماض عمّا ذكرنا من عدم الحاجة إليه ، لكفاية أصالة البراءة ـ حينئذ ـ في المقصود.

ثمّ إنّه ـ قدّس سرّه ـ قال : إنّ التمسّك به بأن يقال : إنّ الذمّة لم تكن مشغولة بهذا الحكم في الزمان السابق أو الحالة الأولى ، فلا تكون مشغولة في الزمان اللاحق والحالة الأخرى.

وهذا يصحّ إذا لم يتجدّد ما يوجب شغل الذمّة في الزمان الثاني ، ووجه حجّيته ظاهر ، إذ التكليف بالشيء مع عدم الإعلام به تكليف العاقل وتكليف بما لا يطاق ، وتدلّ عليه الأخبار أيضا ، كما سيجيء مع ما فيه. [ إن شاء الله تعالى. لمحرّره عفا الله عنه ] (ه).

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٥٩.

__________________

(أ) كذا في الأصل ، والصحيح بحذف الفاء : يستصحب.

(ب) في الأصل هنا كلمة لعلها « والحصر » والظاهر ان وجودها وعدمها سواء.

(ج) في الأصل : الدليل العقل.

(د) تكرّرت في الأصل كلمة ( بتكليف ).

(هـ) ما بين المعقوفين غير واضح في الأصل ، فأثبتناه استظهارا.

٩٧

يظهر ذلك من قوله : ( وأمّا أصالة البراءة فهي لا تفيد إلاّ الظنّ ) (١).

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( لا إشكال في رجحان الاحتياط ) (٢).

قال ـ دام ظله ـ : الظاهر من نسبة الرجحان إلى شيء كون ذلك الشيء حسنا في نفسه ، لكنّه ـ قدّس سرّه ـ أراد الأعمّ من ذلك الشامل للحسن بواسطة الغير ، وإلاّ لم يكن معنى لترديده في استحباب الاحتياط بعد الاعتراف بحسنه الذاتي ، فإنّ التردّد آئل إلى الترديد في أنّ الاحتياط بنفسه حسن حتّى يكون مندوبا شرعا ، أولا.

ثمّ إنّه ـ دام ظلّه ـ قال : لا شبهة في أنّ تعليم الجاهل من الواجبات النفسيّة ، ولا ريب أنّ كلّ واجب نفسي كالمندوب لا بدّ أن يكون حسنا في نفسه ، وإلاّ يكون وجوبه غيريا أو إرشاديا.

والّذي يتراءى ـ في بادئ النّظر ـ أنه لا مصلحة في التعليم إلاّ تمكّن الغير من امتثال ما يجب عليه ، فلا يكون حسنا في نفسه على هذا.

ويمكن أن يقال : إنّ إرشاد الجاهل في نفسه حسن أوجب الأمر به ، ويكون تركه وتقرير الجاهل على جهله قبيحا ، فيحرم تركه.

فمن هنا يدفع ما ربما يتوهّم أن يقال : إنه ما الفرق بين الاحتياط وبين تعليم الجاهل من جهة عدم الحسن في نفس كلّ منهما؟! فإن كان ذلك يقدح في استحباب الاحتياط نفسيّا فليقدح (٣) في وجوب التعليم نفسيّا.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( واقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا ) (٤) .. يعني (٥) لما ذكرنا أيضا : أنّ الإمام عليه السلام أقرن

__________________

(١) معالم الدين : ١٩٢.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٥٩.

(٣) في الأصل : ليقدح ..

(٤) فرائد الأصول ١ : ٣٦٠.

(٥) كذا في الأصل ، لكن صحيح العبارة ـ بمراجعة الفرائد ـ هكذا : يعني ويشهد لما ذكرنا ...

٩٨

اجتناب الشبهة مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا بمعنى أنه علّة جعله قرينا له في كونه ورعا ، وقال : وكما أن الثاني ورع ، فكذلك الأوّل ، فيكون حال الشبهة في الأمر بالاجتناب عنها حال الأمر باجتناب الحرام المعلوم ، فإن كان الأمر بالثاني ، إرشاديّا يكون الأمر بالأوّل ـ أيضا ـ كذلك ، ومن المعلوم أنّ الأمر باجتناب المحرّمات المعلومة ليس إلاّ للإرشاد ، كما أشار إليه ـ قدّس سرّه ـ بقوله : ( ومن المعلوم ... إلخ ) (١) ، والمشار إليه بقوله ـ قدّس سرّه ـ ( في تلك الأخبار ) هي الأخبار الآمرة بالاجتناب عن الحرام المعلوم.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( من حيث إنه إطاعة حكمية ... ) (٢).

قال ـ دام ظلّه ـ : ترتّب الثواب يتوقّف على أن يكون الانقياد حسنا في نفسه وممدوحا كذلك ، بحيث لا يرجع المدح فيه إلى المدح الفاعلي ، وإلاّ فلا يكون فعله سببا للثواب ، ولو التزم بحسنه الذاتي ، بأن يقال : إنّ العمل إذا أتي به بعنوان إحراز مطلوب المولى يكون العمل في نفسه حسنا ، كما هو ليس ببعيد كلّ البعد ، فلا بدّ من القول : بأنّ الذمّ في التجرّي ـ أيضا ـ فعليّ ، لا فاعلي ، فيكون حراما ذاتا.

أقول : لا يتوهّم قضية ذلك ـ أي مقايسة التجرّي بالانقياد ـ هو أن يكون التجرّي مكروها.

لأنا نقول : إذا تحقّق أنّ الذمّ في التجرّي على نفس الفعل المتجري به فيكشف عن حرمته شرعا ، لأنّ كلّ مذموم عقلا حرام شرعا من غير فرق بين مراتب الذمّ ، والمكروهات لا ذمّ فيها أصلا ، هذا بخلاف المندوبات ، فإنّها ممدوحة بأقلّ درجة المدح.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٣٦٠.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٦٠. لكن في المصدر : ( من حيث إنه انقياد وإطاعة ).

٩٩

وبالجملة : لا يتحقّق الذمّ في المناهي إلاّ في المحرّمات ، وأمّا المدح في الأفعال المأمور بها فيتحقّق في كلّ من واجبها ومندوبها ، فحصول الذمّ في طرف المناهي موجب للحرمة بخلاف الفعل المأمور به ، فإنّ مجرّد المدح عليه لا يوجب وجوبه.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( ولكن الظاهر من بعض الأخبار المتقدّمة مثل قوله عليه السلام : « من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرّمات » (١) ... إلى آخره ) (٢).

وجه استظهار الاستحباب ممّا ذكر أنّ معنى قوله عليه السلام : « نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرّمات » أنّ من ارتكب الشبهة يحصل لنفسه حالة شقوة تحمله على ارتكاب المحرّمات المعلومة ، بحيث لا يبالي بها ، فمن تركها يسلم من ذلك ، وهذا ممّا يصلح أن يكون حكمة للاستحباب ، فإنه أمر حسن ممدوح ، ومعه يمكن حمل الطلب على الاستحباب ، بل ظاهر فيه.

قوله ـ قدّس سرّه ـ : ( لأن معنى الإباحة الإذن والترخيص ) (٣).

هذا بناء على أنّ حقيقة الإباحة هو الإذن ، والإذن ليس إلاّ الترخيص المعلوم ، فإنّه مأخوذ من الأذان بمعنى الإعلام ، ومنه قوله تعالى : ( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ ... )(٤) وقوله تعالى : ( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ ... )(٥) ، فالترخيص الواقعي [ إذا ] لم يحصل العلم به لا يكون إباحة ، فلا يكون الشيء الغير المعلوم ترخيصه من الشارع مباحا في الواقع ، فيكون حراما واقعا.

__________________

(١) لم أعثر على نصّه ، وإنما ورد مضمونه في الوسائل ١٨ : ١١١ ـ ١٢٩ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٣٦٠.

(٣) فرائد الأصول ١ : ٣٦١.

(٤) سورة براءة : ٣.

(٥) سورة يوسف : ٧٠.

١٠٠